وتوقف أنين الرحى برهة، وأخذت فطومة تمسح يدها الندية بثوبها الأزرق الراهل ، وتطلق نظراتها الساهمة في عطاف الليل الحادب فوق الخرائب .
كان القمر الأسود يرمق الدنيا بعين جامدة ، ويلقي ظلاله الخاملة على الأرض السكرى بأبخرة الصيف .. والهواء الراكد يتململ أحيانا ً ، فيفوح في القفر أريج القيصوم ، وتتهامس النسم العابرة بين أعقاب السنابل والأشواك البرية حاملة من الأرجاء صهيل الخيل وحنينها ولوعتها ، ناشرة حول الأكواخ همهمة الشياه الرابضة ونخيرها . وبين آن وآن يمتد في جوف السكون عواء طويل كئيب تطلقه ثلة من بنات آوى ، وترد عليه عاصفة من نباح الكلاب . ثم ما تلبث العاصفة أن تنجلي ويعود إلى القفر هدوءه ، فيتعالى نقيق الضفادع وصرير الجنادب من ضفاف السواقي المرتعشة تحت لمسات القمر .. في انسيابها البطيء نحو الخرائب .
وكانت النسمة العابرة تحمل أحيانا ً أنين الجواريش وأصوات النساء وشجارهن ومغازلة القطط ولغط الرجال وقرقعة فناجين القهوة وأوامر شيخ القرية ، وكانت تحمل أحيانا ً همسات الدوحة الحانية فوق سقيفة فطومة ، وخرير المياه المرتطمة بأحجار الساقية وزفرات فطومة وأحاديث قلبها وأحلام ابنتها العمياء الراقدة في زاوية من الكوخ .
عادت الرحى تئن تحت قبضة فطومة ، وعادت فطومة إلى أحلام قلبها تنشرها في الظلام فتتشكل قصصا ً نابضة بالحياة ، تمازج ذكريات الماضي فيها آمال الحاضر ، وتنساب بينها نغمة متصلة حبيبة إلى قلبها ، ما ينفك ينشدها ويكرر انشادها .. فتخفق كل ذرة في جسدها العامر المكين ,يخالجها شعور الفتاة الولهى الموجسة في الظلام لقاء الحبيب . ويغمرها فيض من الأحاسيس اللذيذة المتنوعة ، وتنتشر ابتسامة هادئة في غضون وجهها ، ويلفظ قلبها آهاته الحبيسة ، ويردد بالحاح نغمته الأثيرة المحببة اليه : ” غدا ً مع شروق الشمس ، غدا ً … ” ثم تحس بدنو ما يشبه الغمامة البضاء ، وتروح في نشوة من خيال تحدق في العينين الخافيتين تحت حاجبين أشهبين ، وفي الوجه المكدود المتغضن تحيطه هالة من الشعر بيضاء ، وفي الجبين الضيق المخدود والقامة الحانية الملتائة بعباءة بيضاء .. ثم ترهف السمع بحرص شديد للصوت الشائخ العميق ينبثق رويدا ً كالدوي الخارج من أغوار كهف مظلم .
ـ سيأتي غدا ً مع شروق الشمس، سيأتي منصور ومعه خير كثير .
ــ وهل رأيته بالذات ، عماه ،؟
ــ بعيني هاتين . فليغلقهما الله إن كنت كاذبا ً
ــ وماذا قال لك .
ــ أوصاني أن أقول لك انه آت مع شروق الشمس غدا ً . ” آه .. غدا ً .. مع شروق الشمس غدا ً .. ” وتتبدد الغمامة اليبضاء في الظلام ، ويتوقف أنين الرحى ، فتنهض فطومة بقلب طروب عامر بالأمل إلى الفراش البالي المنبسط على الدكة القائمة في صدر الكوخ ، الفراش الذي شهد ليلة زواجها بمنصور منذ خمسة وعشرين عاما ً .
• * *
وينبو عن فطومة الكرى ، وتتقلب في مضجعها آونة ظويلة . ثم تهدأ حركتها وتضغي للسكون المرفرف فوق القفر ، فيتوارد اليها مزيج من نقيق الضفادع وعواء الكلاب وخرير الساقية وشخير ابنتها .. وتحين منها التفاتة إلى المنخل المعلق على الحائط تتر اقص فوقه أشعة القمر ، وتذكر فجأة حمار جارها ا لذي نفق صباحا ً، والشيخ الذي حمل اليها نبأ عودة منصور ، ومستقبل ابنتها العمياء ، وحديث جارتها عن ” القارىء ” الذي يفتح عيون العميان في المدينة وقناتها التي ترقد تحت التراب غير بعيد عن الكوخ وابنتها المتزوجة .. وزوجها الذي يعبث بشاربيه ، وحديث السمن والأرز والحنطة والشعير ، وارتفاع الأسعار ، وصعوبة العيش فيما يقبل من الأيام .. وبين كل ذلك تتدخل نغمة قلبها اليه طاغية ، جارفة .. فتخفق كل ذرة في جسدها العامر المكين وتغمض عينيها وتردد في سرها بارتخاء لذيذ : ” غدا ً مع شروق الشمس .. غدا ً .. ” وتنتشر ابتسامة عريضة في غضون وجهها .
ويمضي الليل وئيدا ً وآنيا ً ، يسحب وشاحه القضي فوق القفر ، وتحس فطومة باطمئنان عميق ، وتستغرقها نشوة حالمة ، ويسترخي جسدها في سكرة من سكرات اللذة الحبيسة الجامحة ، وتهتاجها الذكريات ، فتشبك يديها فوق ثدييها ، وتهصرهما بشدة ، بشدة ، وتمر على وجهها الندي نسمة لاهفة ، وتهمس الدوحة لحانية فوق السقيفة همسات متصلة ، وترتعش الحياة في السواقي، ويصيح ديك من بعيد أخطأ تقدير المواعيد . .
