"إذا أفلحتَ هذه السّنة في ولوج القسم السّادس، اشتريتُ لك درّاجة هوائية !" قال الأب بصوته الأبحّ.
لم يكن هذا الكلام وعدا ليحضّني على العمل، ولا دعوة لبقة لأصير أفضل. كان تحدّيا وجّهه إليّ الأب أثناء وجبة العشاء. أمّي رفعت عينيها ثمّ غضّتهما في إشارة عجز. صمتُ القبور تَلاَ كلماته. ماعدتُ جوعانا الآن. كما لو أنّه طعنني في الظّهر. الضحكة الهازئة التي أعقبت حديثه جمّدتني من الذّعر. لعنتُ الحياة والطّفولة في أعماقي. قطعة الخبز التي كنتُ بلّلتها بأدب بالمَرَق ستظلّ في قعر الصّحن وستتحلّل في حساء الخضروات. تركتها رغما عنّي لأظهر له أنّ فرحتي تسبق الطّعام، على أنّ العشاء كان لذيذا: طاجين ب"سَبْعْ خْضَارْ" تعرف أمّي تحضيره جيّدا. كرة سدّت حلقي، لكنّي كنتُ أقاوم البكاء بكلّ قواي التي فضُلت لي. نجحتُ في ابتلاع دموعي وكنتُ مسرورا رغم كلّ شيء. أبيْتُ عليه هذه المتعة. أضحت وجبة الطّعام بالنّسبة لي طويلة الأمد ونهايتها خلاصا. إذا لم تنهمر دموعي، فقد كنتُ أبكي من الدّاخل، بعيون قلب وبحساسية طفل.
هجر النّومُ جفوني تلك اللّيلة. لمجرّد أن وجدتُني وحيدا، أطلقتُ العنان لدموعي الغزيرة. كنتُ أحسّها تنساب على وجنتيّ الملتهبتين قبل أن تتلاشى، وقد امتصّها النّسيج وصوف الوسادة. جملة واحدة تستولي على ذهني وترنّ كجرس في أعماق كياني : "إذا أفلحتَ هذه السّنة في ولوج القسم السّادس، اشتريتُ لك درّاجة هوائية !". المدرسة كانت الموضوع المفضّل عند الأب. كان يعرفني سريع التأثر. نتائجي في القسم كانت كارثية. الكلمات تطنّ في رأسي وتصيبني بالدّوار . الضحكة الهازئة للأب ما زالت تسلخ آذاني وتصيبني بالحِكَّة . كنت أحُكُّني ككلب أجرب حتى أطرد الشرّ. لكنّ الشرّ كان في الدّاخل وكبريائي مستمرّ في النّزيف. الجملة اللّعينة تمنعني من التّفكير. الهروب كان يبدو لي حلاّ جيّدا لأعثر من جديد على كرامتي وأستعيد احترام أهلي. الهروب ! لكن إلى أين الذهاب ؟ كلّ الذين يمكنني الالتجاء إليهم سيعيدونني إلى البيت فورا وسأتلقّى العقاب الذي أستحقّه. لأطردْ، إلى الأبد، هذه الفكرة من اعتقادي اللاواعي. عليّ أن أبرهن على نضجي وأن أتصرّف كرجل. الكبار لن يسمحوا لي بأيّ ضعف. كنتّ رجلا، في نظرهم . ومن ثمّ، عليّ أن أتصرّف بحكمة ومسؤولية. كان عمري إحدى عشرة سنة وكان الخوف في الأمعاء . في كلّ وقت كنتُ أُحسّني خائفا لأنّ كلّ ما أقوله، كلّ ما أفعله كان يُوزن، يُحكم عليه، و... يُستهجن، يُستنكر. إزاء جِدّة هذا الموقف، كنتُ أفضّل الصّمت وعدم عمل أيّ شيء. كنتُ أتعلّق بالنّحيب .
في ذلك المساء، قرّرتُ أن أبكي وأن أقوم بفعل. الانتحار كان، يبدو لي، يجيب بشكل مناسب على هذه الإهانة. سأكونُ ناعم البال، سأعثرُ على هدوء الموت وعلى صمت القبر. إلاّ أنّ خوفي من النّار كان أقوى من خوفي من الموت. شفرة حلاقة الأب يمكنها أن تنهي المسألة. كان الفعل يبدو لي بسيطا جدّا والموت تافها. سأكونُ هادئا ولن أكون أبدا في متناول يده لكي يجعلني أتحمّل مزاجه السيّىء. لكنّ أحدا قال لي يوما إنّ المنتحر ملعون إلى يوم القيامة ويُعتبر واحدا من الذين يطردهم الله من ملكوته. الانتحار يُذعرني وتخلّيتُ عنه على مضض. الجملة الملعونة ظلّت تشتغل في رأسي كآلة حفر وتسبّبُ أضرارا لذاكرتي. كنتُ مشرفا على الانهيار. كنتُ حاقدا على أبي، على العالم بأسره بسبب لحظة الألم العظيمة هذه. كنتُ وحيدا مع حزني، وحيدا في المكابدة، وحيدا إزاء مصيري.
شدوُ طائر ( أو ما بدا لي شدوَ طائر ) اقتلعني من تأمّلي. توقفت دموعي فجأة وتبدّدت أفكاري المظلمة كمثل السّحر. الجملة الملعونة خفّفت من ثقل تُهمتها، لأنّني، في رأسي، كنتُ أتلهّى بتحويلها حتى أعطيها شكلا آخر، صيغة أخرى. ومثل لعب ورق، نجحتُ في وضع الكلمات في ترتيبها الصّحيح وحصلتُ على الآتي : "عليّ أن أنجح ! " ، ثمّ : " يجبُ عليّ أن أنجح " ... وشيئا فشيئا توصّلتُ إلى ما يلي : "يجب عليّ أن أجتهد كي أنجح وأستحق الدرّاجة الهوائية !" . باغتُني وأنا أتكلّمُ بصوت مرتفع وهذا سلاّني . كنتُ أقولُ : "ألقى عليّ تحدّيا، سأجعله يندم على كلماته. سيكون أمام أمر واقع. ولأنّه يحرص على أن ينقذ كرامته أمامنا، سيكون مرغما على الوفاء بوعده. ثمّ إنّه بوجود درّاجة هوائية، سأكسبُ المزيد من الوقت، سأمضي أسرع لشراء الحاجيات أو للذهاب إلى المدرسة. على أيّ حال، سأمضي أسرع منه. للمرّة الأولى، سأمضي أسرع منه وهذا الأمر يقتضي كلّ التّضحيات". اتّخذتُ عندئذ قرار أن أثابر في القسم حتى لا أحسّني أبدا مذنبا وحتى لا أكون مضطرّا أبدا للتوقّف عن تناول طعام ما.
نهاية السّنة صارت امتحانا عسيرا لكليْنا. أكثر بكثير بالنسبة إليه مقارنة بي لأنّ يوم النتيجة النهائية لن ينجح لا في التحكّم في غضبه، لا في إخفاء مزاجه السيّىء. سيقول بأنّي نجحتُ فقط لأغيظهُ. هذا لا مراء فيه، لكنّي كنتُ أتجنّبُ قوله لهُ. لأوّل مرّة سقط في مصيدة هو من نصبها. سأمضي أسرع منه. استحوذ عليّ سرور شديد، وفي اليوم التالي وفي غياب الأب، ستترك أمّي لسعادتها أن تتفجّر. ستُقبّلني على الوجنتين وستعطيني مالا، بعض النّقود التي ادّخرتها بإعادة بيع قوالب السكّر التي كان الضيوف يحملونها إلينا بمثابة هدايا بمناسبة الأعياد الدينية أوالاحتفالات العائلية. كانت تلك طريقتها هي في الثأر من جشع الأب. وكنتُ أقرُّ تصرّفها الذي، كما كنتُ أعتقدُ، يشكّلُ خطوة أولى نحو إحراز حريّتها الخاصة. فعل إثبات ذاتها هي داخل النّفي .
