تتشكل المفاهيم في القانون بعدة وسائل، الأولى جمع مشكلات متعددة عبر قاسم مشترك، ومنحها مفهوما شاملاً يعبر عنها، وأحيانا يتم ذلك عبر تحليل مشكلة معينة إلى عناصرها..ومع ذلك فالمسألة سيان، إذ هما ليسا أكثر من طريقتين منعكستين، يبدو المفهوم في الأولى مصطنعاً وفي الثانية طبيعياً..أو يتمتع بوجود وفعالية مسبقين.
حينما نقول القانون الجنائي القسم العام، فنحن نقصد القواعد التي تطبق على كل الجرائم أو أغلبها. كتعريف الجريمة، والعقوبة وضوابط مخففاتها ومشدداتها، والمساهمة الجنائية والشروع وأسباب الإباحة وموانع المسؤولية..الخ. وهذه هي الطريقة الأولى في صناعة المفهوم، أما الطريقة الثانية، فإن المفهوم يكون حاضراً في الذهن لأي سبب كان، ربما لارتباطه بمعرفة أو بممارسة جماعية غير واعية. كالقصد الجنائي..إذ أن كل طفل يقترف فعلا مستهجناً سيقول: لم أقصد..
يقوم الفقهاء بتحليل هذه الكلمة (اقصد، قَصَدَ، يقصد) ثم يستخرجوا عناصر القصد: (العلم، الإرادة). فالقصد موجودٌ مسبقاً، ولكن لفهمه يتم تفكيكه، وهنا يتم تحديد مفهومه.
بهذين الأسلوبين، يمكننا أن نفهم سياق المفهوم عند "دولوز، غتاري"، وذلك في الفصل الأول من مؤلفهما (ماهي الفلسفة،ت:مطاع الصفدي،١٩٩٧).
مع ذلك حصر دولوز مفهومه للمفهوم على الفلسفة، وحاصره بالمعايير ليتخلص من اختلاطه بأمرين: المنطق، والعلوم)..وهو لذلك يرفض أن تكون الفلسفة مناقشة ديموقراطية، إذ ليس من مهام الفلسفة الإضطلاع برؤى حاسمة كالعلم..كما تخلو الفلسفة من الثوابت والمتغيرات، ويضرب مثالاً على ذلك بالكوجيتو الديكارتي.
سأستعرض هنا أساسيات الرؤية الدولوزية للمفهوم باعتبار الفلسفة إبداعاً للمفاهيم..وسأصل بالتالي إلى إجابة السؤال: هل الفلسفة تشمل القانون أم أن القانون يعتبر علماً مفارقاً للفلسفة وفق المعايير الدولوزية.
لقد ابتدر دولوز رؤيته بمقولتين سالبتين، هما:
-لا يوجد مفهوم أُحادي المكون.
-لا يوجد مفهوم يحتوي على كل مكوناته.
وهما ملاحظتان معقولتان جداً، وتشترك فيهما كل العلوم. فعموماً لا يمكن للقصد الجنائي أن يكون قصداً جنائياً بذاته. فهو علم وإرادة. مع ذلك: ماهو العلم؟ ماهي الإرادة؟...هنا؛ علينا أن ننحي القصد ذاته جانباً ثم نبدأ في تحليل "العلم" ثم تحليل "الإرادة".. وفي هذه الحالة سنغوص في عشرات المفاهيم، بعضها فلسفي كنظرية المعرفة وبعضها بيولوجي كالدماغ والذاكرة والجهاز العصبي، وبعضها نفسي كالوعي والتذكر والتكيُّف.
مع ذلك فلا يوجد قاض أو فقيه أو مشرِّع سينفق مئات السنين ليحلل مفاهيماً داخل المفاهيم داخل المفاهيم...إلى ما لا نهاية. هناك نقطة يجب أن نتوقف عندها، مسلمات يجب أن نقتنع بها، افتراضات يجب افتراضها، تجاهلات كثيرة لنضع مفهوماً مشتغلاً وحيوياً.
إذاً، فلا يوجد مفهوم أحادي المكوِّن، كما لا يوجد مفهوم يحتوي على كل مكوناته.
ينظر دولوز للمفهوم دائما خارج الذات وليس داخلها، سنرى أنه عندما تعرض للكوجيتو الديكارتي، قد وقع في مشكلة الذات والوعي بالذات إذ يجب أن تكون الأنا آخراً وفي نفس الوقت ذاتاً..لذلك فدولوز يقترح (الشخصية المفهومية) كوسيط، و(مبدئياً) سنعرف الشخصية المفهومية، بأنها وسيط بين المفهوم والمفاهيم المكونة داخل مسطح المفاهيم، أو ما ترجمه البعض بمقام المواجدة:(قوتال؛ زهير، رسالة دكتوراه، جامعة الحاج لخضر، ٢٠١٤-٢٠١٥) ، أي حيث ترتمي المفاهيم جميعها وتتشكل داخل منظومة، والشخصية المفهومية هي الفاعل وليس الفيلسوف بنفسه. ورغم الشروحات الغائمة لهذه الفكرة سواء عند دولوز أو غيره، لكنني سأحاول توضيح رؤيتي للشخصية المفهومية عبر بعض الأمثلة سأبتدرها بالفقه الإسلامي؛ إذ أننا سنلاحظ أن لكل فقيه عدة آراء في مسألة واحدة..فنجد أن لأبي حنيفة رأي في المسألة ورأي آخر يستحسنه، ورأي ثالث ضعيف، ويكون أحد آرائه مع أرجح الآراء في بقية المذاهب. إن أبا حنيفة هنا ليس شخصاً مضطرباً، بل هو هنا يضع نفسه كشخصية مفهومية، تستقل (رغم اتصالها) بذاتها عنه، حيث ينظر للحكم مجرداً في بادئ الأمر ثم يقترب من ذاته (مستحسناً) رأياً آخرَ، فهو شخصية مفهومية، تماماً كما قال ماركس: إنني لست ماركسياً (ديجلاس،ميوفان- الطبقية الجديدة، ت: موسى حامد، ٢٠٠٨). هنا يستقل أبو حنيفة وماركس عن المفهوم، ويتركانه للشخصية المفهومية.
