طرق الشّاوش منصور بابي حين عاد إلى الحيّ في آخر الليل. جاء يعلمني بأنني مسجّل على قائمة الانتظار الرّسميّة. زوجتي لا يعجبها العجب، طبعا. لذلك فهي لم تر في وجود اسمي على هذه القائمة حدثا يستحقّ أن يصعد من أجله الشّاوش منصور بطمّ طميمه إلى الطّابق الأخير من العمارة، وأن يطرق بابنا في تلك السّاعة المتأخّرة. أمّا أنا، فأصدقكم القول إنّني لم أنم بقية الليل من شدّة الفرح. أخيـرا، تذكّرني المتذكّرون وصرت مسجَّلا على قائمة. أليست العِبرة بالمشاركة دائما ؟ أليس مجرّد الوصول إلى هذه القائمة، دون سعي منّي، شرفا عظيما ؟
رغم الإرهاق الذي أصابني مع مطلع الفجر، تركت شقّتي باكرا لأعدّ العدّة. فالمسألة ليست بسيطة. وقد كان لا بدّ أن أثبت أنّني في مستوى الحدث وأن أكون جاهزا من كلّ النّواحي. كان النّور الخجول المتسلّل إلى أنهج الحيّ ومداخل العمارات، يصبغها بلون الشّرف الذي نالها في ذلك اليوم، بتسجيل اسم أحد مواطنيها في قائمة الانتظار.
جلست في مقهى المنعطف في انتظار أن تفتح المتاجر أبوابها. فجاءني النّادل يستملي طلباتي. فقلت له إنّني، من فرط سعادتي، أشعر وكأنّ حلقي مسدودا. إلاّ أنّني طلبت منه أن يجمع حساب كلّ طاولة لم يدفع الجالسون حولها بعد ثمن ما استهلكوه. فأخذ يحسب وهو لا يخفي استغرابه من طلبي متسائلا إن كان عندي باكالوريا أو نوفيام. شرحت له أنّ الشّأن أهمّ بكثير. ولكنّ كلّ ما عندي من معلومات إلى حدّ الآن، هو ما أعلمني به الشّاوش منصور من تسجيل اسمي في قائمة الانتظار الرّسمية. أمّا ما تبقّى فبيد الله طبعا، هو الذي يقدّر ما يريد. انشرحت أسارير النّادل وأكّد لي أنّه يسمع عن الشّاوش منصور كلّ خير، ويعرف أنّ كلّ ما يقوله صحيح مائة بالمائة، خاصّة في ما يخصّ قائمة الانتظار.
لذلك ناولته كامل الحساب مع ثمن قهوة زائدة، كرامة له. وما لبث أن شاع الخبر في المقهى فجاء كلّ الجالسين يهنّئونني وكأنّهم من خلّص أصدقائي، في حين لم يكن يعرفني منهم أحد. بل إنّ شيخا ذا وقار اقترب منّي وشدّ على يديّ ليبثّ في نفسي مزيدا من الثّقة، مؤكّدا أنّني ما دمت قد سبّقت الخير، فإنّ الحاجة مقضيّة بإذن الله.
*****
كنت أوّل حريف يدخل مكتب بريد الحيّ في ذلك الصّباح. سحبت كلّ رصيدي من دفتر الادّخار. وقصدت أوّل متجر لبيع الملابس الرّجالية. فاشتريت لي كسوة جديدة بقميص أبيض وربطة عنق فاخرة. ثمّ اتجهت إلى السّوق المركزيّة فملأت من الخضر والغلال سلّتين كبيرتين. ولأنّ السّمك مبارك في مثل هذه المناسبات، فلقد عرّجت على سوق السّمك فاخترت من أثمن الأنواع كمّيّة تكفي لإشباع كلّ العائلة، وحتّى من قد يأتي للزّيارة، وإن لم يكن من سكّان الحيّ من يتردّد على شقّتنا في الطّابق الأخير، ولا من الأقارب من يجد الشّجاعة على امتطاء وسائل النّقل الجماعي والمجيء لزيارتنا في هذا الحيّ البعيد.