رتّبتُ الأمر حتى يكون لجميع أعضاء عائلتنا وجميع أصدقائنا علم بوعد الأب الذي اعتبرته كأنّه تحدّ. كلمات لن يتأخّر على أن يندم عليها. لم أتوقف مطلقا عن الحلم بهذه الدرّاجة الهوائية. خضراء، حمراء أو زرقاء. دراجة ستسمح لي بالفرار نحو المروج وفي الطرقات الضّائعة. سأمضي أسرع من الأب. أسرع من الرّيح. سيراني رفقائي أمرّ أمامهم وسيحسدونني على الحظ الذي منحتني إياه الصّدفة وانعدام فطنة الأب. استمرّ الحلم عشرة أشهر وأخلى المكان لخيبة الظنّ. الدرّاجة لا توجد الآن سوى في رأسي. تجنّبتُ أن أذكّر الأب حتى أوفّر على نفسي غضبه. كنتُ أعلمُ، مع ذلك، أنّه سيُشرّفُ التزامه، وإن لم يكن إلاّ لكي لا يفقد مصداقيته وسط الأسرة. في إحدى الأمسيات التي كان مزاجه فيها رائقا، طلب من أمّي تحضير شاي بالشيبة. ذاق كأسه الأولى وخاطبني بنبرة سارّة : "وعدتك بدرّاجة هوائية مكافأة لك على نجاحك. إنّي رجل صادق الوعد. ستكون لك درّاجتك. ستمضي عندئذ أسرع من الرّيح، أسرع منّي ! ."
تفاجأتُ لهذا الإعلان. كيف خطرت له أفكاري ؟ أكبر ثأري كان أن أمضي أسرع منه. هذه الدرّاجة ستفتح عهدا جديدا في علاقاتنا. ستمنحني حرية أكبر وثقة أكثر. الزّمن سيتسرّب من تحت عجلات هذه الآلة. سأكون واحدا من الأطفال الأكثر سرعة في قريتي. السّرعة تغرقني من الآن في النّشوة وأحسّ أنّ لديّ أجنحة محلّ الأقدام. لم أحسن القول لأنّ، بأجنحة في الأقدام، لن أطيرا بعيدا.
في فجر صباح من صباحات أبريل، استقلّ الأب الحافلة ذاهبا إلى المدينة وقاصدا أن يشتري لي الدرّاجة الهوائية ذائعة الصّيت. كلّ القرية كانت على علم بالحدث. أتى رجال لتحيّة الأب في المحطّة ومتمنّين له سفرا طيّبا. الأطفال ينظرون إليّ بغيرة وحسد. بعضهم اقترب منّي ومحضني صداقته. تعاظم فيّ الزّهو والذين تفضّلت عليهم بالتحيّة أو بالنّظرة، كانوا في نشوة من الفرح. كنتُ مركز الأرض .
حين انطلقت الحافلة في ضجّة جهنّمية، صرخاتُ ابتهاج رافقت الآلة في تحرّكها. قبل مغيب الشمس ستكون لي درّاجة هوائية حمراء. كنت قد طلبتُ من أمّي أن تتوسّط لدى الأب أن تكون الدرّاجة حمراء. إحساس غريب ولا مثيل له استحوذ على كياني. إحساس سعادة جارف. كأنّ في داخل بطني، لم تكن هناك لا معدة، لا أمعاء، لا طحال، لا كبد، لا رئة، لكن فقط قلب يخفق في قفص صدري فارغ. وقلبي يدقّ حتى كاد يتهشّم من الفرح. جميع الصّبية يتملّقونني، جميعهم كانوا مستعدّين أن يتمرّغوا تحت أقدامي حتى أقبل صداقتهم. كلّ كان يجهد نفسه حتى يظهر تعاضده وودّه من خلال النظرات، الحركات أوالكلمات. كنتُ أتجنّبُ النظرات، أتظاهرُ بعدم معاينة الحركات وعدم الحديث مع أيّ أحد. كنتُ أجتازُ الطّرق كأنّي أمير، تتودّد إليّ جموع تلازمني كظلّي. تصلني نتف من جمل وهذا كان يزيد من زهوي. "إنسان هائل ! "، "إنّه الأفضل بيننا جميعا ! "، "إنّه صديقي ! "، " لا نفترق نحن الإثنين أبدا ! "، " سأحميه ضدّ كلّ من أراد استغلال لطافته " ... كنتُ أستمعُ، ضاحكا، إلى هذه التعليقات دون أن أردّ عليها. سلطتي على الصبية كانت مطلقة. سأكون أوّل أولاد القرية المشاغبين يمتلك درّاجة هوائية. وستكون حمراء. سأمضي أسرع من الآخرين، أسرع من الرّيح نفسها وبالأخصّ أسرع من الأب !
هذا اليوم كان أطول يوم في حياتي. كما لو أنّ البندول العظيم للزّمن انكمش. أصبحت السّاعات قرونا. في لهفتي كنتُ أقدّمُ عقارب ساعة الحائط حتى أختصر انتظاري. أبدا، لم أر أمّي سعيدة بهذا القدر. تهيّىء، لا ريب، حفلة صغيرة بهذه المناسبة. الجيران سيُحضرون معهم قوالب السكّر أوالنّقود ومعا سنشربُ الشاي تهنئة لي. سأمنحُ أمّي مناسبة أن تكون فخورة وجذلانة .
منذ الرّابعة بعد الزّوال، تشكّل تجمهر صاخب عند مدخل القرية. الأطفال الأكبر منّي سنّا يهنّئونني. كنتُ أوزّعُ بعض النّظرات السّارة والبسمات. صبيان يراقبونني من على القنطرة. وولدان آخران عند الطرف الآخر من المرتفع. اللّحظة كانت احتفالية. بعض الرّجال كانوا قد ارتدوا جلابيبهم البيضاء وبرانسهم الخاصّة بالحفلات الكبرى. للمرّة الأولى في حياتي، كنتُ سعيدا .
وصلت الحافلة قبل هبوط الليل. الجميع كان هناك. حتى الإمام والمُقدّم. جمْع من الصّبية حوّم حول الآلة المخنوقة الأنفاس. انفتح الباب وظهر الأب أخيرا. لافّاً نفسه في عباءته السّوداء الواسعة. صيحات تعالت من كلّ جانب. صافح الرّجال الذين كانوا ينتظرون عودته وقبّل الإمام والمُقدّم على الوجنات. استخبروه عن أنباء المدينة .
" هناك، شيء آخر، جَزَمَ الأب، النّاس جدّ متعجّلين. يركضون في كلّ الاتجاهات. أتساءل إذا كان لهم الوقت ليفكّروا في الوقت، إذا كان لهم الوقت ليتذوّقوا برودة ماء العين، ظلّ شجرة أوتغريدة طائر. حتى إنّي أظنّ أنّهم لم يروا مطلقا شجرة، لم يشربوا مطلقا ماء نبع، ولم يسمعوا أبدا شدو عصفور. يشربون الماء في قنّينات، لهم نباتات بلاستيكية ويستمعون الموسيقى من الرّاديو. ليس لهم أصدقاء لأنْ ليس لهم الوقت يكرّسونه لهم. هم على الدّوام وحيدين ، مسجونين في هياج كبير، في عياء كبير ... " .
