محمد البساطي - التوت البرى...

اعتدنا أن نراها – تلك العجوز – ونحن في طريقنا إلى القبور.. تجلس أمام عشتها على شاطئ النهر بجلبابها الأسود المهلهل، وبجوارها المقطف والعصا. ما كانت تبدى اهتماما عندما يمر أحد على الطريق.. حتى هؤلاء الذين يتقدمون ليضعوا في المقطف شيئا.
كانوا يحكون في طفولتنا عن الشياطين التي تحوم دائما حولها.. والحرائق التي تشتعل من حين لآخر في البلدة، والأطفال الذين يموتون خنقا وتطفو جثثهم على سطح النهر.
وكنا رغم تحذيراتهم والعقاب الصارم نجد طريقنا إليها.. نتسلل في الظهيرة، ذلك الوقت الذي تخلو فيه الشوارع من الكبار، وكانت تهش في وجوهنا، وتضرب بعصاها على جانبى ساقيها الممدودتين وتجمعنا حولها، وتسمح لنا بتسلق أشجار التوت التي تظللها، تلك الأشجار التي لم تلمسها يد قبلنا.
كان الأوغاد يطاردوننا حين نقترب من إحدى الأشجار في البلدة ويلوحون بسقوطنا من فوقها. فليأتوا الآن ويروا كيف نقفز كالقردة بين الفروع. وفاجأتنا العجوز يوما بحبل جاءت به من داخل العشة. ووقفت تكتم ضحكاتها. وقذفنا بطرفه إلى فرع الشجرة وأخذنا نتأرجح. كانت تدفعنا وتندفع معنا. وتصهل وقد تناثر شعرها الأشيب القصير. وسرعان ما تتعثر منكفئة وسط تهليلنا. وترقد لاهثة أمام العشة. وننزلق إلى النهر. كنا نغوص ونمد أقدامنا إلى سطح الماء، ونتسابق إلى الشاطئ الآخر. لا نخشى قطع الحجارة التي كان الأهالي يقذفوننا بها ليخرجونا من الماء وكأنما يفزعهم غرقنا، ونراها. العجوز- ما كانت تخلو أبدا من الحيل – وقد جاءت بألواح من الخشب وأخذت تقذفها إلينا - تلك الألواح التي تنام فوقها بعد أن تغطيها بالقش - ونقفز إليها ونجدف بأذرعتنا.. ونراها تجرى على الشاطئ بجوارنا، وتهلل حين يسقط أحدنا من فوق اللوح.
عندما كنا نلمح أحداً قادما على الطريق، كنا نهرع إليها. تخفينا داخل العشة. ونظل بالداخل نلهث رعبا، نختلس النظر من بين عيدان الغاب حتى يبتعدوا.
ويحدث دائما ما يجعلنا نبتعد عن العشة، وتطول فترات ابتعادنا، ويستغرقنا البحث عن الرزق، ونمضى.
ونفتح بيوتا. ونرحل عن البلدة ونعود. ويكون لنا أولاد. وحين يتأخرون في العودة إلى البيت.. كنا نفتش في وجوههم عن أثار التوت ولمعة الاستحمام. ويقسمون لنا من خلال بكائهم أنهم لم يذهبوا إلى هناك.
ونراها – تلك العجوز – حين نمر بها وكأن السنوات لم تغير منها شيئا. ونشعر بحركة الأولاد المضطربة داخل العشة. غير أن أحدا منا لم يجرؤ يوما أن يتقدم ويسحب الأولاد من الداخل.


محمد البساطى 1981






==============



محمد البساطي
(1937 - 14 يوليو 2012 )،
أديب مصري.
محمد إبراهيم الدسوقي البساطي
ولد في بلدة الجمالية المطلة على بحيرة المنزلة بمحافظة الدقهلية. وحصل على بكالوريوس التجارة عام 1960.
عمل مديراً عاماً بالجهاز المركزي للمحاسبات، ورئيساً لتحرير سلسلة "أصوات" الأدبية التي تصدر في القاهرة عن الهيئة العامة لقصور الثقافة.

من رواياته:

  • "التاجر والنقاش" (1976)
  • "المقهى الزجاجي" (1978)
  • "الأيام الصعبة" (1978)
  • "بيوت وراء الاشجار" (1993)
  • "صخب البحيرة" (1994)
  • "أصوات الليل" (1998)
  • "ويأتي القطار" (1999)
  • "ليال أخرى" (2000)
  • "الخالدية"
  • جوع (رواية) والتي رشحت للفوز بالجائزة العالمية للرواية العربية في دورتها الثانية.
وله عدة مجموعات قصصية منها:

  • "الكبار والصغار" (1968)
  • "حديث من الطابق الثالث" (1970)
  • "أحلام رجال قصار العمر" (1979)
  • "هذا ما كان" (1987)
  • "منحنى النهر" (1990)
  • "ضوء ضعيف لا يكشف شيئاً" (1993)
  • "ساعة مغرب" (1996)
الجوائز والتكريمات

  • جائزة أحسن رواية لعام 1994م بمعرض القاهرة الدولي للكتاب عن روايته الموسومة صخب البحيرة.
  • جائزة "سلطان العويس" في الرواية والقصة لعام 2001م مناصفة مع السوري زكريا تامر.
الوفاة
توفي في 14 يوليو 2012 متأثرًا بسرطان الكبد، وذلك بعد حصوله على جائزة الدولة التقديرية في الآداب قبيل وفاته بأيام قليلة.

مصادر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...