وتستنيم فطومة برهة للذة المتسربة في الحلمتين النابضتين تحت يديها ، وتنشق حبيبات العرق من مسام جسدها المضطرم ، تعقد حوله الأرض والجدران زفراتها الشائظة ، ويروعها فجأة احساس بالفراغ .. الفراغ الهائل في صدرها وفي حياتها وفي كل شيء ، وتنفلت متأوهة إلى مكان زوجها من الفراش ، وتذكر الليالي التي أمضتها ناحبة مستوحدة ، فترتخي ذراعاها ، وتهبطان إلى جانبيها ويعود ثدياها طليقين، وتعود الحلمتان للتخاذل والانكماش . وتحس بجفاف ريقها ، ويلوعها ظمأ شديد ، ويتمثل لها الكوز مرارا ً يرشح من جوانبه الماء ، ولكنها ترجىء النهوض في غمرة من أحاديث تفسها الطاغية ، وتضطرب شفتاها بهمس لاغط : ” خمسة عسشر عاما ً.. آه يا ظالم .. لا مكتوب .. لا كلمة.. ولا رسول .. حي ، ميت ؟لا أحد يدري ! أين قضيت كل هذه السنوات . لم تسأل عن حرمتك ، عن أطفالك ، عن بكرك التي ماتت .. تغربت هكذا وحيدا ً مشردا ً في البلدان تركت كوخك ، تركت أهلك وعشيرتك ، أين يا خائب ، أين قضيت كل هذه السنوات .. في أي قرية .. في أي دارة ، في أي مكان ؟آه .. نسيتنا يا منصور .. نسيت كل هذا العمر الطويل ، ولم ننسك أبدا ً . ” وتذكر خطاباً أقبلوا عليها بعد هجرة زوجها ، وكدها المتصل في سبيل العيش وآلام الفاقة والعوز وموت ابنتها بدرية ، ومذلتها بين قومها .. وتحار في عينيها دمعتان ، وتنهض منتفضة ، مسرعة إلى الكوز الصغير المسند إلى الحائط ، ترفعه بيدين مضطربتين ، وتنهال على فمه الندي بشفتيها الظامئتين ، فينساب الماء في جوفها عذبا ً رقراقا ً ، ويسيل بعضه فوق خدها ونحرها ، ويقطر بعضها على ثوبها الأزرق الراهل ، وتعود إلى الدكة وقد أحست بشيء من الراحة ، وتجلس على حافة الفراش ، وتطلق نظرتها الساهمة في عطاف الليل الحادب فوق الخرائب وتعروها فجأة رعدة باردة ، فتنقبض ملامح وجهها ، وتمد أصابعها المترددة في فتحة ثوبها ، تتلمس موضع البلل وتهيم بين ثدييها المقرورين وتتعاقب أمام ناظريها صور من مآسي حياتها في الأعوام الماضية :
ــ انتهى اليوم موسم الحصاد ، فطومة !
ــ الله كريم .
ــ أقول لك انتهى كل شيء . لم يعد لي رزق هنا !
ــ ربنا كريم ..
آه ، أنت يا امرأة .
ويلقي منجله بحنق في زاوية من الكوخ ، ويضطرب هيكله الضخم في غبش المساء ، منسحقا ً تحت وفر الألم : تعالي اغسلي رجلي ، هات الماء !
وتمضي فطومة بالقفدر الفارغة إلى الساقية ، وتشارك في مؤتمر النسوة المنعقد حولها .
وتمر برهة طويلة أ فينفد صبر منصور ، ويصرخ هائجا ً :
ــ أين أنت فطومة ؟ فطست ؟
ــ أوه اصبر قليلا ً ، لقد صبرت تسعة أشهر في بطن أمك .
وتتلكأ في مشيتها عمدا ً ، ثم تربض عند قدميه بتراخ ، فيتناول القدر من الأرض بعنف ، ويقذف الماء في وجهها وترتعش النسائم فوق صدرها المبتل ، وتعروها رعدة باردة .
ــ أصبر ؟ هكذا أصبر يا ابنة الكلب ؟
ويركلها ركلة قوية . تسيل الشمس ضفائرها الذهبية فيما وراء القفر ، وتغيم الدنيا في عين فطومة ، ويعصف الألم في أحشائها عصفا ً شديدا ً موجعا ً ، ويتعالى من حولها لغط لا يكاد يبين :
ــ دنت ساعتها .
ــ نعم … نعم …
ــ ان شاء الله يكون ذكرا ً ..
ــ الله كريم .
ــ واذا كانت بنتا ً ؟
ــ صه .. صه !
ــ ارفق يا ربي بهذه المسكينة .
ــ فليحفظها الله من بطش منصور .. أستغفر الله ربي .
وتمزق لغط النسوة صرخة حادة ، وتغيب فطومة عن الوعي برهة ، ثم تفيق لتسأل بصوت هامس :
ــ ماذا ؟
وتشهد الوجوم حولها ، فتفهم وتغمض عينيها … وتدوي في رأسها صيحة منصور زمنا ً طويلا ً :
ــ لعنة ثالثة .. يا أم اللعان ! هه .. هذا بطنك القذر لايحمل غير الاناث .
وتذهب ( أم اللعان ) في القرية مثلا ً سائرا ً ..
* * *
ــ أين بدرية يا امرأة ؟
ــ ذهبت إلى عرس صفية ..
ــ وتركتها تذهب وحدها ؟ تسع سنين عمرها .. أهل للزواج وتتركينها تذهب وحدها ،لم تسيبين عرضنا في الدروب ؟
ــ أوه منصور لا تجعل الحبة قبة !
ــ بل أترك قوادة لها .
وتنظر اليه نظرة كره ونقمة :
ــ اذا تكلمت أكثر ، فسأشق ثوبي وأخرج عارية بين الناس .
ــ تقدرين ، تقدرين .. يا ابنة الـ …
وتتدفق الشتائم البذيئة من فمه اندفاق السيل ، وتنهال على جسدها قبضتاه وقدماه ، وينزف أنفها دما ..
القمر يسكب ضوءه على وجه منصور الغاضب ، وفطومة تتمدد إلى جانبه على الفراش ، وجلة منتظرة هبوب العاصفة .
ــ أقول يا أم اللعان ، ماذا كنت تفعلين حتى الساعة مع الفحل ؟
وتدهش فطومة لهدوئه :
ــ كنت أحدثه ، أحرام علي أن أحدث أخي ، ابن أمي وابي ؟
ــ آه .. كنت تحدثينه .. أنا لا أريد هذا العاطل أن يدخل بيتي بعد الآن . أنا عندي بنات .
