جلست فيفى أمام المرآة ، وبينما هى تضع الأحمر فى شفتيها ، وبينما هى تفكر فى إخوتـها الذين ينتظرونها . وفى السينما التى ستذهب إليها معهم . خطر لها خاطر أضحكها . أن الفرق بين المرآة والمرأة بسيط مدة وهمزة كل ما هنالك .

هل لاحظ ذلك مجدى الفيلسوف الشاعر الذى لا يفوته شئ ؟ إن لم يكن قد لاحظ ذلك قبلا فهى ستلفت نظره إليه وستجعله موضوع دعابة حين تلقاه

– فيفى ! فيفى يلا بأه ، إيه التأخير ده ؟

– حاضر . دقيقة واحدة .

وعادت تكمل زينتها وترتدى معطفها وقبعتها فلم تكد تتناول القبعة وتهم بالخروج حتىوقع بصرها على مجلة (العبرات) موضوعة على منضدتها ، ورأت على غلافها بالخط الكبير (الحرمان – قصة مصرية تأليف يوسف مجدى) من جاء بهذه المجلة إلى غرفتها ؟ أخوها عزيز . فهو الراديو الذى يذيع فضل مجدى ؟ أو أختها (ميمى) ؟ من يدرى ؟ ولكن الحرمان ، ما أقساه من اسم ، لماذا يصر مجدى على تلك النظرة القاتمة للحياة ؟ مجدى الضحوك الذى لا تفارقه الدعابة والذى يستجيد النكتة ويصفق لها ، مجدى شخص آخر فى كتبه ، فهو لا يرى إلا أن الحياة سخرية سخيفة ولا تنزل الستار فى قصصه إلا على مأساة .

فيفى ! فيفى جرى إيه ؟

تنبهت فيفى كمن يستفيق من حلم ، ووضعت قبعتها بسرعة ونظرت نظرة أخيرة إلى المرآة وعادت فضحكت لقرب اللفظتين المرآة والمرأة . وخرجت إلى حيث ينتظرونها ومضت معهم إلى السينما .

***

كان السينما غاصا بالناس ، وقد تجمعوا فى بهوه الخارجى كل ينتظر دوره – صنوف متباينة … فهناك الشاب العارى الرأس يرتدى بنطلونا واسعا ويضع سيجارة إنجليزية فى فمه ، وهناك الكهل الذى يدعى أنه لم يتخط الشباب ، وهناك الأشيب الذى لا يستطيع أن يغالط ، وهناك المرأة الشابة التى تأكلها العيون ، العجوز المتصابية التى تشيح عنها الأنظار ، وتقبل سيارة بعد أخرى ، فينزل منها ذكر يمد يده ، فتظهر الأنثى عند بابها فيمد ذراعه فتتأبطه وتسير إلى جنبه فى زينتها الكاملة وهو فخور بها يكاد يقول للناس هذه الفتنة هى لى دونكم . ثم يمضى إلى نافذة التذاكر وقد ترك هذه الفتنة حيناً ما وأخرج كل الفضة التى بجيبه كأنما يقول للناس أنظروا إننى غنى .

وقفت فيفى بعيدة عن رفاقها وقد شرد لبها فجأة وهى تلاحظ ذكراً وأنثى يقبلان فى تاكسى لقد استرعى نظرها ككل امرأة ثياب المرأة أولاً ففحصتها بسرعة من رأسها إلى قدمها . ورأت فيفى نفسها فى الخيال تنزل من سيارة زرقاء جميلة فى أتم زينتها وإلى جانبها رجل ذابل ناحل ؟ أخذ ذراعها فى ذراعه ..

فيفى ، تعالى بتتفرجى على إيه ؟ .

فتركت فيفى ذراع صاحبها فى الخيال والتفتت إلى أخيها عزيز الذى ناداها ، قائلة (رواية إيه النهارده ؟ ماشفتش البروجرام) ؟

رواية جميلة اسمها (الحرمان)

فأمسكت فيفى بجنبها كأنما وخزتها حربة ثم تمالكت قواها وتبعت أخاها وشقيقاتها إلى الألواج وألقت نظرة ساخرة إلى الآنسة الجالسة فى نافذة التذاكر كتمثال من الشمع يلقى ابتسامة تجارية هنا وهناك .

