كانت لخاله بنتان! ربط الحب بينه وبين صغراهما بأوثق رباط، فتعاهدَا على أن يتوجَا هذا الحب بالزواج، واغتبطت «عزة» بهذا العهد، رغم ما كانت تعلمه من رقة حال ابن عمتها، لأنها كانت تلمح في بريق عينيه ذكاء، وفي نبرة صوته حزمًا، وفي حلو حديثه سحرًا ومنطقًا، فكانت تؤمن بأنه سيرتفع إلى مراكز سامية، ويرفعها معه إلى هذه المراكز.
وكان «فريد» من جانبه شديد الثقة بنفسه، وكانت نظرة عزة إليه تضاعف هذه الثقة عنده، وتضاعف من طموحه ليكون أهلًا لها، جديرًا بها. فلما بلغت الفتاة الثامنة عشرة من سِنها، خاطب زوجة خاله في خطبة «عزة» إلى أبيها فقالت له: لا أحسب خالك يضنُّ عليك بابنته، لكنه لا يرضى أن تحدثه في هذه الخِطبة، قبل أن تخطب أختها، فهي أكبر منها، ولا يجوز في عرف الناس أن تخطب الصغرى قبل أختها التي تكبرها!
وقَبِل فريد هذا الكلام على مضض، وإن طمأنه أن الأم ترحب بزواجه من ابنتها. ففي هذا الترحيب أمارة خير، ولا ضير عليه أن يصبر، وأن يرجو الله أن تُخطب الأخت الكبيرة في زمن وجيز!
وتعاقبت الأسابيع والشهور، وفريد في انتظاره على لظى. وإنه لكذلك، إذ علم أن «أسعد بك» ذهب إلى خاله يخطب ابنتيه لولديه!
وكان أسعد بك رجلًا وجيهًا من عِلية القوم، واسع الثراء، وكان ابناه شابين مهذبين حصلَا على مؤهلات علمية أعلى من مؤهلات فريد!
واضطرب فريد إذ بلغه هذا النبأ، وذهب لفوره إلى زوجة خاله، يسألها عن هذه الخطبة ورأي خاله فيها.
قالت الزوجة: أنت تعلم أننا معشر الأمهات قلَّ أن يكون لنا في مثل هذا الأمر رأي، فأما الرأي كله فللآباء، وقد ذكرت لخالك حين أنبأني أمس بحديث أسعد بك كلامَك معي منذ أشهر في شأن عزة. فقال: أوَتُريدين أن تُمَيِّلي بَخْتَ ابنتك لعبارة طارئة كالتي أفضى بها إليك فريد؟ وهل تطمعين في أن يخطب بناتنا خير من أولاد أسعد بك، وهم مَن هم ثراء وتربية وعلمًا؟!
وماذا تريدينني أن أقول للرجل؟ أأقول له: إنني أقبل خطبة كبرى البنتين ولا أقبل خطبة أختها؛ لأن عزة تحب ابن عمتها؟ أوَتَحْسَبِينه يرضى بعد ذلك أن يصاهرنا؟ أم تَرَيْنه يحسب أن تربية بناتنا سيئة لأنهما يعرفان الحب؟ وعند ذلك ينصرف عنا، تاركًا للناس أن يقولوا فينا ما يشاءون. كلا! لن أقبل هذا الوضع لنفسي ولا لبناتي، وسأزوجهما من هذين الخطيبين الكريمين، فأنا المسئول عنهما وعن مستقبلهما، وأرجو منك ألَّا تخاطبيني في هذا الأمر مرة أخرى!
وأضافت أمُّ عزة، في لهجة رقيقة تواسي بها فريدًا: وأنت يا بني، لا ريب تفرح لما يناله أختاك من خير، وأنا أعرف لك عروسًا أجمل من عزة، ستحبها ساعة تراها، فلا تبتئس، ولا يأخذ الضيق عليك مسالك نفسك!
وانصرف فريد كاسف البال آسفًا، وخُيل إليه أن باب هذا البيت يوشك أن يوصد دونه، فهو يعلم أن خاله رجل عنيف، وأنه إن خاطبه في أمر عزة، بعد أن خطبها أسعدُ بك لابنه، رده أقبح ردٍّ فأدى ذلك إلى القطيعة بينهما، وقد يؤدي إلى ألَّا يرى عزة بعد ذلك ما عاش!