لذلك، هناك دائما اعتقاد يلحم بين الفيسلسوف والشخصية المفهومية، بين الشاعر والشخصية المفهومية المبدعة للشعر، بين القاضي والشخصية المفهومية التي أنجزت الحكم بل حتى بين الممثل والشخصية المفهومية التي تنتج مفهومها الفني. إذ لا يتصور البعض أنه يمكن لشاعر مثل جوتة أن يكون متملقاً، يعتقد البعض أن الشاعر هو دائماً كائن رومانسي، يظن البعض، أن شخصية شديدة الفظاظة لا يمكن أن تكون شاعرة، ويعبر دولوز عن مشكلة التناقض (بالراغب) و(المنافس)، إن دولوز هنا يحمي الفلسفة من أن تأخذ منحى السياسة، كما يحميها من المطلق، فالمناظرة السياسية في انتخابات بين مرشحين، هي التي يعتمد فيها الشعب على تحديد خياراته التصويتية، الشعب هنا يحايث بين السياسي وفكره، فالشعب (يمتلك من السذاجة الكافية) التي تجعله يعتقد أن السياسي يجب أن يفكر في شكل خطي، (دالة خطية)، وهذا ما يأباه الفيلسوف على نفسه، إذ أن الشخصية المفهومية ليست واحدة بل هي متعددة وإن كانت تلتصق بشخص واحد (عبر نتاجها)، إن المبدأ القضائي أو المفهوم القانوني ، لا ينسب للقاضي أو الفقيه، بل ينسب للشخصية المفهومية التي أبدعت هذا المفهوم أو ذلك المبدأ، ولذلك فهذا المبدأ قابلٌ دائماً للتعديل أو التغيير أو التوسعة والتضييق أو حتى الإلغاء ولو صدر من ذات القاضي أو الفقيه..
وتكمن أهمية الشخصية المفهومية في أن الناس -بغير تعميم-لا يستطيعون التمييز بين الشخص والفكر، إنهم دوغمائيون، ولذلك تتعارض الدوغمائية مع الفلسفة..بل تتعارض مع الفكر نفسه من حيث كونه (مبتدعاً)، ويعتبر العامة الشخصية المفهومية تقلباً أو حتى فِصاماً...لكن هذه الشخصية، هي التي تعطي مسطح المحايثة أو مقام المواجدة تلك المرونة لإحتمال المزيد والمزيد من المفاهيم. إن دولوز يقول منذ البداية أن أبغض شيء يواجهه الفيلسوف هو أن يطلب منه أحد ما مناقشته. أضيف انه ذات ما يكرهه الشاعر أو الأديب عندما يسأله شخص ما بكل سذاجة: ماذا تعني هذه القصيدة التي كتبتَها؟..وأما في القانون فإن الشخصية المفهومية هي التي تعطي المفهوم نفسه مرونته الكافية، فيتبدل ويتغير. ورغم أن دولوز اعتبر أن الفلسفة ليس حوارا ديموقراطياً، لكننا نستطيع أن نستشف ديموقراطية أوسع في فلسفته.
يقول دولوز:
(يشتمل المفهوم في أغلب الأحيان على أجزاء أو مكونات آتية من مفاهيم أخرى، تكون قد أجابت عن مشكلات أخرى، ورسم محيطات جديدة، مما يتطلب إعادة تفعيله وتفصيله ثانية).
فبعودتنا للقصد الجنائي، فإن العلم على سبيل المثال كعنصر في القصد، لم يتم تناوله جنيالوجياً كانتساب للقانون الجنائي فقط، بل العلم يدخل في نظريات متعددة سبقت تناوله؛ كنظرية المثل والابستمولوجي بصفة عامة، وكالتمييز بين العلم والعلم الزائف، والأسطورة، والعلوم التربوية، وكذا الحال بالنسبة للإرادة.
ولذلك يشرح دولوز:
(أولاً: لا يحيل كل مفهوم إلى مفاهيم أخرى داخل تاريخه فحسب، وانما داخل صيرورته واقتراناته الحاضرة كذلك. فيتوفر كل مفهوم على مركبات يمكن أن تؤخذ هي بدورها كمفاهيم).
كما أن ذات القصد الجنائي هو الذي أصبح محدداً لل(مسؤولية الجنائية)..هذا المصطلح المتذبذب والذي يمكن أن يتسع ليشمل كل عناصر (الإسناد الجنائي) المادية، أو يقبع في العناصر المعنوية فقط.
ويستمر دولوز:
(وباعتبارها مبدَعة، فإنها ليست أبداً مبدعة من لا شيء).
فكما أبنَّا؛ فالقصد الجنائي لا يوجد بدون وجود مسبق: (أولاً: إنسان، جريمة). ووجود مسبق: (ثانياً: لعلم وإرادة). وكل ما يسبق القصد هو بذاته مفاهيم. فمن هو الإنسان: هذا ليس سؤالاً بسيطاً كما قد يتبادر إلى الذهن، وليس فقط سؤالاً فلسفياً، دعونا نناقش -باختصار لأغراض التدارس-هذه المشكلة؛ من زاويتين: اولهما، هل يعتبر الجنين في بطن أمه إنسانا؟ لو أجبنا بالإيجاب فسيتعين علينا أن نعاقب على الإجهاض بذات عقوبة القتل العمد. وإن أجبنا بالنفي؛ سيتعين علينا أن نضع حداً (مفهوما) يفصل بين اختلاط المفردتين. هل مجرد قبوع الجنين في البطن يحرمه من إنسانيته؟ يقول قاض في المحكمة الفدرالية الأمريكية: إن القانون لم يعط الإجهاض ذات عقوبة القتل لأن أغلب النساء كن يجهضن قبل تطور الطب. وحتى بعد ولادتهن كن غالباً ما يفقدن الطفل بسرعة، كما كانت أعداد وفيات الأمهات أثناء الولادة نفسها أكبر من اليوم. يقترح القاضي اعتبار الجنين إنسانا كاملاً وعدم الإكتفاء بمنحه الشخصية القانونية بعد خروجه من جسد أمه. لقد حاولت بالفعل إيجاد حل علمي للتمييز بين الجنين والطفل المولود، فقد نظرت إلى عملية الأيض (بنائياً وهدمياً) فوجدتها متحققة في الجنين. نظرت إلى عملية عدم اكتمال النمو، فوجدت الإنسان لا يتوقف عن النمو، بل ووفقاً لآخر الأبحاث في مجال المرونة العصبية، فإن الدماغ نفسه قابل للنمو وإن لم تحسم هذه المسألة جزماً. ولنأتٍ من ناحية نائية عن العلوم البيولوجية، أي العلوم الفلسفية وما ساد من تمييز للإنسان عن غيره من بقية الكائنات بأنه (حيوان عاقل)؟ هذا المفهوم الأقل تعقيداً سيستثير عندنا مشاكل قانونية خطيرة؛ فهل الإنسان غير العاقل ليس إنساناً ، هل يجوز أن نساوي في الجرعة العقابية بين قاتل الإنسان المصاب بالجنون أو العته أو المنغوليا، بالإنسان الذي يقتل كلباً؟ لو ساوينا بينهما، فهذا يعني أننا سنتعامل مع المجانين والمتخلفين عقلياً كما نتعامل مع الحيوانات. ولو رفضنا ذلك فهذا يعني أن معيار التمييز بين الإنسان وسائر الكائنات ليس العقل بل النوع فقط (البشر). هذا مجرد مثال بسيط لشرح مقولة دولوز، حول أن المفاهيم ليست مبدعة من لا شيء...فالقصد الجنائي ليس مفهوما مبتدعاً بذاته مستقلاً كإله.
