إبراهيم منصور - سلسلة المحاولات الفاشلة لفصل شيء من المستحيل وقوعه.. قصة قصيرة

-1-

رفع الولد لي رأسه فرأيت خطين أبيضين يصنعان مثلثا تحت أنفه، فحولت رأسي عنه ولكني لبثت أفكر فيه (منذ ذلك الحين كانت البراءة بالنسبة لي وجها مستديرا شاحبا يعلوه المخاط).
ولكن الولد كان يجلس في ميدان وبجانبه كانت أخت له أصغر منه ترتدي بنطالا كاحلا باهتا به ورود زرقاء متربة. وكانت البنت تتعلق بسور حديدي واطي وتنظر إلي الحشائش في شبق ونهم. ولم يخطر ببالها قط أن تنظر إليّ، فحولت رأسي عنها وما لبثت قليلا إلا وقد قلت لنفسي لتكن اللامبالاة في نظرك بعد ذلك شيئا صغيرا شبقا يرتدي بنطالا كاحلا به ورود زرقاء باهتة. ولكن ذلك لم يحدث ولبثت اللامبالاة بالنسبة لي شيئا قاس التحديد يثير فيّ رعبا باردا.
والنتيجة أدركت أنه في وسع المرء أن يتعلم الكثير وينسي الكثير أيضا في ميدان. كما أدركت في نفس الوقت أن يأتي لأماكن أيضا بها نفس الصلاحيات التي تتمتع بها الميادين، تتعلم بها الكثير وتنسي بها الكثير أيضا.

-2- (أ)

حينما عزمت علي أن أزيل معني كل شيء أصبت في البداية بفتور شديد. ولكن بعد ذلك كنت أجلس أو أنام أو أسير ساعات طويلة بلا كلل وأنا أزيل معني كل شيء تقع عليه عيناي ولم يكن الأمر يستدعي مني جهدا خارقا. كنت مثلا أنظر إلي شجرة أو فتاة ذات فم واسع أو مجمع لدواوين الحكومة أو ورقة مطبقة ملقاة بجانب الرصيف وأقول لنفسي هذه ليست شجرة وهذه ليست فتاة ذات فم واسع وليس هذا مجسما لدواوين الحكومة، وهذه ليست ورقة مطبقة ملقاة بجانب الرصيف ثم لا أحاول أن اضيف إلي هذه الأشياء معاني جديدة بدلا من المعاني القديمة وهكذا وفي سهولة لا يمكن تصورها حذف اسمي من العالم تماما. ولكن المشكلة انني بقيت أنا متخذا صفة أخري.
مزيل محترف للمعاني.

-2- (ب)

قلت للفتاة التي أقول لها إني أحبها رغم اني لا أحبها والتي تقول أنها لا تحبني رغم أنها تحبني انني أحبها، وبسبب سذاجتها وقدرتها المذهلة علي عدم الفهم ظنت أن هذا ما هو إلا تكرار لما سبق أن قلته ولكنني في آخر اللقاء انتابني الشك في صحة ما توصلت إليه فقلت لها إني أحبها. ولكنها لم تندهش فتأكدت أن الأشياء بالنسبة لها في مكانها تماما. وقررت أن أخرق القاعدة التي وضعتها وأن اجعلها كشكا لبيع السجائر وأوراق الياناصيب ذلك أن الهدف أمامها كان واضحا والسكين في يدها شيئا معتادا مثل الغصة في الحلق وخيبة الأمل وكل شيء. أما أنا فلم يكن واضحا لي غير اللمعة في السكين وفي العين وفي اليد الثابتة القاتلة في منتصف الصدر وفي أسفل العنق.

وراء الزجاج الملون تبدو وجوه الناس شاحبة، وربط كانت كذلك.


مارس 1968
إبراهيم منصور

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...