قطع الأب حديثه لأنّ مساعد السّائق كان قد أزال الغطاء الذي كان يغطّي الأمتعة على السّطح. كلّ الأنظار كانت مشدودة إلى سطح الحافلة. تسارعتْ دقات قلبي. الصّبية أحاطت بي ترمقني بنظرات حنونة. أخذ المساعد يقذف الأكياس والصّرر التي كان رجل مفتول العضلات يتلقفها في الهواء قبل أن يسلّمها إلى أصحابها. مثلّث من حديد انتقل من يد إلى يد. تناوله الأب ومدّه إليّ دون أن ينظر في اتّجاهي. التقطتُ قطعة الحديد متفحّصا النّظرات حولي .
" هيكل درّاجة هوائية ! " هتف متعجّبا أحدٌ من بين الحشد. لقد كان هيكل درّاجة هوائية. هيكل ضخم. فيما بعد، سيُعلمني أحد الأصحاب أنّه هيكل " 950 " : الأكبر حجما. على امتداد الطريق الذي يفصلنا عن البيت، كنتُ أقولُ في نفسي إنّه بالتّأكيد توجد في أحد الكيسين جميع القطع النّاقصة. المقود، الفرامل، الدوّاسات، المقعد، الأشرطة المعدنية التي تغطي أعلى العجلات، الإطارات المطاطية، الإطارات الدّاخلية التي تُملأ بالهواء، آلة منبّه، المصابيح ... كلّ هذا كان بالتّأكيد في أحد الكيسين. لكن لم يتّضح لي أيّهما يمكن أن يضمّ إطارات العجلة المعدنية. كنتُ مشغول البال. خائب الظنّ قليلا. تعقبنا الصّبيان حتى بيتنا. أمّي كانت تنتظرنا عند عتبة الباب، الوجه مشرق. أفسحت المجال للأب الذي وضع الكيسين في الممرّ. اقتديتُ به وذهبتُ أجلسُ على المقعد الحجري. توضّأ الأب وأدّى جميع صلوات اليوم. استغرق منه هذا على الأقل ساعتين. حين انتهى، كان العشاء جاهزا. أكل، نهض يلقي نظرة عبر النّافذة، تلذذ بشايه الممزوج بالشيبة، نظف الأسنان بعود ثقاب مستعمل، شكر السّماء على نعمها، أخطر أخواتي بالذهاب إلى النّوم، استنشق حصّته المعهودة من مسحوق "الطابة"، عطس عدّة مرّات حتى كادت الحيطان تتحطم، مسح أنفه وشاربه، أعاد منشـقـتـه إلى جيبه، حكّ ردفه الأيمن، انتزع "طاقيته" حتى يترك صلعته تتنفس، شرع يتمتم ... كنتُ أفكّرُ : كلّ هذا وقت ضائع، مبدّد في حركات حدّ الإضحاك. هناك، الناس يصنعون، يعيدون صنع العالم بينما الأب يحكّ جسمه، يحزق أويستنشق مسحوق "الطابة". لم يكن متعجّلا، وما كان متعجّلا قط. كان يأخذ دائما وقته ليشرب شايه، ليداوي الأحصنة الأربعة التي فضُلت له، ليؤدّي واجباته. إذا قمتُ بحساب هذه السّاعات، يمكن أن أقول إنّ نصف عمره تبدّد في حركات في غاية الفقر. في قريتنا، لم يكن للزّمن اعتبار .
عشر دقائق قبل ذهابي للنّوم، خاطبني الأب بهذه الكلمات : " لقد برهنتَ على ذكائك بنجاحك في السنة الماضية. لقد أعطيتُ وعدا أحرصُ على الوفاء به. في هذا اليوم الذي جعله الله بين الأيام، اشتريتُ لك هيكل درّاجة هوائية. كلّما ذهبتُ إلى المدينة، اشتريتُ لك ما ينقص. الآن ارْضَ بالهيكل ! الدرّاجة ستكون تامّة خلال سنتين أوثلاث سنوات. عليك أن تتعلّم الصّبر، أن تطيل رغبة الإمتلاك. الذين تعجّلوا ماتوا ! اذهبْ الآن لتنام." ! .
كظمتُ صرخة سخط وثورة. بكيتُ هذه اللّيلة أكثر من أيّ وقت مضى. الخيانة كانت محسوبة بعناية، لكن صعبة التحمّل. لا أحد في مقدوره أن يجد لها عذرا ولا حتى أن يبرّرها. كنتُ جدّ تعيس لأغفر للسّماء الظلم الذي كنتُ ضحيّته .
تطلّب الأمر في الأخير خمس سنوات لتعثر الدرّاجة على جميع أعضائها. في كلّ مرّة يذهب فيها الأب إلى المدينة، كان يحمل معه قطعة. إطارات العجلة المعدنية تلت الهيكل، ثمّ الدوّاسات، فالإطارات المطاطية والإطارات الداخلية التي تُملأ بالهواء، بعد ذلك جاء الدّور على المقود، الأشرطة المعدنية التي تغطي أعلى العجلة، الفرامل والمصابيح. ما كان يقلقني في هذا الشأن هو الوقت. لم يكن الأب يعيره أدنى قيمة. عقلية الكبار في العلاقة مع السّرعة والزّمن كان فيها تناقض. بقدر ما كانوا يحثون على التحرّك بسرعة، لأنّ الوقت، كما يقولون، سيف إذا لم تقطعه قطعك ! بقدر ما كانوا يتلذّذون في ضرب من الخمول يتركني مبهوتا. "إذا كان الوقت من ذهب، فالذين تعجّلوا ماتوا ! " .
التناقض يسكن كبارنا. وبالنتيجة، عليه أن يسكننا نحن أيضا. "لا تؤخّر عمل اليوم إلى الغد ! " أو : "التأنّي من الرّحمان والعجلة من الشيطان ! " أو أيضا : " مائة تخميمة وتخميمة ولا ضربة مقصّ !". كنّا نتجرجر بين الحكمة ونقيضها، بين الأبيض والأسود ولا نفهم جيّدا كيف يتمكّن الكبار من مصالحة المتناقضات دون وجع أو إحساس بالذنب .