ــ اسكت لئلا يسمعك الناس .
ــ ألعن أباك وأبا الناس ، أنا لا أريد هذا الكلب يدخل بيتي ..
ــ أف لذاك اليوم الأسود .
ــ أخوك ، ابن أمك وأبيك ، ماذا يفعل هنا كل ليلة ؟ هل أبقى عندك درهما ً يا مسكينة ؟ عميت عينك من غزل الصوف .
* * *
ــ أستغفر الله ربي ..
ــ هه .. أم اللعان . تعالي اسألك سؤالا ً ..
ويشدها من ردنها بعنف :
ــ دعني .. دعني !
ــ أخبريني ، اذا بليت النعل ماذا يصنع بها صاحبها ؟
ــ لا أعلم .
ــ بل تعلمين جيدا ً . ، انه يجب انتعال أخرى جديدة .
ــ أتريد أن تتزوج يا خائب ؟
ــ ولم لا ؟
ــ والمهر كيف تدبره ؟ انك عاطل .
ــ آه .. يا بنت الكلب .
ويقذف في وجهها بصقة كبيرة .
* * *
دخان التنور يكتنف فطومة ، وألسنة اللهب تضطرب بين يديها ، وتلقي على وجهها ضوءا ً أحمر ساطعا ً ، ومن فوق الدكة يصيح منصور بحدة :
ــ بدرية .. يا بدرية !
ــ ماذا تريد منها ؟ دعها تعجن .
،، أريد كأس السمن .
ــ لا يوجد عندنا سمن ، افطر بشيء آخر !
ــ عجيب .
ــ السمن غال هذه الأيام . افتح أنت كيسك واشتر !
آه يا أم اللعان ، لقد أذللتني في بيتي .لأخيك كل شيء حلال ، وعليّ كل شيء حرام . انتظري أريك النجوم في وضح النهار ..
ويقفز من الفراش مسرعا ً ليضربها ، فتهرب منه منطلقة ً إلى خارج الكوخ .
* * *
الشيخ الهرم جالس في كوخه، يعبث بعثنونه ويتأمل ابنته فطومة بعينين دامعتين :
ــ كم مرة قلنا لك يا ابنتي ، اقنعي بما كتب لك الله ، وابقي عندنا .. !
ــ لا .. يا أبي .. لا أستطيع .
ويثور أخوها راعدا ً :
لا تستطيع ، لا تستطيع انظر إلى ذراعيها ، إلى فخذيها . انها تحب الضرب . انها تحب منصور . انها لا تقدر أن تفارقه لحظة واحدة .
وتدخل جارة عجوز :
ــ ولم لا تحبه ؟ زوجها ، رجل صباها وأبو بناتها . حرام يا ناس ، حرام أن تفرقوهما . ان الله سبحانه وتعالى يودع قلب المرأة حب رجلها ويودع قلب الرجل حب امرأته في أول ليلة لهما . .
وتعود فطومة إلى كوخها ، وتتذكر في الطريق ليلة زواجها ..
* * *
ها هي في الثامنة عشرة ،موردة الخدين ، ناهدة الصدر ، فارعة القامة ، قوية الجسم ، تجلس في زاوية من الكوخ ، ومنصور يحوم حولها تحويما ً . انها لا تكاد تعي شيئا ً ، وانما تحس بما يشبه الدوار . قلبها يخفق بشدة . ان شعلة الشمعة الغليظة الصفراء ما تزال تضطرب أمام عينيها ، ورائحة ماء الورد تفغم خياشيمها ، والضجيج يتوارد اليها من وراء الكوخ ، وأصوات المزامير والطبل ترسل رعدة في جسمها ، ووجوه النسوة المطلية تتخاطف في ذهتها المضطرب بسرعة عجيبة : ها هي ذي خضيرة تريها طعنة خنجر في ذراعها وتلقي في أذنيها نصائح سافرة .. وها هي ذي نورية تخطر بين الحشد الهائل بردفيها الثقيلين وثدييها المنتفختين ، وتهمس عفيفة في أذنها : انظري إلى هذه التي تتبختر كالطاووس ، لقد ملأت الدنيا صياحا ً ليلة زواجها ، ولم يجد زوجها مناصا ً من ربطها بالحبال . يا للهول ، وتذكر فجأة وجها ً شاحبا ًوحزينا ًوعينين دعجاوين وشعرا ً أسود سبطا ً ، وصاحبة هذا الوجه التي ألقت بنفسها في النهر مؤثرة الموت على الزواج .
ويقترب منها منصور ، فتجفل .. ويزداد خفقان قلبها . ان كلماته تطن في ذهنهاطنينا ً مشوشا ً مزعجا ً . انه يداعبها ، فلا تفهم ما يريد ، وتحاول الكلام أحيانا ً ، فلا يسعفها لسانها . لقد أحست به قطعة جافة من الجلد لاصقة في قاع فمها ، ولم يعد لديها قطرة من ريق . ان منصور يتحدث اليهاوهو يخلع ثيابه ، فتضطرب أقواله في ظلال وعيها ، ويشتد الدوار في رأسها :
ــ أتدرين كم كلفتني يا فطومة ؟ وكم معركة خضت لأجلك ؟ لقد انتظرتك خمس سنوات . ما لك تنظرين دائما ً إلى الأرض ؟ ألا يروقك شكلي ؟ ها ها هاه . انظري إلي مرة واحدة على الأقل . ارفعي رأسك قليلا .. آه . كأنك الليلة جالسة في مأتم . أنا حليلك يا فطومة . أنظري اليّ !
وتنظر اليه بعد محاولات عديدة ، فتلمح ابتسامة فتية حلوة تحت شاربين صغيرين وديعين ، وتلفظ أهة طويلة .. وتقضي الليلة فيما يشبه السحر ، فلا طعنة خنجر ولا ربط بالحبال ولا عنف ولا اكراه، وانما هو نعيم مقيم ولجت اليه رويدا ً رويدا ً بفضل منصور ..
