هو، «أشرف» خميرة الغَم، مَن أفسدَ اللحظة. الدنيا كانت حلوة. قُبلات تفرقع على الخدود، وأياد مشدودة بسلامات عفيّة. موسيقى عالية لأغنية قديمة حماسية، تستثير حتى تراب الأرض الذى انتفض وداخ فى دوّامات متلاحقة.
صحيح أنها دوامات قصيرة العمر، لكنها صنعت صخبا طبيعيا خافتا بجوار الصخب الآخر المبهج. كنا على الترابيزة خارج المقهى، ملسوعين بالأغانى والحشد ومكبر الصوت الدعائي. كل الجالسين فى الداخل قاموا ووقفوا حولنا فى سور بشرى سدَّ المدخل. وحده «أشرف» بصمته المعتاد وتقطيبة جبينه، والجميع يرشقون عيونهم فى الوجه الساطع بالعرق للمُرشَّح القادم نحونا. سينتهى من باعة الفاكهة على الرصيف، ثم يهل علينا. مشهد مألوف اعتدناه طوال عمرنا، سيمر بسلام اليد ودعوات التوفيق، ثم الغياب فى حسابات المكسب والخسارة لهذا أو ذاك. وقد يتضمن كلاما من قبيل: شكله أكبر من صورته فى التليفزيون، أو إنه أسمر وليس أبيض. ما الجديد غير ساعة حلوة وكلام ساخن لا نجده إلا فى أوقات مشاهدة المباريات! الجديد هو أشرف منه لله.
لم ننتبه حين وضع رجلا على رجل، وانحنى ليربط الحذاء، ثم أخرج منديلا ورقيا ومسح الظاهر غير اللامع. رأيناه يثنى قدمه على الكرسى تحت فخذه. فى وضعية أخرى كان قد تربع تماما. نظرنا له وقلنا إنه حجر المعسل المُعمّر والدماغ العالية. وحين شعلقَ ساقه على حافة الترابيزة وراح يهزها؛ كان المُرشّح على شفا مترين منّا. وقفنا وتقدمنا خطوة للسلام. شدّت اليد على أيدينا واحدا واحدا، حتى أفاقت وجوهنا وعدّلت نفسها فى لمحة من ابتسام إلى ذهول! هناك دائما مَن لا يتركك ساهما فى عالمك فتجده ينادى عليك فجأة فتلتفت ملدوغا، مَن يوقظك من نومة هنيئة بهزات غشيمة فى جسدك. أوقف «أشرف» الزمن، وثبَّتَ كاميرا الحشد على قدمه الممدودة على الترابيزة. العيون هرولتْ مرات ومرات ما بين وجهه المحايد الناظر إلى لا شيء، وقدمه المطروحة بميْل، مرورا بجسده المرتخى المتقوس. ربما يفعلها ويرفع الأخرى الملتوية تحت الكرسي. قلة أدب! عيوننا تنطق بذلك قبل عيونهم، بل قبل عين المرشّح نفسه الذى لم تزل ابتسامته مُصرّة على الوجود. الحذاء يلمع! هل كان هكذا وهو جالس معنا، أم أنه الضوء الذى تركز كله وسطع على الجلد الأسود القديم؟ فى تلك اللحظة الجامدة، بدا أشرف مثل كائن غريب تتفحصه عيون مستطلعة، مُستاءة، ساخرة، نافرة، متأهبة لفض هذا الوضع وقلب كل شيء لتمشى الأمور ويواصل الحشد طريقه. الأفضل أن يأتى التصرف منّا قبل أن يأتى منهم. لماذا تأخر أحدنا فى أن يلكزه ليعدل من نفسه؟ وهل أتت الفكرة على بالنا؟ ماذا لو كان أحدهم سبقنا وفعلها معه بشكل آخر؟ يبدو كما لو أنه فقد الصلة بقدمه، انفصلتْ عنه تماما فى هزات خفيفة واختلاجات فى مقدمة الحذاء، فى حين كان الجسد كله ساكنا فى شبه غفلة. هل كانت القَدم على تواصل باللحن الحماسى الثائر فى الآذان؟ نعرف أنه يحب هذه الأغانى جدا، ويُدندن بها فى لحظات التجلي، لكن أى كائن هذا الذى تأتيه مثل تلك اللحظة فى هذه الظروف! لقد وصل فى شدّ أنفاس الحَجر حتى نهاية النهاية. تركه مُطفأً راكدا يتطاير رماده الذائب. هذا يعنى أنه كان من المستحيل إخراجه من حالته إلا بصعقة تنزل علينا كلنا.
على أحرّ من الجَمر، مشت الثواني. مدّ المُرشح يده، بابتسامة لم تنقص ملليمترا واحدا، نحو أشرف الغائب. لم يأخذ الأمر وقتا يُذكر لا بالثانية ولا غيرها. التحمتْ اليد فى أياد أخرى للجموع التى زحفت ببطء ونحن من خلفهم، على وقع الجو الفائر بالأصوات والأضواء والوجوه المتوردة. رجعنا بعد قليل لأشرف. ما زال فى مكانه رغم كل شيء! ماذا نفعل مع هذا الشخص؟ وجدنا رأسه قد غفا فوق صدره، وقدميه متعانقتين فى استرخاء على الترابيزة.