وكانت الألواج ممتلئة وكل جماعة تلقى نظرة متعالية على الجماعة التى تجاورها بعد أن تفحصها وتشعرها أنها أحسن منها قادرة على المجئ إلى السينما كل ليلة .

ألقت فيفى نظرة على اللوج المجاور فرأت شخصاً بمفرده يدخل فى هدوء وقد جلس جسلة اطمئنان ، ولم يكن يبدو عليه أنه ينتظر أحداً فصاحت فيفى (مجدى أهـه) فانتبه مجدى وأقبل فى ظرف يرد التحية ويتهلل . قال عزيز . تعال أجلس معنا . لماذا تجلس وحدك ؟ دائما وحدك . وفى لوج ! أجاب مجدى . إنى أحب أن أراقب هذه الجماهير من أعلى . أراقب هذا البحر من صخرة بمفردى . فضحكت فيفى وقالت ، دائما فلسفة . إن الفلسفة تأكل جسمك أكلا أنظر كيف أصبحت . مسكينة زوجتك ولكن أين هى ؟ أين هى ؛ ولماذا لم تحضر معك ؟ عزيز يقول إن الروايـة بديعة واسمها كاسم قصتك . فهل هذا محض اتفاق ؟ أم هى التى أوحت إليك . أجاب . بل اتفاق عجيب . أما زوجتى فهى تفضل النوم دائا على السينما .

وكانت رواية الليلة محزنة قاسية . حبيب على قيد خطوة من حبيبه وهو محروم ، وفقير على قيد خطوة من الثروة وهو محروم . وعليل على قيـد خطوة من الدواء وهو محروم . وظامئ على قيد خطوة من الماء وهو محروم … أى شيطان هذا المؤلف ؟ لم يدع محروماً إلا وأتى به وحشره فى روايته . لم يكد ينتهى الفصل الأخير حتى أخذت المناديل تجفف الدموع . دموع الحرمان فى مئـات الأعين .

ورفعت فيفى منديلها الصغير المزركش لترى أثرالرواية فى وجه ( مجدى ) فصادفت عينها هالتين كبيرتين عميقتين قد دفنتا آلافاً من المتاعب والذكريات . وأخير استقل مجدى سيارته الزرقاء الكبيرة ورأت فيفى سيارة الخيال تختفى بصاحبها فى مجاهل الظلمات فصاح بها صائح خفى أتعجبك هذه السيارة ؟ إنها سيارة الحرمان

فيفى . دائما سرحانة . يلا بقى . وكان هذا صوت ميمى تناديها .

***

دق جرس التليفون ….!

– منزل أنيس بك ؟

– أيوه حضرتك مين ؟

– دولت عزمى ، فيفى هنا ؟

– صوتك متغير !

– عندى برد

– سلامتك !

– بكرة عيد ميلادى وعندى هيصة ولازم تيجوا انتى واخواتك

– إن شاء الله – ميرسى – أورفوار !

***

صفية أنيـس . أو فيفى كما يدعونها تدليلا هى مثل تام لفتاة اليوم . كان أبوها رحمـه الله فى سعة من العيش ، وهى أولى بناته فأحسن تعليمها وأرسـلها إلى البون باستير ، والليسـيه ، ولكى تتعلم العربية جاءها بالشيخ مكى ليدرسها العربى بالمنزل وكعادة الأسر المثرية ، يسير بها الخادم فى الصباح ويعود بها فى المساء . ثم مرض أبوها . وكان أخوها الوحيد يدرس الطب فى انجلترا فاستدعوه على عجل فوصل بعد فـوات الأوان ووجد نفسه الرجل الوحيد الذى تعتمد عليه عائلة بجملتها . فانتسب إلى كلية الطب المصرية . وفى الوقت الذى تروى فيه هذه القصة كان يتقدم للامتحان الأخير .

