د. أمانى الجندى - رواة الحكى فى التراث الشعبى...

يمكن تعريف «الراوي الشعبي» بأنه «شخص يتمتع بمهارات خاصة في أداء المأثورات الشعبية الشفاهية للمتلقين،
ويتميز بذاكرة قوية تستوعب النصوص وتعيد صياغتها، وتتمتع بخبرة ومعرفة بالتراث، وقدرة على تنويع المادة وإعادة تشكيلها وتعديلها حسب المواقف من حيث مضمونها و شكلها والأداء أيضا». الراوي والقاص
الراوي هو من تخصص فى رواية القصص الشعبي، خاصة الغنائي منه، ويطلق على فئة منهم في مصر، وهم الشعراء الذين كانوا يغشون مقاهي القاهرة، وغيرها من المدن والقرى، في المواسم والأعياد يسامرون الناس بما توافروا عليه من القصص والسير، وكان منهم ( الهلالية) رواة السيرة الهلالية، و(العناترة) رواة سير عنترة بن شداد، و(الظاهرية) رواة سيرة الظاهر بيبرس. ومنهم أيضا «الصيِّيتة» الذين يحفظون القصص الديني المنظوم وينشدونه في المولد النبوي، وموالد الأولياء، وغيرها من المناسبات الدينية. وهذا النوع الأخير يتوافر على عدد كبير من القصص الديني مثل «الإسراء والمعراج، وفضلون العابد، وانشقاق القمر، وميمونة» وغيرها.
والأداء لديهم جميعا فعل إبداعي، يقوم على استلهام تراث السيرة الشعبية عبر تواصله الشفاهي، بواسطة التفاعل الحي بين مشاركيه، لتقوية إحساسهم وهويتهم ووحدتهم.
وهناك الدكة الخشبية أو الكرسي أو المقطورة، التي يتخذها الراوي مسرحاً، والفترة بين العشاء والفجر عادة هي أنسب الأوقات للأداء لدى رواة السير المحترفين، وما قيل حول طبيعة المكان وتحديد الزمان في أداء السيرة الشعبية يمثل جانباً مهما من القص. وعندما نتحدث عن أداء الراوي أو المؤدى أو القاص فإننا نقصد شكلين من الأداء. قد يتفقان في بعض الخصائص، لكنهما ـ بالطبع ـ يختلفان من حيث طبيعة الراوي، وطريقة الأداء، والأدوات، ووظيفة النص المروى، ودور الجمهور المتلقي، وهما «الراوي الهاوي»، و«الراوي المحترف»، والفرق الرئيسي بينهما هو المقابل الذي يتقاضاه الثاني لذا سمى محترفاً.
أشكال الرواة وأنواعهم
وبجانب مسألة المقابل المادي هذه نلاحظ أن الاختلاف بينهما يتسع ليشمل أشياء أخرى مهمة، مثل المستوى الإثني والسياقي والأدائي والاجتماعي، إضافة إلى الاختلاف النصي بينهما.
الرواة الهواة
فحين نتحدث عن الراوي الهاوي، نقصد به ذلك «الشخص الذي أغوته السير الشعبية، فضرب بها، وراح يتابعها في مصادرها المختلفة (الليالي المختلفة ـ الشرائط المسجلة ـ النسخ المدونة) ويتمكن من حفظها كاملة، أو بعض قصصها، ثم يؤديها بطلب ـ أو من دون طلب جماهيري، في مناسبات خاصة، دون استخدام آلات موسيقية، معتمداً على إمكاناته الأدائية الخاصة به، ويقوم بذلك لافتتانه بعالم السيرة، دون تقاضي أي مقابل مادي من المجتمع، غير أنه ينال إعجابهم».
ولا يؤثر في ذلك انتماءات الرواة القبلية، أكانوا أشرافاً أم عرباً، أو إمارة أو هوارة، فقط يحاول كل منهم اختيار القصص التي تؤكد فخره بقبيلته، أو ترفع شأنها بين القبائل. إذن فالراوي « إنسان عادى من عامة الناس، يستعمل لغة الجمهور، ويستند في صوغ كلامه إلى الشاعر الذي استمع إليه يوماً». ومعظم الرواة أشخاص ضُربوا بالسيرة ـ حسب التعبير المصري.
الرواة المحترفون ( الشعرا )
قال الشاعر الراحل «عبد الرحمن الأبنودي»: «الراوي المحترف هو ذلك الشخص الذي يصنفه المجتمع في فئة الغجر أو المساليب أو الحلب أو التتر، كما أنه مصنف ـ مهنياً ـ في طبقة «الشعرا». وهو يمتهن غناء الهلالية وروايتها، ويتكسب منها، ويُعرف بأنه شاعر السيرة الهلالية. وهو ما نلمحه في العبارات الدعائية التي يقدم بها مطرب الفرقة أو «الشوباشي» الشاعر.
