أستاذي العزيز
مازلت أوثر أن أكتب إليك بالفرنسية على الرغم من بلوغي في البيان العربي بفضل الرسالة مكانة لا بأس بها. وسبب هذا الإيثار أن المرء يميل بطبعه إلى جهة القدرة لا إلى جهة العجز، ويؤثر بغريزته جانب الكمال على جانب النقص. ولغتي العربية لا تزال عاجزة عن رياضة هذا القلم في يدي، فإذا كتبت بها إليك أهملت ما أكتب فتسيء إليّ، أو أعملت فيه قلمك فتزوره علي. وأنا كأكثر النساء مستكبرة أنوفة، فلا أحب أن أكون من الرجل في موضع الإهمال أو المعونة
أكتب إليك في صباح ليلة ساهرة ثائرة تقسمت مشاهدها العجيبة خواطري ومشاعري، فكأنني لم أشهد قبلها ليلة! والحق أن ليلة (مبرة محمد علي) في هذا العام كانت بدعاً ف نظامها وبرنامجها والاحتفال بها والإقبال عليها والديمقراطية فيها
لقد كان قصر المعرض بالجزيرة معرضاً حقيقياً لمجتمعنا الحديث. فالأميرات والعقيلات والآنسات والممثلات يصاحبهن أو يراقصهن أو يجاورهن الأمراء والكبراء والموظفون ورجال الفن؛ وكلهم على النمط الغربي الرفيع في أناقة الزي ورشاقة الحركة وأسلوب التحية ومراعاة الرسوم وإجادة الرقص، حتى خيل إلي أن الحفلة في (الجران باليه) بباريس لا في السراي الكبرى بالقاهرة
كنت أتنقل أنا وزوجي من مقعد إلى مقعد، ومن مشهد إلى مشهد، في مسرح اللهو، وفي حلقة الرقص، وفي المقصف، وفي (القهوة البلدية)، فأجد أخلاطاً من الناس يشتركون في المظهر، ولكنك تستطيع أن ترجعهم إلى بيئاتهم المختلفة من طريق الهندام ولهجة الكلام واختلاف الوضع. يسهل ذلك التمييز في الرجال ويصعب كل الصعوبة في النساء؛ لأن المرأة بفضل السينما والرياضة استطاعت أن تشأي الرجل في مضمار المدنية الغربية، فهي في إتقان زينتها وفستان سهرتها وانسجام سمتها لا تكاد تختلف عن كواكب هوليود؛ أما هو فبطيء التطور عصي الطبع لا يغشى أمثال هذه الحفلات إلا مسوقاً بإرادة زوجته أو ابنته
لعلك تذكر أني كتبت إليك منذ خمس سنوات كتاباً قلت فيه عن حرية المرأة إنها مسألة لا تتعلق إلا بنا، ولا يكون الحكم فيها إلا لنا؛ وما دخول الرجل فيها إلا أثر من اعتقاده القديم أن في يده زمام هذا الجنس المنكوب يرخيه ويشده على هواه، والأمر لا يخرج عن كونه نظاماً طبيعياً يجري على سنة الحياة من سيطرة القوة على الضعف، وطغيان الأثرة الباغية على العدل الذليل. فحرية المرأة كحرية الأمة، سبيلهما الفعل وحجتهما القوة؛ أما الدفاع بالقول والإقناع بالحق فأصوات مبهمة كزفيف الريح المحبوسة في مخارم الجبل لا تدل على الطريق ولا تساعد على الفرج
قلت ذلك وما كان يهجس في صدري أن المرأة في هذه المدة القصيرة تستطيع أن تنزع من الرجل قيادتها وحريتها ثم تغلبه على إرادته وكرامته فتروضه هذه الرياضة وتخضعه هذا الخضوع!