(ثانياً: إن خاصية المفهوم هي جعل المركبات غير منفصلة بداخله، فهي متمايزة وغير متجانسة، ومع ذلك فإنها غير منفصلة).
فإذا كانت المفاهيم التالية مستقلة بذاتها (إنسان، جريمة، علم، إرادة) فإن القصد الجنائي يجمعها جميعا ليتشكل هو كمفهوم مستقل. ويشرح دولوز:
(ثالثاً: سيعتبر كل مفهوم إذاً؛ بمثابة نقطة إلتقاء، وتركيز، أو تراكم لمركباتها الخاصة. فلا تتوقف النقطة المفهومية عن عبور مركباتها، وعن الصعود والنزول فيها. فيغدو كل مركب بهذا المعنى خطاً مكثفاً، وإحداثية رأسية مكثفة. لا ينبغي ضبطها باعتبارها عامة أو خاصة. وإنما باعتبارها مجرد تفرد خالص–عالم ممكن "واحد"، وجه "واحد"، كلمات "عديدة"- من شأنه أن يتخصص أو يتعمم حسبما نمنحه من قيم متنوعة أو حسبما نحدد له من وظيفة ثابتة).
فالقصد الجنائي إذاً نقطة مفهومية، ولكنها لن تتمكن من التمثل إلا من خلال رحلتها وتحليقها المستمر حول المفاهيم المتعددة وغير المتجانسة التي ذكرناها، مرة تعبر بمفهوم الإنسان، وتارة تتسرب عبر مفهوم الجريمة، ثم تحلق فوق العلم وتتعمق إلى الإرادة، ولكن هل العلم والإرادة هما خاصيتان إنسانيتان؟ لا، فللحيوانات كذلك درجة من العلم والإرادة، ولذلك على النقطة المفهومية أن تعود مرة أخرى إلى الإنسان، ثم تربط بينه وبين العلم والإرادة، ولكن داخل الجريمة...الخ. هذه الحركة يسميها دولوز بالتحليق وأسميها الحياكة أو الخياطة أو الرتق. مع ذلك فلأنها عملية عقلية، لم يرد دولوز -في اعتقادي- أن يصفها وصفاً مادياً ولو على سبيل المجاز.
نأتي لمسألة توقفت فيها كثيراً؛ وتوقفي فيها لسببين؛ السبب الأول، هو عدم إلمامي الكافي بتعقيدات العلوم الطبيعية، ومن ناحية ثانية لأنني شعرت بشيء من الصناعة لما يراه دولوز، حينما يحاول حصر عناصر المفهوم في نظريته على الفلسفة، ليحميها من تغول العلوم ويحمي العلوم من تغولها عليها. بدا لي ذلك التمييز غير كاف، أو مختلق..على أية حال سنقرأ له:
(لكن على عكس ما يتم في العلم، فلا وجود لثابت أو متغير داخل المفهوم، ولن نميز أنواعاً متغيرة لجنس ثابت، كما لن نميز نوعاً ثابتاً لأفراد متغيرين داخل المفهوم. فليست العلاقات داخل المفهوم علاقات تعريفية ولا علاقات ما صدقية، وإنما فقط علاقات إحداثية، وليست مركبات المفهوم ثوابت ومتغيرات، وإنما مجرد تغيرات إحداثية وفق تجاورها. إنها مجراتية تغييرية نقلية. فليس مفهوم الطير متضَمَّناً في جنسه أو في نوعه، وإنما في تركيب وقفاته وألوانه وأغاريده. إنه شيء يصعب تمييزه وهو مَدرك كمركب حي (بصورة إجمالية وفورية) أكثر منه مُدرك كمركب ماهوي. فالمفهوم هو تكوين لا تجانسي، أي أنه انتظام لعدد من مركباته وفق نواحي الجوار. إنه انتظامي (عددياً)، وقصدية حاضرة في كل الخطوط التي تركبه. ونظراً لكون المفهوم لا يتوقف عن عبور مركباته وفق نسق مجرد من المسافة، فإنه يغدو في حال تحليق بالنسبة لها (أي مركباته). إنه حاضر مباشرة بالمشاركة وبدون مسافة، مع كل مركباته أو تغيراته، يعبر ويعيد العبور من خلالها: إنه لازمة موسيقية أو مقطع موسيقي يحمل رقماً).
يمكننا فهم أن المفهوم داخل مسطح المحايثة أو مقام الإنوجاد ليس مركباً ماهويا، ففي القصد الجنائي، لن يهتم المشرع أو الفقيه أو القاضي كثيراً بتعريف للإنسان، ولا تعريف حاسم للإرادة، لن يهتم القانون كثيراً بصراعات علمية أخرى حول هاتين المسألتين، ولذل يكون للمصطلحات القانونية دلالاتها الخاصة المختلفة عن الحقل الذي نشأت فيه. إن أقصى ما يمكن للقاضي عمله هو الإستعانة بخبير لا علاقة له بالقانون حينما تتطلب الدعوى تفكيك مسائل أقل عمومية مما هي عليه كسبب الموت في جريمة القتل. كالبحث عن الإرادة عند المصاب باضطراب عقلي، أو العلم عند الطفل الذي بلغ سبع سنوات (مميز)..ألخ. مع ذلك فهل هذه المركبات غير الماهوية ليست متوفرة في العلم؟ في الواقع هذا محل نظر، فإذا كان العلم يعرف أغلب مكونات العينة المختبرية، لكنه في الواقع لا يعرف كل مكوناتها...فالعلم حتى الآن لم يصل لمعرفة مسائل كثيرة متعلقة بالكهرباء والفيروسات، والحمض النووي،..الخ..لكنه يتعامل معها، لا كمركبات ماهوية، بل كمفاهيم إجمالية وفورية، تماما كالإنسان بالنسبة للقصد الجنائي. من ثم، نعم هناك ثابت ومتغير في العلوم. مثل الثوابت الكونية: ثابت ممانعة الفراغ، ثابت مغناطيسي، ثابت سرعة الضوء في الخلاء،..الخ وثوابت أخرى، لكن هل هذه الثوابت غير متوفرة في العلوم الإنسانية أو المفاهيم الفلسفية، لا أعتقد ذلك، فحتى المفاهيم الفلسفية لا يمكن إلا أن تستند على ثوابت وإن كانت من طبيعة غير رياضية، يرفض دولوز اعتناق المفاهيم للضمانات المنطقية، إذ ليست الفلسفة منطقاً، لقد أخذ دولوز بالكوجيتو الديكارتي كمثال، وأعود أنا للقصد الجنائي، لأرى إن كانت هناك ثوابت ومتغيرات. هناك ثوابت ومتغيرات ولكنها مفهومية، وهي المبادئ الكلية، فنحن ما كنا بحاجة للبحث عن مفهوم للقصد الجنائي، لو لم ينهض مبدأ عدم مسؤولية غير العالم بفعله أو غير المريد له بسبب علة في عقله أو إكراه وقع على إرادته، وهذا المبدأ نفسه انتجته العدالة كمفهوم مجرد (ثابت) وتعتبر المناقشات حول العلم والإرادة متغيرات داخل ذلك المفهوم. فالعدالة نفسها كمفهوم هو ثابت، وقد لا يكون ثابتاً عقلانياً بل ضميرياً ومعنوياً ولكن هذا ليس بمطعن فيه. إذ يكون لكل ثابت من حيث هو مفهوم ثابت خلفه، وثابت خلف الثابت خلفه وهكذا. كما أننا بغير مبادئ المنطق الصوري-ولو بدرجة بسيطة- لن نستطيع التحليق فوق تلك المفاهيم لنشكل منها مفهوماً آخر.