كان الأب يأخذ كلّ وقته. هذا بالأحرى هو الشيء الذي يملكه. وأنا الذي كنتُ أتمنّى أن أمضي أسرع منه، ولو مرّة واحدة ! . يجب عليّ أن أكظم غيظي. أنتظر أن يمنحني القدر امتياز أن أمضي أسرع من الرّيح. رغم خيبة أملي العميقة، كنتُ سعيدا أن أشهد "صنع" وتركيب الآلة قطعة قطعة. رأيتها تكبر أمام عيني مثل رضيع يُحاط بالعناية اليقظة والذي يحتفظ دائما ببعض أسراره الخفية. ساعدتها أن تخرج للحياة، أن تتكوّن، أن تتشكّل، وكانت قد شغلت وقتي واحتلّت جزءا كبيرا من محادثاتي مع رفاقي الذين كانوا، بانتظام، يأتون للاستعلام عن نموّ درّاجتي وعن تقدّم الأشغال. كنتُ أسمحُ لهم بإبداء أفكارهم، وتقبّل حتى الأكثر سلبية منها. هذه الدرّاجة كانت لي دون أن تكون في ملكي تماما. كنتُ مقتنعا أنّها، بعد الآن، تخصّ كلّ واحد منّا. كلّ صبيّ كان يُظهر لها ضربا من تعلّق عاطفي واهتماما خاصا، إلى درجة أنّ التّلميحات بخصوصها أصبحت مضجرة. درّاجتي كانت فريدة من نوعها. العجلة الأمامية كانت أصغر من العجلة الخلفية. المقود يجعلنا نفكّر في قرون كبش. الإطارات المطاطية كانت من لونين مختلفين. المقعد كان يوافق دراجة بمحرّك ... لكنّها كانت درّاجتي : ستسمح لي بالمضي أسرع من الرّيح، أسرع من الأب ! نسيتُ أن أقول إنّ الفرد في جماعتنا كان كيانا مهملا. هذه الدرّاجة علّمتني الزّهو ! .
لمّا صارت أخيرا جاهزة، حرص الأب على أن يُجرّبها قبل أيّ كان. تشكّل تجمهر صاخب أمام بيتنا. كلّ القرية كانت على علم بصنيع الأب والرّجال جاؤوا لتهنئته. أمّي كانت تنظر من خلال النافذة مُخفيّة بشكل سيّء فرحتها وابتهاجها. ارتدى الأب أجمل ملابسه. أحدهم جاء بصينية الشاي احتفاء بهذه المناسبة العجيبة. كان من حقّ الأب الكأس الأولى التي ذاقها وشفتاه تتمتمان علامة استحسان. الإثارة كانت في أوجها. كنتُ الوحيد الذي لا يشارك في هذا الاغتباط الجماعي ولا في فرحة الأب. أدركتُ أنّني كنتُ طوال الوقت بعيدا عن الحدث وأنّ وحدتي كانت رهيبة. الصّبيان لم يعودوا يُعيرونني أيّ اعتبار. الإعجاب الذي كنتُ موضعه حتى هذا اليوم انتهى تاركا مكانه للامبالاة تدعو للرّثاء. كلّ الأنظار اتّجهت نحو الأب ونحو الآلة الموضوعة إلى الجدار الذي تمّ تجييره حديثا لهذا الغرض. كنتُ أنظرُ من بعيد منزعجا من هذا المشهد الفظ. الخيانة كانت لا تُطاق. أفكار الهروب والانتحار أصبحت تحتل ذهني مرّة اخرى. كنتُ مُبتلى بقسوة في كبريائي وفي هشاشتي. الأب اغتصب مقامي في هذا الجمع من النّاس؛ المقام الذي أستحقه والذي حُزته منذ البداية : المركز. مركز اهتمام وإعجاب الكبار وعلى الخصوص الصّغار. ألمْ يكنْ في إمكان الغول أن يفهم أنّ هذا الأمر كان حيويّا بالنسبة إليّ، مسألة كبرياء، بمعنى مسألة حياة أو موت ؟
ساعة الاختبار العظيم اقتربت. واحد من الرّجال المرتدين للباس أبيض قرأ بصوت مرتفع "الفاتحة"، أوّل سورة في القرآن، حتى يُعين الأب ويطرد القدر الشرّير. برأس مرفوعة وهيئة مسرورة، خلع الأب جلبابه وبحث عنّي بعيونه حتى يعهد لي بها. تجنّبتُ نظراته المتوقدة عجرفة. امتطى أخيرا الدّابة في هيئة مسرحية ومتصنّعة. تفرقعت في الحال صيحات منفعلة وتصفيقات من كلّ الجهات. حتى أنّي اعتقدتُ، من حنقي، أنّ أمّي أرسلت زغرودة للتّعبير عن تواطؤها مع الأب. هذا الأخير استقرّ مستريحا على المقعد وداس على الدوّاسات. الحشد المزيج انطلق يتحرّك كسرب من الذباب يطنّ حول جيفة. الأب كان في المقدّمة. النّصف الأعلى منتصب والنظرة برّاقة. أمّا أنا لم أتحرّكْ مكتفيا بمتابعة المشهد عن بُعد. طفولتي غُدر بها. أبي سرق منّي حلمي .
والجمهور الصّاخب ما زال يتبعه، دخل الأب منحدرا فيه انعطاف واختفى. سريعا، لم أعد أميّز شيئا إلاّ الرؤوس المهتزّة بفعل سباق مجنون، لمّا سمعتُ فجأة ضجّة حديد قويّة وفي الوقت ذاته اصطداما عنيفا متبوعا بصيحات مُصمّة. أغلقت أمّي النّافذة على الفور مُطلقة صرخة يأس. رابطَ الجأش، كنتُ أنتظرُ تتمّة الأحداث. تمّ إرجاع الأب على ظهر حمار. ثيابه كانت كلّها مُمزّقة ومُغطّاة بالدّم. كانت ساقه اليُمنى مكسورة وجروح على الوجه. أحدهم تكفل بجمع بقايا الدرّاجة في قفة وضعها قرب أقدامي. خيبة الأمل والحزن كانا يُقرآن في عيون النّاس. كان الأمر مُرعبا. بقيتُ كالرّخام. أمّي ، حتى تُعطي انطباعا حسنا، بكتْ شاكية قدرها. بعض الجارات هرعن ليُقاسمْنها عبراتها وغمّها. مُدّد أبي فوق سرير وسط دموع أخواتي وصيحات أمّي. الله، القدر، اللّعنة أتوا للإنتقام لي. أخذتُ القفة وأمسكتُ بمعول. حفرتُ حفرة في المكان ذاته الذي شهد نكبة الأب ودفنتُ الكلّ فيها. ما عُدتُ بعدُ في حاجة إلى الجري، في حاجة إلى عجلات، في حاجة إلى آلة لأنّني، كما كنتُ أقولُ في قرارة نفسي، بدرّاجة هوائية أوبدونها، سأمضي من الآن فصاعدا أسرع منه !
* هذا النص مأخود من المجموعة القصصية :
Les prolétaires de la haine , Paris , Publisud , 1995
==================
ولد سنة 1950. حصل على الدكتوراه في علم النفس وعلوم التربية من فرنسا. يشتغل أستاذا جامعيا بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالقنيطرة.
ساهم في تأسيس مجلة Horizons maghrébins سنة 1984 بتولوز وكان مديرا لها الى حدود سنة 1987. انضم الى اتحاد كتاب المغرب سنة 1991.
حصل عبد الحق سرحان على الجائزة الاولى "للإذاعات الحرة" سنة 1984 وذلك عن روايته "مسعودة" كما نال الجائزة الفرنسية الأولى للعالم العربي عن روايته: "Le soleil des obscurs" وذلك سنة 1993.
له الأعمال المنشورة التالية:
- Messaouda: roman, Paris, Seuil, 1983 (1er prix des Radios libres – Mars, 1984)
- Les enfants des rues étroites: roman, Paris, Seuil, 1986.
- L’Ivre poème: poèmes, Rabat, Al Kalam, 1989.
- Le soleil des obscurs: roman, Paris, Seuil, 1992.
- Chant d'Ortie: roman, Paris, Seuil, 1992.
- La nuit du secret: poèmes, Girondas, Atelier des Grames, 1994.
- Les prolétaires de la haine: nouvelles, Paris, Publisud, 1995.