لقد كنت أرى المرأة في هذه الليلة تراقص الغريب وتضاحك الكأس، وزوجها أو أبوها يهيئ لها فرصة المعرفة ويسعى لها بوسائل اللذة، فأجدني أنا داعية الحرية النسوية بالأمس، أشد النساء ضيقاً بها وسخطاً عليها اليوم، لأن هذه الحرية - بالقياس إلى الحرية التي كنا ننعم بها وندعو إليها - إباحية وفوضى؛ وذلك في الحق علة ما نرى من التنافر بين الفتى والفتاة، فقد كان الظن أن يزول بالتعلم ما بينهما من تنافر العلم والجهل، فأصبح هذا التنافر معززاً بتنافر الحشمة والتهتك. ومادام الانسجام مفقوداً بين الجنسين إما لتقدم الرجل على المرأة في العلم، وإما لتقدمها هي عليه في المدنية، فهيهات أن تنفرج أزمة الزواج أو تستقيم حال الأسرة
كانت هذه الحفلة في السنين الخوالي مظهراً للحرية القصد والبر الخالص، فمازالت عوامل التقليد والتجديد تلح على مزايا الأنوثة وخصائص الجنس حتى أصبحت معرضاً للجمال والدلال والزينة؛ وذلك بالطبع سر نجاحها ورباحها، وهو مغنم لغايتها الشريفة على أي حال
إني ألمح على المرأة في نادي السيدات وفي بعض الحفلات نزوعاً إلى تعدي الحدود التي جعلها الله بينها وبين الرجل، فإذا لم نعاجله بالفطام والكبح أعضل الأمر وفسد المجتمع
ولعلي يا سيدي أشير في (الرسالة) إلى مواطن الداء الحين بعد الحين ليتسنى لأرباب القلم وصفه، ويسهل على أقطاب الحكم علاجه.
أدام الله عليك التوفيق وأعانك بالسداد على مواصلة الجهاد في تبليغ الرسالة. . .
(حياة)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا كتابك يا سيدتي قرأته وترجمته ثم نشرته، وسأعود إليه بالتعليق والتحقيق في فرصة أخرى.
أحمد حسن الزيات
مازلت أوثر أن أكتب إليك بالفرنسية على الرغم من بلوغي في البيان العربي بفضل الرسالة مكانة لا بأس بها. وسبب هذا الإيثار أن المرء يميل بطبعه إلى جهة القدرة لا إلى جهة العجز، ويؤثر بغريزته جانب الكمال على جانب النقص. ولغتي العربية لا تزال عاجزة عن رياضة هذا القلم في يدي، فإذا كتبت بها إليك أهملت ما أكتب فتسيء إليّ، أو أعملت فيه قلمك فتزوره علي. وأنا كأكثر النساء مستكبرة أنوفة، فلا أحب أن أكون من الرجل في موضع الإهمال أو المعونة
أكتب إليك في صباح ليلة ساهرة ثائرة تقسمت مشاهدها العجيبة خواطري ومشاعري، فكأنني لم أشهد قبلها ليلة! والحق أن ليلة (مبرة محمد علي) في هذا العام كانت بدعاً ف نظامها وبرنامجها والاحتفال بها والإقبال عليها والديمقراطية فيها
لقد كان قصر المعرض بالجزيرة معرضاً حقيقياً لمجتمعنا الحديث. فالأميرات والعقيلات والآنسات والممثلات يصاحبهن أو يراقصهن أو يجاورهن الأمراء والكبراء والموظفون ورجال الفن؛ وكلهم على النمط الغربي الرفيع في أناقة الزي ورشاقة الحركة وأسلوب التحية ومراعاة الرسوم وإجادة الرقص، حتى خيل إلي أن الحفلة في (الجران باليه) بباريس لا في السراي الكبرى بالقاهرة