يصف دولوز المفهوم بأنه ليس جسمانياً؛ فيقول:
(إن المفهوم لا جسماني، حتى وإن كان يتجسد ويتحقق في الأجسام. لكنه بالضبط لا يختلط مع وضع الأشياء التي يتحقق فيها. ليست له إحداثيات مكانية زمانية (أفقية)، وإنما إحداثيات رأسية تكثيفية فحسب. لا يمتلك طاقة، وإنما كثافة فقط. يقول لنا المفهوم الحدث وليس الماهية أو الشي. إنه حدث خالص، وإنية heccéité (كينونة ترجمتي) وكيان. إنه حدث الغير أو حدث الوجه (عندما يؤخذ الوجه بدوره كمفهوم). أو الطائر كحدث. فيتحدد المفهوم بعدم قابلية الإنفصالية فيما بين عدد متناه من المركبات اللا متجانسة المخترَقة من قبل نقطة، هي في تحليق مطلق وذات سرعة لا متناهية. إن المفاهيم "مساحات وأحجام مطلقة" وأشكال لا موضوع لها إلا لا انفصالية التغيرات المتمايزة. إن "التحليق" هو حالة المفهوم أو لا تناهيه الخاص، بالرغم من أن اللا متناهيات كثيرة إلى حد ما حسب عدد المركبات، والعتبات والجسور. فيكون المفهوم، بهذا المعنى بالضبط فعلاً للفكر. وذلك لكون الفكر يعمل بسرعة لا متناهية (سواء كانت شديدة، أو ضعيفة)).
فنحن حينما نتحدث عن القصد الجنائي، لا نعير إلتفاتا في الواقع لما لو كان هناك إنسان بالفعل، أو جريمة وقعت بالفعل، أو إرادة أو علم ، لا يهتم المفهوم بالشيء بل بالحدث (القصد الجنائي نفسه)..وهكذا يستطيع المفهوم أن يخلد في اشتغاله بعد تخلقه داخل الدعاوى الجنائية كلها مما يخدم خاصيته العمومية، نحن نصل إلى أن القصد علم وإرادة، سواء وقعت جريمة أم لم تقع، وسواء كانت الجريمة جريمة قتل أو اغتصاب أو سرقة أو قذف أو ضرب أو سب أو قلب نظام الحكم أو تقويض النظام الدستوري أو معاملة حيوان معاملة قاسية أو ممارسة التمييز العنصري...الخ. ليس هذا فحسب، فنحن حين نحاول تحديد مفهوم جريمة معينة كالسرقة مثلاً فنحن أيضاً لا نهتم بالسرقة كواقعة وقعت، بل كواقعة يمكن أن تقع، ولذلك تنقسم القاعدة الجنائية لعنصرين: عنصر الفرض، وهو إفتراض وقوع جريمة معينة، وعنصر الأثر أو الحكم. فالمفاهيم غير متجسدة، بل تظل دائما حدث؛ وإنية heccéité خالصة.
وعلى هذا الأساس سنجد دولوز يضعنا أمام حقيقة أخرى للمفهوم وهي أنه يجمع بين نقيضين: (النسبي، والمطلق)..
(إن المفهوم إذاً مطلق ونسبي في آن واحد: نسبي بالنسبة لمركباته الخاصة، وللمفاهيم الأخرى، وللمسطح الذي يتعين فوقه، وللمشكلات التي يفترض أن يحلها. لكنه مطلق بفعل التكثيف الذي يحققه، وبفعل الحيز الذي يشغله فوق المسطح، وبفعل الشروط التي يحددها للمشكلة. إنه مطلق من حيث هو كل، لكنه نسبي من حيث هو تجزيئي. إنه لا متناه بفعل تحليقه أو سرعته، لكنه متناه بفعل حركته التي ترسم محيط مركباته. لا يتوقف الفيلسوف عن ترميم مفاهيمه، بل حتى عن تغييرها؛ يكفي أحياناً وجود نقطة ثانوية تتضخم، فتنتج تكثفاً جديداً، تضيف أو تسحب مركباته).
إن نظرية بارتان في القانون الدولي الخاص، او نظرية جارسون في الإختلاس، تظل قابلة للشد والجذب، لكنهما من حيث كونهما مفاهيم سيحمل إطلاقهما في ذاتهما، والقصد نفسه نسبي من حيث مركباته (الإنسان، الجريمة، العلم، الإرادة) تتسع تلك المفاهيم، تتغير تتبدل تُلغى لكن ذلك لا يحدث إلا وفق وظيفتها كمركبات داخل المفهوم، فالجرائم اللائحية أو النظامية (بدون قصد) مثلاً ستستثنى من الجريمة داخل القصد الجنائي. هذا لن يؤدِّ بدوره إلى فناء القصد، مع ذلك لو انتفى القصد كله، فإن المفاهيم داخله ستفقد مسطح تحايثها، وتعود لتتوزع على حقول أخرى، يعود الإنسان لحقول بيولوجية أو ابستمولوجية، وتعود الإرادة إلى حقول فلسفية أو عصبية، وتعود الجريمة لتحيا داخل نصوص القانون مغتربة عن القصد. فالقصد هو المطلق باعتباره تكثيفاً حدثياً اي كمفهوم.