وكان عزيز كشاب مثقف قضى وقتنا طويلا فى أوربا ، يعطى لشقيقاته شيئاً من الحرية ، ولكنها حرية محدودة لا تتعدى السينما والمسرح والزيارات العائلية . وهو فى نفسه لم يكن راضيا عن هاته الحرية الضئيلة ، ويرى أن التطور وقف بالمرأة المصرية عند حد يدعو إلى الإشفاق ، حد لا حيلة له فيه ولا الشباب المثقف الثـائر أمثاله ، مادامت الرؤوس المحافظة على التقاليد لا تزال حية تتحكم فى الأسرة ، وفى يدها أزمة الأمور ، فلو أن الأمر ترك لعزيز لتمرد على التقاليد وقذف بالموائد البالية ، ولكن هناك أمه وعمه وخاله ، وعمته وزوج عمته ، حوائل لا تصد وألسـنة لها الله ! وكانت فيفى المسكينة التى قضت أوقاتها بين البون باستير والليسيه ، وقرأت موباسان وبورجيه وأناتول فرانس ، وسافرت فى صحبة الراهبات إلى باريز ، فيفى تعود إلى بيت أبيها لتتناول من الحرية جرعا مناسبة لصحتها ، ولتنتظر الزوج الذى تأتى به أم محمـود الخاطبة ! فيفى ترى مجدى صديق أخيها من الطفولة ، فترى مثل الشاب المتحرر يصطدم بالعوائد فيتزوج بواسطة الخاطبة كما ينتظر أن تتزوج هى ! ألفت أن تراه معهم وبينهم لأنه صديق قديم وكانت تخالسه ويخالسها نظرات طويلة من العذاب والحرمان ، وطالما رأته يستقل سيارته الزرقاء فوقفت إلى النافذة وأتبعته نظرة ساهمة طويلة ، ورأته يبادلها نفس النظرة التائهة الشاردة !

كانت فيفى تستعرض فى فكرها كل ذلك حين قـرع جرس التليفون صديقتها دولت ، التى ثارت على التقاليد مرة واحدة ودعت إلى صالونها شبانا وشابات يتحادثون ويلبون نداء الجنس فى أدب تام وحياء كامل ، ولكنها كانت تذهب إليها كارهـة لأنها كلما ذهبت تعود بحسرة . لأنها هناك ترى مجدى وتستطيع أن تخلو به ، ويرجعان سوية ثم ينصرف كل إلى الطريق الذى رسمه له القدر ولا خيار له فيه !

***

مجدى ! دائما مجدى ! يالله من عينيه ، إنهما تتبعانها حيث سارت وتقتفيان أثرها حتى فى أحلامها ، كان ينمحى جسده كله ولا تعود ترى غير عينين فيهما بريق هائل وأغوار عجيبة ، وطالما صاحتا بها : أتعجبك هذه الأعين ؟ إنها أعين الحرمان ! فتستيقظ على عذاب يتغلغل فى كيانها وتود وهى تشعر أنها تحب هذا الشخص الذى يفهمها وتفهمه تماماً .. تود لو مضى من هذه الدنيا إذ هى لا تملك السبيل إليه . ومادام هو صامتا صمت الليل الذى لا يتكلم إلا بكواكبه .

– فيفى سرحانة فى ايه ؟ دائما عقلك شارد ؟ فانتبهت كمن يعود من عالم بعيد مجهول ، ومرت بيدها على جبينها البديع تهدئ ثورة ، وتعيد إلى مكانها ذكريات محمومة تهم بالوثوب ، فلمست خصلة متمردة من شعرها الكستنائى البديع ، فارتعدت … شعر كستنائى جميل وقوام يقولون إنه مثالى . فتاة الليسية والبون باستير … ولكنها حبيسة أسيرة ، ثمرة ستعطب على مهل أو يتناولها من يسرع بها إلى العطب . سيان إذن ، مادام العطب هو الختام !

– فيفى . جرى إيه ؟ ماما بتنده عليكى ! فأسرعت فيفى إلى أمها :

– فيفى . أنا رايحه عند تيزتك حميدة هانم ، والليلة أنتم معزومين عند دولت . دولت طالعة فيها ، إياك أسمع أنكم شربتم أو رقصتم !

– حاضر يا ماما . ثم قبلت ابنتها وانصرفت .

وقفت دولت فى ثـوب رائع ، وقد قصت شعرها أكثر مما يجب فظهرت كغلام فتان . أقبلت فيفى متهللة وفى ذيلها أختها الصغرى ميمى ، وفى ذيل هذه رشيدة .

– أهلا فيفى ! سنة محدش شايفك ، اتفضلى أقدمك للضيوف .

وكانت الأركستر تعزف فى البهو المتسع ، وفى الصالون جلس خليط من النساء والرجال ، فقدمت دولت صديقتها فيفى للجميع وعرفتها بهم فرداً فرداً ، وبعد أن أجلستها همست فى أذنها : مجدى سيحضر بعد قليل .