شعرت وأنا في طريق العودة إلى البيت، بقوّة بداخلي تدفعني دفعا إلى العمل في الحال على اختيار المكان الأنسب. وهكذا وجدتني أنقاد تلقائيّا إلى ساحة الشّهداء، وأعاين دون لفت انتباه أحد، موضعا مركزيّا يمكنني فيه الانتظار بأقلّ ما يمكن من التّعب وأكثر ما يمكن من الحظوظ. ولكنّني قدّرت أنّني إذا كنت أريد الحصول على ذلك الموضع بالذّات، فلا مناص لي من أن أستيقظ باكرا في الغد، ومن أن أحضر قبل أن يحتلّ المكان أحد غيري فيعسّر عليّ مهمّتي.
لم يكن من السّهل عليّ أن أمنع نفسي من النّوم طيلة النّهار. ولكنّني تحمّلت الإرهاق بفضل ما غمرني من الإيمان وقوّة العزيمة. ومن الغروب، تعشّيت ونمت كجلمود صخر، فما كان ليقدر على إيقاظي حتّى طبّال الباشا. إلاّ أنّني قضّيت ليلتي كلّها أسير كوابيس لا أذكر من أحداثها المرعبة سوى أنّها كانت تدور في ظروف فيضانات تغمر الحيّ كلّه وحرائق تشبّ في الطّوابق السّفلى من العمارة، فتقوم حائلا دوني وتبيّن الطّريق الصّحيح، وتمنعني من الوصول إلى المكان المعلوم في الموعد المضبوط. و كانت في جملتها تبدو عقابا لي على تفويتي موعد بدء الانتظار. ما ترك المجال لملاعين لا قبل لي على مقاومتهم، حتّى يحتلّوا موضعي.
كنت أغالب نفسي لأدرك الصّحو فأخرج من أسر هذه الكوابيس. وإذا منبّه السّاعة يرنّ في الوقت الذي حدّدته تماما. عاجلته بضربة خفيفة على القرص الكاتم حتى لا تستيقظ زوجتي معي. وهرعت إلى بيت الحمّام أصلح من شأني. ثمّ لبست على عجل كسوتي الجديدة بربطة عنقها الفاخرة. ونظرت إلى هيأتي في المرآة. فإذا أمامي صورة طبق الأصل فعلا من مواطن صالح للانتظار.
حملت زادي بكلّ فخر ونزلت الدّرج محاذرا من إزعاج الجيران. ثمّ انطلقت بأقصى السّرعة إلى ساحة الشهداء، فوصلت قبل طلوع الفجر. ولقد شاءت الأقدار أن تكرمني، فوجدت الموضع الذي اخترته شاغرا. وجلست واضعا أمامي قفّتي بما حوت من قوارير الماء المثلّج وبعض الغلال وعلب الياغورت وقطع الخبز التي حشوت بعضها بالزّبدة ومعجون السّفرجل وبعضها الآخر بالسّلاطة المشويّة والبيض أو بقطع من الجبنة البسيطة. ولكن، رغم كلّ استعداداتي، ورغم كل ما اتخذته من الاحتياطات، ورغم أنّ أحدا من أعضاء قائمة الانتظار لم يظهر في ذلك المكان، فإنّ انتظاري لم يكن مريحا بالمرّة.
*****
لا شكّ أنّ غياب الآخرين كان مريبا. ولكنّني كنت فرحانا، لأنّ غيابهم كان يعني أنّ الفرص التي كانت أمامي أكبر وأنّ حظوظي كانت أوفر من حظوظ أيّ أحد غيري. مشكلة واحدة ظلّت تزعج راحتي حتّى النّهاية، وهي أنّني نسيت أن آخذ معي مظلّة تقيني من هذه الشّمس الحامية. تفطّنت إلى الأمر من قبل شروق الشمس. ولكن، حين سمعت بعض المارّة يتنبّؤون بيوم من أسخن أيّام هذا الصّيف، أيقنت أنّ حاجتي إلى المظلّة أوكد من حاجتي إلى الهواء لأتنفّس. ومع هذا فلم أسمح لنفسي بالعودة إلى الحيّ لجلب مظلّتي خوف أن أرجع إلى السّاحة فأجد مكاني فيها قد احتلّه الآخرون، تماما كما حذّرني من ذلك كابوسي.