من هنا يمكننا أن نصل إلى أن القانون باعتباره هو ذاته مفهوما، (مجموعة قواعد قانونية-أي مركبات- تقترن بجزاء)، يعد مفهوماً فلسفياً..وأن كل مركباته (التي تتموضع على مقام المواجدة) هي بذاتها مفاهيم فلسفية.
حينما نقول القانون الجنائي القسم العام، فنحن نقصد القواعد التي تطبق على كل الجرائم أو أغلبها. كتعريف الجريمة، والعقوبة وضوابط مخففاتها ومشدداتها، والمساهمة الجنائية والشروع وأسباب الإباحة وموانع المسؤولية..الخ. وهذه هي الطريقة الأولى في صناعة المفهوم، أما الطريقة الثانية، فإن المفهوم يكون حاضراً في الذهن لأي سبب كان، ربما لارتباطه بمعرفة أو بممارسة جماعية غير واعية. كالقصد الجنائي..إذ أن كل طفل يقترف فعلا مستهجناً سيقول: لم أقصد..
يقوم الفقهاء بتحليل هذه الكلمة (اقصد، قَصَدَ، يقصد) ثم يستخرجوا عناصر القصد: (العلم، الإرادة). فالقصد موجودٌ مسبقاً، ولكن لفهمه يتم تفكيكه، وهنا يتم تحديد مفهومه.
بهذين الأسلوبين، يمكننا أن نفهم سياق المفهوم عند "دولوز، غتاري"، وذلك في الفصل الأول من مؤلفهما (ماهي الفلسفة،ت:مطاع الصفدي،١٩٩٧).
مع ذلك حصر دولوز مفهومه للمفهوم على الفلسفة، وحاصره بالمعايير ليتخلص من اختلاطه بأمرين: المنطق، والعلوم)..وهو لذلك يرفض أن تكون الفلسفة مناقشة ديموقراطية، إذ ليس من مهام الفلسفة الإضطلاع برؤى حاسمة كالعلم..كما تخلو الفلسفة من الثوابت والمتغيرات، ويضرب مثالاً على ذلك بالكوجيتو الديكارتي.
سأستعرض هنا أساسيات الرؤية الدولوزية للمفهوم باعتبار الفلسفة إبداعاً للمفاهيم..وسأصل بالتالي إلى إجابة السؤال: هل الفلسفة تشمل القانون أم أن القانون يعتبر علماً مفارقاً للفلسفة وفق المعايير الدولوزية.
لقد ابتدر دولوز رؤيته بمقولتين سالبتين، هما:
-لا يوجد مفهوم أُحادي المكون.
-لا يوجد مفهوم يحتوي على كل مكوناته.
وهما ملاحظتان معقولتان جداً، وتشترك فيهما كل العلوم. فعموماً لا يمكن للقصد الجنائي أن يكون قصداً جنائياً بذاته. فهو علم وإرادة. مع ذلك: ماهو العلم؟ ماهي الإرادة؟...هنا؛ علينا أن ننحي القصد ذاته جانباً ثم نبدأ في تحليل "العلم" ثم تحليل "الإرادة".. وفي هذه الحالة سنغوص في عشرات المفاهيم، بعضها فلسفي كنظرية المعرفة وبعضها بيولوجي كالدماغ والذاكرة والجهاز العصبي، وبعضها نفسي كالوعي والتذكر والتكيُّف.
مع ذلك فلا يوجد قاض أو فقيه أو مشرِّع سينفق مئات السنين ليحلل مفاهيماً داخل المفاهيم داخل المفاهيم...إلى ما لا نهاية. هناك نقطة يجب أن نتوقف عندها، مسلمات يجب أن نقتنع بها، افتراضات يجب افتراضها، تجاهلات كثيرة لنضع مفهوماً مشتغلاً وحيوياً.
إذاً، فلا يوجد مفهوم أحادي المكوِّن، كما لا يوجد مفهوم يحتوي على كل مكوناته.
ينظر دولوز للمفهوم دائما خارج الذات وليس داخلها، سنرى أنه عندما تعرض للكوجيتو الديكارتي، قد وقع في مشكلة الذات والوعي بالذات إذ يجب أن تكون الأنا آخراً وفي نفس الوقت ذاتاً..لذلك فدولوز يقترح (الشخصية المفهومية) كوسيط، و(مبدئياً) سنعرف الشخصية المفهومية، بأنها وسيط بين المفهوم والمفاهيم المكونة داخل مسطح المفاهيم، أو ما ترجمه البعض بمقام المواجدة:(قوتال؛ زهير، رسالة دكتوراه، جامعة الحاج لخضر، ٢٠١٤-٢٠١٥) ، أي حيث ترتمي المفاهيم جميعها وتتشكل داخل منظومة، والشخصية المفهومية هي الفاعل وليس الفيلسوف بنفسه. ورغم الشروحات الغائمة لهذه الفكرة سواء عند دولوز أو غيره، لكنني سأحاول توضيح رؤيتي للشخصية المفهومية عبر بعض الأمثلة سأبتدرها بالفقه الإسلامي؛ إذ أننا سنلاحظ أن لكل فقيه عدة آراء في مسألة واحدة..فنجد أن لأبي حنيفة رأي في المسألة ورأي آخر يستحسنه، ورأي ثالث ضعيف، ويكون أحد آرائه مع أرجح الآراء في بقية المذاهب. إن أبا حنيفة هنا ليس شخصاً مضطرباً، بل هو هنا يضع نفسه كشخصية مفهومية، تستقل (رغم اتصالها) بذاتها عنه، حيث ينظر للحكم مجرداً في بادئ الأمر ثم يقترب من ذاته (مستحسناً) رأياً آخرَ، فهو شخصية مفهومية، تماماً كما قال ماركس: إنني لست ماركسياً (ديجلاس،ميوفان- الطبقية الجديدة، ت: موسى حامد، ٢٠٠٨). هنا يستقل أبو حنيفة وماركس عن المفهوم، ويتركانه للشخصية المفهومية.
