مت و ما تزال حيا أنت والريح التي تبكي
تهز البيت في المساء
حرمتني من نعمة الضياء
علمتني ثقل غياب الكلمات وعذاب الصمت
والبكاء..
الشارع الميت غطى وجهه الصقيع
والأبواب أغلقت إلى الأبد
ثلاثة منها أطل في غد عليك
مقبلا يديك
لزوم بيتي وعماي واشتعال الروح في الجسد
[size=3]عبد الوهاب البياتي محنة أبي العلاء[/size]
…أخذ اهتمام العيون يتركز في شخصه النحيل الذابل. أشعرته نفسه بذلك منذ الوهلة الأولى. لكنه رفض تصديقها لأنه كان لا يريد أن يعرف شيئا…
استبعد عنه الشبهات…كان خائفا.
عرف الخوف من قبل في فترات متباعدة من سنوات حياته. ولكنه خوف كان يزول بزوال اللحظة التي تلده، لأنه كان خوفا مجسدا بشكل أو بآخر.
أما هذا الشعور الجديد عليه الذي بدأت تدلهم به نفسه من كل جانب، مثل رؤية كابوسية، فقد جعله لا يتيح أي أناة لتفكيره ولا أدنى مجال لاستقرار عواطفه.
أحس بالحصار يحيط به ويعزله بمفرده مثل عمل كيميائي فاحص دقيق. ساءه ذلك. ساءه أن يكون بمثابة جرثومة. فأخذ بواعز الغريزة يتهرب من كل العيون التي تتسلط عليه، وأصبح لعذابه آذان لا تحصى، كل الألفاظ تتسرب إليها مباشرة، تدقها دقا قويا. تزعزعها زعزعة عنيفة. تخرقها خرقا جهنميا…
كل مجاز.
كل عقد الكلام..كل نفايات الكلام. كل صوت. كل صمت. كل حرف يقصده هو بالذات. يعنيه هو وحده دون سواه. تمنى عندئذ لو كان محروما من نعمة السمع .
وبنفس السرعة التي تستقبل بها هذه الحاسة كل ما كثر ودل، أخذ عقله يؤول مئات الدلالات. كان ذلك بالنسبة إليه عملا مجانيا ومرعبا…
وبدأ يستعرض حياته منذ أن وعى. بدأ يقلب كل ذكرياته القديمة و الجديدة. يفصلها تفصيلا. يشرح أصغر جزئياتها. يحدد أطرها. ويعلل ما يبررها وما لا يبررها. و لكنه ظل عاجزا. بينه و بين نفسه. ظل عاجزا لأنه كان يقوم باستبطان و كان يعرف آفة ذلك. كان يعلم أن لا مناص له من مقياس ثابت يساعده على البحث. فعاد يترقب الأصوات الخارجية التي ضاعفت من حصارها له، وأصبحت تشكل بالنسبة إليه اتهاما صريحا. ووجد بينها تناسقا أكد ظنونه بعدما كشفت له عن بعض جوانب تلك الذكريات، فاستصوبها لا عن اقتناع تام، ولكن عن تسليم، تسليم البحارة عندما يكتشفون أن العاصفة تطغى على صلواتهم..هدرا كان كل شيء بالنسبة إليه. ها هو ذا الاتهام جماعي، فكيف يتهرب منه؟..كيف يبعده عنه؟..ماذا يفيده أن يقول لا أو نعم ؟. وهكذا شعر بنفسه مهزوما..فتبدت له ضخامة جريمته..و ضغطت عليه الأصوات من كل جانب كأن لا خلاص منها إلى أبد الآبدين، تعصره، تستنطقه بعشرات الألسنة و بطرق مختلفة. واتضح لها، هذه الأصوات تعرف عنه أكثر مما يعرف عن نفسه. فأخذ يخنق مسام عقله حتى لا يفكر لأن تفكيره أصبح جهرا…
وشعر بذاته تتقلص. عرف عندئذ لماذا يقال عن الإنسان إنه حيوان عاقل. بالعقل نحيا…فَقَدَ قوة الاحتجاج، وكانت سلاحا قويا عنده. أصبح يصادق على كل ما يتهم به، كل ما يقال ضمنا أو صراحة..بل أصبح يصادق على كل ما يسمع و كفى ..فكل نظرة من نظراته السابقة كانت جناية على الآخرين. كل كلمة فاه بها. كل حرف كتبه. كل حركة أتاها. كل التفاتة. كل شعور أو عاطفة.