ولكنّني ما لبثت أن تفطّنت إلى أنّ نسيان المظلّة لم يكن أكثر العوامل المحبطة تأثيرا على استعدادي النّفسيّ للانتظار. فمع طلوع النّهار واشتداد الحرارة، لاحظت أنّ السّأم بدأ يتسلّل إلى نفسي ويكاد يدفعني إلى ترك السّاحة نهائيّا والتّخلّي عن مكاني في القائمة. ذلك ألاّ شيء كان يحدث من حولي فيشدّ انتباهي أو يغذّي أملي في ظهور شيء جديد جدير باهتمامي. كانت السّاحة تبدو وكأنّها بحيرة راكدة، بل كأنّها مثلي تنتظر أن يحدث شيء، فلا يحدث. بل إنّني تصوّرت للحظة أنّها لو لم تكن هي المكان، أي لو كان بإمكانها الانسحاب من موقعها، لكانت تركت الشّهداء يجابهون مصيرهم كما يستطيعون وانسحبت فارّة بجلدها، أو لو أنّها كانت تملك عينين لأغلقتهما واستسلمت للنّوم واستراحت من تلك الرّتابة الخانقة. بل إنّ النّاس العابرين أنفسهم، كانوا يبدون لي في حاجة إلى أيّ حدث يقيهم من الاستسلام للنّوم على قارعة الطّريق.
ولكن كلّ ذلك ما كان إلاّ أضغاثا يبثّها الوسواس الخنّاس في خيالي لدفعي إلى الاستسلام. ومن حسن حظّي أنّني تفطّنت إلى هذه المناورات بسرعة وعرفت كيف أتسلّح بالصّبر والمثابرة. فأقسمت على أن لا أنسحب من اللعبة قبل انتهائها ولو كان الثّمن حياتي. ثمّ أُلهمت التّلهّي بالنّظر إلى العابرين فردا، فردا. فأخذت أركّز نظري على أيّ واحد منهم، ثمّ أتخيّل ما يمكن أن يعانيه من مصائب تفوق مصائبي ومن سأم يفوق سأمي.
كانت اللعبة مسلّية للغاية. ولكن، مع تقدّم النّهار، بدأت أشعر بالجوع والعطش. فتذكّرت ما أحضرته من زاد وحاولت أكل بعض القضمات من ساندويتش السّلاطة المشويّة، ولكنّ طعمه بدا لي عطنا. كما اكتشفت أنّ كلّ القوارير التي أحضرتها من الثّلاجة قد صارت على وشك الغليان من شدّة الحرارة. فعدلت عن الأكل والشّرب. وعدت، رغم جوعي وعطشي، إلى التّسلّي بتخيّل مصائب النّاس وخاصّة منهم أولائك اللذين جاؤوا ينتظرون دون أن يكونوا مسجّلين على القائمة أو يأخذوا معهم أيّ زاد.
*****
أعترف للحقيقة، بأنّني لم ألاحظ أنّ أحدا اقترب منّي أو حاول مزاحمتي على المكان بأيّ شكل من الأشكال. ولكن لم أدر متى بدأت أشعر برأسي يثقل ثمّ يغلي كالمرجل ولا كيف تسلّل إليّ النّعاس من حيث لم أشعر. حاولت مغالبته في البداية ولكن، في النّهاية، أعوزتني القوّة على مزيد الصّمود. فأغمضت عينيّ معلّلا نفسي بأنّني سأستيقظ بمجرّد أن ينادى على اسمي. وفعلا، حين سمعت صوتا يناديني باسمي، فتحت عينًا واحدة. ولكنّني رأيت وجها ينبثق من خلال الضباب ملثّما بقماش أخضر. كان الوجه يظهر بين إصبعين في قفّاز أبيض يحاولان فتح جفنيّ. لذلك اعتقدت أنّ الكابوس عاد لي فأبحرت في النّوم حالاّ.
لم أفهم أنّني كنت في غرفة العناية الطّبّية المركّزة بالمستشفى إلاّ بعد أن مرّ من الزّمن ما لا أعرف له حصرا. قيل لي إنّني نجوت من موت محقّق، وإنّ دوريّة أمنيّة وجدتني صريعا في قلب ساحة الشّهداء والشمس في كبد السّماء. ولم تكد تمرّ ساعة على خروجي من حال الإغماء حتّى حلّ رجال الشرطة وفتحوا المحضر وأنا ما أزال في غرفة الإنعاش. قالوا لي إنّهم يعتذرون عن الإرهاق الذي قد يسبّبه لي أخذُهم أقوالي. ولكنّ الوقت كان يمرّ ومهمّتهم كانت عاجلة وتصريحاتي كانت ضروريّة ومهمّة جدّا لتمكينهم من القبض على المجرم الذي قد يكون حاول اغتيالي.