لذلك، هناك دائما اعتقاد يلحم بين الفيسلسوف والشخصية المفهومية، بين الشاعر والشخصية المفهومية المبدعة للشعر، بين القاضي والشخصية المفهومية التي أنجزت الحكم بل حتى بين الممثل والشخصية المفهومية التي تنتج مفهومها الفني. إذ لا يتصور البعض أنه يمكن لشاعر مثل جوتة أن يكون متملقاً، يعتقد البعض أن الشاعر هو دائماً كائن رومانسي، يظن البعض، أن شخصية شديدة الفظاظة لا يمكن أن تكون شاعرة، ويعبر دولوز عن مشكلة التناقض (بالراغب) و(المنافس)، إن دولوز هنا يحمي الفلسفة من أن تأخذ منحى السياسة، كما يحميها من المطلق، فالمناظرة السياسية في انتخابات بين مرشحين، هي التي يعتمد فيها الشعب على تحديد خياراته التصويتية، الشعب هنا يحايث بين السياسي وفكره، فالشعب (يمتلك من السذاجة الكافية) التي تجعله يعتقد أن السياسي يجب أن يفكر في شكل خطي، (دالة خطية)، وهذا ما يأباه الفيلسوف على نفسه، إذ أن الشخصية المفهومية ليست واحدة بل هي متعددة وإن كانت تلتصق بشخص واحد (عبر نتاجها)، إن المبدأ القضائي أو المفهوم القانوني ، لا ينسب للقاضي أو الفقيه، بل ينسب للشخصية المفهومية التي أبدعت هذا المفهوم أو ذلك المبدأ، ولذلك فهذا المبدأ قابلٌ دائماً للتعديل أو التغيير أو التوسعة والتضييق أو حتى الإلغاء ولو صدر من ذات القاضي أو الفقيه..
وتكمن أهمية الشخصية المفهومية في أن الناس -بغير تعميم-لا يستطيعون التمييز بين الشخص والفكر، إنهم دوغمائيون، ولذلك تتعارض الدوغمائية مع الفلسفة..بل تتعارض مع الفكر نفسه من حيث كونه (مبتدعاً)، ويعتبر العامة الشخصية المفهومية تقلباً أو حتى فِصاماً...لكن هذه الشخصية، هي التي تعطي مسطح المحايثة أو مقام المواجدة تلك المرونة لإحتمال المزيد والمزيد من المفاهيم. إن دولوز يقول منذ البداية أن أبغض شيء يواجهه الفيلسوف هو أن يطلب منه أحد ما مناقشته. أضيف انه ذات ما يكرهه الشاعر أو الأديب عندما يسأله شخص ما بكل سذاجة: ماذا تعني هذه القصيدة التي كتبتَها؟..وأما في القانون فإن الشخصية المفهومية هي التي تعطي المفهوم نفسه مرونته الكافية، فيتبدل ويتغير. ورغم أن دولوز اعتبر أن الفلسفة ليس حوارا ديموقراطياً، لكننا نستطيع أن نستشف ديموقراطية أوسع في فلسفته.
يقول دولوز:
(يشتمل المفهوم في أغلب الأحيان على أجزاء أو مكونات آتية من مفاهيم أخرى، تكون قد أجابت عن مشكلات أخرى، ورسم محيطات جديدة، مما يتطلب إعادة تفعيله وتفصيله ثانية).
فبعودتنا للقصد الجنائي، فإن العلم على سبيل المثال كعنصر في القصد، لم يتم تناوله جنيالوجياً كانتساب للقانون الجنائي فقط، بل العلم يدخل في نظريات متعددة سبقت تناوله؛ كنظرية المثل والابستمولوجي بصفة عامة، وكالتمييز بين العلم والعلم الزائف، والأسطورة، والعلوم التربوية، وكذا الحال بالنسبة للإرادة.
ولذلك يشرح دولوز:
(أولاً: لا يحيل كل مفهوم إلى مفاهيم أخرى داخل تاريخه فحسب، وانما داخل صيرورته واقتراناته الحاضرة كذلك. فيتوفر كل مفهوم على مركبات يمكن أن تؤخذ هي بدورها كمفاهيم).
كما أن ذات القصد الجنائي هو الذي أصبح محدداً لل(مسؤولية الجنائية)..هذا المصطلح المتذبذب والذي يمكن أن يتسع ليشمل كل عناصر (الإسناد الجنائي) المادية، أو يقبع في العناصر المعنوية فقط.
ويستمر دولوز:
(وباعتبارها مبدَعة، فإنها ليست أبداً مبدعة من لا شيء).
فكما أبنَّا؛ فالقصد الجنائي لا يوجد بدون وجود مسبق: (أولاً: إنسان، جريمة). ووجود مسبق: (ثانياً: لعلم وإرادة). وكل ما يسبق القصد هو بذاته مفاهيم. فمن هو الإنسان: هذا ليس سؤالاً بسيطاً كما قد يتبادر إلى الذهن، وليس فقط سؤالاً فلسفياً، دعونا نناقش -باختصار لأغراض التدارس-هذه المشكلة؛ من زاويتين: اولهما، هل يعتبر الجنين في بطن أمه إنسانا؟ لو أجبنا بالإيجاب فسيتعين علينا أن نعاقب على الإجهاض بذات عقوبة القتل العمد. وإن أجبنا بالنفي؛ سيتعين علينا أن نضع حداً (مفهوما) يفصل بين اختلاط المفردتين. هل مجرد قبوع الجنين في البطن يحرمه من إنسانيته؟ يقول قاض في المحكمة الفدرالية الأمريكية: إن القانون لم يعط الإجهاض ذات عقوبة القتل لأن أغلب النساء كن يجهضن قبل تطور الطب. وحتى بعد ولادتهن كن غالباً ما يفقدن الطفل بسرعة، كما كانت أعداد وفيات الأمهات أثناء الولادة نفسها أكبر من اليوم. يقترح القاضي اعتبار الجنين إنسانا كاملاً وعدم الإكتفاء بمنحه الشخصية القانونية بعد خروجه من جسد أمه. لقد حاولت بالفعل إيجاد حل علمي للتمييز بين الجنين والطفل المولود، فقد نظرت إلى عملية الأيض (بنائياً وهدمياً) فوجدتها متحققة في الجنين. نظرت إلى عملية عدم اكتمال النمو، فوجدت الإنسان لا يتوقف عن النمو، بل ووفقاً لآخر الأبحاث في مجال المرونة العصبية، فإن الدماغ نفسه قابل للنمو وإن لم تحسم هذه المسألة جزماً. ولنأتٍ من ناحية نائية عن العلوم البيولوجية، أي العلوم الفلسفية وما ساد من تمييز للإنسان عن غيره من بقية الكائنات بأنه (حيوان عاقل)؟ هذا المفهوم الأقل تعقيداً سيستثير عندنا مشاكل قانونية خطيرة؛ فهل الإنسان غير العاقل ليس إنساناً ، هل يجوز أن نساوي في الجرعة العقابية بين قاتل الإنسان المصاب بالجنون أو العته أو المنغوليا، بالإنسان الذي يقتل كلباً؟ لو ساوينا بينهما، فهذا يعني أننا سنتعامل مع المجانين والمتخلفين عقلياً كما نتعامل مع الحيوانات. ولو رفضنا ذلك فهذا يعني أن معيار التمييز بين الإنسان وسائر الكائنات ليس العقل بل النوع فقط (البشر). هذا مجرد مثال بسيط لشرح مقولة دولوز، حول أن المفاهيم ليست مبدعة من لا شيء...فالقصد الجنائي ليس مفهوما مبتدعاً بذاته مستقلاً كإله.