* عن الأهرام اليومي يوم 11 - 05 - 2016
صحيح أنها دوامات قصيرة العمر، لكنها صنعت صخبا طبيعيا خافتا بجوار الصخب الآخر المبهج. كنا على الترابيزة خارج المقهى، ملسوعين بالأغانى والحشد ومكبر الصوت الدعائي. كل الجالسين فى الداخل قاموا ووقفوا حولنا فى سور بشرى سدَّ المدخل. وحده «أشرف» بصمته المعتاد وتقطيبة جبينه، والجميع يرشقون عيونهم فى الوجه الساطع بالعرق للمُرشَّح القادم نحونا. سينتهى من باعة الفاكهة على الرصيف، ثم يهل علينا. مشهد مألوف اعتدناه طوال عمرنا، سيمر بسلام اليد ودعوات التوفيق، ثم الغياب فى حسابات المكسب والخسارة لهذا أو ذاك. وقد يتضمن كلاما من قبيل: شكله أكبر من صورته فى التليفزيون، أو إنه أسمر وليس أبيض. ما الجديد غير ساعة حلوة وكلام ساخن لا نجده إلا فى أوقات مشاهدة المباريات! الجديد هو أشرف منه لله.
لم ننتبه حين وضع رجلا على رجل، وانحنى ليربط الحذاء، ثم أخرج منديلا ورقيا ومسح الظاهر غير اللامع. رأيناه يثنى قدمه على الكرسى تحت فخذه. فى وضعية أخرى كان قد تربع تماما. نظرنا له وقلنا إنه حجر المعسل المُعمّر والدماغ العالية. وحين شعلقَ ساقه على حافة الترابيزة وراح يهزها؛ كان المُرشّح على شفا مترين منّا. وقفنا وتقدمنا خطوة للسلام. شدّت اليد على أيدينا واحدا واحدا، حتى أفاقت وجوهنا وعدّلت نفسها فى لمحة من ابتسام إلى ذهول! هناك دائما مَن لا يتركك ساهما فى عالمك فتجده ينادى عليك فجأة فتلتفت ملدوغا، مَن يوقظك من نومة هنيئة بهزات غشيمة فى جسدك. أوقف «أشرف» الزمن، وثبَّتَ كاميرا الحشد على قدمه الممدودة على الترابيزة. العيون هرولتْ مرات ومرات ما بين وجهه المحايد الناظر إلى لا شيء، وقدمه المطروحة بميْل، مرورا بجسده المرتخى المتقوس. ربما يفعلها ويرفع الأخرى الملتوية تحت الكرسي. قلة أدب! عيوننا تنطق بذلك قبل عيونهم، بل قبل عين المرشّح نفسه الذى لم تزل ابتسامته مُصرّة على الوجود. الحذاء يلمع! هل كان هكذا وهو جالس معنا، أم أنه الضوء الذى تركز كله وسطع على الجلد الأسود القديم؟ فى تلك اللحظة الجامدة، بدا أشرف مثل كائن غريب تتفحصه عيون مستطلعة، مُستاءة، ساخرة، نافرة، متأهبة لفض هذا الوضع وقلب كل شيء لتمشى الأمور ويواصل الحشد طريقه. الأفضل أن يأتى التصرف منّا قبل أن يأتى منهم. لماذا تأخر أحدنا فى أن يلكزه ليعدل من نفسه؟ وهل أتت الفكرة على بالنا؟ ماذا لو كان أحدهم سبقنا وفعلها معه بشكل آخر؟ يبدو كما لو أنه فقد الصلة بقدمه، انفصلتْ عنه تماما فى هزات خفيفة واختلاجات فى مقدمة الحذاء، فى حين كان الجسد كله ساكنا فى شبه غفلة. هل كانت القَدم على تواصل باللحن الحماسى الثائر فى الآذان؟ نعرف أنه يحب هذه الأغانى جدا، ويُدندن بها فى لحظات التجلي، لكن أى كائن هذا الذى تأتيه مثل تلك اللحظة فى هذه الظروف! لقد وصل فى شدّ أنفاس الحَجر حتى نهاية النهاية. تركه مُطفأً راكدا يتطاير رماده الذائب. هذا يعنى أنه كان من المستحيل إخراجه من حالته إلا بصعقة تنزل علينا كلنا.
على أحرّ من الجَمر، مشت الثواني. مدّ المُرشح يده، بابتسامة لم تنقص ملليمترا واحدا، نحو أشرف الغائب. لم يأخذ الأمر وقتا يُذكر لا بالثانية ولا غيرها. التحمتْ اليد فى أياد أخرى للجموع التى زحفت ببطء ونحن من خلفهم، على وقع الجو الفائر بالأصوات والأضواء والوجوه المتوردة. رجعنا بعد قليل لأشرف. ما زال فى مكانه رغم كل شيء! ماذا نفعل مع هذا الشخص؟ وجدنا رأسه قد غفا فوق صدره، وقدميه متعانقتين فى استرخاء على الترابيزة.
* عن الأهرام اليومي يوم 11 - 05 - 2016