ويستخدم الرواة المحترفون الآلات موسيقية كالربابة، والراوي يتقاضى مقابلاً مادياً نظير إنشاده، ويختلف المقابل المادي باختلاف السياق الذي ينشد فيه، وباختلاف المكانة أو الشهرة الاجتماعية التي يحظى بها».
أماكن الرواية ومناسبتهم (المقاهي):
تمثل المقاهي أحد الأماكن الاحترافية وأهمها في الماضي، التي كانت تؤدى فيها السيرة الهلالية، وحافظت على تناقل السير والحكاية بين الأجيال، وحافظت على النص بين الجماهير، وكان الشاعر في هذه المقاهي بديلا لوسائل الإعلام الحديثة، وكان يمتلك مهارات أدائية وتمثيلية تربط الجمهور به، وكانوا يتقابلون على المقاهي التي تقدم أبرع الشعراء، الذين يسببون زيادة في دخولها، وكان الشاعر يقدم الهلالية على حلقات يومية متسلسلة، متعمداً التوقف عند مشهد مُشوِّق، يزيد ارتباط الجمهور به، ويتابعها في اليوم التالي بشغف للتعرف على نتيجة المشهد الذي توقف عنده الشاعر، ويحرص الجمهور ألا تفوته حلقة من السيرة أو الحكاية. و بالمقابل يدفع مبلغاً زهيداً من المال، ربما يكون مقابل مشروب يتناوله، ويصف المستشرق الإنجليزي «إدوارد وليم لين» طريقة أداء السيرة في المقاهي في القرن التاسع عشر بقوله: «.. يجلس القاص فوق مقعد صغير في أعلى المصطبة، المقامة بطول واجهة المقهى. ويجلس بعض السامعين إلى جانبه، بينما يجلس البعض الآخر على مصاطب المنازل المقابلة في الشارع الضيق، والباقون على مقاعد من الجريد. وأكثرهم يدخن الشُبك، وبعضهم يرتشف القهوة، وهم جميعاً يبتهجون أعظم الابتهاج بسماع القاص لقوة تمثيله، ولموضوع القصة..».
2ـ المُحدِّثُون: ويبدو أن المُحدِّث يضع أمامه الكتاب ليوهم المتلقين أنه يرجع إلى مصادر موثوقة فينعكس ذلك عليهم، ويصيخون السمع إليه إذا كان يمتلك أسلوباً في الأداء والتمثيل يجذبهم به، وغالباً ما تكون هذه القصص من التراث القديم الشعبي الذي يمتد تأثيره إلى أي عصر تالٍ، لأنه يحمل قيماً إنسانية لا تموت بمرور الزمن.
3ـ الشعراء أو (الشعرا): والشعراء مصطلح يطلق على رواة السير الشعبية، وليس الشعراء أصحاب القصائد، ومن ثم فالشاعر هنا يعزف على الآلة الشعبية (الربابة)، ويحكى السيرة الشعبية التي يريدها الجمهور، ويمكن أن يكون العزف فواصل بين فقرات الحكي، أو مصحوبا بالحكي. وهؤلاء الشعراء أشهر رواة القصص الشعبية على الإطلاق، وقد يعرف بـ «أبي زيديًة» لروايته «سيرة أبى زيد».
4ـ العناترة: و«العناترة» هم رواة «سيرة عنترة»، و يعتمدون على قراءة كتاب السيرة عند روايتها، ويغنون الشعر المكتوب بلا ربابة. ومعظم الأشخاص الذين يستمعون إلى رواية السيرة يتمتعون بشيء من الثقافة، فالشعر الوارد فيها لا تفهمه العامة جيداً.
وسيرة عنترة من أهم وأشهر السير الشعبية في الأدب العربي، وتتركز حول شخصية البطل والشاعر الجاهلي «عنترة بن شداد العبسي»، وهو من أصحاب المعلقات، ومن الفرسان المشهورين في أيام العرب الجاهلية. وعنترة من الشخصيات القليلة التي انتخبها الوجدان الشعبي من العصر الجاهلي، ويذكر تاريخ «العزيز بالله الفاطمي» أن في عهده صارت ريبة في قصره، لاستعانته باليهود، وتفضيله لهم عن غيرهم في تولى أمور الدولة، فلهج الناس بذلك في الأسواق حتى شاعت الريبة بين الناس، فاستدعى «العزيز بالله» شيخ القصاصين «يوسف بن إسماعيل» وأمره أن يصرف الناس بحكاياته عن قصره وما يدور به، فجلس الرجل في السوق وتحلق حوله الناس وبدأ يقص عليهم «سيرة عنترة» ليلة بعد ليلة، وانشغل الناس بالسيرة لأن الراوي كان يقف في نهاية كل ليلة عند حدث يجعل الناس يفكرون فيه إلى الليلة التالية. وبهذا استطاع بعد عدد كبير من الليالي أن يصرف الناس ويلهيهم عما يدور في قصر الخليفة بما امتلك من قدرة على التأثير في عقول الناس.