إذن دولت تعرف أن مجدى يهتم بفيفى ؟ من أين تعرف ؟ هى لم تخبرها ومجدى لم يخبرها لأنه لا يتكلم . إذن من أخبرها . هو قلب المرأة ، ذلك الترمومتر الحساس الغريب ، قلب المرأة الذى يبصر ويشم ويسمع ، والذى له ألف إحساس وألف عين وألف أذن . ورن صوت نفير . صوت تميزه من آلاف غيره من الأصوات ، نفير السيارة الزرقاء ، سيارة الخيال ، سيارة الحرمان وأعين الحرمان .

***

وبعد حين قدمت دولت إلى الضيوف مجدى قائلة .

“الأستاذ يوسف مجدى الشاعر . كلكم عارفينه بالطبع”

وكان مجدى يبدو محنى الظهر كمن يحمل أعبـاء كثيرة . ويكاد الذكاء ينطق فى جبينه الواسع الذى بكرت إليه الغضون ، وكانت له مشية الواثق الذى تكونت شخصيته وأيقن إلى أيـن يمضى . وقد ظهر ذلك تماما وهو يختار مجلسه فى غير تردد كأنما بينه وبين المكان ألفة قديمة . وكانت فيفى بعيدة عنه تراقبه من ركن مظلم قليلا وتتعمد أن لا يراهـا . لقد كانت تخشاه . وتخشى ما ينتظره من المجد . وتخشى إقبال النساء عليه . وتخشى نفسها . ومع كل ذلك تود لو أن شيئاً الفت نظره إليها .

وبعد ، فماذا يرى فى ذلك الشاعر الناحل المريض ، وماذا يغرى النساء به ، ها هى أمينة س . تتقدم بكرسيها إليه . وها هى جليلة تراقبها فى غيرة . وهذه دولت نفسها تكاد تمضى لترى شؤون الدار حتى تبادله كلمة . أو تسأله إذا كان بحاجة إلى شئ .

كل هؤلاء الفتيات يرين فى هذا الرجل شيئا خفيا يجذبهن إليه ، ويجيش فى صدورهن ، كل هؤلاء الفتيات مثلها حبيسات ، ثمار مثلها مهددات بالعطب والبوار إذن لماذا تحسدهن .

إن التى تجر كرسيها إليـه كالتى تراقبها كصاحبة الدار ، لو استطعن لصحن فى صوت واحد الحرمان . الحرمان .

ومـع ذلك فما هو شعور هذا الرجل . إنه لا يتكلم إلا إذا نظم قصيدة يتناقلها الناس وتصير على كل لسان ، قصائد كأنما ينتزعها من أعماق بركان أغلقت فوهته وهو ثائر …

كانت فيفى تقول هذا الكلام للدمية الصامتة الموضوعة فى الركن المظلم بالقرب منها حينما انتبهت إلى صوت دولت تقول :

” البوفيه اتفضلوا …

وقاموا إلى البوفيه .

ووجدت فيفى نفسها تجاور مجدى . ففتح هو الحديث قائلا : أين عزيز . أجابت : عنده امتحان باكر ـ قـال إنى دهشت لمجيئكم من غير رجل فى صحبتكم على غير العادة . أجابت : جئنا فى سيارتنا ومعنا سواقنا . فقطع عليها مجدى الكلام قائـلا : فيفى . إن الليلة باردة وأنت عارية الذراعين وأنا أخشى عليك ، قالت ضاحكة : عجبا هل أصبحت طبيبا . قال دعينا من المزاح إنى أخشى عليك حقا ، واتخذت هيأته مسحة الجد وقال فى صوت رقيق منخفض فيـه رنة عجيبة من الطيبة والإشفاق والحنو شد ما أخشى عليك لو تعلمين . وأحست فيفى أن دمعاً يتجمع فى عينيه وهو ينظر إلى جسمها النحيل مشفقا على ذلك الجسم من البرد والأذى .

إذن هو يحبها . ربما . آه لو ينطق أبو الهول .

ومرت دولت بهما كما تمر الريح الساخرة وتعمدت التى جرت كرسيها إليه فى البهو أن تلهيه عن فيفى ، والتى غارت أن تنتزعه من كلتيهما . فدعتاه إلى الرقص بعد البوفيه فأبى ، وإلى كأس من الوسكى فأبى . وانصرف إلى فيفى فقادها إلى مكان لا يتطرق إليه البرد ، وكان ينظر إلى جسدها الرقيق كمن ينظر إلى كنز يحرص عليه ، فهل كان يتمنى أن يأخذه بين ذراعيه .