وتنتقل فطومة من ذكرى إلى ذكرى ، وقد نال منها التعب ، وأثقل جفنيها النعاس ، فتتمدد على الفراش الذي أضحى ،، لشدة ما نالت منه الليالي ــ رقيقا لاصقا ً بالدكة ، تطل من شقوقه خصل القطن الكدراء .. ثم يبدو لها لحظة وجه منصور العابس وكتفاه العريضتان ، وترقبه بألم وهو يتولى عنها مع الظهيرة إلى حيث لا تدري : ” أنا ذاهب .. لا تنتظري عودتي ! ” وتظل خمسة عشر عاما ً تسائله بقلب ناحب : ” إلى أين ذاهب ؟ ” فتجيبها الدوحة الحانية فوقة السقيفة بهمساتها الحزينة أثناء الصيف ، ويجيبها القفر الواسع بهدوئه الموحش في ليالي الشتاء العاصفة .
وتظل خمسة عشر عاما ً وفية لذكراه ، تنتظر عودته في كل لحظة، وتحلم فيه ليل نهار .. وهو .. وهو .. ؟ ” آه يا كافر .. لا بأس . لقد عدت أخيرا ً .. ! ” وتنتشرابتسامة في غضون وجهها ، ويعود قلبها يردد أغنيته المحببة : ” غدا ً . مع شروق الشمس غدا ً .. ” وتغمض عينيها .
وتعود الحياة تتثاءب في القفر بعد غفوة ليلة محمومة ، وتنشط النسم العابرة بين أعقاب السنابل والأشواك البرية ، وترنق الشمس في كبد السماء ، تصلي الرعيان بشواظها اللاهب . وترقد الكلاب جائعة لاغبة في ظلال الأكواخ ، وتضج العصافير الناشطة للحب والطعام في رأس الدوحة الحانية فوق سقيفة فطومة . وتتلفت فطومة في كوخها مرتبكة مضطربة ، تسائل نفسها بين هنيهة وأخرى : ” كل شيء جاهز ، ولكن أين منصور ؟ ” وتكاد الدموع تطفر من عينيها كلما سألتها ابنتها العمياء :
ــ أماه ، الم تري أبي حتى الآن ؟
ــ لا ، يابنتي .
وتظلل عينيها بيدها، وترسل نظراتها الباحثة الحيرى في جميع الجهات ، وتند عن صدرها أنة : ” قال مع شروق الشمس . آه يا ظالم . ألا يكفي انتظار خمسة عشر عاما ً ؟ ” ويظل بصرها الممتد لحظة في ارجاء المرزة الخضراء المترامية عند الأفق ، ثم يرتد خائبا ً ،محزونا ً يتعثر بين الخرائب المجاورة : هذا بيت محسن اذي أنجلت امرأته ولدا ً قبل بضعة أيام ، وهذا جحش صغير يرضع ثدي امه بتهم ، وهذا سرب من الدجاج يتثر الروث بين أرجل فرس ربطت إلى معلفها ، والفرس تنش الضباب بذيلها ةتضرب الأرض بحوافرها .. وذاك الرجل يزيح عرق جبينه بابهامه ويعمق الساقية بمسحاته ، وتلك امرأة تتحدث اليه وتملأ جرتها ، وهناك شرذمة من الرجال يغادرون القرية على ظهور الخيل .
وتتساءل فتاتها مرة أخرى :
ــ أماه ، ألم يأت أبي ؟
ــ أوه ، كفى .. لا تسألي .
وتنصت الفتاة ، وتغص الأم بألمها ، وتلتمع الدموع في موقها ، وتنقلب إلى شؤون الكوخ في محاولة للتسرية عن نفسها ، فتحكم وضع القدر فوق أحجار الموقد ، وتنقل الرحى من زاوية إلى زاوية ، وتنضح الأرض بالماء للمرة الثالثة ، وتلقي نظرة هنا ونظرة هناك ، وتعدل أطراف البساط الذي تقتعده ابنتها .. ولكنها تتوقف فجأة وتصيخ السمع بامعان ..
ــ أماه … جاء جاء ابي ..
ــ آه .. لعل.
وتشتدالجلبة الصادرة من وراء الكوخ ، وتقترب رويدا ً رويدا ً ، فتتضح أصو ات أناس كثيرين لا تعرفهم ، ويرتفع لغطهم المختلط .. بل هذه سعلة منصور المقتضبة الحازمة هي هي لم تتغير . وهذه رؤوس الخراف تطل عليها من الباب تعلن مقدمه . ويشتد وجيب قلبها وتتحامل على ساقيها حتى تصل الباب . ثم .. ثم ترى نفسها وجها ً لوجه مع منصور ، ذلك الجبار العنيد الذي لم تنل منه السنون .
ــ ايه فطومة . كيف حالك ؟
ــ يا عين فطومة . أهلا ً وسهلا ً . أهلا ً ومرحبا ً .
وتحاول أن تطلق زغاريدها في الفضاء قبل أن ترتمي على صدره ، ولكنها تتسمر في مكانها واجمة ، قانطة ، ويشرع منصور لتقديم أفراد عائلته الجديدة :
ــ هذه أختك ناصرية أم الولد ، وهذا خادمك جسام ، وهذا ياسين وهذه سعدية وهذا الشيطان الصغير محمود .. اذهبوا .. اذهبوا .. سلموا على فطومة !
وبينما يتهافت الولد على يديها لتقبيلها ، ترفع عينيها المخضلتين وتنظر إلى السماء .
عبد الملك نوري
* ( القصة الفائزة بالجائزة الأولى في مسابقة الاقصوصة العربية التاي أجرتها مجلة ” الأديب البيروتية سنة 1948 )
* نقلا عن موقع الناقد العراقي
========================
ولد عبد الملك نوري في مدينة السويس بمصر عندما كان والده في رحلة خارج العراق واكمل دراسته في الجامعة الامريكية في بيروت حيث اجاد اللغة الإنكليزية وعاد الى بغداد ودخل كلية الحقوق وتخرج عام 1944 مشتغلا في المحاماة فترة من الزمن واوخر الاربعينيات وانتظم في السلك الدبلوماسي
وكان قائما بأعمال السفارة العراقية في جاكارتا وبعدها في طوكيو وبراغ ونشر انذاك العديد من القصص القصيرة في الصحف والمجلات العراقية قبل ان تفوز قصته (فطومة) بجائزة مجلة الاديب اللبنانية عام 1948.