5ـ المُنشدُون:
والمنشد «من ينفرد بالغناء»، و في المصطلح الشعبي « هو المغنى الديني الذي ينشد القصائد والموشحات ومنظومات الابتهالات وما نحوها». وفى مصر اتسعت دائرة اختصاص المنشد الديني المعاصر، فراح يغنى القصص الديني المنظوم، كما لجأ إلى طرق عديدة في الأداء الموسيقى لم يعهدها الناس سابقا، ومنها أسلوب الموال، وطريقة الطقاطيق وما إلى ذلك.
و«الصيِّيتة» تسمية ثانية متداولة في أوساط المغنيين المحترفين المعروفين باسم المنشدين الدينيين، وتعنى غناء الشعر الذي يتضمن موضوعات دينية من مدائح وابتهالات وتسابيح وتواشيح وقصص ديني ومولد الرسول (صلى الله عليه وسلم). والإنشاد يكون وفق تقاليد موسيقية يعرفها المنشدون ولا يحيدون عنها، والخروج عليها مكروه. وتقوم هذه التقاليد الفنية على قواعد الموسيقى العربية، وفى الإنشاد الديني تستخدم آلات وأدوات موسيقية تراعى التقاليد الفنية الوقورة.
والمنشدون يُرددون المدائح في المناسبات الدينية المختلفة في صورة أناشيد، ويستمدون مادة مدائحهم من المطبوعات الشعبية عن المولد النبوي، وموالد الأولياء، أو من الأناشيد الصوفية والمواويل بحيث تشكل جزءاً من نسق ثقافي مرتبط بالمعتقدات الدينية حول شخصية النبي، وما تناقلته الجماعة الشعبية حولها، وما حفظته من أعمال بارزة ومعجزات تنسب للنبي.
6ـ الجوقة:
والجوقة عرفها المبدعون منذ القدم في أساطير اليونان مثل (أوديب والإلياذة والأوديسة) ونجدها أيضاً في أعمال الكاتب الإنجليزي الكبير «وليم شكسبير». والجوقة تساعد الممثلين على توصيل الحدث، ويمكنها التمهيد للحدث أو التعليق عليه أو المشاركة فيه، ومن ثم فإن الجوقة تمثل عنصراً مهماً من عناصر الحكي الشعبي.
7ـ المدائح النبوية:
المدائح التي توجه لشخصية النبي محمد (صلى الله عليه وسم) وحظه منها أوفى الحظوظ بين الرسل والأنبياء. وكانت أول الأمر نوعاً من الدفاع عن الدين وعن النبي ضد خصومه، مثل قصائد «حسان بن ثابت» و«كعب بن زهير». وبوفاة النبي اتسع مجال المدائح حتى شملت آل البيت على لسان من تشيعوا لهم، ومن أشهر من مدحهم «الكُميت، ودعبل، والشريف الرضي». وأشهرهم هو «البوصيري» و «بردته» في مدح الرسول تمثل نموذجاً فريداً في المدائح النبوية النماذج اللاحقة، وعارضها كثير من الشعراء بعده، من أشهرهم أحمد شوقي. وكان لدراويش الصوفية بصفة خاصة الفضل الأكبر في انتشار المدائح النبوية بين جموع الناس،
ومن ثم فالسير النبوية ـ بكل ما يحاط بها من قداسة ــ هي النموذج التاريخي للبطل والبطولة، باعتباره سيد الرسل وبطل الأبطال (النموذج الإلهي).
ويصور النبي في هذه المدائح بوصفه بطلاً ترسم بطولته من الماضي بتقاليده وأحداثه الدينية، ومن المشاعر المخزونة لدى المسلمين نحو النبي، وكان من الطبيعي أن تركز المدائح على صورة النبي لتصبح صورة مثالية تجعله بشراً ليس كغيره من البشر فهو كامل منذ مولده، وهو يتقلب من كمال إلى كمال، فلا مثيل له في الجمال، وكامل الأوصاف ناعس الأجفان، وزين الأعطاف، ويجمع الجمال الحسي وعراقة النسب، وجهه مثل البدر، وعيناه مكحلتان بالسواد، وشعره فاحم، وعلى خده شامة، وعلى ظهرة علامة النبوة. وبهذه الصورة طغت جميع صفات البطولة الجسدية والروحية عليه.