*****
لكم قلت لهم إنّ أحدا لم يحاول قتلي وإنّني لم أر أيّ مجرم ولا أشكّ في أن يكون أحد سعى إلى تصفيتي جسديّا كما كانوا يتوهّمون. طرحوا السّؤال نفسه مائة مرّة، ومائة مرّة أجبتهم بأن لا أعداء لي إطلاقا، ولا أحد اختطف منّي مظلّتي، ولا جلست في ذلك المكان بإيعاز من أحد.
لماذا لا يصدّقون أنّ كلّ القضيّة تتلخّص في أنّني كنت مسجّلا على قائمة الانتظار ؟ أقسمت لهم على أنّني ما كنت هناك إلاّ للانتظار ولا شيء غير الانتظار. ولكنّهم لم يقتنعوا. وحين رأوا أنّني مصرّ على أقوالي، تغيّرت طبيعة أسئلتهم. وكفّوا عن اعتباري ضحيّة. فقد بدأ الشّكّ يتسرّب إليهم في مدى محبّتي لذاتي. وأحسست من أسئلتهم أنّهم يتّهمونني ضمنيّا بالتّآمر على نفسي. ثمّ إذا هم يتشاورون فيما بينهم وينسحبون لترك الأطبّاء يقومون بمهمّة التحقيق عوضا عنهم.
أقسم لي كبير الأطّبّاء ألاّ علاقة له بأيّ تحقيق. وقال إنّه يريد الاستماع إليّ فقط من أجل الوقوف على مدى حاجتي إلى المتابعة النّفسيّة. فحدّثته بكلّ صراحة وأعدت عليه الحقيقة كاملة. وهي أنّني لم أقصد تعريض نفسي إلى ضربة شمس وأنّني، ببساطة، نسيت مظلّتي، وأنّني لم أكن في تلك الساحة لأحتجّ على أيّ شيء، وألاّ شيء كان يدعوني أنا بالذّات إلى أيّ احتجاج. فكلّ شيء في حياتي كان على ما يرام، ولا شيء في الحيّ كان ينغّص عيشي. بل إنّني كنت في صلب عائلتي أشعر بتمام السّعادة، وحتّى خلافاتي مع زوجتي كانت من البساطة بحيث لا يمكن أن تمثّل أيّ ضغط على نفسيّتي.
ولكن، عبثا كنت أتوسّل وأحاول الإقناع. فلقد كان مخاطبي مصرّا على أنّ ما اقترفته اسمه "محاولة تستّر على مجرم حاول اغتيالي"، أو "محاولة انتحار بضربة شمس"، وهذا أخطر. لأنّ مثل هذه المحاولة لا بدّ أن تكون وراءها حسابات أعقد من أن يستطيع اكتشافها بمفرده. ولذلك فقد قرّر أن يحوّل ملفّي إلى طبيب الأعصاب، من أجل حمايتي من نفسي، على حدّ قوله.
حين سمعته يصدر قراره هذا، فهمت أنّ كلّ ما كان يدور حولي لم يكن أكثر من فصل أخير في مسرحيّة، وأنّ العرض قد بدأ منذ كنت جالسا أنتظر في ساحة الشّهداء، حين استطاع تنويمي من حيث لم أتفطّن، عابر أرسلوه لي خصّيصا. وهذا ما جعلني أتفطّن وأنا أمتطي عربة الإسعاف التي جاءت تأخذني إلى مستشفى الأمراض العقلية، إلى أنّ الذين كانوا يزدحمون حول السّيّارة كانوا جميعا من المنافسين. ولذلك قلت لهم دون مواربة:
- قد أكون فعلا في حاجة إلى المتابعة النّفسيّة. ولكن تأكّدوا من شيء واحد. وهو أنّ استعدادي للانتظار لن يفتر أبدا. فسيّان عندي أن أنتظر في قلب ساحة الشّهداء أو في غرفة مظلمة بمستشفى الرّازي. ولأنّ المهمّ عندي أن يتواصل إيماني كما كان، فكلّ أنواع المناورات الهادفة إلى جرّي إلى الانسحاب من قائمة الانتظار، سيكون مآلها الفشل.