وكانت اول مجموعة قصصية هي (رسل الانسانية) عام 1946 و (نشيد الارض) عام 1954 وله مسرحية من تأليفه بعنوان (خشب ومخمل) عام 1972
كان القمر الأسود يرمق الدنيا بعين جامدة ، ويلقي ظلاله الخاملة على الأرض السكرى بأبخرة الصيف .. والهواء الراكد يتململ أحيانا ً ، فيفوح في القفر أريج القيصوم ، وتتهامس النسم العابرة بين أعقاب السنابل والأشواك البرية حاملة من الأرجاء صهيل الخيل وحنينها ولوعتها ، ناشرة حول الأكواخ همهمة الشياه الرابضة ونخيرها . وبين آن وآن يمتد في جوف السكون عواء طويل كئيب تطلقه ثلة من بنات آوى ، وترد عليه عاصفة من نباح الكلاب . ثم ما تلبث العاصفة أن تنجلي ويعود إلى القفر هدوءه ، فيتعالى نقيق الضفادع وصرير الجنادب من ضفاف السواقي المرتعشة تحت لمسات القمر .. في انسيابها البطيء نحو الخرائب .
وكانت النسمة العابرة تحمل أحيانا ً أنين الجواريش وأصوات النساء وشجارهن ومغازلة القطط ولغط الرجال وقرقعة فناجين القهوة وأوامر شيخ القرية ، وكانت تحمل أحيانا ً همسات الدوحة الحانية فوق سقيفة فطومة ، وخرير المياه المرتطمة بأحجار الساقية وزفرات فطومة وأحاديث قلبها وأحلام ابنتها العمياء الراقدة في زاوية من الكوخ .
عادت الرحى تئن تحت قبضة فطومة ، وعادت فطومة إلى أحلام قلبها تنشرها في الظلام فتتشكل قصصا ً نابضة بالحياة ، تمازج ذكريات الماضي فيها آمال الحاضر ، وتنساب بينها نغمة متصلة حبيبة إلى قلبها ، ما ينفك ينشدها ويكرر انشادها .. فتخفق كل ذرة في جسدها العامر المكين ,يخالجها شعور الفتاة الولهى الموجسة في الظلام لقاء الحبيب . ويغمرها فيض من الأحاسيس اللذيذة المتنوعة ، وتنتشر ابتسامة هادئة في غضون وجهها ، ويلفظ قلبها آهاته الحبيسة ، ويردد بالحاح نغمته الأثيرة المحببة اليه : ” غدا ً مع شروق الشمس ، غدا ً … ” ثم تحس بدنو ما يشبه الغمامة البضاء ، وتروح في نشوة من خيال تحدق في العينين الخافيتين تحت حاجبين أشهبين ، وفي الوجه المكدود المتغضن تحيطه هالة من الشعر بيضاء ، وفي الجبين الضيق المخدود والقامة الحانية الملتائة بعباءة بيضاء .. ثم ترهف السمع بحرص شديد للصوت الشائخ العميق ينبثق رويدا ً كالدوي الخارج من أغوار كهف مظلم .
ـ سيأتي غدا ً مع شروق الشمس، سيأتي منصور ومعه خير كثير .
ــ وهل رأيته بالذات ، عماه ،؟
ــ بعيني هاتين . فليغلقهما الله إن كنت كاذبا ً
ــ وماذا قال لك .
ــ أوصاني أن أقول لك انه آت مع شروق الشمس غدا ً . ” آه .. غدا ً .. مع شروق الشمس غدا ً .. ” وتتبدد الغمامة اليبضاء في الظلام ، ويتوقف أنين الرحى ، فتنهض فطومة بقلب طروب عامر بالأمل إلى الفراش البالي المنبسط على الدكة القائمة في صدر الكوخ ، الفراش الذي شهد ليلة زواجها بمنصور منذ خمسة وعشرين عاما ً .
• * *
وينبو عن فطومة الكرى ، وتتقلب في مضجعها آونة ظويلة . ثم تهدأ حركتها وتضغي للسكون المرفرف فوق القفر ، فيتوارد اليها مزيج من نقيق الضفادع وعواء الكلاب وخرير الساقية وشخير ابنتها .. وتحين منها التفاتة إلى المنخل المعلق على الحائط تتر اقص فوقه أشعة القمر ، وتذكر فجأة حمار جارها ا لذي نفق صباحا ً، والشيخ الذي حمل اليها نبأ عودة منصور ، ومستقبل ابنتها العمياء ، وحديث جارتها عن ” القارىء ” الذي يفتح عيون العميان في المدينة وقناتها التي ترقد تحت التراب غير بعيد عن الكوخ وابنتها المتزوجة .. وزوجها الذي يعبث بشاربيه ، وحديث السمن والأرز والحنطة والشعير ، وارتفاع الأسعار ، وصعوبة العيش فيما يقبل من الأيام .. وبين كل ذلك تتدخل نغمة قلبها اليه طاغية ، جارفة .. فتخفق كل ذرة في جسدها العامر المكين وتغمض عينيها وتردد في سرها بارتخاء لذيذ : ” غدا ً مع شروق الشمس .. غدا ً .. ” وتنتشر ابتسامة عريضة في غضون وجهها .
ويمضي الليل وئيدا ً وآنيا ً ، يسحب وشاحه القضي فوق القفر ، وتحس فطومة باطمئنان عميق ، وتستغرقها نشوة حالمة ، ويسترخي جسدها في سكرة من سكرات اللذة الحبيسة الجامحة ، وتهتاجها الذكريات ، فتشبك يديها فوق ثدييها ، وتهصرهما بشدة ، بشدة ، وتمر على وجهها الندي نسمة لاهفة ، وتهمس الدوحة لحانية فوق السقيفة همسات متصلة ، وترتعش الحياة في السواقي، ويصيح ديك من بعيد أخطأ تقدير المواعيد . .