كل استملاح أو استهجان. كل وجهة ارتآها أو قصدها. و قد كان مطمئن النفس هادئ البال..كل ذلك أصبح يشكل وسائل إثبات ضده مثلما يروى عن القيامة يوم تشهد ضد المرء لا فقط خليلته وبنوه، بل أيضا جميع أعضائه وجميع حواسه بدون استثناء…
تحيته للآخرين كانت نفاقا. تعاطفه معهم كان تهكما. تقديره لهم كان احتقارا. حبه كان كراهية…
انقلبت الأشياء.وذنبه أن كان لايعرف ما هو ذنبه بالضبط أو لايتبين ما يراد منه على وجه التحديد..وهكذا تبدت له الحرية مجرد كلمة شوهاء ضئيلة في قاموس غامض لآلاف المترادفات الهجينة..و أخذ يترقب في كل ثانية نزول العقاب عليه. تصوره في أفظع صور القرون الوسطى. وكان يسأل نفسه دائما هل يستطيع جسمه أن يتحمل كل أصناف التعذيب البدني والنفسي. وألمه أكثر أن يرى نفسه في حالة الإثم المنبوذ من طرف الجميع، حتى من طرف أقرب أقربائه. وكان ذلك يحز في نفسه كثيرا. يثير حساسيته ويدفع به يوما بعد يوم نحو طريق مسدود..وإلى استعجال حتفه والقضاء على حياته بنفسه..وتجسد أمام عينيه فضول الذين يستلذون عذاب ومصائب وفشل الآخرين..وتبدت له الشماتة كوحش عنقائي بدائي..فما كان ليفشل لو استطاع من يومه الأول أن يتسنم ذروة التفاهة والابتذال اليومي..وكان يبتسم بمرارة وسخرية كلما فكر في كون الآخرين قد ابتزوا منه شخصيته…
فهم يملكون كل شيء وهو عار لا يملك شيئا..هم يملكون القدرة على أن يقولوا هذا لنا . وكانوا قد قالوا له كل شيء لنا. حتى الأمتار المربعة التي تغلفك، وما يحيط بك، بل حتى شخصك هو ملك شرعي لنا. تفكيرك وحده ننبذه، ذلك هو الشيء الأجنبي فيك. وهو عربون قرباننا منك .
وكان يقلقه إلى حد الهوس أن يكون مثار اهتمامهم إلى هذه الدرجة وبكل هذه العناية .
كان لا يدري هل هو حقيقة أم أنهم كانوا يطاردون شخصا أو أشخاصا آخرين يلوذون بباطنه..ووجد من يساعده على ذلك التفكير يقول له أنت مسكون. وبيتك مسكون. يجب أن تطرد ساكنيك لكي تشفى، لكي تعود كما كنت، يجب أن تصارع. من تراه يصارع…وهذه المن قد تكون للمفرد وللجمع. وقد يكون الجمع لعشرة أو المئة..فأية مبارزة هذه؟..هل سيبارز وحده الشيطان أو نفرا من الجن، أم هو نفسه أصبح مجنونا؟…
استوب
تقطع شريط التسجيل.فأخذ س يعالجه بأصابع ماهرة و سيجارته الطويلة تحترق في زاوية من شفتيه، و يصعد دخانها إلى عينه اليسرى، مما جعله يغمضها و هو يسأل رفيقه
ــ ما رأيك؟
ــ الهوس ..فيه رائحة كافكا
ــ انتظر حتى تكمل القصة..