الهكواتي - منّوبة
-------------
* من تجربة "سنتي على جناح السرد" 2008-2009
صدرت سنة 2012 عن دار الجسر الصغير-تونس- من مجموع "عنقود حكايا"
رغم الإرهاق الذي أصابني مع مطلع الفجر، تركت شقّتي باكرا لأعدّ العدّة. فالمسألة ليست بسيطة. وقد كان لا بدّ أن أثبت أنّني في مستوى الحدث وأن أكون جاهزا من كلّ النّواحي. كان النّور الخجول المتسلّل إلى أنهج الحيّ ومداخل العمارات، يصبغها بلون الشّرف الذي نالها في ذلك اليوم، بتسجيل اسم أحد مواطنيها في قائمة الانتظار.
جلست في مقهى المنعطف في انتظار أن تفتح المتاجر أبوابها. فجاءني النّادل يستملي طلباتي. فقلت له إنّني، من فرط سعادتي، أشعر وكأنّ حلقي مسدودا. إلاّ أنّني طلبت منه أن يجمع حساب كلّ طاولة لم يدفع الجالسون حولها بعد ثمن ما استهلكوه. فأخذ يحسب وهو لا يخفي استغرابه من طلبي متسائلا إن كان عندي باكالوريا أو نوفيام. شرحت له أنّ الشّأن أهمّ بكثير. ولكنّ كلّ ما عندي من معلومات إلى حدّ الآن، هو ما أعلمني به الشّاوش منصور من تسجيل اسمي في قائمة الانتظار الرّسمية. أمّا ما تبقّى فبيد الله طبعا، هو الذي يقدّر ما يريد. انشرحت أسارير النّادل وأكّد لي أنّه يسمع عن الشّاوش منصور كلّ خير، ويعرف أنّ كلّ ما يقوله صحيح مائة بالمائة، خاصّة في ما يخصّ قائمة الانتظار.
لذلك ناولته كامل الحساب مع ثمن قهوة زائدة، كرامة له. وما لبث أن شاع الخبر في المقهى فجاء كلّ الجالسين يهنّئونني وكأنّهم من خلّص أصدقائي، في حين لم يكن يعرفني منهم أحد. بل إنّ شيخا ذا وقار اقترب منّي وشدّ على يديّ ليبثّ في نفسي مزيدا من الثّقة، مؤكّدا أنّني ما دمت قد سبّقت الخير، فإنّ الحاجة مقضيّة بإذن الله.
*****
كنت أوّل حريف يدخل مكتب بريد الحيّ في ذلك الصّباح. سحبت كلّ رصيدي من دفتر الادّخار. وقصدت أوّل متجر لبيع الملابس الرّجالية. فاشتريت لي كسوة جديدة بقميص أبيض وربطة عنق فاخرة. ثمّ اتجهت إلى السّوق المركزيّة فملأت من الخضر والغلال سلّتين كبيرتين. ولأنّ السّمك مبارك في مثل هذه المناسبات، فلقد عرّجت على سوق السّمك فاخترت من أثمن الأنواع كمّيّة تكفي لإشباع كلّ العائلة، وحتّى من قد يأتي للزّيارة، وإن لم يكن من سكّان الحيّ من يتردّد على شقّتنا في الطّابق الأخير، ولا من الأقارب من يجد الشّجاعة على امتطاء وسائل النّقل الجماعي والمجيء لزيارتنا في هذا الحيّ البعيد.
شعرت وأنا في طريق العودة إلى البيت، بقوّة بداخلي تدفعني دفعا إلى العمل في الحال على اختيار المكان الأنسب. وهكذا وجدتني أنقاد تلقائيّا إلى ساحة الشّهداء، وأعاين دون لفت انتباه أحد، موضعا مركزيّا يمكنني فيه الانتظار بأقلّ ما يمكن من التّعب وأكثر ما يمكن من الحظوظ. ولكنّني قدّرت أنّني إذا كنت أريد الحصول على ذلك الموضع بالذّات، فلا مناص لي من أن أستيقظ باكرا في الغد، ومن أن أحضر قبل أن يحتلّ المكان أحد غيري فيعسّر عليّ مهمّتي.