وتستنيم فطومة برهة للذة المتسربة في الحلمتين النابضتين تحت يديها ، وتنشق حبيبات العرق من مسام جسدها المضطرم ، تعقد حوله الأرض والجدران زفراتها الشائظة ، ويروعها فجأة احساس بالفراغ .. الفراغ الهائل في صدرها وفي حياتها وفي كل شيء ، وتنفلت متأوهة إلى مكان زوجها من الفراش ، وتذكر الليالي التي أمضتها ناحبة مستوحدة ، فترتخي ذراعاها ، وتهبطان إلى جانبيها ويعود ثدياها طليقين، وتعود الحلمتان للتخاذل والانكماش . وتحس بجفاف ريقها ، ويلوعها ظمأ شديد ، ويتمثل لها الكوز مرارا ً يرشح من جوانبه الماء ، ولكنها ترجىء النهوض في غمرة من أحاديث تفسها الطاغية ، وتضطرب شفتاها بهمس لاغط : ” خمسة عسشر عاما ً.. آه يا ظالم .. لا مكتوب .. لا كلمة.. ولا رسول .. حي ، ميت ؟لا أحد يدري ! أين قضيت كل هذه السنوات . لم تسأل عن حرمتك ، عن أطفالك ، عن بكرك التي ماتت .. تغربت هكذا وحيدا ً مشردا ً في البلدان تركت كوخك ، تركت أهلك وعشيرتك ، أين يا خائب ، أين قضيت كل هذه السنوات .. في أي قرية .. في أي دارة ، في أي مكان ؟آه .. نسيتنا يا منصور .. نسيت كل هذا العمر الطويل ، ولم ننسك أبدا ً . ” وتذكر خطاباً أقبلوا عليها بعد هجرة زوجها ، وكدها المتصل في سبيل العيش وآلام الفاقة والعوز وموت ابنتها بدرية ، ومذلتها بين قومها .. وتحار في عينيها دمعتان ، وتنهض منتفضة ، مسرعة إلى الكوز الصغير المسند إلى الحائط ، ترفعه بيدين مضطربتين ، وتنهال على فمه الندي بشفتيها الظامئتين ، فينساب الماء في جوفها عذبا ً رقراقا ً ، ويسيل بعضه فوق خدها ونحرها ، ويقطر بعضها على ثوبها الأزرق الراهل ، وتعود إلى الدكة وقد أحست بشيء من الراحة ، وتجلس على حافة الفراش ، وتطلق نظرتها الساهمة في عطاف الليل الحادب فوق الخرائب وتعروها فجأة رعدة باردة ، فتنقبض ملامح وجهها ، وتمد أصابعها المترددة في فتحة ثوبها ، تتلمس موضع البلل وتهيم بين ثدييها المقرورين وتتعاقب أمام ناظريها صور من مآسي حياتها في الأعوام الماضية :
ــ انتهى اليوم موسم الحصاد ، فطومة !
ــ الله كريم .
ــ أقول لك انتهى كل شيء . لم يعد لي رزق هنا !
ــ ربنا كريم ..
آه ، أنت يا امرأة .
ويلقي منجله بحنق في زاوية من الكوخ ، ويضطرب هيكله الضخم في غبش المساء ، منسحقا ً تحت وفر الألم : تعالي اغسلي رجلي ، هات الماء !
وتمضي فطومة بالقفدر الفارغة إلى الساقية ، وتشارك في مؤتمر النسوة المنعقد حولها .
وتمر برهة طويلة أ فينفد صبر منصور ، ويصرخ هائجا ً :
ــ أين أنت فطومة ؟ فطست ؟
ــ أوه اصبر قليلا ً ، لقد صبرت تسعة أشهر في بطن أمك .
وتتلكأ في مشيتها عمدا ً ، ثم تربض عند قدميه بتراخ ، فيتناول القدر من الأرض بعنف ، ويقذف الماء في وجهها وترتعش النسائم فوق صدرها المبتل ، وتعروها رعدة باردة .
ــ أصبر ؟ هكذا أصبر يا ابنة الكلب ؟
ويركلها ركلة قوية . تسيل الشمس ضفائرها الذهبية فيما وراء القفر ، وتغيم الدنيا في عين فطومة ، ويعصف الألم في أحشائها عصفا ً شديدا ً موجعا ً ، ويتعالى من حولها لغط لا يكاد يبين :
ــ دنت ساعتها .
ــ نعم … نعم …
ــ ان شاء الله يكون ذكرا ً ..
ــ الله كريم .
ــ واذا كانت بنتا ً ؟
ــ صه .. صه !
ــ ارفق يا ربي بهذه المسكينة .
ــ فليحفظها الله من بطش منصور .. أستغفر الله ربي .
وتمزق لغط النسوة صرخة حادة ، وتغيب فطومة عن الوعي برهة ، ثم تفيق لتسأل بصوت هامس :
ــ ماذا ؟
وتشهد الوجوم حولها ، فتفهم وتغمض عينيها … وتدوي في رأسها صيحة منصور زمنا ً طويلا ً :
ــ لعنة ثالثة .. يا أم اللعان ! هه .. هذا بطنك القذر لايحمل غير الاناث .
وتذهب ( أم اللعان ) في القرية مثلا ً سائرا ً ..
* * *
ــ أين بدرية يا امرأة ؟
ــ ذهبت إلى عرس صفية ..
ــ وتركتها تذهب وحدها ؟ تسع سنين عمرها .. أهل للزواج وتتركينها تذهب وحدها ،لم تسيبين عرضنا في الدروب ؟
ــ أوه منصور لا تجعل الحبة قبة !
ــ بل أترك قوادة لها .
وتنظر اليه نظرة كره ونقمة :
ــ اذا تكلمت أكثر ، فسأشق ثوبي وأخرج عارية بين الناس .
ــ تقدرين ، تقدرين .. يا ابنة الـ …
وتتدفق الشتائم البذيئة من فمه اندفاق السيل ، وتنهال على جسدها قبضتاه وقدماه ، وينزف أنفها دما ..
القمر يسكب ضوءه على وجه منصور الغاضب ، وفطومة تتمدد إلى جانبه على الفراش ، وجلة منتظرة هبوب العاصفة .
ــ أقول يا أم اللعان ، ماذا كنت تفعلين حتى الساعة مع الفحل ؟
وتدهش فطومة لهدوئه :
ــ كنت أحدثه ، أحرام علي أن أحدث أخي ، ابن أمي وابي ؟
ــ آه .. كنت تحدثينه .. أنا لا أريد هذا العاطل أن يدخل بيتي بعد الآن . أنا عندي بنات .
ــ اسكت لئلا يسمعك الناس .
ــ ألعن أباك وأبا الناس ، أنا لا أريد هذا الكلب يدخل بيتي ..