بالرغم من ذلك شعرت فيفى بالبرد وأحست برجفة وبحاجتها إلى الانصراف فأستأذنت صديقتها راغمة واصطحبها مجدى هى وأختيها ، وقد لفها بمعطفه وجلس ساكتا مشفقا والسيارة تنهب الطريق .

***

أمسكت فيفى جنبها بيمناها وهى تتنفس بصعوبة فائقة . وهمت بالقيام من فراشها فلم تستطع ، خانتها رجلاها وأتعبها الجهد فلهثت كمن جرى بضعة أميال . وكانت أمها تمر فى طريقها إلى غرفتها . فرأت ابنتها تهم بالقيام ثم تعود فترقد فراعها ذلك وأسرعت إليها . وما لبثت أن صاحت أنت محمومة . ألم أقل لك أن تتقى البرد . ماذا نفعك الذهاب إلى دولت . واندفعت تتكلم وتسب دولت وأخلاق دولت وهـذا العصر الذى فسد فيه كل شئ . والذى يجرى فى تياره حتى بناتها التى تعبت فى القيام على تربيتهن . وجاءت دادة حليمة على صوت سيدتها لتسأل عن الخبر . فوجدت الأم فى هذا السؤال دافعاً جديداً للسخط على ابنتها وعلى صديقة ابنتها . وبعد أن بلغت قمة الغضب . انحدرت فجأة إلى سفح الحنان وذهبت لتبحث عن الترمومتر . وتقلب دفتر التليفون باحثة عن نمرة كلية الطب لتستدعى ابنها عزيز ثم تترك هذا لتبحث عن علبة الاسبرين . ثم تنتقل إلى الأجزخانة الصغيرة المعلقة بالحائط لتبحث عن شربة الملح فلم تجدها . ثم تتذكر فجاة أن ميمى تعرف مكان كل شـئ فتسرع إليها لتوقظها . كل هذا وفيفى تشعر فى جنبها بوخز كالحراب . وقد غمرتها الحمى وتوهج خداها وانتثرت ذوائب من شعرها الجميل متراخية أسيفة .

وعادت الأم وبناتها يحملن ما يعرفنه صالحا لمعالجـة الحمى . وهن ينتظرن المدد من أخيهن . وأخيرا أقبل هذا المدد مضطرباً شديد الإشفاق ، وأسرع إلى فيفى فتناول معصمها وعد النبض . ثم أخذ سماعته ففحص الصدر والرئتين واستعرض فى ذهنه سريعاً ما قرأه فى أمراض الصدر ليلة أمس . الامتحان قاب قوسين وهو لا يعرف كيف يشـخص حالة كهذه . وبفرض أنه شخصها . ماذا يصنع أكثر مما صنعه هؤلاء السيدات . ثم يدعو مجدى . مجدى ليس بطبيب ولكنه مخلص ذكى وسيقف بجانبه فى هذه المحنة كما وقف فى كثير غيرها . ثم صاح متكلفا الطمأنينة ومخاطبا أمه :

حاجة بسيطة . برد ويزول إن شاء الله . حقنة كافور ودواء بسيط من الأجزخانة .

وذهب إلى غرفته ليجهز الحقنة وينسخ التذكرة من دفتره الصغير ثم أرسل الخادم بخطاب إلى مجدى يستدعيه .