(ثانياً: إن خاصية المفهوم هي جعل المركبات غير منفصلة بداخله، فهي متمايزة وغير متجانسة، ومع ذلك فإنها غير منفصلة).
فإذا كانت المفاهيم التالية مستقلة بذاتها (إنسان، جريمة، علم، إرادة) فإن القصد الجنائي يجمعها جميعا ليتشكل هو كمفهوم مستقل. ويشرح دولوز:
(ثالثاً: سيعتبر كل مفهوم إذاً؛ بمثابة نقطة إلتقاء، وتركيز، أو تراكم لمركباتها الخاصة. فلا تتوقف النقطة المفهومية عن عبور مركباتها، وعن الصعود والنزول فيها. فيغدو كل مركب بهذا المعنى خطاً مكثفاً، وإحداثية رأسية مكثفة. لا ينبغي ضبطها باعتبارها عامة أو خاصة. وإنما باعتبارها مجرد تفرد خالص–عالم ممكن "واحد"، وجه "واحد"، كلمات "عديدة"- من شأنه أن يتخصص أو يتعمم حسبما نمنحه من قيم متنوعة أو حسبما نحدد له من وظيفة ثابتة).
فالقصد الجنائي إذاً نقطة مفهومية، ولكنها لن تتمكن من التمثل إلا من خلال رحلتها وتحليقها المستمر حول المفاهيم المتعددة وغير المتجانسة التي ذكرناها، مرة تعبر بمفهوم الإنسان، وتارة تتسرب عبر مفهوم الجريمة، ثم تحلق فوق العلم وتتعمق إلى الإرادة، ولكن هل العلم والإرادة هما خاصيتان إنسانيتان؟ لا، فللحيوانات كذلك درجة من العلم والإرادة، ولذلك على النقطة المفهومية أن تعود مرة أخرى إلى الإنسان، ثم تربط بينه وبين العلم والإرادة، ولكن داخل الجريمة...الخ. هذه الحركة يسميها دولوز بالتحليق وأسميها الحياكة أو الخياطة أو الرتق. مع ذلك فلأنها عملية عقلية، لم يرد دولوز -في اعتقادي- أن يصفها وصفاً مادياً ولو على سبيل المجاز.
نأتي لمسألة توقفت فيها كثيراً؛ وتوقفي فيها لسببين؛ السبب الأول، هو عدم إلمامي الكافي بتعقيدات العلوم الطبيعية، ومن ناحية ثانية لأنني شعرت بشيء من الصناعة لما يراه دولوز، حينما يحاول حصر عناصر المفهوم في نظريته على الفلسفة، ليحميها من تغول العلوم ويحمي العلوم من تغولها عليها. بدا لي ذلك التمييز غير كاف، أو مختلق..على أية حال سنقرأ له:
(لكن على عكس ما يتم في العلم، فلا وجود لثابت أو متغير داخل المفهوم، ولن نميز أنواعاً متغيرة لجنس ثابت، كما لن نميز نوعاً ثابتاً لأفراد متغيرين داخل المفهوم. فليست العلاقات داخل المفهوم علاقات تعريفية ولا علاقات ما صدقية، وإنما فقط علاقات إحداثية، وليست مركبات المفهوم ثوابت ومتغيرات، وإنما مجرد تغيرات إحداثية وفق تجاورها. إنها مجراتية تغييرية نقلية. فليس مفهوم الطير متضَمَّناً في جنسه أو في نوعه، وإنما في تركيب وقفاته وألوانه وأغاريده. إنه شيء يصعب تمييزه وهو مَدرك كمركب حي (بصورة إجمالية وفورية) أكثر منه مُدرك كمركب ماهوي. فالمفهوم هو تكوين لا تجانسي، أي أنه انتظام لعدد من مركباته وفق نواحي الجوار. إنه انتظامي (عددياً)، وقصدية حاضرة في كل الخطوط التي تركبه. ونظراً لكون المفهوم لا يتوقف عن عبور مركباته وفق نسق مجرد من المسافة، فإنه يغدو في حال تحليق بالنسبة لها (أي مركباته). إنه حاضر مباشرة بالمشاركة وبدون مسافة، مع كل مركباته أو تغيراته، يعبر ويعيد العبور من خلالها: إنه لازمة موسيقية أو مقطع موسيقي يحمل رقماً).
يمكننا فهم أن المفهوم داخل مسطح المحايثة أو مقام الإنوجاد ليس مركباً ماهويا، ففي القصد الجنائي، لن يهتم المشرع أو الفقيه أو القاضي كثيراً بتعريف للإنسان، ولا تعريف حاسم للإرادة، لن يهتم القانون كثيراً بصراعات علمية أخرى حول هاتين المسألتين، ولذل يكون للمصطلحات القانونية دلالاتها الخاصة المختلفة عن الحقل الذي نشأت فيه. إن أقصى ما يمكن للقاضي عمله هو الإستعانة بخبير لا علاقة له بالقانون حينما تتطلب الدعوى تفكيك مسائل أقل عمومية مما هي عليه كسبب الموت في جريمة القتل. كالبحث عن الإرادة عند المصاب باضطراب عقلي، أو العلم عند الطفل الذي بلغ سبع سنوات (مميز)..ألخ. مع ذلك فهل هذه المركبات غير الماهوية ليست متوفرة في العلم؟ في الواقع هذا محل نظر، فإذا كان العلم يعرف أغلب مكونات العينة المختبرية، لكنه في الواقع لا يعرف كل مكوناتها...فالعلم حتى الآن لم يصل لمعرفة مسائل كثيرة متعلقة بالكهرباء والفيروسات، والحمض النووي،..الخ..لكنه يتعامل معها، لا كمركبات ماهوية، بل كمفاهيم إجمالية وفورية، تماما كالإنسان بالنسبة للقصد الجنائي. من ثم، نعم هناك ثابت ومتغير في العلوم. مثل الثوابت الكونية: ثابت ممانعة الفراغ، ثابت مغناطيسي، ثابت سرعة الضوء في الخلاء،..الخ وثوابت أخرى، لكن هل هذه الثوابت غير متوفرة في العلوم الإنسانية أو المفاهيم الفلسفية، لا أعتقد ذلك، فحتى المفاهيم الفلسفية لا يمكن إلا أن تستند على ثوابت وإن كانت من طبيعة غير رياضية، يرفض دولوز اعتناق المفاهيم للضمانات المنطقية، إذ ليست الفلسفة منطقاً، لقد أخذ دولوز بالكوجيتو الديكارتي كمثال، وأعود أنا للقصد الجنائي، لأرى إن كانت هناك ثوابت ومتغيرات. هناك ثوابت ومتغيرات ولكنها مفهومية، وهي المبادئ الكلية، فنحن ما كنا بحاجة للبحث عن مفهوم للقصد الجنائي، لو لم ينهض مبدأ عدم مسؤولية غير العالم بفعله أو غير المريد له بسبب علة في عقله أو إكراه وقع على إرادته، وهذا المبدأ نفسه انتجته العدالة كمفهوم مجرد (ثابت) وتعتبر المناقشات حول العلم والإرادة متغيرات داخل ذلك المفهوم. فالعدالة نفسها كمفهوم هو ثابت، وقد لا يكون ثابتاً عقلانياً بل ضميرياً ومعنوياً ولكن هذا ليس بمطعن فيه. إذ يكون لكل ثابت من حيث هو مفهوم ثابت خلفه، وثابت خلف الثابت خلفه وهكذا. كما أننا بغير مبادئ المنطق الصوري-ولو بدرجة بسيطة- لن نستطيع التحليق فوق تلك المفاهيم لنشكل منها مفهوماً آخر.
