يحيى الطاهر عبدالله - الوشم…قصة

كان جابر يعشق بنت عمه فاطمة، ولم يكن يملك جملًا يقدمه مهرا لعمه عبد الرسول ليتزوج من بنته فاطمة .

كانت فاطمة جميلة، خالية القلب، لا نحيفة ولا سمينة، لا طويلة ولا قصيرة، علاوة على أنها تدهن شعرها الطويل بزيت القرنفل الطيب الرائحة .

وكان جابر قد سمع أن فاطمة قالت عنه :

” اليتيم صلب عوده كالنخلة بخبز الذرة ولبن الماعز” .

فرد جابر بزهو وقال :

” تلك بشارة خير والمثل يقول بين القلب والفلب رسول”

كانت البنت فاطمة صاحبة تفانين في تزویق نفسها، فالكحل في عيون حريم وبنات العشيرة أسود والكحل في عيني فاطمة أخضر، والبنت فاطمة تلعب بشعرها لعب الحواة المهرة، فمرة ترميه ضفيرتين طويلتين سوداوين خلف ظهرها، ومرة تتركه يتدلي قُصة سوداء فوق الجبهة تشبك فيها خرزة زرقاء، وأحيانا تطلقه بحرًا هائجًا أسود، وأحيانا تضفره ضفائر كثيرة لتشبه الملائكة .

يا لها من ماهرة، بالخيط والإبرة تفصل أثوابها المرسومة لترقد فوق كل ثدي وردة كبيرة، أو يعشش طائر مغرد، والثوب لا يضيق ولا يتسع .

لما رأی جابر البنت فاطمة تسعي للماء عند البئر مع البنات، قال :

“سأعاونها في رفع الجرة “

ومنعه الخجل فالكل يعرف أنه يحب فاطمة – ولكنه لا يملك جملا يقدمه مهراً لعمه عبد الرسول ليتزوج من فاطمة. اكتفي جابر بالنظر للبنت فاطمة وهي تخطر: كانت حافية القدمين ولكن بعنق حمامة .

فقد جابر صبي، هو الذي مات والده وهو صغير، فتزوجت أمه برجل من عشيرة أخرى فأنكرها عشيرة والده، ليعرف جابر العمل المهلك القليل القيمة مع أعمامه في العشيرة منذ طفولته إن كان ثمة طفولة في حياته .

فقد جابر صبره، وقرر أن لا يعمل مع أي فرد من أفراد العشيرة ما دام لن يحصل على جمل يقدمه مهرا لفاطمة

وقد حاول أحد العقلاء إقناعه بالتخلي عن قراره فالصبر جمیل وذات يوم يحصل على جمل يقدمه مهرا لعمه عبد الرسول ليتزوج من بنته فاطمة .

فسأله جابر وبلع ريقه المر :

” بعد عام .. أم سبعة أعوام .. أم حتي ينقضي العمر”

أجاب العاقل :

“لا تتعجل فالعجلة من الشيطان والشيطان عدو لابن أدم .. ربما بعد خمسة أعوام أو سبعة، وفاطمة ما تزال صغيرة.. وأنت ما تزال شابا قوياً ” .

فسأله جابر :

– “هل تعدني بأن لا تتزوج فاطمة حتى احصل على جمل”.

وفكر جابر في الخفراء الذين يمسكون اللصوص وقال إنهما عميان، لو عرفوا فاطمة لصار هو بصر وصارت لهم قلوب غير مظلمة. ولما ساقوه لدوار العمدة ليضرب هناك بالأقلام وكعوب البنادق. أما العمدة فهو عجوز محب للمال ولحم الطير والحيوان والشر – كيف لا ترى عيونه جمال فاطمة فيتزوجها، قال جابر :

“لو كنت مكان العمدة لتزوجت من فاطمة بنت عبد الرسول وأنا المالك مائة جمل

بمفردی، ولقلت للولد جابر السارق اذهب يا ولد ولا تفعلها مرة ثانية بدلا من أن أوثقه بالحبال وأجعل الخفراء يسوقونه لمبنى المركز حيث ينظف جابر المسكين مرابط الخيول ويرمي في أحواض الماء النتنة ولا ينطق حرفا أمام القاضي الذي يهابه العمدة نفسه، ثم يقضي جابر المسكين السنوات بالسجن المظلم الرطب الذي يحرسه عسكر غلاظ شداد قلوبهم أيضا غليظة ومن حجر أسود كأحذيتهم السوداء الغليظة، ويظل جابر المسكين يعد الأيام والليالي قانعا بشيء بسيط؛ لا الزواج من فاطمة ولكن مجرد رؤيتها بالعين: خارجة من بيت زوجها لتجلب الماء ليشرب الزوج ماء حلالا زلالا جلبته فاطمة .

وأفاق جابر من هلوساته على ما يملا زنبيلين من الحقائق : الثدي تل لا ينفذ في تربته سهم والورد منقوش على الثديين.. والبيت من طابق واحد وحجرتين.. والسجن رطب ومعتم والعسكر والخلفاء والعمدة مسلحون .. وحركة الدجاج بالليل تجفل الجسم مشتاق الالتصاق بجسم .. والسرير يكون من الحديد، أو يكون من الخشب ولا قرضته القرضة .. وشيخ العشيرة على حق فمن أين يحصل جابر علي خبز الذرة ولبن الماعز إن لم يعمل .. والعم عبدالرسول في حاجة إلى جمل يجلب به السباخ المسروق من المعبد .. والبنت فاطمة أجمل بنت في دنيا الناس .. والمثل بيقول العين بصيرة واليد قصيرة .. وما من ثمة أمل في الحصول على سمك الضبع .. كما أن العودة لبيوت العشيرة مستحيلة فالذئاب الجائعة تترصد هناك عند المسالك.. وحتي تطل عيون النهار سيهتدي جابر إلي حل .. أما النوم – هنا- حيث يطول لسان الماء ويقصر فمستحيل مستحيل مستحيل.. وحتى يطل النهار المبصر بألف عين (سيجعل مضارب الغجرغايته، ویسلم زنده للغجرية العجوز القاعدة أمام الخيمة – تحت النخلتين -لتنقش بيدين مدربتين على الجلد بالإبرة قلباً بداخله جمل واقف له وجه إنسّی ).

