تاريخ القصة القصيرة، في الجزائر، هو تاريخ من سوء الفهم. فهذا الجنس الأدبي وجد نفسه، رغم أنفه، على الهامش، مهملاً، في مجتمع سادت فيه الشفهية، وازدهر فيه الشعر، لاسيما الشعر الملحون، ثم انتقل إلى النثر محتضناً الرواية. مجتمع بادر إلى قفزة في الهواء، من غير أن يتيح لنفسه مهلة في تأمل القصة القصيرة والعناية بها. لم يجعل بين اللحظتين فاصلاً، لذلك يبدو من الأهمية صدور كتاب «هذه السلالة وتلك الحكاية» للخير شوار. وهو كتاب تضمن نماذج من قصص قصيرة، لكنه لا يدعي الإحاطة الشاملة بهذا النوع من الكتابة، بل اقتصر على جيل واحد من الكتّاب، «جيل أكتوبر/تشرين الأول 1988» كما سماهم المؤلف. فقد كان 5 أكتوبر 1988 لحظة مفصلية من تاريخ الجزائر المعاصر، أعلن نهاية الحزب الواحد وأشرع الباب صوب حرية التعبير. فالقصة القصيرة هي النوع الأدبي الوحيد الذي لا يمكن أن نحكم عليه من خلال طوله أو قصره، لأن القصة من شأنها أن تنحصر في بضعة أسطر أو تنبسط على طول صفحات، لكن العامل المشترك هو اتكالها على حبكة واحدة أو محرك واحد للأحداث، عكس الرواية، وعلى الحد الأدنى من الشخصيات. إن فكرة الاقتصاد اللغوي، التي طالما ارتبطت في تعريف القصة القصيرة، إنما فكرة مخادعة، لأن هذا النوع لا حد له في الحجم، بل مقاربته تتأتى من الشكل. هذا ما يفرق القصة القصيرة عن الحكاية أو الخاطرة. كما إن الكتاب لا يدعي شمل الأسماء كلها، التي كتبت هذا الجنس الأدبي، لكنه ينتقي منهم، كما إن هذا الانتقاء لا يحكمه سوى سن الكتاب، فعلى مستوى النصوص بدا تفاوتا في المستويات، بين من يكتب حقاً قصة قصيرة، ومن يحاول، لكنه يتيح صورة مكبرة من أجل إلقاء نظرة عما يكتب في الجزائر، في السنين الأخيرة.
والملاحظ أن الأسماء التي أوردها الخير شوار مع نصوصها، هي أسماء كتاب هجروا القصة القصيرة، في الأزمنة الأخيرة. هجروا إلى الرواية، لماذا لا يوجد كاتب واحد وفيّ للقصة القصيرة؟ هذا الجنس الأدبي بات ضحية من يكتبونه. هم أول من خان القصة القصيرة فلماذا نحمّل القارئ إن خانها بدوره؟ لكننا لا نعرف من هم قراء القصص القصيرة في الجزائر، مع ذلك نحتمل أن هناك قراء كثرا. وعدم وضوحهم ناجم عن عدم وضوح الكتاب أنفسهم، يكتبون القصة القصيرة في الويكاند ويقضون بقية الأسبوع في خيانتها مع أنواع كتابية أخرى.
البدايات المتعثرة
تعود نشأة القصة القصيرة، الناطقة بالعربية، في الجزائر، إلى مطلع القرن العشرين. وغلبها آنذاك الطابع الديني والإصلاحي. كانت موعظة أكثر منها نصاً يبحث في جمالية الكتابة وحساسيتها، جعل بعض رجال الدين من (القصة القصيرة) سلاحاً لهم في الطعن في الطرق الصوفية وفي تصفية حساباتهم مع الاستعمار. تحول هذا الجنس الأدبي إلى بيان سياسي صرف، خالٍ من قيم التخييل أو البحث اللغوي. فلغتها كانت لغة مساجد، وظلت الصحف هي الوسيط في نشرها. لذلك لن نجد مخزوناً تليق العودة إليه في النصوص المؤسسة. في مرحلة لاحقة، عقب الاستقلال، بدأت المجاميع القصصية في الظهور (على غرار عبد الحميد بن هدوقة أو الطاهر وطار) وانتقلت القصة من الموعظة إلى المبالغة في مدح القومية. في محاباة سلطة الحكم والتهجم على خصومها. كانت قصة قصيرة في خدمة أصحاب الكرسي. لذلك سنجد أوائل كتابها، عقب الاستقلال، يشغلون مناصب سياسية. ولم تعد حكراً على الرجال، بل التحقت بهم كاتبات، لكن القصة لم تخرج من نفق مديح الحاكم وذم العدو. كذلك استمر الحال في سبعينيات القرن الماضي، مع ظهور الملاحق الأدبية في الجرائد، حيث تكاثر كتاب القصة القصيرة، لكن الموضوعات تتشابه، في خدمة خيارات السلطة. إلى غاية لحظة الانفجار القصوى، عقب أكتوبر 1988 التي ترتب عنها ظهور دور نشر مستقلة، والانعتاق من تضييق دار النشر الحكومية. هذا الجيل الذي تلا ثورة 1988 هو من يركز عليه كتاب «هذه السلالة وتلك الحكاية» (منشورات البيت، الجزائر 2024).