يرفع رفيقه يده في إشارة غامضة كأنه يريد أن يقول ما الفائدة؟ . ثم سأله
ــ هل هو أعزب أم متزوج؟
ــ متزوج وله أولاد…
و أضاف في ابتسامة ذات معنى
ــ وأصدقاء كثر…
تصطك أسنان آلة التسجيل، فتصدر خريرا متتابعا وتتوقف من جديد
ــ لقد أتلفت بعض القطع من الشريط لكن اسمع البقية…
يعود صوت القارئ ينبعث من بوق آلة التسجيل رتيبا مهزوما
…و تفقد الكلمات معناها المألوف و فعاليتها. و تصبح كل محاولة لتبرير النفس إدانة ودليلا جديدا للذنب. و تصير المصادقة فخا مغريا. وكل شيء يؤول على غير وجهه، وحتى الأسئلة الذاتية لم تعد تفهم ولا التصرفات الشخصية…مثل رجل بلا مرآة، فهو لا يعرف وجهه. فكأنما أبعد عن ذاته. فكأنما أصبح مختلفا عن ذاته با عدوا لها…فراغ جامد، بلا نور. بلا ظل..مادة ميتة..وبلاهة فارغة شاسعة…
وجد في هذه السطور التي استعارها من كاتبة معاصرة صدى لعزلته، فأغرته ترجمتها وأضافها إلى مذكراته. وقلب الصفحات الأخيرة التي كان قد كتبها من قبل و أخذ يراجعها و يتأمل فيها وهو شارد الذهن. ثم رفع عينيه أمامه فصادف بصره صورا تذكارية كانت موضوعة داخل إطار جميل فوق مكتبه. وشطب فجأة على كل ما كتب ثم قلب صفحة جديدة وشرع يكتب دون أن يرفع رأسه
الآن فهمت…
كل شيء مزيف. أهلي مزيفون. أنا نفسي إنسان مزيف. افرض أن تكون جاهلا ذلك. افرض أن يتوافق كل هذا العالم قبلك على توزيع الأدوار التي يقوم بها كل الناس من حولك. افرض أن يكونوا قد لقنوا جميعا من قبل أدوارا مضبوطة و أن تكون أنت وحدك محصورا داخل دائرة لا تنتهي من الأدوار يتقنها أصحابها أكمل الإتقان…افرض أن تكون كل علاقاتك الصميمة و العابرة علاقات مشخصة فقط، مصممة من قبل…افرض أن كل ما قمت به و كل ما في وسعك أن تقوم به كان مدروسا من طرف غيرك ومحددا تحديدا لا يمكنك أن تتجاوزه أبدا مهما فعلت…
كالقدر المحتوم…
عندما تبدأ تعلم أن قدرك المكتوب على جبينك مصمم من قبل، كل شيء يتغير في ذلك فجأة…المبادئ و القيم. النية والطريق. الأبعاد والحدود. تفرض عليك أخلاق جديدة. لا مفر لك منها، فتأخذ تتلمس دورك مثل أعمى دون أن يلقنه لك أحد، وبدون أن يرشدك أحد، ولكنك تكون قد وعيته. مجرد كومبارس. لا تبحث أبعد من ذلك. ولا تنظر أبعد من أنفك.
محمد بيدي
=========================
محمد بيدي
أديب وقاص مغربي من مواليد مدينة الدار البيضاء سنة 1942
تنوعت كتاباته بين القصة القصيرة ونظم الشعر بالفرنسية والترجمة
ينتمي الراحل محمد بيدي إلى كتاب الستينيات من القرن الماضي. ومن ثم فهو أحد رواد التجربة القصصية المغربية في طفرتها النوعية الثانية بعد تجاوز طفرتها الأولى، «طفرة التأسيس»، لتنفتح على أسئلة التجنيس. في الطفرة الأولى التي لعب فيها الرواد الأوائل (أحمد زياد، أحمد بناني، عبد الكريم غلاب، محمد الخضرالريسوني) دور التأسيس من خلال تحويل النص إلى خطاب جامع مانع للحركة الوطنية، عزفا على قصة المستعمَر- بالفتح- ضدا على قصة المستعمِر (بالكسر). وجاءت الطفرة الثانية «طفرة التجنيس»، التي ساهم فيها كتاب العقد الستيني (عبد الكريم غلاب، عبد الجبار السحيمي، محمد برادة، محمد زفزاف، إدريس الخوري، محمد إبراهيم بوعلو) لتضيف جرعة نوعية تمحورت حول الانتصار للمذهب الواقعي - رؤية وموقفا حضاريا - قبل أن يكون انتماءا مدرسيا - نسبة إلى المدرسة الأدبية - أفضى إلى تيار الالتزام سياسيا وأدبيا، في سياق انتصارات المعسكر الاشتراكي من جهة، وظهور حركات التحرر الوطني - من جهة ثانية - التي زاوجت بين معركة الاستقلال ومعركة الديمقراطية. جاء محمد بيدي، في العقد الستيني الذي - فضلا عن الإشارات السابقة - ليتابع تخلق اللحظات السلبية، وهي تنخر فقاعات الأحلام الكبيرة - أحلام الاستقلال - مفسحة المجال لاتساع الفوارق الاجتماعية المهولة بين الإنسان، والمكان والزمان. هكذا عكست تجربة القاص لحظات الإحباط المهيمن على الذات والواقع.
اشتغل موظفا بالمكتب الشريف للفوسفاط إلى أن أحيل على التقاعد.
