جان ألكسان - أهلاً معالي الوزير...

ضجّت القرية بالنبأ الذي انتشر بين بيوتها انتشار النار في الهشيم، علمتْ به فطوّش الصباغة من أم خليل، وسرعان ما نقله زوجها إلى ربعة المختار، وخلال ساعات كان كل من في القرية يعرف أنّ (خليل بك) سيزور القرية.. وهذه هي الزيارة الأولى له منذ أن أصبح وزيراً قبل سنوات.. وكلمة (بك) هي اللقب الجديد لخليل الذي كان يعرف في القرية منذ طفولته باسم (ابن الأرملة)..

قضى أبوه تحت الردم عندما كان يحفر بئراً في حوش الدار حيث انهار عليه جدار البئر. وكان خليل لا يزال جنيناً في أحشاء أمه، وشب في رعاية أمه الأرملة التي رفضت الزواج بعد المرحوم زوجها لتتفرغ لتربية ولدها، فعُرف خليل بين لداته باسم (خليل ابن الأرملة)، وكم كان يحز في نفسه، عندما بلغ سن اليفاع وهو يرى أهل القرية يتناسون اسم المرحوم والده الحاج رشيد المناور، ولكن نزوحه المبكر إلى المدينة.. إلى بيت خاله التاجر الكبير الذي يسكن فيها، أنهى هذه المتاعب، وأصبح يعرف في المدينة باسم خليل الحاج رشيد، ولعلَّ القهر الذي حمله من القرية إلى المدينة هو الذي جعله يتفوق في الدراسة، وفي العمل، وفي النضال السياسي حتى وصل إلى مرتبة نائب في البرلمان، ثم إلى مرتبة وزير بدعم من خاله الذي زوّجه ابنته، ودعم حملته الانتخابية بأمواله الطائلة. وأوصله إلى مرتبة وزير بما يمتلك من علاقات على أعلى المستويات.

ومنذ أن أصبح خليل وزيراً، وأمّه، أم خليل (الأرملة سابقاً) محط اهتمام واحترام أهل القرية.. الجميع يزورونها، ويسألون عن ابنها الوزير، ويلتمسون منها وساطات مختلفة لديه حول مختلف قضاياهم المعلقة في المدينة، في الجامعة والمحاكم ودوائر وزارة الزراعة، ومصارف التسليف والزراعة والعقارات، وكانت تعدهم خيراً، وترسلهم إلى ابنها الذي نادراً ماكان يستقبلهم، وكان هناك لديه دائماً من يعتذر لهم بأن معالي الوزير مشغول بالاجتماعات والمهمات، ويأخذ منهم طلباتهم المدونة على الورق، ويعدهم خيراً، ولكن دون أن يروا بوادر هذا الخير.

وتشعر أم خليل بنوع من الإحراج، وهي ترى ابنها يتنكر لأهل قريته، ولا يقدم لهم أية خدمات، وعندما زارته مرة في المدينة كادت أن تضيع بين غرف بيته، وفي حالة الغربة التي أحست بها حتى مع زوجته وولديه، وعندما عرض عليها ابنها أن تسكن عنده في المدينة، اعتذرت بلباقة وقالت له: أنها لا تستطيع أن تعيش خارج بيتها في القرية، ففيه جميع ذكريات حياتها السالفة، وفيه رائحة المرحوم والده، كما أنها لا تريد أن تفرط بالحقل الذي ورثته عن المرحوم ويدر عليها مايساعدها على العيش، فقط، طلبت إليه ألا ينسى قريته، وأهل قريته، وأن يمد لهم يد المساعدة، فهم فقراء، كادحون، ويعانون من الإجحاف والإهمال، فرد عليها رداً حاسماً: "أرجوك يا أمي.. لا تتدخلي في أمور عملي ولا ترسلي لي هؤلاء الناس فأنا لا أنسى أنني كنت بالنسبة إليهم مجرد (خليل.. ابن الأرملة)..

ـ (هذه المرّة سيكون الأمر مختلفاً)..

هكذا حدثت أم خليل نفسها وتابعت: صحيح أن الزيارة خاصة ـ وليست رسمية ولكنه سيفاجأ بالاستقبال الحافل الذي تعده له القرية.. فمنذ أن علموا بقدومه أقاموا في أول القرية قوساً من أغصان الأشجار مزيناً بالأعلام يكون أول ما يستقبل سيارته.. كما أوصى المختار جميع أهل القرية بأن يزينوا بوابات دورهم وجدرانهم بالسجاد والبسط.. كما قرر الحاج رديف وجيه القرية المعروف أن يذبح أمامه الخراف، وسيقام حفل في السرادق الذي نصبه المختار يلقي فيه معلم المدرسة خطاباً ترحيبياً، ويقدم شبان وصبايا القرية الدبكات والأغاني، كما سيكون هناك اجتماع مع معالي الوزير في ربعة المختار، يخصص لبحث أمور القرية ومطالبها، صحيح أنه ليس وزيراً للكهرباء، ولكنه يستطيع التوسط لدى زميله وزير الكهرباء لتوسيع شبكة الإنارة في القرية، وكذلك الأمر بالنسبة لبقية المطالب: تزفيت الطريق الفرعي الذي يصل القرية بالطريق العام، وبناء صفين جديدين في مدرسة القرية، وتمديد شبكة لمياه الشرب، بدل نقل الماء على العربات والدواب من النهر ومطالب أخرى كثيرة معلقة منذ سنين طويلة سيتم بحثها في الاجتماع ولاشك أن ابنها سيتأثر بهذا الاستقبال الحافل، وينسى موضوع (ابن الأرملة) ويلبي أكثر طلبات أهل القرية إن لم يكن كلها.