بحثا عن مكان تحت الشمس
إن الحقبة الزمنية التي تفصلنا عن 1988 طويلة نسبياً، ولا ندري على أي أساس بادر المؤلف في اختياراته للقصص التي نشرها، في الكتاب. لكنها تسمح للقارئ بأن يدنو من المشهد، ويعاين ما يجري فيه عن كثب، على الرغم من تفاوت المستوى، كما ذكرنا سلفاً. يبدو أن القاص في الجزائر تخلص من الحمولة السياسية، التي عانى منها سابقوه، بات يكتب في معزل عن التورط في خيارات السلطة، محافظاً على مسافة أمان منها، لكنه لم يتخلص من ذاته. يكتب انطلاقاً من سيرة ذاتية، وليس انطلاقاً من ملاحظات خارجية. يجعل من ذاته مركزاً والمجتمع هامشاً. وهذا الأمر لا يقلل من قيمة النص، لكنه يحيل الكاتب إلى تكرار في المشاهد في النص نفسه. كما إننا لا نعرف، في بعض الأحيان، الأزمنة التي كتبت فيها القصة. تبدو مفصولة عن السياق التاريخي، بالتالي يصير الكاتب يؤرخ لنفسه وليس لما يحصل من حوله. كما يبدو أيضاً قلة اعتناء بعض القصاصين من خواتيم قصصهم. مع علمهم أن صنعة القصة القصيرة لا تنفصل عن ذكاء في ختام النص. الخاتمة الجيدة تعني قصة جيدة والعكس صحيح. مع ذلك، وردت قصص أخرى، ضمن المتن كلها، تشي بوعي أعمق في الكتابة القصصية، واشتغال على جمالية الجمل والاستعارة. هذا التفاوت يمكن أن نقابل شبيها له في أي بلد آخر، لكنه يشوش النظر على القارئ، لهذا السبب ربما، يعزف عن القصة القصيرة، عكس حرصه على أجناس أدبية أخرى، فالقصة القصيرة في الجزائر تكاد تصير تسلية من لا تسلية له. مما يحجب النظر عن أسماء قصاصين يقاومون فوضى الوضع بكتابة رصينة. لذلك فإن كتاب «تلك السلالة وهذه الحكاية» يتيح للقارئ فرزاً واطلاعاً عما وصلت إليه القصة القصيرة، في الجزائر، بعد أكثر من قرن على ظهورها لأول مرة.
والملاحظ أن الأسماء التي أوردها الخير شوار مع نصوصها، هي أسماء كتاب هجروا القصة القصيرة، في الأزمنة الأخيرة. هجروا إلى الرواية، لماذا لا يوجد كاتب واحد وفيّ للقصة القصيرة؟ هذا الجنس الأدبي بات ضحية من يكتبونه. هم أول من خان القصة القصيرة فلماذا نحمّل القارئ إن خانها بدوره؟ لكننا لا نعرف من هم قراء القصص القصيرة في الجزائر، مع ذلك نحتمل أن هناك قراء كثرا. وعدم وضوحهم ناجم عن عدم وضوح الكتاب أنفسهم، يكتبون القصة القصيرة في الويكاند ويقضون بقية الأسبوع في خيانتها مع أنواع كتابية أخرى.