فكر الناصح لوقت، ولم في خياله البنت فاطمة لابسة الخلخال،وأجاب :

“والحق لا أعدك .. البنت حلوة .. جلدها بلون حبة القمح وناعم نعومة قماش القطيفة .. وأبناء العشيرة عيون تشوف وتعشق .. والعشيق تملك مائة جمل ومائة ناقة .. الحق لا أعدك”.

وهكذا فقد جابر عقله وقرر أن لا يعمل، وضحك شیخ العشيرة وسعل وبصق وقال :

“سترى من أن يحصل جابر على القوت .. الجسد یارجل يحتاج للطعام بمثل احتياج النخيل للجذر الطويل الذي يمتص الماء من باطن الأرض” .

***

غابت شمس الصيف الكبد خلف تلال المغرب، ومازال الأفق الغربي يحترق، وكان لأشجار الأثل ذات الرهر الأصفر النامية على حافتي الترعة ظلال سوداء تتماوج فوق صفحة الماء العكر، وفجأة أسقط الليل خيمته السوداء الثقيلة، وثبت أوتادها في الأرض وظهر في السماء هلال صغير ونجوم قليلة متباعدة خافتة الضوء، ومن مكان بعيد مجهول سمع صوت طائر أشبه بصرخة أم فقدت ولیدها الوحيد .

أحس جابر بأن ثمة شيئًا مس جسده فأصابته رعدة وشعر ببرودة ليل الشتاء رغم أن الليلة ليلة من ليالي الصيف، فهرول خارجا من الماء، واعتلي المرتفع الجاف بينما الماء يتقاطر من سرواله بصوت، ولبس جلبابه القصير القديم المصبوغ بالنيلة الزرقاء الواسع الأكمام، وخلع سرواله وظل يعصره حتى خلصه من المياه فنشره على فرع شجرة سنط قريبة مائلة ليجف، ومضي يكلم نفسه :

“كيف غاب عنك يا ولد يا جابر أن الماء مسكون بالجن وأرواح الغرقي والقتلى” ..

وقد مر وقت، لملم جابر نفسه المشتتة وفارقه الخوف، فخلع قميصه وطواه وثبته بحجم كبير ونزل الماء متنقلا من جرف إلى جرف باحثا وسط الأحجار والعشب النامي عن سمك الضبع البطيء الحركة بسبب تلك الشوكة اللعينة المرشوقة في رقبته.

ظل جابر يتنقل من جرف إلى جرف بحثًا عن سمك الضبع حتى مر وقت طويل، فقال لنفسه لو أمسكت بسمكة واحدة سأخرج من الماء وأكتفي بها طعاما ليومي هذا، وفكر في أنه لابد أن يشويها قبل أن يأكلها .. فهل سيطلب نارا من عشيرته التي ضنت عليه بجمل وهوالذي خدمها منذ صباه ليقدمه مهرًا لفاطمة، وقال جابر لنفسه :

“ولو حصلت على السمكة سأضرب حجرين وأشعل منهما النار في الحطب اليابس وهو كثير والحمد لله “..

ولما نظر جابر للماء وجدها أصفي زرقة وقد كثر عدد النجوم بها، فقرر أن يخرج من الماء ويحلم بعض الوقت يقاطعة ثم يعود من جديد ليبحث عن سمك الضبع.

كان جابر عاريا كما ولدته أمه، مسنداً ظهر على شجرة السنط المائلة، ويعين العاشق رأى فاطمة تأتي وترفع الحجر وتأخذ قميصه وتشم رائحة عرقه الأخضرتحت الإبطين ومضت تغسل القميص بيديها وها هو يسمع رنين الأساور الزجاجية الملونة .

وليل الصيف لما يوغل يشتد برده – وهكذا أحس جابر برعشة جعلته يفيق من حلمه القصير الجميل، ولأنه كان جائعا فقد قرر أن يهبط إلى الماء مرة أخرى بحثا عن سمك الضبع، مقسما بالله ساكن السموات ومقسم الأرزاق إنه سيكتفي بسمكة واحدة، سمكة واحدة .. الله يكره عبده الذي لا يعمل باجابر .. والله یکره أيضا المنشق عن أهله وعشيرته، إن كانت فاطمة جميلة فالله أجمل من أي شيء وكل شيء، وهكذا استحق جابر العقاب فخرج من الماء ولبس قميصه وسرواله الذي جف وجلس مسندا ظهره على جذع شجرة السنط المائلة.

بإمكان جابر أن يسرق حمارة من عشيرة أخرى وذلك لا يحدث إلا في سوق البندر المسور الذي يحميه عسكر الحكومة، لو وفق سيجلب السباخ الطيب من المعبد القديم الذي يحرسه خفراء الحكومة، ولووفق فسيبيع السباخ الطيب لعشيرته يصلبون به عود النبات الأخضر، ومع الأيام سيشتري جملا ويقدمه مهرًا لعمه عبد الرسول ليتزوج من بنته فاطمة.




تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...