تهز البيت في المساء
حرمتني من نعمة الضياء
علمتني ثقل غياب الكلمات وعذاب الصمت
والبكاء..
الشارع الميت غطى وجهه الصقيع
والأبواب أغلقت إلى الأبد
ثلاثة منها أطل في غد عليك
مقبلا يديك
لزوم بيتي وعماي واشتعال الروح في الجسد
[size=3]عبد الوهاب البياتي محنة أبي العلاء[/size]
…أخذ اهتمام العيون يتركز في شخصه النحيل الذابل. أشعرته نفسه بذلك منذ الوهلة الأولى. لكنه رفض تصديقها لأنه كان لا يريد أن يعرف شيئا…
استبعد عنه الشبهات…كان خائفا.
عرف الخوف من قبل في فترات متباعدة من سنوات حياته. ولكنه خوف كان يزول بزوال اللحظة التي تلده، لأنه كان خوفا مجسدا بشكل أو بآخر.
أما هذا الشعور الجديد عليه الذي بدأت تدلهم به نفسه من كل جانب، مثل رؤية كابوسية، فقد جعله لا يتيح أي أناة لتفكيره ولا أدنى مجال لاستقرار عواطفه.
أحس بالحصار يحيط به ويعزله بمفرده مثل عمل كيميائي فاحص دقيق. ساءه ذلك. ساءه أن يكون بمثابة جرثومة. فأخذ بواعز الغريزة يتهرب من كل العيون التي تتسلط عليه، وأصبح لعذابه آذان لا تحصى، كل الألفاظ تتسرب إليها مباشرة، تدقها دقا قويا. تزعزعها زعزعة عنيفة. تخرقها خرقا جهنميا…
كل مجاز.
كل عقد الكلام..كل نفايات الكلام. كل صوت. كل صمت. كل حرف يقصده هو بالذات. يعنيه هو وحده دون سواه. تمنى عندئذ لو كان محروما من نعمة السمع .
وبنفس السرعة التي تستقبل بها هذه الحاسة كل ما كثر ودل، أخذ عقله يؤول مئات الدلالات. كان ذلك بالنسبة إليه عملا مجانيا ومرعبا…
وبدأ يستعرض حياته منذ أن وعى. بدأ يقلب كل ذكرياته القديمة و الجديدة. يفصلها تفصيلا. يشرح أصغر جزئياتها. يحدد أطرها. ويعلل ما يبررها وما لا يبررها. و لكنه ظل عاجزا. بينه و بين نفسه. ظل عاجزا لأنه كان يقوم باستبطان و كان يعرف آفة ذلك. كان يعلم أن لا مناص له من مقياس ثابت يساعده على البحث. فعاد يترقب الأصوات الخارجية التي ضاعفت من حصارها له، وأصبحت تشكل بالنسبة إليه اتهاما صريحا. ووجد بينها تناسقا أكد ظنونه بعدما كشفت له عن بعض جوانب تلك الذكريات، فاستصوبها لا عن اقتناع تام، ولكن عن تسليم، تسليم البحارة عندما يكتشفون أن العاصفة تطغى على صلواتهم..هدرا كان كل شيء بالنسبة إليه. ها هو ذا الاتهام جماعي، فكيف يتهرب منه؟..كيف يبعده عنه؟..ماذا يفيده أن يقول لا أو نعم ؟. وهكذا شعر بنفسه مهزوما..فتبدت له ضخامة جريمته..و ضغطت عليه الأصوات من كل جانب كأن لا خلاص منها إلى أبد الآبدين، تعصره، تستنطقه بعشرات الألسنة و بطرق مختلفة. واتضح لها، هذه الأصوات تعرف عنه أكثر مما يعرف عن نفسه. فأخذ يخنق مسام عقله حتى لا يفكر لأن تفكيره أصبح جهرا…
وشعر بذاته تتقلص. عرف عندئذ لماذا يقال عن الإنسان إنه حيوان عاقل. بالعقل نحيا…فَقَدَ قوة الاحتجاج، وكانت سلاحا قويا عنده. أصبح يصادق على كل ما يتهم به، كل ما يقال ضمنا أو صراحة..بل أصبح يصادق على كل ما يسمع و كفى ..فكل نظرة من نظراته السابقة كانت جناية على الآخرين. كل كلمة فاه بها. كل حرف كتبه. كل حركة أتاها. كل التفاتة. كل شعور أو عاطفة.