لم يكن من السّهل عليّ أن أمنع نفسي من النّوم طيلة النّهار. ولكنّني تحمّلت الإرهاق بفضل ما غمرني من الإيمان وقوّة العزيمة. ومن الغروب، تعشّيت ونمت كجلمود صخر، فما كان ليقدر على إيقاظي حتّى طبّال الباشا. إلاّ أنّني قضّيت ليلتي كلّها أسير كوابيس لا أذكر من أحداثها المرعبة سوى أنّها كانت تدور في ظروف فيضانات تغمر الحيّ كلّه وحرائق تشبّ في الطّوابق السّفلى من العمارة، فتقوم حائلا دوني وتبيّن الطّريق الصّحيح، وتمنعني من الوصول إلى المكان المعلوم في الموعد المضبوط. و كانت في جملتها تبدو عقابا لي على تفويتي موعد بدء الانتظار. ما ترك المجال لملاعين لا قبل لي على مقاومتهم، حتّى يحتلّوا موضعي.
كنت أغالب نفسي لأدرك الصّحو فأخرج من أسر هذه الكوابيس. وإذا منبّه السّاعة يرنّ في الوقت الذي حدّدته تماما. عاجلته بضربة خفيفة على القرص الكاتم حتى لا تستيقظ زوجتي معي. وهرعت إلى بيت الحمّام أصلح من شأني. ثمّ لبست على عجل كسوتي الجديدة بربطة عنقها الفاخرة. ونظرت إلى هيأتي في المرآة. فإذا أمامي صورة طبق الأصل فعلا من مواطن صالح للانتظار.
حملت زادي بكلّ فخر ونزلت الدّرج محاذرا من إزعاج الجيران. ثمّ انطلقت بأقصى السّرعة إلى ساحة الشهداء، فوصلت قبل طلوع الفجر. ولقد شاءت الأقدار أن تكرمني، فوجدت الموضع الذي اخترته شاغرا. وجلست واضعا أمامي قفّتي بما حوت من قوارير الماء المثلّج وبعض الغلال وعلب الياغورت وقطع الخبز التي حشوت بعضها بالزّبدة ومعجون السّفرجل وبعضها الآخر بالسّلاطة المشويّة والبيض أو بقطع من الجبنة البسيطة. ولكن، رغم كلّ استعداداتي، ورغم كل ما اتخذته من الاحتياطات، ورغم أنّ أحدا من أعضاء قائمة الانتظار لم يظهر في ذلك المكان، فإنّ انتظاري لم يكن مريحا بالمرّة.
*****
لا شكّ أنّ غياب الآخرين كان مريبا. ولكنّني كنت فرحانا، لأنّ غيابهم كان يعني أنّ الفرص التي كانت أمامي أكبر وأنّ حظوظي كانت أوفر من حظوظ أيّ أحد غيري. مشكلة واحدة ظلّت تزعج راحتي حتّى النّهاية، وهي أنّني نسيت أن آخذ معي مظلّة تقيني من هذه الشّمس الحامية. تفطّنت إلى الأمر من قبل شروق الشمس. ولكن، حين سمعت بعض المارّة يتنبّؤون بيوم من أسخن أيّام هذا الصّيف، أيقنت أنّ حاجتي إلى المظلّة أوكد من حاجتي إلى الهواء لأتنفّس. ومع هذا فلم أسمح لنفسي بالعودة إلى الحيّ لجلب مظلّتي خوف أن أرجع إلى السّاحة فأجد مكاني فيها قد احتلّه الآخرون، تماما كما حذّرني من ذلك كابوسي.