- L'amour circoncis: essais, Casablanca, Eddif, 1995.
لم يكن هذا الكلام وعدا ليحضّني على العمل، ولا دعوة لبقة لأصير أفضل. كان تحدّيا وجّهه إليّ الأب أثناء وجبة العشاء. أمّي رفعت عينيها ثمّ غضّتهما في إشارة عجز. صمتُ القبور تَلاَ كلماته. ماعدتُ جوعانا الآن. كما لو أنّه طعنني في الظّهر. الضحكة الهازئة التي أعقبت حديثه جمّدتني من الذّعر. لعنتُ الحياة والطّفولة في أعماقي. قطعة الخبز التي كنتُ بلّلتها بأدب بالمَرَق ستظلّ في قعر الصّحن وستتحلّل في حساء الخضروات. تركتها رغما عنّي لأظهر له أنّ فرحتي تسبق الطّعام، على أنّ العشاء كان لذيذا: طاجين ب"سَبْعْ خْضَارْ" تعرف أمّي تحضيره جيّدا. كرة سدّت حلقي، لكنّي كنتُ أقاوم البكاء بكلّ قواي التي فضُلت لي. نجحتُ في ابتلاع دموعي وكنتُ مسرورا رغم كلّ شيء. أبيْتُ عليه هذه المتعة. أضحت وجبة الطّعام بالنّسبة لي طويلة الأمد ونهايتها خلاصا. إذا لم تنهمر دموعي، فقد كنتُ أبكي من الدّاخل، بعيون قلب وبحساسية طفل.
هجر النّومُ جفوني تلك اللّيلة. لمجرّد أن وجدتُني وحيدا، أطلقتُ العنان لدموعي الغزيرة. كنتُ أحسّها تنساب على وجنتيّ الملتهبتين قبل أن تتلاشى، وقد امتصّها النّسيج وصوف الوسادة. جملة واحدة تستولي على ذهني وترنّ كجرس في أعماق كياني : "إذا أفلحتَ هذه السّنة في ولوج القسم السّادس، اشتريتُ لك درّاجة هوائية !". المدرسة كانت الموضوع المفضّل عند الأب. كان يعرفني سريع التأثر. نتائجي في القسم كانت كارثية. الكلمات تطنّ في رأسي وتصيبني بالدّوار . الضحكة الهازئة للأب ما زالت تسلخ آذاني وتصيبني بالحِكَّة . كنت أحُكُّني ككلب أجرب حتى أطرد الشرّ. لكنّ الشرّ كان في الدّاخل وكبريائي مستمرّ في النّزيف. الجملة اللّعينة تمنعني من التّفكير. الهروب كان يبدو لي حلاّ جيّدا لأعثر من جديد على كرامتي وأستعيد احترام أهلي. الهروب ! لكن إلى أين الذهاب ؟ كلّ الذين يمكنني الالتجاء إليهم سيعيدونني إلى البيت فورا وسأتلقّى العقاب الذي أستحقّه. لأطردْ، إلى الأبد، هذه الفكرة من اعتقادي اللاواعي. عليّ أن أبرهن على نضجي وأن أتصرّف كرجل. الكبار لن يسمحوا لي بأيّ ضعف. كنتّ رجلا، في نظرهم . ومن ثمّ، عليّ أن أتصرّف بحكمة ومسؤولية. كان عمري إحدى عشرة سنة وكان الخوف في الأمعاء . في كلّ وقت كنتُ أُحسّني خائفا لأنّ كلّ ما أقوله، كلّ ما أفعله كان يُوزن، يُحكم عليه، و... يُستهجن، يُستنكر. إزاء جِدّة هذا الموقف، كنتُ أفضّل الصّمت وعدم عمل أيّ شيء. كنتُ أتعلّق بالنّحيب .
في ذلك المساء، قرّرتُ أن أبكي وأن أقوم بفعل. الانتحار كان، يبدو لي، يجيب بشكل مناسب على هذه الإهانة. سأكونُ ناعم البال، سأعثرُ على هدوء الموت وعلى صمت القبر. إلاّ أنّ خوفي من النّار كان أقوى من خوفي من الموت. شفرة حلاقة الأب يمكنها أن تنهي المسألة. كان الفعل يبدو لي بسيطا جدّا والموت تافها. سأكونُ هادئا ولن أكون أبدا في متناول يده لكي يجعلني أتحمّل مزاجه السيّىء. لكنّ أحدا قال لي يوما إنّ المنتحر ملعون إلى يوم القيامة ويُعتبر واحدا من الذين يطردهم الله من ملكوته. الانتحار يُذعرني وتخلّيتُ عنه على مضض. الجملة الملعونة ظلّت تشتغل في رأسي كآلة حفر وتسبّبُ أضرارا لذاكرتي. كنتُ مشرفا على الانهيار. كنتُ حاقدا على أبي، على العالم بأسره بسبب لحظة الألم العظيمة هذه. كنتُ وحيدا مع حزني، وحيدا في المكابدة، وحيدا إزاء مصيري.
شدوُ طائر ( أو ما بدا لي شدوَ طائر ) اقتلعني من تأمّلي. توقفت دموعي فجأة وتبدّدت أفكاري المظلمة كمثل السّحر. الجملة الملعونة خفّفت من ثقل تُهمتها، لأنّني، في رأسي، كنتُ أتلهّى بتحويلها حتى أعطيها شكلا آخر، صيغة أخرى. ومثل لعب ورق، نجحتُ في وضع الكلمات في ترتيبها الصّحيح وحصلتُ على الآتي : "عليّ أن أنجح ! " ، ثمّ : " يجبُ عليّ أن أنجح " ... وشيئا فشيئا توصّلتُ إلى ما يلي : "يجب عليّ أن أجتهد كي أنجح وأستحق الدرّاجة الهوائية !" . باغتُني وأنا أتكلّمُ بصوت مرتفع وهذا سلاّني . كنتُ أقولُ : "ألقى عليّ تحدّيا، سأجعله يندم على كلماته. سيكون أمام أمر واقع. ولأنّه يحرص على أن ينقذ كرامته أمامنا، سيكون مرغما على الوفاء بوعده. ثمّ إنّه بوجود درّاجة هوائية، سأكسبُ المزيد من الوقت، سأمضي أسرع لشراء الحاجيات أو للذهاب إلى المدرسة. على أيّ حال، سأمضي أسرع منه. للمرّة الأولى، سأمضي أسرع منه وهذا الأمر يقتضي كلّ التّضحيات". اتّخذتُ عندئذ قرار أن أثابر في القسم حتى لا أحسّني أبدا مذنبا وحتى لا أكون مضطرّا أبدا للتوقّف عن تناول طعام ما.
نهاية السّنة صارت امتحانا عسيرا لكليْنا. أكثر بكثير بالنسبة إليه مقارنة بي لأنّ يوم النتيجة النهائية لن ينجح لا في التحكّم في غضبه، لا في إخفاء مزاجه السيّىء. سيقول بأنّي نجحتُ فقط لأغيظهُ. هذا لا مراء فيه، لكنّي كنتُ أتجنّبُ قوله لهُ. لأوّل مرّة سقط في مصيدة هو من نصبها. سأمضي أسرع منه. استحوذ عليّ سرور شديد، وفي اليوم التالي وفي غياب الأب، ستترك أمّي لسعادتها أن تتفجّر. ستُقبّلني على الوجنتين وستعطيني مالا، بعض النّقود التي ادّخرتها بإعادة بيع قوالب السكّر التي كان الضيوف يحملونها إلينا بمثابة هدايا بمناسبة الأعياد الدينية أوالاحتفالات العائلية. كانت تلك طريقتها هي في الثأر من جشع الأب. وكنتُ أقرُّ تصرّفها الذي، كما كنتُ أعتقدُ، يشكّلُ خطوة أولى نحو إحراز حريّتها الخاصة. فعل إثبات ذاتها هي داخل النّفي .