***

لم يكن مجدى فى المنزل حين ذهب الخادم بالخطاب . فأعطاه لزوجته . ففتحته كعادتها فى الخطابات التى ترد لزوجها بلا استئذان . وقرأته كمن يتهجى وألقتـه على المائدة القريبة وهى تسخط : دايما عزيز وأهل عزيز . ماذا يريدون من مجدى ألا يتركونه مرة مرتاحا . ما شـأنه هذه المرة بهذه الفيفى . ولماذا لا يستدعون الطبيب يا لهم من بخلاء . وسيذهب مجدى ملبياً دعوتهم بالطبع وستحرم منه ساعات طويلة وسيعود إليها منهوك القوى . غائر العينين شاحب الوجه . ألا يفهم أنها تحبه . ألا يفهم أنها تريد قربه . يا لله متى يفهم ومتى يدرك أنها أحق من هؤلاء الناس بتلك الرعاية التى يبعثرها هنا وهناك . إن فيفى ليست أجمل منها . ودولت التى تدعوه إلى منزلها من حين لآخر ليست أرشق منها قواما . وم . هانم الجريئة التى تطلب منه مؤلفاته بالتليفون ليس لها سحرها ولا فتنتها . إنها ستطلب إليه حين يعود إلى المنزل أن لا يلبى دعوة ولا يزور أحداً . إن الناس تفسده وتغير طباعه . وكم حاولت أن تصرفه عنهم وأن تبهجه وتسره . فحاولت عبثا وهى تشعر أن المسافة بينه وبينها تبعد . إنه يهجرها إنه لا يجد لكلامها معنى . أصبحت لا تراه إلا عندما يأتى إلى هذه اللوكاندة ليأكل ويستريح ثم يمضى إلى حيث يحمل أعباء العالم ، موزعا قلبه مضيعا شبابه يا حسرتاه . وهل له من شباب . ماباله لا يتكلم . ما باله لا يفتح قلبه ولا يخرج عن صمته الشنيع . وأخيرا جلست فى ركن وحدها تنتحب .

لقد كانت رقيقة تحب مجدى حقا .

ولكنها كانت تحب نفسها . وهذا ما جعل حبها ضئيلا قزمـا كالشعلة الضعيفة لا تنير إلا قليلا . ولا تفيد إلا حرارة لا تجدى فتيلا . ومجدى الذى يفهم كل شئ يعرف هذا . وطالما صرح لها به فظنت أنه يجرحها واسترسلت فى البكاء والتنويح أياماً .

ولما عاد مجدى ناولته الخطاب مفتوحا فنظر إليها مجدى ثم إلى الخطاب وكظم غيظه . قالت ساخطة :

جيت ليه . روح لأصحابك . أصحابك كتير عايزينك . فشخص بصره إليها كاظماً غيظه أيضاً فاستتبعت قائلة : الساعة كام الآن . الرابعة بعد الظهر . فأين كنت . مسكينة هذه الكلبة تنتظرك . وستتناول غذاءك الآن فى صمتك المريع وتخرج أيضاً إلى حيث يتخاطفك العالم والأصحاب ، وستعود شاحباً مريضاً تحمل أعباء الدنيا فوق رأسك ، لا لتنام بل لتسهر وتفكر .. وتفكر وأخيراً . وأخيراً . أصبحت عيشتنا لا تطاق . فشخص إليها كاظماً غيظه للمرة الثالثة .

قالت وقد هدأت ثورتها قليلا . والآن أريد رأيك . بدى أعرف لى حل

قال فى هدوء كامل وضبط نفس عجيب تريدين رأيى . أنت تعرفينه ومع ذلك فإنى أعيده على مسمعك . إنى أشفق على بصرك الذى لا يرى أكثر من باب هذه الغرفة وعلى روحك التى لا تزيد فى الحجم عن روح النمـلة أنا لا أكرهك وإنما أنا حزين . حزين حتى الموت ! فصرخت قائلة : أنت تهيننى وتجرحنى . قال معاذ الله . ودار على عقبيه وخرج مسرعاً . أما هى فانتقلت من سيل من الكلمات إلى فيض من الدموع والزفرات . واقبل المساء بسرعة ومعه الرهبة والقلق اللذان يلازمان الظلمة ، ومعه إحساس خفى مجهول بأن القدر ينظم مؤامرة خلف الغسق القرمزى الداكن . بهذا أحس جيش الأحباب الواقفين حول فراش المريضة . وبهذا أحس عزيز الطبيب المبتدئ الصغير أمام العدو الخفى الكبير وهو ينظر من خلال ستور النافذة ويتسمع إلى صوت سيارة قادمة .

يا لله ! سيارة تحمل شخصاً ليس بطبيب ومع كل ذلك ، ففى النفير صوت الخلاص ! ألم يتهلل عزيز ؟ ألم تفتح المريضة عينيها وتبتسم أساريرها لأول مرة فى نهار عابس مستطير ؟ ها هو نور قادم من بعيد يبشر بابتسامته أن قارب النجاة فى أثره ، ليكن كاذباً أو غير كاذب ، فإن على شفتيه ابتسامة ، وربما كان الموت نفسه عزباً على ضوء حنان كهذا ؟

قال مجدى لعزيز على حدة : ليس عندنا دقيقة نضيعها . ألا ترى الزرقة التى تعلو شفتيها ؟ أنا لست بطبيب . وإنما يمكننى أن أدرك بسهولة أن هــذا من قلة الهواء الصالح فى رئتيها ، ثم انك تقول إن عدد نبضاتها فوق المائـة ، علينا أولا بطبيبين معك يشدان أزرك وبعد ذلك علينا أن نتناوب السـهر ! فنظر إليه عزيز مدهوشا من ذكائه العجيب وخرج ليستقدم طبيبين يثق بهما وترك مجدى فى مكتبه .