9ـ ألف ليلة وليلة: وهي «سفر العرب العظيم» الذي يتكون من مجموعة مركبة من حكايات منفصلة حكيت شفاهاً عبر قرون طويلة. وهي حسب «نانس راندولف» : «تشكَّلت وصُقلت من خلال المصادفة وطبيعة الانتقال الشفاهي، فقد أضيفت مواد أو اختزلت مواد، إما بالمصادفة أو توافق الظروف، ولكن لكي تعيش الحكاية لابد أن تلقى قبولاً من المستمعين الذين يحفظونها ويصبحون من بعد رواتها. وبهذا يكون الملايين من المستمعين عبر السنين قد أسهموا في تشكيل الحكايات، وصقلها الرواة».
وفيها مارست «شهر زاد» سحر الحكي في الليالي على «شهريار» رمزاً للمعرفة وسحرها، ولكي تتحول إلى نمط من الأنماط الأنثوية التي تنقل الطاغية إلى أفق الحرية الإنساني، ومن ثم اتسع صدر «ألف ليلة وليلة» لمختلف الطبقات التي يتكون منها المجتمع الإسلامي. ففيها قصص التاجر والصياد، الوزير والملك، الحكيم والجمال، الخياط والحلاق، الحشاش واللص، الجزار والمحتال، وفيها قصص عن الحريم والبيوت العامة، والأسفار في البحار والأهوال التي يتعرض لها المسافرون.
ويبدو أن نموذج «شهر زاد» ألهم الرواة والحكائين، فهي الراوية في «ألف ليلة وليلة»، وكانت تتمتع بذكاء ودهاء مكَّنها من صرف «شهريار» عن عادته المذمومة في قتل النساء ثأراً من امرأته الخائنة، وأثبتت أن المرأة قادرة على التأثير في الرجل حتى لو كان سلطانا جائرا، وليس أدل على ذكاء «شهر زاد» من أنها في نهاية الليالي صرفت السلطان عن القتل واعترف بها زوجة واعترف بأولاده منها.
أماكن الرواية ومناسبتها (مواسم الحصاد والجمع):
وارتبطت السيرة الهلالية بمواسم حصاد محاصيل زراعية كالحبوب والغلال، حيث كان الشاعر يتوجه بربابته إلى الحقول وقت الحصاد، وغناء بعض مقطوعات الهلالية بصوت حزين، مستخدماً المربعات الشعرية التي تحث على الكرم، وتظهر رغبة الشاعر أن يبارك الله المحاصيل، ويدعو للفلاح صاحب المحصول، ليمنحه الفلاحون بعض الحبوب والغلال.
المناسبات الدينية:
وخصص الأهالي أياماً معينة للموالد والمناسبات الدينية، للإحتفاء بذكرى المولد النبوي، و ميلاد الأولياء الصالحين و القديسين التي تكثر في قرى الصعيد، وفي هذه الموالد يتم تخصيص استراحات لتناول الأطعمة والمشروبات، وتخصص بعض العائلات الثرية أماكن للمدَّاحين الدينيين، أو شعراء الهلالية. وتتكفل هذه العائلات بكافة المصاريف. ومن أشهر الموالد التي ارتبطت بالهلالية، مولد سيدي عبد الرحيم القناوى.
المناسبات الاجتماعية:
وتتعدد المناسبات الاجتماعية التي يقوم فيها بعض الأهالي بدعوة شعراء الهلالية لإحيائها، مثل الزفاف، والختان، وليالي النقطة.
وأحاول هنا تأكيد أهمية العودة لفن الحكى وسماع كبار السن، هذا الصوت الوقور القادر على التعبير عن المواقف والأحداث والشخصيات المختلفة في وجدان الصغار، يقص عن تلك الشخوص التي يعيشها الصغار ويتوحدون معها في كثير من الأحيان. فمن منا لم يصادف هذه الصورة الجميلة، دور الجدة الحكاءة، الذي عجزت أجهزة التليفزيون والإذاعة عن القيام به لافتقارها للمشاعر التي تخاطب وجدان الصغار، وفى بعض الأحيان قد يصادف أن يقوم أحد كبار الأطفال بدور الراوي وينصت إليه الأطفال، والاستماع إليه هنا يعتمد على أحاسيس وانفعالات غير تلك التي تحكم العلاقة بين الجدة والصغار.


____
*المصدر : الاهرام 14 مايو 2016 السنة 140 العدد 47276.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...