كل استملاح أو استهجان. كل وجهة ارتآها أو قصدها. و قد كان مطمئن النفس هادئ البال..كل ذلك أصبح يشكل وسائل إثبات ضده مثلما يروى عن القيامة يوم تشهد ضد المرء لا فقط خليلته وبنوه، بل أيضا جميع أعضائه وجميع حواسه بدون استثناء…
تحيته للآخرين كانت نفاقا. تعاطفه معهم كان تهكما. تقديره لهم كان احتقارا. حبه كان كراهية…
انقلبت الأشياء.وذنبه أن كان لايعرف ما هو ذنبه بالضبط أو لايتبين ما يراد منه على وجه التحديد..وهكذا تبدت له الحرية مجرد كلمة شوهاء ضئيلة في قاموس غامض لآلاف المترادفات الهجينة..و أخذ يترقب في كل ثانية نزول العقاب عليه. تصوره في أفظع صور القرون الوسطى. وكان يسأل نفسه دائما هل يستطيع جسمه أن يتحمل كل أصناف التعذيب البدني والنفسي. وألمه أكثر أن يرى نفسه في حالة الإثم المنبوذ من طرف الجميع، حتى من طرف أقرب أقربائه. وكان ذلك يحز في نفسه كثيرا. يثير حساسيته ويدفع به يوما بعد يوم نحو طريق مسدود..وإلى استعجال حتفه والقضاء على حياته بنفسه..وتجسد أمام عينيه فضول الذين يستلذون عذاب ومصائب وفشل الآخرين..وتبدت له الشماتة كوحش عنقائي بدائي..فما كان ليفشل لو استطاع من يومه الأول أن يتسنم ذروة التفاهة والابتذال اليومي..وكان يبتسم بمرارة وسخرية كلما فكر في كون الآخرين قد ابتزوا منه شخصيته…
فهم يملكون كل شيء وهو عار لا يملك شيئا..هم يملكون القدرة على أن يقولوا هذا لنا . وكانوا قد قالوا له كل شيء لنا. حتى الأمتار المربعة التي تغلفك، وما يحيط بك، بل حتى شخصك هو ملك شرعي لنا. تفكيرك وحده ننبذه، ذلك هو الشيء الأجنبي فيك. وهو عربون قرباننا منك .
وكان يقلقه إلى حد الهوس أن يكون مثار اهتمامهم إلى هذه الدرجة وبكل هذه العناية .
كان لا يدري هل هو حقيقة أم أنهم كانوا يطاردون شخصا أو أشخاصا آخرين يلوذون بباطنه..ووجد من يساعده على ذلك التفكير يقول له أنت مسكون. وبيتك مسكون. يجب أن تطرد ساكنيك لكي تشفى، لكي تعود كما كنت، يجب أن تصارع. من تراه يصارع…وهذه المن قد تكون للمفرد وللجمع. وقد يكون الجمع لعشرة أو المئة..فأية مبارزة هذه؟..هل سيبارز وحده الشيطان أو نفرا من الجن، أم هو نفسه أصبح مجنونا؟…
استوب
تقطع شريط التسجيل.فأخذ س يعالجه بأصابع ماهرة و سيجارته الطويلة تحترق في زاوية من شفتيه، و يصعد دخانها إلى عينه اليسرى، مما جعله يغمضها و هو يسأل رفيقه
ــ ما رأيك؟
ــ الهوس ..فيه رائحة كافكا
ــ انتظر حتى تكمل القصة..