وجد مجدى نفسه وحيداً ، فزال القناع الذى لبسه منذ هنيهة ، سقط بالرغم عنه ووقف مستنداً إلى النافذة ناظراً إلى اللانهاية السوداء كرجل سحقه الدهر سحقا . فيفى فى خطر المرت . وكل بضاعته فى سبيل إنقاذهـا قلب وابتسامة ! لماذا لم يكن الطبيب الذى يعنى بهـا ! لماذا لم يكن زوجها ؟ زوجها الذى يأخذها بين ذراعيه مقبلا خصلاتها الناعمة وعينيها الذابلتين ؟ لماذا ؟ ولماذا يمضى إلى منزله ليتلقى العاصفة بعد العاصفة وقـد شبعت روحه من تقلب الأنواء والأعاصير ؟ آه أيها الحرمان . إنك جاثم فى اللانهاية السـوداء كعقاب هائل ناشراً جناحيك على العالم ماداً مخالبك القاسية ، ها هو مخلب منها يصل إلى روح الشاعر المسكين فيتحسس مكانها ، محاولا أن ينتزع المخلب فلا يستطيع ، وأخيراً ! ها هم الأطباء الذين سيشفون فيفى ولكن لا هو الذى سيسهر بجانبها هو الدخيـل الغريب ، الذى ليس له من صفة إلا أنه صديق أخيها . وهو أقرب الناس إلى المريضة الموسدة . أقربهم إليها لأنها توأم روحه ولأنه قدم قلبه الذبيح على هيكل الحرمان ! واستنجد بدمعة يخفف بها عن نفسه فلم يجد لأن دموعه قتلتها فى محاجرها كبرياء الرجل الذى يأنف أن يبكى !

***

قال الأطباء إنه التهاب رئوى وإنه صراع بين الحياة والموت ، وكتبوا تذاكرهم وتركوا أوامرهم ومضوا . وماذا يعنيهم بعد ذلك ؟ لقد شاهدوا ألف فيفى وألف التهاب رئوى ، وأصبحوا يتناولون أخبار الموت والشفاء فى هدوء كما يتناولون الطعام !

وكان مجدى يترك منزله وعمله غير مبال بما يقال عنه إلى حيث يتناوب السهر مع عزيز ، وكانت المسكينة فى غيبوبة تامة لا تدرى من أمر الدنيا شيئاً .

كان الضحى يهم أن يطلع ، وقد تعب عزيز وأكرى فوق الكرسى الطويل بجانب السرير ، وكان مجدى خائر القوى يهم أن يلقى بنفسه من العيـاء فوق الكرسى المجاور لصديقـه حين فتحت فيفى عينيها . أفاقت وتلفتت إلى الدنيـا حائرة كمن يعود من عالم الغيب ، ورفعت عينيها إلى الساهر فوق رأسـها وقد فهمت كل شئ !

ثم طلبت جرعة ماء ، فسقاها ، ثم وضع الكوب مكانه ، وأقبل عليها فاحتضنها وقبلها مراراً ، فنظرت إليه بعينيها كأنما ترد قبلاته بأبصارها ، وفتح عزيز عينيه ، فرأى فيفى فى ذراعى صاحبه ، فأغلقهما كمن لا يرى ..!

وسمعها تقول إنى أشعر بالشفاء ..! وسمعه يجيب : وأنا أيضاً !

ورأى نفسـه فى النوم يصارع القدر ويضربه لأن مجدى لم يكن زوجا لفيفى !





* نشرت هذه القصة لأول مرة فى مجلة (الجامعة) العدد 49 بتاريخ (5/1/1933) ، ثم أعيد نشــرها ضـمن كتاب (مدينة الأحلام) الصادر عام 1935 ـ وشغلت الصفحات من (86 ـ 98) .







تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...