ولكنّني ما لبثت أن تفطّنت إلى أنّ نسيان المظلّة لم يكن أكثر العوامل المحبطة تأثيرا على استعدادي النّفسيّ للانتظار. فمع طلوع النّهار واشتداد الحرارة، لاحظت أنّ السّأم بدأ يتسلّل إلى نفسي ويكاد يدفعني إلى ترك السّاحة نهائيّا والتّخلّي عن مكاني في القائمة. ذلك ألاّ شيء كان يحدث من حولي فيشدّ انتباهي أو يغذّي أملي في ظهور شيء جديد جدير باهتمامي. كانت السّاحة تبدو وكأنّها بحيرة راكدة، بل كأنّها مثلي تنتظر أن يحدث شيء، فلا يحدث. بل إنّني تصوّرت للحظة أنّها لو لم تكن هي المكان، أي لو كان بإمكانها الانسحاب من موقعها، لكانت تركت الشّهداء يجابهون مصيرهم كما يستطيعون وانسحبت فارّة بجلدها، أو لو أنّها كانت تملك عينين لأغلقتهما واستسلمت للنّوم واستراحت من تلك الرّتابة الخانقة. بل إنّ النّاس العابرين أنفسهم، كانوا يبدون لي في حاجة إلى أيّ حدث يقيهم من الاستسلام للنّوم على قارعة الطّريق.
ولكن كلّ ذلك ما كان إلاّ أضغاثا يبثّها الوسواس الخنّاس في خيالي لدفعي إلى الاستسلام. ومن حسن حظّي أنّني تفطّنت إلى هذه المناورات بسرعة وعرفت كيف أتسلّح بالصّبر والمثابرة. فأقسمت على أن لا أنسحب من اللعبة قبل انتهائها ولو كان الثّمن حياتي. ثمّ أُلهمت التّلهّي بالنّظر إلى العابرين فردا، فردا. فأخذت أركّز نظري على أيّ واحد منهم، ثمّ أتخيّل ما يمكن أن يعانيه من مصائب تفوق مصائبي ومن سأم يفوق سأمي.
كانت اللعبة مسلّية للغاية. ولكن، مع تقدّم النّهار، بدأت أشعر بالجوع والعطش. فتذكّرت ما أحضرته من زاد وحاولت أكل بعض القضمات من ساندويتش السّلاطة المشويّة، ولكنّ طعمه بدا لي عطنا. كما اكتشفت أنّ كلّ القوارير التي أحضرتها من الثّلاجة قد صارت على وشك الغليان من شدّة الحرارة. فعدلت عن الأكل والشّرب. وعدت، رغم جوعي وعطشي، إلى التّسلّي بتخيّل مصائب النّاس وخاصّة منهم أولائك اللذين جاؤوا ينتظرون دون أن يكونوا مسجّلين على القائمة أو يأخذوا معهم أيّ زاد.
*****
أعترف للحقيقة، بأنّني لم ألاحظ أنّ أحدا اقترب منّي أو حاول مزاحمتي على المكان بأيّ شكل من الأشكال. ولكن لم أدر متى بدأت أشعر برأسي يثقل ثمّ يغلي كالمرجل ولا كيف تسلّل إليّ النّعاس من حيث لم أشعر. حاولت مغالبته في البداية ولكن، في النّهاية، أعوزتني القوّة على مزيد الصّمود. فأغمضت عينيّ معلّلا نفسي بأنّني سأستيقظ بمجرّد أن ينادى على اسمي. وفعلا، حين سمعت صوتا يناديني باسمي، فتحت عينًا واحدة. ولكنّني رأيت وجها ينبثق من خلال الضباب ملثّما بقماش أخضر. كان الوجه يظهر بين إصبعين في قفّاز أبيض يحاولان فتح جفنيّ. لذلك اعتقدت أنّ الكابوس عاد لي فأبحرت في النّوم حالاّ.
لم أفهم أنّني كنت في غرفة العناية الطّبّية المركّزة بالمستشفى إلاّ بعد أن مرّ من الزّمن ما لا أعرف له حصرا. قيل لي إنّني نجوت من موت محقّق، وإنّ دوريّة أمنيّة وجدتني صريعا في قلب ساحة الشّهداء والشمس في كبد السّماء. ولم تكد تمرّ ساعة على خروجي من حال الإغماء حتّى حلّ رجال الشرطة وفتحوا المحضر وأنا ما أزال في غرفة الإنعاش. قالوا لي إنّهم يعتذرون عن الإرهاق الذي قد يسبّبه لي أخذُهم أقوالي. ولكنّ الوقت كان يمرّ ومهمّتهم كانت عاجلة وتصريحاتي كانت ضروريّة ومهمّة جدّا لتمكينهم من القبض على المجرم الذي قد يكون حاول اغتيالي.