رتّبتُ الأمر حتى يكون لجميع أعضاء عائلتنا وجميع أصدقائنا علم بوعد الأب الذي اعتبرته كأنّه تحدّ. كلمات لن يتأخّر على أن يندم عليها. لم أتوقف مطلقا عن الحلم بهذه الدرّاجة الهوائية. خضراء، حمراء أو زرقاء. دراجة ستسمح لي بالفرار نحو المروج وفي الطرقات الضّائعة. سأمضي أسرع من الأب. أسرع من الرّيح. سيراني رفقائي أمرّ أمامهم وسيحسدونني على الحظ الذي منحتني إياه الصّدفة وانعدام فطنة الأب. استمرّ الحلم عشرة أشهر وأخلى المكان لخيبة الظنّ. الدرّاجة لا توجد الآن سوى في رأسي. تجنّبتُ أن أذكّر الأب حتى أوفّر على نفسي غضبه. كنتُ أعلمُ، مع ذلك، أنّه سيُشرّفُ التزامه، وإن لم يكن إلاّ لكي لا يفقد مصداقيته وسط الأسرة. في إحدى الأمسيات التي كان مزاجه فيها رائقا، طلب من أمّي تحضير شاي بالشيبة. ذاق كأسه الأولى وخاطبني بنبرة سارّة : "وعدتك بدرّاجة هوائية مكافأة لك على نجاحك. إنّي رجل صادق الوعد. ستكون لك درّاجتك. ستمضي عندئذ أسرع من الرّيح، أسرع منّي ! ."
تفاجأتُ لهذا الإعلان. كيف خطرت له أفكاري ؟ أكبر ثأري كان أن أمضي أسرع منه. هذه الدرّاجة ستفتح عهدا جديدا في علاقاتنا. ستمنحني حرية أكبر وثقة أكثر. الزّمن سيتسرّب من تحت عجلات هذه الآلة. سأكون واحدا من الأطفال الأكثر سرعة في قريتي. السّرعة تغرقني من الآن في النّشوة وأحسّ أنّ لديّ أجنحة محلّ الأقدام. لم أحسن القول لأنّ، بأجنحة في الأقدام، لن أطيرا بعيدا.
في فجر صباح من صباحات أبريل، استقلّ الأب الحافلة ذاهبا إلى المدينة وقاصدا أن يشتري لي الدرّاجة الهوائية ذائعة الصّيت. كلّ القرية كانت على علم بالحدث. أتى رجال لتحيّة الأب في المحطّة ومتمنّين له سفرا طيّبا. الأطفال ينظرون إليّ بغيرة وحسد. بعضهم اقترب منّي ومحضني صداقته. تعاظم فيّ الزّهو والذين تفضّلت عليهم بالتحيّة أو بالنّظرة، كانوا في نشوة من الفرح. كنتُ مركز الأرض .
حين انطلقت الحافلة في ضجّة جهنّمية، صرخاتُ ابتهاج رافقت الآلة في تحرّكها. قبل مغيب الشمس ستكون لي درّاجة هوائية حمراء. كنت قد طلبتُ من أمّي أن تتوسّط لدى الأب أن تكون الدرّاجة حمراء. إحساس غريب ولا مثيل له استحوذ على كياني. إحساس سعادة جارف. كأنّ في داخل بطني، لم تكن هناك لا معدة، لا أمعاء، لا طحال، لا كبد، لا رئة، لكن فقط قلب يخفق في قفص صدري فارغ. وقلبي يدقّ حتى كاد يتهشّم من الفرح. جميع الصّبية يتملّقونني، جميعهم كانوا مستعدّين أن يتمرّغوا تحت أقدامي حتى أقبل صداقتهم. كلّ كان يجهد نفسه حتى يظهر تعاضده وودّه من خلال النظرات، الحركات أوالكلمات. كنتُ أتجنّبُ النظرات، أتظاهرُ بعدم معاينة الحركات وعدم الحديث مع أيّ أحد. كنتُ أجتازُ الطّرق كأنّي أمير، تتودّد إليّ جموع تلازمني كظلّي. تصلني نتف من جمل وهذا كان يزيد من زهوي. "إنسان هائل ! "، "إنّه الأفضل بيننا جميعا ! "، "إنّه صديقي ! "، " لا نفترق نحن الإثنين أبدا ! "، " سأحميه ضدّ كلّ من أراد استغلال لطافته " ... كنتُ أستمعُ، ضاحكا، إلى هذه التعليقات دون أن أردّ عليها. سلطتي على الصبية كانت مطلقة. سأكون أوّل أولاد القرية المشاغبين يمتلك درّاجة هوائية. وستكون حمراء. سأمضي أسرع من الآخرين، أسرع من الرّيح نفسها وبالأخصّ أسرع من الأب !
هذا اليوم كان أطول يوم في حياتي. كما لو أنّ البندول العظيم للزّمن انكمش. أصبحت السّاعات قرونا. في لهفتي كنتُ أقدّمُ عقارب ساعة الحائط حتى أختصر انتظاري. أبدا، لم أر أمّي سعيدة بهذا القدر. تهيّىء، لا ريب، حفلة صغيرة بهذه المناسبة. الجيران سيُحضرون معهم قوالب السكّر أوالنّقود ومعا سنشربُ الشاي تهنئة لي. سأمنحُ أمّي مناسبة أن تكون فخورة وجذلانة .
منذ الرّابعة بعد الزّوال، تشكّل تجمهر صاخب عند مدخل القرية. الأطفال الأكبر منّي سنّا يهنّئونني. كنتُ أوزّعُ بعض النّظرات السّارة والبسمات. صبيان يراقبونني من على القنطرة. وولدان آخران عند الطرف الآخر من المرتفع. اللّحظة كانت احتفالية. بعض الرّجال كانوا قد ارتدوا جلابيبهم البيضاء وبرانسهم الخاصّة بالحفلات الكبرى. للمرّة الأولى في حياتي، كنتُ سعيدا .
وصلت الحافلة قبل هبوط الليل. الجميع كان هناك. حتى الإمام والمُقدّم. جمْع من الصّبية حوّم حول الآلة المخنوقة الأنفاس. انفتح الباب وظهر الأب أخيرا. لافّاً نفسه في عباءته السّوداء الواسعة. صيحات تعالت من كلّ جانب. صافح الرّجال الذين كانوا ينتظرون عودته وقبّل الإمام والمُقدّم على الوجنات. استخبروه عن أنباء المدينة .
" هناك، شيء آخر، جَزَمَ الأب، النّاس جدّ متعجّلين. يركضون في كلّ الاتجاهات. أتساءل إذا كان لهم الوقت ليفكّروا في الوقت، إذا كان لهم الوقت ليتذوّقوا برودة ماء العين، ظلّ شجرة أوتغريدة طائر. حتى إنّي أظنّ أنّهم لم يروا مطلقا شجرة، لم يشربوا مطلقا ماء نبع، ولم يسمعوا أبدا شدو عصفور. يشربون الماء في قنّينات، لهم نباتات بلاستيكية ويستمعون الموسيقى من الرّاديو. ليس لهم أصدقاء لأنْ ليس لهم الوقت يكرّسونه لهم. هم على الدّوام وحيدين ، مسجونين في هياج كبير، في عياء كبير ... " .