البدايات المتعثرة
تعود نشأة القصة القصيرة، الناطقة بالعربية، في الجزائر، إلى مطلع القرن العشرين. وغلبها آنذاك الطابع الديني والإصلاحي. كانت موعظة أكثر منها نصاً يبحث في جمالية الكتابة وحساسيتها، جعل بعض رجال الدين من (القصة القصيرة) سلاحاً لهم في الطعن في الطرق الصوفية وفي تصفية حساباتهم مع الاستعمار. تحول هذا الجنس الأدبي إلى بيان سياسي صرف، خالٍ من قيم التخييل أو البحث اللغوي. فلغتها كانت لغة مساجد، وظلت الصحف هي الوسيط في نشرها. لذلك لن نجد مخزوناً تليق العودة إليه في النصوص المؤسسة. في مرحلة لاحقة، عقب الاستقلال، بدأت المجاميع القصصية في الظهور (على غرار عبد الحميد بن هدوقة أو الطاهر وطار) وانتقلت القصة من الموعظة إلى المبالغة في مدح القومية. في محاباة سلطة الحكم والتهجم على خصومها. كانت قصة قصيرة في خدمة أصحاب الكرسي. لذلك سنجد أوائل كتابها، عقب الاستقلال، يشغلون مناصب سياسية. ولم تعد حكراً على الرجال، بل التحقت بهم كاتبات، لكن القصة لم تخرج من نفق مديح الحاكم وذم العدو. كذلك استمر الحال في سبعينيات القرن الماضي، مع ظهور الملاحق الأدبية في الجرائد، حيث تكاثر كتاب القصة القصيرة، لكن الموضوعات تتشابه، في خدمة خيارات السلطة. إلى غاية لحظة الانفجار القصوى، عقب أكتوبر 1988 التي ترتب عنها ظهور دور نشر مستقلة، والانعتاق من تضييق دار النشر الحكومية. هذا الجيل الذي تلا ثورة 1988 هو من يركز عليه كتاب «هذه السلالة وتلك الحكاية» (منشورات البيت، الجزائر 2024).
بحثا عن مكان تحت الشمس
إن الحقبة الزمنية التي تفصلنا عن 1988 طويلة نسبياً، ولا ندري على أي أساس بادر المؤلف في اختياراته للقصص التي نشرها، في الكتاب. لكنها تسمح للقارئ بأن يدنو من المشهد، ويعاين ما يجري فيه عن كثب، على الرغم من تفاوت المستوى، كما ذكرنا سلفاً. يبدو أن القاص في الجزائر تخلص من الحمولة السياسية، التي عانى منها سابقوه، بات يكتب في معزل عن التورط في خيارات السلطة، محافظاً على مسافة أمان منها، لكنه لم يتخلص من ذاته. يكتب انطلاقاً من سيرة ذاتية، وليس انطلاقاً من ملاحظات خارجية. يجعل من ذاته مركزاً والمجتمع هامشاً. وهذا الأمر لا يقلل من قيمة النص، لكنه يحيل الكاتب إلى تكرار في المشاهد في النص نفسه. كما إننا لا نعرف، في بعض الأحيان، الأزمنة التي كتبت فيها القصة. تبدو مفصولة عن السياق التاريخي، بالتالي يصير الكاتب يؤرخ لنفسه وليس لما يحصل من حوله. كما يبدو أيضاً قلة اعتناء بعض القصاصين من خواتيم قصصهم. مع علمهم أن صنعة القصة القصيرة لا تنفصل عن ذكاء في ختام النص. الخاتمة الجيدة تعني قصة جيدة والعكس صحيح. مع ذلك، وردت قصص أخرى، ضمن المتن كلها، تشي بوعي أعمق في الكتابة القصصية، واشتغال على جمالية الجمل والاستعارة. هذا التفاوت يمكن أن نقابل شبيها له في أي بلد آخر، لكنه يشوش النظر على القارئ، لهذا السبب ربما، يعزف عن القصة القصيرة، عكس حرصه على أجناس أدبية أخرى، فالقصة القصيرة في الجزائر تكاد تصير تسلية من لا تسلية له. مما يحجب النظر عن أسماء قصاصين يقاومون فوضى الوضع بكتابة رصينة. لذلك فإن كتاب «تلك السلالة وهذه الحكاية» يتيح للقارئ فرزاً واطلاعاً عما وصلت إليه القصة القصيرة، في الجزائر، بعد أكثر من قرن على ظهورها لأول مرة.