*****
لكم قلت لهم إنّ أحدا لم يحاول قتلي وإنّني لم أر أيّ مجرم ولا أشكّ في أن يكون أحد سعى إلى تصفيتي جسديّا كما كانوا يتوهّمون. طرحوا السّؤال نفسه مائة مرّة، ومائة مرّة أجبتهم بأن لا أعداء لي إطلاقا، ولا أحد اختطف منّي مظلّتي، ولا جلست في ذلك المكان بإيعاز من أحد.
لماذا لا يصدّقون أنّ كلّ القضيّة تتلخّص في أنّني كنت مسجّلا على قائمة الانتظار ؟ أقسمت لهم على أنّني ما كنت هناك إلاّ للانتظار ولا شيء غير الانتظار. ولكنّهم لم يقتنعوا. وحين رأوا أنّني مصرّ على أقوالي، تغيّرت طبيعة أسئلتهم. وكفّوا عن اعتباري ضحيّة. فقد بدأ الشّكّ يتسرّب إليهم في مدى محبّتي لذاتي. وأحسست من أسئلتهم أنّهم يتّهمونني ضمنيّا بالتّآمر على نفسي. ثمّ إذا هم يتشاورون فيما بينهم وينسحبون لترك الأطبّاء يقومون بمهمّة التحقيق عوضا عنهم.
أقسم لي كبير الأطّبّاء ألاّ علاقة له بأيّ تحقيق. وقال إنّه يريد الاستماع إليّ فقط من أجل الوقوف على مدى حاجتي إلى المتابعة النّفسيّة. فحدّثته بكلّ صراحة وأعدت عليه الحقيقة كاملة. وهي أنّني لم أقصد تعريض نفسي إلى ضربة شمس وأنّني، ببساطة، نسيت مظلّتي، وأنّني لم أكن في تلك الساحة لأحتجّ على أيّ شيء، وألاّ شيء كان يدعوني أنا بالذّات إلى أيّ احتجاج. فكلّ شيء في حياتي كان على ما يرام، ولا شيء في الحيّ كان ينغّص عيشي. بل إنّني كنت في صلب عائلتي أشعر بتمام السّعادة، وحتّى خلافاتي مع زوجتي كانت من البساطة بحيث لا يمكن أن تمثّل أيّ ضغط على نفسيّتي.
ولكن، عبثا كنت أتوسّل وأحاول الإقناع. فلقد كان مخاطبي مصرّا على أنّ ما اقترفته اسمه "محاولة تستّر على مجرم حاول اغتيالي"، أو "محاولة انتحار بضربة شمس"، وهذا أخطر. لأنّ مثل هذه المحاولة لا بدّ أن تكون وراءها حسابات أعقد من أن يستطيع اكتشافها بمفرده. ولذلك فقد قرّر أن يحوّل ملفّي إلى طبيب الأعصاب، من أجل حمايتي من نفسي، على حدّ قوله.
حين سمعته يصدر قراره هذا، فهمت أنّ كلّ ما كان يدور حولي لم يكن أكثر من فصل أخير في مسرحيّة، وأنّ العرض قد بدأ منذ كنت جالسا أنتظر في ساحة الشّهداء، حين استطاع تنويمي من حيث لم أتفطّن، عابر أرسلوه لي خصّيصا. وهذا ما جعلني أتفطّن وأنا أمتطي عربة الإسعاف التي جاءت تأخذني إلى مستشفى الأمراض العقلية، إلى أنّ الذين كانوا يزدحمون حول السّيّارة كانوا جميعا من المنافسين. ولذلك قلت لهم دون مواربة:
- قد أكون فعلا في حاجة إلى المتابعة النّفسيّة. ولكن تأكّدوا من شيء واحد. وهو أنّ استعدادي للانتظار لن يفتر أبدا. فسيّان عندي أن أنتظر في قلب ساحة الشّهداء أو في غرفة مظلمة بمستشفى الرّازي. ولأنّ المهمّ عندي أن يتواصل إيماني كما كان، فكلّ أنواع المناورات الهادفة إلى جرّي إلى الانسحاب من قائمة الانتظار، سيكون مآلها الفشل.
الهكواتي - منّوبة
-------------
* من تجربة "سنتي على جناح السرد" 2008-2009
صدرت سنة 2012 عن دار الجسر الصغير-تونس- من مجموع "عنقود حكايا"