كنت أتنقل أنا وزوجي من مقعد إلى مقعد، ومن مشهد إلى مشهد، في مسرح اللهو، وفي حلقة الرقص، وفي المقصف، وفي (القهوة البلدية)، فأجد أخلاطاً من الناس يشتركون في المظهر، ولكنك تستطيع أن ترجعهم إلى بيئاتهم المختلفة من طريق الهندام ولهجة الكلام واختلاف الوضع. يسهل ذلك التمييز في الرجال ويصعب كل الصعوبة في النساء؛ لأن المرأة بفضل السينما والرياضة استطاعت أن تشأي الرجل في مضمار المدنية الغربية، فهي في إتقان زينتها وفستان سهرتها وانسجام سمتها لا تكاد تختلف عن كواكب هوليود؛ أما هو فبطيء التطور عصي الطبع لا يغشى أمثال هذه الحفلات إلا مسوقاً بإرادة زوجته أو ابنته
لعلك تذكر أني كتبت إليك منذ خمس سنوات كتاباً قلت فيه عن حرية المرأة إنها مسألة لا تتعلق إلا بنا، ولا يكون الحكم فيها إلا لنا؛ وما دخول الرجل فيها إلا أثر من اعتقاده القديم أن في يده زمام هذا الجنس المنكوب يرخيه ويشده على هواه، والأمر لا يخرج عن كونه نظاماً طبيعياً يجري على سنة الحياة من سيطرة القوة على الضعف، وطغيان الأثرة الباغية على العدل الذليل. فحرية المرأة كحرية الأمة، سبيلهما الفعل وحجتهما القوة؛ أما الدفاع بالقول والإقناع بالحق فأصوات مبهمة كزفيف الريح المحبوسة في مخارم الجبل لا تدل على الطريق ولا تساعد على الفرج
قلت ذلك وما كان يهجس في صدري أن المرأة في هذه المدة القصيرة تستطيع أن تنزع من الرجل قيادتها وحريتها ثم تغلبه على إرادته وكرامته فتروضه هذه الرياضة وتخضعه هذا الخضوع!
لقد كنت أرى المرأة في هذه الليلة تراقص الغريب وتضاحك الكأس، وزوجها أو أبوها يهيئ لها فرصة المعرفة ويسعى لها بوسائل اللذة، فأجدني أنا داعية الحرية النسوية بالأمس، أشد النساء ضيقاً بها وسخطاً عليها اليوم، لأن هذه الحرية - بالقياس إلى الحرية التي كنا ننعم بها وندعو إليها - إباحية وفوضى؛ وذلك في الحق علة ما نرى من التنافر بين الفتى والفتاة، فقد كان الظن أن يزول بالتعلم ما بينهما من تنافر العلم والجهل، فأصبح هذا التنافر معززاً بتنافر الحشمة والتهتك. ومادام الانسجام مفقوداً بين الجنسين إما لتقدم الرجل على المرأة في العلم، وإما لتقدمها هي عليه في المدنية، فهيهات أن تنفرج أزمة الزواج أو تستقيم حال الأسرة
كانت هذه الحفلة في السنين الخوالي مظهراً للحرية القصد والبر الخالص، فمازالت عوامل التقليد والتجديد تلح على مزايا الأنوثة وخصائص الجنس حتى أصبحت معرضاً للجمال والدلال والزينة؛ وذلك بالطبع سر نجاحها ورباحها، وهو مغنم لغايتها الشريفة على أي حال
إني ألمح على المرأة في نادي السيدات وفي بعض الحفلات نزوعاً إلى تعدي الحدود التي جعلها الله بينها وبين الرجل، فإذا لم نعاجله بالفطام والكبح أعضل الأمر وفسد المجتمع
ولعلي يا سيدي أشير في (الرسالة) إلى مواطن الداء الحين بعد الحين ليتسنى لأرباب القلم وصفه، ويسهل على أقطاب الحكم علاجه.
أدام الله عليك التوفيق وأعانك بالسداد على مواصلة الجهاد في تبليغ الرسالة. . .
(حياة)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا كتابك يا سيدتي قرأته وترجمته ثم نشرته، وسأعود إليه بالتعليق والتحقيق في فرصة أخرى.
أحمد حسن الزيات