قطع الأب حديثه لأنّ مساعد السّائق كان قد أزال الغطاء الذي كان يغطّي الأمتعة على السّطح. كلّ الأنظار كانت مشدودة إلى سطح الحافلة. تسارعتْ دقات قلبي. الصّبية أحاطت بي ترمقني بنظرات حنونة. أخذ المساعد يقذف الأكياس والصّرر التي كان رجل مفتول العضلات يتلقفها في الهواء قبل أن يسلّمها إلى أصحابها. مثلّث من حديد انتقل من يد إلى يد. تناوله الأب ومدّه إليّ دون أن ينظر في اتّجاهي. التقطتُ قطعة الحديد متفحّصا النّظرات حولي .
" هيكل درّاجة هوائية ! " هتف متعجّبا أحدٌ من بين الحشد. لقد كان هيكل درّاجة هوائية. هيكل ضخم. فيما بعد، سيُعلمني أحد الأصحاب أنّه هيكل " 950 " : الأكبر حجما. على امتداد الطريق الذي يفصلنا عن البيت، كنتُ أقولُ في نفسي إنّه بالتّأكيد توجد في أحد الكيسين جميع القطع النّاقصة. المقود، الفرامل، الدوّاسات، المقعد، الأشرطة المعدنية التي تغطي أعلى العجلات، الإطارات المطاطية، الإطارات الدّاخلية التي تُملأ بالهواء، آلة منبّه، المصابيح ... كلّ هذا كان بالتّأكيد في أحد الكيسين. لكن لم يتّضح لي أيّهما يمكن أن يضمّ إطارات العجلة المعدنية. كنتُ مشغول البال. خائب الظنّ قليلا. تعقبنا الصّبيان حتى بيتنا. أمّي كانت تنتظرنا عند عتبة الباب، الوجه مشرق. أفسحت المجال للأب الذي وضع الكيسين في الممرّ. اقتديتُ به وذهبتُ أجلسُ على المقعد الحجري. توضّأ الأب وأدّى جميع صلوات اليوم. استغرق منه هذا على الأقل ساعتين. حين انتهى، كان العشاء جاهزا. أكل، نهض يلقي نظرة عبر النّافذة، تلذذ بشايه الممزوج بالشيبة، نظف الأسنان بعود ثقاب مستعمل، شكر السّماء على نعمها، أخطر أخواتي بالذهاب إلى النّوم، استنشق حصّته المعهودة من مسحوق "الطابة"، عطس عدّة مرّات حتى كادت الحيطان تتحطم، مسح أنفه وشاربه، أعاد منشـقـتـه إلى جيبه، حكّ ردفه الأيمن، انتزع "طاقيته" حتى يترك صلعته تتنفس، شرع يتمتم ... كنتُ أفكّرُ : كلّ هذا وقت ضائع، مبدّد في حركات حدّ الإضحاك. هناك، الناس يصنعون، يعيدون صنع العالم بينما الأب يحكّ جسمه، يحزق أويستنشق مسحوق "الطابة". لم يكن متعجّلا، وما كان متعجّلا قط. كان يأخذ دائما وقته ليشرب شايه، ليداوي الأحصنة الأربعة التي فضُلت له، ليؤدّي واجباته. إذا قمتُ بحساب هذه السّاعات، يمكن أن أقول إنّ نصف عمره تبدّد في حركات في غاية الفقر. في قريتنا، لم يكن للزّمن اعتبار .
عشر دقائق قبل ذهابي للنّوم، خاطبني الأب بهذه الكلمات : " لقد برهنتَ على ذكائك بنجاحك في السنة الماضية. لقد أعطيتُ وعدا أحرصُ على الوفاء به. في هذا اليوم الذي جعله الله بين الأيام، اشتريتُ لك هيكل درّاجة هوائية. كلّما ذهبتُ إلى المدينة، اشتريتُ لك ما ينقص. الآن ارْضَ بالهيكل ! الدرّاجة ستكون تامّة خلال سنتين أوثلاث سنوات. عليك أن تتعلّم الصّبر، أن تطيل رغبة الإمتلاك. الذين تعجّلوا ماتوا ! اذهبْ الآن لتنام." ! .
كظمتُ صرخة سخط وثورة. بكيتُ هذه اللّيلة أكثر من أيّ وقت مضى. الخيانة كانت محسوبة بعناية، لكن صعبة التحمّل. لا أحد في مقدوره أن يجد لها عذرا ولا حتى أن يبرّرها. كنتُ جدّ تعيس لأغفر للسّماء الظلم الذي كنتُ ضحيّته .
تطلّب الأمر في الأخير خمس سنوات لتعثر الدرّاجة على جميع أعضائها. في كلّ مرّة يذهب فيها الأب إلى المدينة، كان يحمل معه قطعة. إطارات العجلة المعدنية تلت الهيكل، ثمّ الدوّاسات، فالإطارات المطاطية والإطارات الداخلية التي تُملأ بالهواء، بعد ذلك جاء الدّور على المقود، الأشرطة المعدنية التي تغطي أعلى العجلة، الفرامل والمصابيح. ما كان يقلقني في هذا الشأن هو الوقت. لم يكن الأب يعيره أدنى قيمة. عقلية الكبار في العلاقة مع السّرعة والزّمن كان فيها تناقض. بقدر ما كانوا يحثون على التحرّك بسرعة، لأنّ الوقت، كما يقولون، سيف إذا لم تقطعه قطعك ! بقدر ما كانوا يتلذّذون في ضرب من الخمول يتركني مبهوتا. "إذا كان الوقت من ذهب، فالذين تعجّلوا ماتوا ! " .
التناقض يسكن كبارنا. وبالنتيجة، عليه أن يسكننا نحن أيضا. "لا تؤخّر عمل اليوم إلى الغد ! " أو : "التأنّي من الرّحمان والعجلة من الشيطان ! " أو أيضا : " مائة تخميمة وتخميمة ولا ضربة مقصّ !". كنّا نتجرجر بين الحكمة ونقيضها، بين الأبيض والأسود ولا نفهم جيّدا كيف يتمكّن الكبار من مصالحة المتناقضات دون وجع أو إحساس بالذنب .
كان الأب يأخذ كلّ وقته. هذا بالأحرى هو الشيء الذي يملكه. وأنا الذي كنتُ أتمنّى أن أمضي أسرع منه، ولو مرّة واحدة ! . يجب عليّ أن أكظم غيظي. أنتظر أن يمنحني القدر امتياز أن أمضي أسرع من الرّيح. رغم خيبة أملي العميقة، كنتُ سعيدا أن أشهد "صنع" وتركيب الآلة قطعة قطعة. رأيتها تكبر أمام عيني مثل رضيع يُحاط بالعناية اليقظة والذي يحتفظ دائما ببعض أسراره الخفية. ساعدتها أن تخرج للحياة، أن تتكوّن، أن تتشكّل، وكانت قد شغلت وقتي واحتلّت جزءا كبيرا من محادثاتي مع رفاقي الذين كانوا، بانتظام، يأتون للاستعلام عن نموّ درّاجتي وعن تقدّم الأشغال. كنتُ أسمحُ لهم بإبداء أفكارهم، وتقبّل حتى الأكثر سلبية منها. هذه الدرّاجة كانت لي دون أن تكون في ملكي تماما. كنتُ مقتنعا أنّها، بعد الآن، تخصّ كلّ واحد منّا. كلّ صبيّ كان يُظهر لها ضربا من تعلّق عاطفي واهتماما خاصا، إلى درجة أنّ التّلميحات بخصوصها أصبحت مضجرة. درّاجتي كانت فريدة من نوعها. العجلة الأمامية كانت أصغر من العجلة الخلفية. المقود يجعلنا نفكّر في قرون كبش. الإطارات المطاطية كانت من لونين مختلفين. المقعد كان يوافق دراجة بمحرّك ... لكنّها كانت درّاجتي : ستسمح لي بالمضي أسرع من الرّيح، أسرع من الأب ! نسيتُ أن أقول إنّ الفرد في جماعتنا كان كيانا مهملا. هذه الدرّاجة علّمتني الزّهو ! .