يرفع رفيقه يده في إشارة غامضة كأنه يريد أن يقول ما الفائدة؟ . ثم سأله
ــ هل هو أعزب أم متزوج؟
ــ متزوج وله أولاد…
و أضاف في ابتسامة ذات معنى
ــ وأصدقاء كثر…
تصطك أسنان آلة التسجيل، فتصدر خريرا متتابعا وتتوقف من جديد
ــ لقد أتلفت بعض القطع من الشريط لكن اسمع البقية…
يعود صوت القارئ ينبعث من بوق آلة التسجيل رتيبا مهزوما
…و تفقد الكلمات معناها المألوف و فعاليتها. و تصبح كل محاولة لتبرير النفس إدانة ودليلا جديدا للذنب. و تصير المصادقة فخا مغريا. وكل شيء يؤول على غير وجهه، وحتى الأسئلة الذاتية لم تعد تفهم ولا التصرفات الشخصية…مثل رجل بلا مرآة، فهو لا يعرف وجهه. فكأنما أبعد عن ذاته. فكأنما أصبح مختلفا عن ذاته با عدوا لها…فراغ جامد، بلا نور. بلا ظل..مادة ميتة..وبلاهة فارغة شاسعة…
وجد في هذه السطور التي استعارها من كاتبة معاصرة صدى لعزلته، فأغرته ترجمتها وأضافها إلى مذكراته. وقلب الصفحات الأخيرة التي كان قد كتبها من قبل و أخذ يراجعها و يتأمل فيها وهو شارد الذهن. ثم رفع عينيه أمامه فصادف بصره صورا تذكارية كانت موضوعة داخل إطار جميل فوق مكتبه. وشطب فجأة على كل ما كتب ثم قلب صفحة جديدة وشرع يكتب دون أن يرفع رأسه
الآن فهمت…
كل شيء مزيف. أهلي مزيفون. أنا نفسي إنسان مزيف. افرض أن تكون جاهلا ذلك. افرض أن يتوافق كل هذا العالم قبلك على توزيع الأدوار التي يقوم بها كل الناس من حولك. افرض أن يكونوا قد لقنوا جميعا من قبل أدوارا مضبوطة و أن تكون أنت وحدك محصورا داخل دائرة لا تنتهي من الأدوار يتقنها أصحابها أكمل الإتقان…افرض أن تكون كل علاقاتك الصميمة و العابرة علاقات مشخصة فقط، مصممة من قبل…افرض أن كل ما قمت به و كل ما في وسعك أن تقوم به كان مدروسا من طرف غيرك ومحددا تحديدا لا يمكنك أن تتجاوزه أبدا مهما فعلت…
كالقدر المحتوم…
عندما تبدأ تعلم أن قدرك المكتوب على جبينك مصمم من قبل، كل شيء يتغير في ذلك فجأة…المبادئ و القيم. النية والطريق. الأبعاد والحدود. تفرض عليك أخلاق جديدة. لا مفر لك منها، فتأخذ تتلمس دورك مثل أعمى دون أن يلقنه لك أحد، وبدون أن يرشدك أحد، ولكنك تكون قد وعيته. مجرد كومبارس. لا تبحث أبعد من ذلك. ولا تنظر أبعد من أنفك.
محمد بيدي
=========================
محمد بيدي
أديب وقاص مغربي من مواليد مدينة الدار البيضاء سنة 1942
تنوعت كتاباته بين القصة القصيرة ونظم الشعر بالفرنسية والترجمة
ينتمي الراحل محمد بيدي إلى كتاب الستينيات من القرن الماضي. ومن ثم فهو أحد رواد التجربة القصصية المغربية في طفرتها النوعية الثانية بعد تجاوز طفرتها الأولى، «طفرة التأسيس»، لتنفتح على أسئلة التجنيس. في الطفرة الأولى التي لعب فيها الرواد الأوائل (أحمد زياد، أحمد بناني، عبد الكريم غلاب، محمد الخضرالريسوني) دور التأسيس من خلال تحويل النص إلى خطاب جامع مانع للحركة الوطنية، عزفا على قصة المستعمَر- بالفتح- ضدا على قصة المستعمِر (بالكسر). وجاءت الطفرة الثانية «طفرة التجنيس»، التي ساهم فيها كتاب العقد الستيني (عبد الكريم غلاب، عبد الجبار السحيمي، محمد برادة، محمد زفزاف، إدريس الخوري، محمد إبراهيم بوعلو) لتضيف جرعة نوعية تمحورت حول الانتصار للمذهب الواقعي - رؤية وموقفا حضاريا - قبل أن يكون انتماءا مدرسيا - نسبة إلى المدرسة الأدبية - أفضى إلى تيار الالتزام سياسيا وأدبيا، في سياق انتصارات المعسكر الاشتراكي من جهة، وظهور حركات التحرر الوطني - من جهة ثانية - التي زاوجت بين معركة الاستقلال ومعركة الديمقراطية. جاء محمد بيدي، في العقد الستيني الذي - فضلا عن الإشارات السابقة - ليتابع تخلق اللحظات السلبية، وهي تنخر فقاعات الأحلام الكبيرة - أحلام الاستقلال - مفسحة المجال لاتساع الفوارق الاجتماعية المهولة بين الإنسان، والمكان والزمان. هكذا عكست تجربة القاص لحظات الإحباط المهيمن على الذات والواقع.
اشتغل موظفا بالمكتب الشريف للفوسفاط إلى أن أحيل على التقاعد.