يصف دولوز المفهوم بأنه ليس جسمانياً؛ فيقول:
(إن المفهوم لا جسماني، حتى وإن كان يتجسد ويتحقق في الأجسام. لكنه بالضبط لا يختلط مع وضع الأشياء التي يتحقق فيها. ليست له إحداثيات مكانية زمانية (أفقية)، وإنما إحداثيات رأسية تكثيفية فحسب. لا يمتلك طاقة، وإنما كثافة فقط. يقول لنا المفهوم الحدث وليس الماهية أو الشي. إنه حدث خالص، وإنية heccéité (كينونة ترجمتي) وكيان. إنه حدث الغير أو حدث الوجه (عندما يؤخذ الوجه بدوره كمفهوم). أو الطائر كحدث. فيتحدد المفهوم بعدم قابلية الإنفصالية فيما بين عدد متناه من المركبات اللا متجانسة المخترَقة من قبل نقطة، هي في تحليق مطلق وذات سرعة لا متناهية. إن المفاهيم "مساحات وأحجام مطلقة" وأشكال لا موضوع لها إلا لا انفصالية التغيرات المتمايزة. إن "التحليق" هو حالة المفهوم أو لا تناهيه الخاص، بالرغم من أن اللا متناهيات كثيرة إلى حد ما حسب عدد المركبات، والعتبات والجسور. فيكون المفهوم، بهذا المعنى بالضبط فعلاً للفكر. وذلك لكون الفكر يعمل بسرعة لا متناهية (سواء كانت شديدة، أو ضعيفة)).
فنحن حينما نتحدث عن القصد الجنائي، لا نعير إلتفاتا في الواقع لما لو كان هناك إنسان بالفعل، أو جريمة وقعت بالفعل، أو إرادة أو علم ، لا يهتم المفهوم بالشيء بل بالحدث (القصد الجنائي نفسه)..وهكذا يستطيع المفهوم أن يخلد في اشتغاله بعد تخلقه داخل الدعاوى الجنائية كلها مما يخدم خاصيته العمومية، نحن نصل إلى أن القصد علم وإرادة، سواء وقعت جريمة أم لم تقع، وسواء كانت الجريمة جريمة قتل أو اغتصاب أو سرقة أو قذف أو ضرب أو سب أو قلب نظام الحكم أو تقويض النظام الدستوري أو معاملة حيوان معاملة قاسية أو ممارسة التمييز العنصري...الخ. ليس هذا فحسب، فنحن حين نحاول تحديد مفهوم جريمة معينة كالسرقة مثلاً فنحن أيضاً لا نهتم بالسرقة كواقعة وقعت، بل كواقعة يمكن أن تقع، ولذلك تنقسم القاعدة الجنائية لعنصرين: عنصر الفرض، وهو إفتراض وقوع جريمة معينة، وعنصر الأثر أو الحكم. فالمفاهيم غير متجسدة، بل تظل دائما حدث؛ وإنية heccéité خالصة.
وعلى هذا الأساس سنجد دولوز يضعنا أمام حقيقة أخرى للمفهوم وهي أنه يجمع بين نقيضين: (النسبي، والمطلق)..
(إن المفهوم إذاً مطلق ونسبي في آن واحد: نسبي بالنسبة لمركباته الخاصة، وللمفاهيم الأخرى، وللمسطح الذي يتعين فوقه، وللمشكلات التي يفترض أن يحلها. لكنه مطلق بفعل التكثيف الذي يحققه، وبفعل الحيز الذي يشغله فوق المسطح، وبفعل الشروط التي يحددها للمشكلة. إنه مطلق من حيث هو كل، لكنه نسبي من حيث هو تجزيئي. إنه لا متناه بفعل تحليقه أو سرعته، لكنه متناه بفعل حركته التي ترسم محيط مركباته. لا يتوقف الفيلسوف عن ترميم مفاهيمه، بل حتى عن تغييرها؛ يكفي أحياناً وجود نقطة ثانوية تتضخم، فتنتج تكثفاً جديداً، تضيف أو تسحب مركباته).
إن نظرية بارتان في القانون الدولي الخاص، او نظرية جارسون في الإختلاس، تظل قابلة للشد والجذب، لكنهما من حيث كونهما مفاهيم سيحمل إطلاقهما في ذاتهما، والقصد نفسه نسبي من حيث مركباته (الإنسان، الجريمة، العلم، الإرادة) تتسع تلك المفاهيم، تتغير تتبدل تُلغى لكن ذلك لا يحدث إلا وفق وظيفتها كمركبات داخل المفهوم، فالجرائم اللائحية أو النظامية (بدون قصد) مثلاً ستستثنى من الجريمة داخل القصد الجنائي. هذا لن يؤدِّ بدوره إلى فناء القصد، مع ذلك لو انتفى القصد كله، فإن المفاهيم داخله ستفقد مسطح تحايثها، وتعود لتتوزع على حقول أخرى، يعود الإنسان لحقول بيولوجية أو ابستمولوجية، وتعود الإرادة إلى حقول فلسفية أو عصبية، وتعود الجريمة لتحيا داخل نصوص القانون مغتربة عن القصد. فالقصد هو المطلق باعتباره تكثيفاً حدثياً اي كمفهوم.
من هنا يمكننا أن نصل إلى أن القانون باعتباره هو ذاته مفهوما، (مجموعة قواعد قانونية-أي مركبات- تقترن بجزاء)، يعد مفهوماً فلسفياً..وأن كل مركباته (التي تتموضع على مقام المواجدة) هي بذاتها مفاهيم فلسفية.