ــ أف لذاك اليوم الأسود .
ــ أخوك ، ابن أمك وأبيك ، ماذا يفعل هنا كل ليلة ؟ هل أبقى عندك درهما ً يا مسكينة ؟ عميت عينك من غزل الصوف .
* * *
ــ أستغفر الله ربي ..
ــ هه .. أم اللعان . تعالي اسألك سؤالا ً ..
ويشدها من ردنها بعنف :
ــ دعني .. دعني !
ــ أخبريني ، اذا بليت النعل ماذا يصنع بها صاحبها ؟
ــ لا أعلم .
ــ بل تعلمين جيدا ً . ، انه يجب انتعال أخرى جديدة .
ــ أتريد أن تتزوج يا خائب ؟
ــ ولم لا ؟
ــ والمهر كيف تدبره ؟ انك عاطل .
ــ آه .. يا بنت الكلب .
ويقذف في وجهها بصقة كبيرة .
* * *
دخان التنور يكتنف فطومة ، وألسنة اللهب تضطرب بين يديها ، وتلقي على وجهها ضوءا ً أحمر ساطعا ً ، ومن فوق الدكة يصيح منصور بحدة :
ــ بدرية .. يا بدرية !
ــ ماذا تريد منها ؟ دعها تعجن .
،، أريد كأس السمن .
ــ لا يوجد عندنا سمن ، افطر بشيء آخر !
ــ عجيب .
ــ السمن غال هذه الأيام . افتح أنت كيسك واشتر !
آه يا أم اللعان ، لقد أذللتني في بيتي .لأخيك كل شيء حلال ، وعليّ كل شيء حرام . انتظري أريك النجوم في وضح النهار ..
ويقفز من الفراش مسرعا ً ليضربها ، فتهرب منه منطلقة ً إلى خارج الكوخ .
* * *
الشيخ الهرم جالس في كوخه، يعبث بعثنونه ويتأمل ابنته فطومة بعينين دامعتين :
ــ كم مرة قلنا لك يا ابنتي ، اقنعي بما كتب لك الله ، وابقي عندنا .. !
ــ لا .. يا أبي .. لا أستطيع .
ويثور أخوها راعدا ً :
لا تستطيع ، لا تستطيع انظر إلى ذراعيها ، إلى فخذيها . انها تحب الضرب . انها تحب منصور . انها لا تقدر أن تفارقه لحظة واحدة .
وتدخل جارة عجوز :
ــ ولم لا تحبه ؟ زوجها ، رجل صباها وأبو بناتها . حرام يا ناس ، حرام أن تفرقوهما . ان الله سبحانه وتعالى يودع قلب المرأة حب رجلها ويودع قلب الرجل حب امرأته في أول ليلة لهما . .
وتعود فطومة إلى كوخها ، وتتذكر في الطريق ليلة زواجها ..
* * *
ها هي في الثامنة عشرة ،موردة الخدين ، ناهدة الصدر ، فارعة القامة ، قوية الجسم ، تجلس في زاوية من الكوخ ، ومنصور يحوم حولها تحويما ً . انها لا تكاد تعي شيئا ً ، وانما تحس بما يشبه الدوار . قلبها يخفق بشدة . ان شعلة الشمعة الغليظة الصفراء ما تزال تضطرب أمام عينيها ، ورائحة ماء الورد تفغم خياشيمها ، والضجيج يتوارد اليها من وراء الكوخ ، وأصوات المزامير والطبل ترسل رعدة في جسمها ، ووجوه النسوة المطلية تتخاطف في ذهتها المضطرب بسرعة عجيبة : ها هي ذي خضيرة تريها طعنة خنجر في ذراعها وتلقي في أذنيها نصائح سافرة .. وها هي ذي نورية تخطر بين الحشد الهائل بردفيها الثقيلين وثدييها المنتفختين ، وتهمس عفيفة في أذنها : انظري إلى هذه التي تتبختر كالطاووس ، لقد ملأت الدنيا صياحا ً ليلة زواجها ، ولم يجد زوجها مناصا ً من ربطها بالحبال . يا للهول ، وتذكر فجأة وجها ً شاحبا ًوحزينا ًوعينين دعجاوين وشعرا ً أسود سبطا ً ، وصاحبة هذا الوجه التي ألقت بنفسها في النهر مؤثرة الموت على الزواج .
ويقترب منها منصور ، فتجفل .. ويزداد خفقان قلبها . ان كلماته تطن في ذهنهاطنينا ً مشوشا ً مزعجا ً . انه يداعبها ، فلا تفهم ما يريد ، وتحاول الكلام أحيانا ً ، فلا يسعفها لسانها . لقد أحست به قطعة جافة من الجلد لاصقة في قاع فمها ، ولم يعد لديها قطرة من ريق . ان منصور يتحدث اليهاوهو يخلع ثيابه ، فتضطرب أقواله في ظلال وعيها ، ويشتد الدوار في رأسها :
ــ أتدرين كم كلفتني يا فطومة ؟ وكم معركة خضت لأجلك ؟ لقد انتظرتك خمس سنوات . ما لك تنظرين دائما ً إلى الأرض ؟ ألا يروقك شكلي ؟ ها ها هاه . انظري إلي مرة واحدة على الأقل . ارفعي رأسك قليلا .. آه . كأنك الليلة جالسة في مأتم . أنا حليلك يا فطومة . أنظري اليّ !
وتنظر اليه بعد محاولات عديدة ، فتلمح ابتسامة فتية حلوة تحت شاربين صغيرين وديعين ، وتلفظ أهة طويلة .. وتقضي الليلة فيما يشبه السحر ، فلا طعنة خنجر ولا ربط بالحبال ولا عنف ولا اكراه، وانما هو نعيم مقيم ولجت اليه رويدا ً رويدا ً بفضل منصور ..