وكانت أم خليل قد قضت أسبوعاً كاملاً، تعاونها بعض الجارات في تجهيز الغرفة التي سينام فيها ابنها الوزير مع زوجته، والغرفة الثانية التي ستنام فيها هي مع ولديه، بل إنها لن تنام في تلك الليلة الموعودة، ستسهر مع الطفلين وهي تروي لهما الحكايات كما تفعل جميع الجدات مع أحفادهن، ستروي لهما قصصاً لا يعرفونها عن الريف، ستحدثهما عن جدهما (القبضاي) الذي كان يحمل سكة الفدان بيد واحدة وستحدثهما عن بقرة أم عليوي التي تحلب كل يوم عدة سطول من الحليب، وستحدثهما عن حمدان الشجاع الذي أنقذ القرية من الضبع الذي كان يهدد القادمين إليها في الليل، فذهب إلى المغارة التي يجثم فيها الضبع، وقتله بالفأس وعاد به إلى القرية يجره من ذيله.. وستحدثهما عن نايفة، الشابة النشيطة التي تحصد وحدها من سنابل القمح مايعجز عن حصاده ثلاثة رجال، وقصص أخرى كثيرة ومثيرة لاشك أن حفيديها لم يسمعا بمثلها وهما اللذان يعيشان في المدينة ولا يعرفان من الدنيا إلا مايبثه التلفزيون.

ستحرص أم خليل على أن ينام ابنها وزوجته بحالة مريحة، صحيح أنها لاتملك أسرة فاخرة كتلك التي في بيته بالعاصمة، ولكنهما سينامان على فراش وثير من جز الصوف، أكثر راحة، من فراش الاسفنج الذي ينامان عليه في بيتهما، ومن أجل هذا فرطت صوف الفرشات واشترت عدة جزات من صوف الغنم النظيف المغسول. وأضافتها إلى ماعندها، وجهزت (فرشة ملوكية)، بالتعاون مع الجارات، كما استبدلت ستائر البيت بستائر جديدة، وحرصت على أن تملأ خزان الماء، وأن تستحضر زجاجات مختومة ومعبأة بمياه الشرب بالنظيفة، كما قررت أن تذبح الديك الرومي الوحيد لديها لتطبخ عليه فريكة، وحرصت على أن يكون هناك أنواع أخرى من الطعام، كاللحم المشوي، وغيره.. فقد تكون كنّتها لا تحب لحم الديك الرومي أو لا تحب الفريكة.

ولم تنسَ أن تستدعي (نوف الوقّاع) داية القرية التي قامت بتوليد خليل لتؤمن لها مقابلة مع ابنها الوزير وتوصيه بأن يسعى لها لأن تدخل مشفى العيون في العاصمة لتجرى لها عملية نزع الماء الأزرق من عينيها، فهي لم تعد تبصر إلا بصعوبة، وسوف يلبي الطلب لأن نوف الوقاع دايته.. والداية مثل الأم…

وجاء اليوم الموعود..

ومنذ الصباح الباكر خرجت القرية عن بكرة أبيها لاستقبال ابنها البار، خليل بك بن المرحوم الحاج خليل المناور الذي أصبح وزيراً في وزارتين متتاليتين..

ومرت ثلاث ساعات والمستقبلون يقفون تحت الشمس الحارقة على امتداد الطريق الذي يصل مدخل القرية بالساحة العامة، قبل أن تطل سيارة معالي الوزير..

وكانت المفاجأة الأولى أنه كان يجلس فيها وحيداً وراء السائق، حتى سيارة المرافقة التي تضم عدداً من عناصر الحراسة والتي ترافق الوزراء عادة في حلهم وترحالهم، لم يكن لها وجود… علّل البعض هذا بأن الزيارة خاصة وليست رسمية، وأن الوزير سيقضي يوماً أو يومين في زيارة والدته، ولهذا لم يرغب أن يثقل على أهل القرية بالمرافقين، ولا أن يعطي زيارته الطابع الرسمي..

وعند القوس الأخضر، ترجل من السيارة بتواضع جمّ، وقرأ اللافتات المرفوعة مبتسماً، وصافح مستقبليه من أعيان القرية وأهلها حيث نحرت الخراف تحت قدميه، ولم ينس الحاج رديف أن يوحي إليه بشكل أو بآخر أنه هو الذي دفع ثمن هذه الخراف (لاشيء من قيمتكم معالي الوزير)… ودعاه المختار إلى المضافة فوعده بأنه سيجتمع في المضافة برجال القرية بعد الظهر، أما الآن فهو يريد أن يزور العجوز (يقصد أم خليل) فأكبر فيه الجميع هذا الشعور الطيب تجاه أمه.