لمّا صارت أخيرا جاهزة، حرص الأب على أن يُجرّبها قبل أيّ كان. تشكّل تجمهر صاخب أمام بيتنا. كلّ القرية كانت على علم بصنيع الأب والرّجال جاؤوا لتهنئته. أمّي كانت تنظر من خلال النافذة مُخفيّة بشكل سيّء فرحتها وابتهاجها. ارتدى الأب أجمل ملابسه. أحدهم جاء بصينية الشاي احتفاء بهذه المناسبة العجيبة. كان من حقّ الأب الكأس الأولى التي ذاقها وشفتاه تتمتمان علامة استحسان. الإثارة كانت في أوجها. كنتُ الوحيد الذي لا يشارك في هذا الاغتباط الجماعي ولا في فرحة الأب. أدركتُ أنّني كنتُ طوال الوقت بعيدا عن الحدث وأنّ وحدتي كانت رهيبة. الصّبيان لم يعودوا يُعيرونني أيّ اعتبار. الإعجاب الذي كنتُ موضعه حتى هذا اليوم انتهى تاركا مكانه للامبالاة تدعو للرّثاء. كلّ الأنظار اتّجهت نحو الأب ونحو الآلة الموضوعة إلى الجدار الذي تمّ تجييره حديثا لهذا الغرض. كنتُ أنظرُ من بعيد منزعجا من هذا المشهد الفظ. الخيانة كانت لا تُطاق. أفكار الهروب والانتحار أصبحت تحتل ذهني مرّة اخرى. كنتُ مُبتلى بقسوة في كبريائي وفي هشاشتي. الأب اغتصب مقامي في هذا الجمع من النّاس؛ المقام الذي أستحقه والذي حُزته منذ البداية : المركز. مركز اهتمام وإعجاب الكبار وعلى الخصوص الصّغار. ألمْ يكنْ في إمكان الغول أن يفهم أنّ هذا الأمر كان حيويّا بالنسبة إليّ، مسألة كبرياء، بمعنى مسألة حياة أو موت ؟
ساعة الاختبار العظيم اقتربت. واحد من الرّجال المرتدين للباس أبيض قرأ بصوت مرتفع "الفاتحة"، أوّل سورة في القرآن، حتى يُعين الأب ويطرد القدر الشرّير. برأس مرفوعة وهيئة مسرورة، خلع الأب جلبابه وبحث عنّي بعيونه حتى يعهد لي بها. تجنّبتُ نظراته المتوقدة عجرفة. امتطى أخيرا الدّابة في هيئة مسرحية ومتصنّعة. تفرقعت في الحال صيحات منفعلة وتصفيقات من كلّ الجهات. حتى أنّي اعتقدتُ، من حنقي، أنّ أمّي أرسلت زغرودة للتّعبير عن تواطؤها مع الأب. هذا الأخير استقرّ مستريحا على المقعد وداس على الدوّاسات. الحشد المزيج انطلق يتحرّك كسرب من الذباب يطنّ حول جيفة. الأب كان في المقدّمة. النّصف الأعلى منتصب والنظرة برّاقة. أمّا أنا لم أتحرّكْ مكتفيا بمتابعة المشهد عن بُعد. طفولتي غُدر بها. أبي سرق منّي حلمي .
والجمهور الصّاخب ما زال يتبعه، دخل الأب منحدرا فيه انعطاف واختفى. سريعا، لم أعد أميّز شيئا إلاّ الرؤوس المهتزّة بفعل سباق مجنون، لمّا سمعتُ فجأة ضجّة حديد قويّة وفي الوقت ذاته اصطداما عنيفا متبوعا بصيحات مُصمّة. أغلقت أمّي النّافذة على الفور مُطلقة صرخة يأس. رابطَ الجأش، كنتُ أنتظرُ تتمّة الأحداث. تمّ إرجاع الأب على ظهر حمار. ثيابه كانت كلّها مُمزّقة ومُغطّاة بالدّم. كانت ساقه اليُمنى مكسورة وجروح على الوجه. أحدهم تكفل بجمع بقايا الدرّاجة في قفة وضعها قرب أقدامي. خيبة الأمل والحزن كانا يُقرآن في عيون النّاس. كان الأمر مُرعبا. بقيتُ كالرّخام. أمّي ، حتى تُعطي انطباعا حسنا، بكتْ شاكية قدرها. بعض الجارات هرعن ليُقاسمْنها عبراتها وغمّها. مُدّد أبي فوق سرير وسط دموع أخواتي وصيحات أمّي. الله، القدر، اللّعنة أتوا للإنتقام لي. أخذتُ القفة وأمسكتُ بمعول. حفرتُ حفرة في المكان ذاته الذي شهد نكبة الأب ودفنتُ الكلّ فيها. ما عُدتُ بعدُ في حاجة إلى الجري، في حاجة إلى عجلات، في حاجة إلى آلة لأنّني، كما كنتُ أقولُ في قرارة نفسي، بدرّاجة هوائية أوبدونها، سأمضي من الآن فصاعدا أسرع منه !
* هذا النص مأخود من المجموعة القصصية :
Les prolétaires de la haine , Paris , Publisud , 1995
==================
ولد سنة 1950. حصل على الدكتوراه في علم النفس وعلوم التربية من فرنسا. يشتغل أستاذا جامعيا بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالقنيطرة.
ساهم في تأسيس مجلة Horizons maghrébins سنة 1984 بتولوز وكان مديرا لها الى حدود سنة 1987. انضم الى اتحاد كتاب المغرب سنة 1991.
حصل عبد الحق سرحان على الجائزة الاولى "للإذاعات الحرة" سنة 1984 وذلك عن روايته "مسعودة" كما نال الجائزة الفرنسية الأولى للعالم العربي عن روايته: "Le soleil des obscurs" وذلك سنة 1993.
له الأعمال المنشورة التالية:
- Messaouda: roman, Paris, Seuil, 1983 (1er prix des Radios libres – Mars, 1984)
- Les enfants des rues étroites: roman, Paris, Seuil, 1986.
- L’Ivre poème: poèmes, Rabat, Al Kalam, 1989.
- Le soleil des obscurs: roman, Paris, Seuil, 1992.
- Chant d'Ortie: roman, Paris, Seuil, 1992.
- La nuit du secret: poèmes, Girondas, Atelier des Grames, 1994.
- Les prolétaires de la haine: nouvelles, Paris, Publisud, 1995.
- L'amour circoncis: essais, Casablanca, Eddif, 1995.