وتنتقل فطومة من ذكرى إلى ذكرى ، وقد نال منها التعب ، وأثقل جفنيها النعاس ، فتتمدد على الفراش الذي أضحى ،، لشدة ما نالت منه الليالي ــ رقيقا لاصقا ً بالدكة ، تطل من شقوقه خصل القطن الكدراء .. ثم يبدو لها لحظة وجه منصور العابس وكتفاه العريضتان ، وترقبه بألم وهو يتولى عنها مع الظهيرة إلى حيث لا تدري : ” أنا ذاهب .. لا تنتظري عودتي ! ” وتظل خمسة عشر عاما ً تسائله بقلب ناحب : ” إلى أين ذاهب ؟ ” فتجيبها الدوحة الحانية فوقة السقيفة بهمساتها الحزينة أثناء الصيف ، ويجيبها القفر الواسع بهدوئه الموحش في ليالي الشتاء العاصفة .
وتظل خمسة عشر عاما ً وفية لذكراه ، تنتظر عودته في كل لحظة، وتحلم فيه ليل نهار .. وهو .. وهو .. ؟ ” آه يا كافر .. لا بأس . لقد عدت أخيرا ً .. ! ” وتنتشرابتسامة في غضون وجهها ، ويعود قلبها يردد أغنيته المحببة : ” غدا ً . مع شروق الشمس غدا ً .. ” وتغمض عينيها .
وتعود الحياة تتثاءب في القفر بعد غفوة ليلة محمومة ، وتنشط النسم العابرة بين أعقاب السنابل والأشواك البرية ، وترنق الشمس في كبد السماء ، تصلي الرعيان بشواظها اللاهب . وترقد الكلاب جائعة لاغبة في ظلال الأكواخ ، وتضج العصافير الناشطة للحب والطعام في رأس الدوحة الحانية فوق سقيفة فطومة . وتتلفت فطومة في كوخها مرتبكة مضطربة ، تسائل نفسها بين هنيهة وأخرى : ” كل شيء جاهز ، ولكن أين منصور ؟ ” وتكاد الدموع تطفر من عينيها كلما سألتها ابنتها العمياء :
ــ أماه ، الم تري أبي حتى الآن ؟
ــ لا ، يابنتي .
وتظلل عينيها بيدها، وترسل نظراتها الباحثة الحيرى في جميع الجهات ، وتند عن صدرها أنة : ” قال مع شروق الشمس . آه يا ظالم . ألا يكفي انتظار خمسة عشر عاما ً ؟ ” ويظل بصرها الممتد لحظة في ارجاء المرزة الخضراء المترامية عند الأفق ، ثم يرتد خائبا ً ،محزونا ً يتعثر بين الخرائب المجاورة : هذا بيت محسن اذي أنجلت امرأته ولدا ً قبل بضعة أيام ، وهذا جحش صغير يرضع ثدي امه بتهم ، وهذا سرب من الدجاج يتثر الروث بين أرجل فرس ربطت إلى معلفها ، والفرس تنش الضباب بذيلها ةتضرب الأرض بحوافرها .. وذاك الرجل يزيح عرق جبينه بابهامه ويعمق الساقية بمسحاته ، وتلك امرأة تتحدث اليه وتملأ جرتها ، وهناك شرذمة من الرجال يغادرون القرية على ظهور الخيل .
وتتساءل فتاتها مرة أخرى :
ــ أماه ، ألم يأت أبي ؟
ــ أوه ، كفى .. لا تسألي .
وتنصت الفتاة ، وتغص الأم بألمها ، وتلتمع الدموع في موقها ، وتنقلب إلى شؤون الكوخ في محاولة للتسرية عن نفسها ، فتحكم وضع القدر فوق أحجار الموقد ، وتنقل الرحى من زاوية إلى زاوية ، وتنضح الأرض بالماء للمرة الثالثة ، وتلقي نظرة هنا ونظرة هناك ، وتعدل أطراف البساط الذي تقتعده ابنتها .. ولكنها تتوقف فجأة وتصيخ السمع بامعان ..
ــ أماه … جاء جاء ابي ..
ــ آه .. لعل.
وتشتدالجلبة الصادرة من وراء الكوخ ، وتقترب رويدا ً رويدا ً ، فتتضح أصو ات أناس كثيرين لا تعرفهم ، ويرتفع لغطهم المختلط .. بل هذه سعلة منصور المقتضبة الحازمة هي هي لم تتغير . وهذه رؤوس الخراف تطل عليها من الباب تعلن مقدمه . ويشتد وجيب قلبها وتتحامل على ساقيها حتى تصل الباب . ثم .. ثم ترى نفسها وجها ً لوجه مع منصور ، ذلك الجبار العنيد الذي لم تنل منه السنون .
ــ ايه فطومة . كيف حالك ؟
ــ يا عين فطومة . أهلا ً وسهلا ً . أهلا ً ومرحبا ً .
وتحاول أن تطلق زغاريدها في الفضاء قبل أن ترتمي على صدره ، ولكنها تتسمر في مكانها واجمة ، قانطة ، ويشرع منصور لتقديم أفراد عائلته الجديدة :
ــ هذه أختك ناصرية أم الولد ، وهذا خادمك جسام ، وهذا ياسين وهذه سعدية وهذا الشيطان الصغير محمود .. اذهبوا .. اذهبوا .. سلموا على فطومة !
وبينما يتهافت الولد على يديها لتقبيلها ، ترفع عينيها المخضلتين وتنظر إلى السماء .
عبد الملك نوري
* ( القصة الفائزة بالجائزة الأولى في مسابقة الاقصوصة العربية التاي أجرتها مجلة ” الأديب البيروتية سنة 1948 )
* نقلا عن موقع الناقد العراقي
========================
ولد عبد الملك نوري في مدينة السويس بمصر عندما كان والده في رحلة خارج العراق واكمل دراسته في الجامعة الامريكية في بيروت حيث اجاد اللغة الإنكليزية وعاد الى بغداد ودخل كلية الحقوق وتخرج عام 1944 مشتغلا في المحاماة فترة من الزمن واوخر الاربعينيات وانتظم في السلك الدبلوماسي
وكان قائما بأعمال السفارة العراقية في جاكارتا وبعدها في طوكيو وبراغ ونشر انذاك العديد من القصص القصيرة في الصحف والمجلات العراقية قبل ان تفوز قصته (فطومة) بجائزة مجلة الاديب اللبنانية عام 1948.
وكانت اول مجموعة قصصية هي (رسل الانسانية) عام 1946 و (نشيد الارض) عام 1954 وله مسرحية من تأليفه بعنوان (خشب ومخمل) عام 1972