وفي دار المرحوم أبيه حاول أن يعتذر لأمه عن عدم إحضاره زوجته وطفليه.. "زوجتي عندها حفل استقبال لزوجات السفراء.. والطفلان لديهما مذاكرات.. في المرة القادمة إن شاء الله، سوف أحضرهم معي.. بسيطة يا أمي… (الجايات أكثر من الرايحات)..

قبلت الأم اعتذاره، فهو وزير وله مهام وعليه مسؤوليات، وزوجته ، زوجة وزير، وعليها استقبال زوجات السفراء.. لابأس.. في الزيارة القادمة ستستبقيهم عدة أيام..

وعندما أحاط به الجيران في البيت رجتهم أم خليل أن يدعوه يرتاح، ولكنه قال لها: "لا يا أمي.. دعيهم يدخلون، هؤلاء أهلي وجيراني"..

لم تصدق أم خليل ماتسمع.. أهذا هو ابنها الذي لم يلبّ من مطالب أهل القرية الذين زاروه في المدينة شيئاً يذكر؟ لعل أعوانه هم الذين كانوا يحولون بينه وبين أهل القرية الذين يزورونه..

وعندما قدمت الداية نوف الوقاع، هم بتقبيل يدها، فسحبتها مذعورة وهي تقول: أعوذ بالله يا معالي الوزير

فرد عليها: أنا الآن لست معالي الوزير يا خالتي نوف… أنا ابنك خليل…

-الله يرضى عليك يا ابني…

وروت لـه معاناتها مع الماء الأزرق الذي أسدل غشاوة على عينيها، فوعدها خيراً…

وعندما حان وقت الغداء اعتذر عن تناول الطعام، واكتفى بشرب اللبن: "أنت تعرفين يا أمي أنني أعاني من نقص التروية، ومن الكولسترول… ومن السكر… وهذه المآكل الدسمة لا تناسبني!!..

أحست العجوز بكثير من خيبة الأمل وهي تنظر إلى الديك الرومي يتربع فوق منسف الفريكة.. ولكن ما العمل.. إنه –كما يقول، يعاني من عدة أمراض، ولا تريد أن يلحق به الضرر…

وتمت بقية مراسم الاحتفال كما خطط لها… في السرادق وفي الربعة. استمع خليل بك إلى مطالب أهل القرية باهتمام، وتناول منهم الطلبات والاسترحامات والاستدعاءات التي قدموها إليه مكتوبة على الورق، ووعد بدراستها في العاصمة وتحقيق مطالبهم كلها.. ثم سلمها إلى السائق الذي وضعها في كيس كبير، وخرج من الربعة مودعاً…

وكانت المفاجأة الأخرى عندما اعتذر لوالدته عن قضاء الليلة في القرية، وقال لها أنه مضطر للسفر إلى العاصمة لأن عنده اجتماعاً مهماً في الصباح الباكر.

وفي طريق العودة، وعندما كانت السيارة تعبر الجسر على النهر الكبير، أشار إلى السائق إشارة خاصة فتناول الكيس وفتحه، وألقى بمحتوياته إلى النهر.



=======================
ولد في الحسكة عام 1935
أمين تحرير الثقافة في دار البعث للصحافة والطباعة والنشر والتوزيع، ثم رئيس تحرير مجلة "فنون".
عضو جمعية القصة والرواية، وعضو في اتحاد الصحفيين في سورية

* مؤلفاته المطبوعة:

- القصة القصيرة:

1- نداء الأرض- دار اللواء - القامشلي- 1955.
2- نهر من الشمال- مطبعة كرم- دمشق 1963.
3- الحدود والأسوار - اتحاد الكتاب العرب- دمشق 1970.
4- المعاناة -وزارة الإعلام- العراق - 1972.
5- جدار في قرية أمامية - اتحاد الكتاب العرب- دمشق 1987.
6- المزنة -وزارة الإعلام- العراق - 1979.
7- الحوت والزورق - اتحاد الكتاب العرب- دمشق 1982.
8- حصان الأحلام القديمة - اتحاد الكتاب العرب- دمشق 1988.

- الرواية:

9- النهر - اتحاد الكتاب العرب- دمشق 1979.
10- أيام معها- دار الوعي العربي- دمشق 1961- أدب الأطفال (قصة طويلة).
11- بيدر من النجوم- منظمة طلائع البعث- دمشق 1979.
12- الجسر - منظمة طلائع البعث- دمشق 1982.
13- عصافير الجليل -(مسرحية) - منظمة طلائع البعث- دمشق 1982.
14- رحلة إلى الفضاء - منظمة طلائع البعث- دمشق 1986.
15-سعيد في حقول الأرز- منظمة طلائع البعث- دمشق 1988.
16- أوراق من تشرين - منظمة طلائع البعث- دمشق 1988.
17- زينب في ميسلون - منظمة طلائع البعث- دمشق 1989.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...