•••
ودعا الأب ابنتيه، وقبَّلَهما، وبارك لهما على خطبتهما لابني أسعد بك … أما الكبرى فقبَّلت أباها كما قبَّلها، وافْتَرَّ ثَغرُها عن ابتسامة المسرة والرضا. فأما عزة، فانهملت من عينيها دمعة حارة لدى سماعها هذا النبأ. وبعد برهة انسحبت من البهو الذي يجلسون فيه إلى غرفتها وأسلمت نفسها للبكاء، وخُيل إليها أن أباها يبيعها، كما كانت تباع الإماء في سوق الرقيق، وأن القدر كتب عليها أن تكون بائسة طوال حياتها، لكنها كانت موقنة أنها لن تستطيع لقرار أبيها نقضًا، ولن تستطيع عليه ثورة. فأبوها لا يقبل أن تعارضه زوجه، أو تعارضه إحدى ابنتيه، بل يرى في أية معارضة له عقوقًا وخروجًا على ما أدب أسرته به من أنه السيد المطاع، وأنهن جميعًا له تَبَع!
ودخلت عليها أمها وهي في بكائها وحزنها، وحاولت أن تقنعها بأن أباها أعلى منهن رأيًا، وأبعد نظرًا، وأنه أحرص على مستقبلهن من أنفسهن، فلا مفر لهن من قبول قضائه بالتسليم والرضا!
ولم تجب عزة بكلمة، ولم تَنبس ببِنت شفة. فلم يكن في مقدورها أن تتكلم والعبرات تخنقها، والهم قد جفف حَلْقها وأعجزها عن النطق!
وخرجت أمها بعد زمن حيرَى، وكل الذي دار بخاطرها أن حزن ابنتها طارئ لن يلبث عطفها أن يغرقه، ثم تغرقه هدايا خطيبها، ويغرقه بعد ذلك جهازها وفرح زواجها، وانتقالها إلى حياتها الجديدة!
لكن هذا الرجاء الذي خالج نفس الأم، وهون عليها حيرتها، لم يتحقق. فقد تشبث الهم بنفس عزة، وركبها حزن محَا عن ثغرها ابتسامته، ولم يخفف منه ما كان خطيبُها يبعث به إليها الحين بعد الحين من نفيس الهدايا. لقد شعرت بأنها كمٌّ مهمل، وبأن عواطفها ووجودها وحياتها لا رأي لها فيها، ولا قيمة لها عند أبيها. ورأت إلى ذلك أنها لا تستطيع أن تعترض أو تثور، فاحتقرت الحياة وما فيها، وانصرفت عن كل نعمائها، مكتفية بأن تلوك شجاها وهمها وليلها ونهارها! وأدى ذلك إلى فَقْدِ شهيتها للطعام، وإلى ذبول نضارتها، وإلى تَسرُّب المرض إلى نفسها ثم إلى جسمها، من غير أن يشعر بذلك المرض أحدٌ!
•••
كانت الأسرة كلها في شغل بالمصاهرة الجديدة، وبالهدايا الثمينة المتعاقبة، وبالحديث عن يوم الزفاف وما يكون فيه، وبهذا الجهاز القيم الذي كان الأب ينفق في اختياره ساعات من كل يوم، ولا يفكر مع ذلك في اصطحاب ابنتيه ليرياه أو يريا منه شيئًا. إنه مطمئن إلى حسن ذوقه، ودقيق اختياره، وإلى أنه لا يجوز أن يكون وراء رأيه معقِّب!
وبدأت علامات المرض تظهر على عزة، فقد بدأ ينتابها سعال خفيف، ظنه أبوها أول الأمر من أثر البرد، فلما طال بها، واستدعى الطبيب لعلاجها، ودقق في فحصها، أسرَّ إلى أبيها أن الأمر أخطر مما يدور بخاطره، وأن فتاته مصدورة، وأن الخير في نقلها إلى مصحة تُعنى بها!
ووجم الأب لما سمع، وطال تفكيره فيه، فقد أوشك الجهاز أن يتم، وأسعد بك يطلب مُلِحًّا في تحديد يوم الزفاف. فماذا تراه يصنع وعزة مريضة، ولا يمكن أن تزف إلى خطيبها قبل بُرئها؟
ولم يجد حلًّا لهذا الموقف إلا أن يذكر لأسعد بك مرض عزة، وإن لم يذكر له نوع المرض، ووجم أسعد بك طويلًا ثم قال: «هذا قضاء الله لا سلطان لنا عليه، والرأي عندي أن نتم زفاف ابنتك الكبرى إلى خطيبها، فهو أكثر إلحاحًا من أخيه في الإسراع بالزفاف. فإذا برئت عزة من بعد، زُفت هي الأخرى إلى خطيبها!»
واغتبط الأب بهذا الرأي، وتم زفاف كبرى البنتين، وانتقلت إلى بيتها. أما عزة فنقلت بعد أسابيع من فرح أختها إلى مصحة تُعالَج فيها من مرضها!
•••
وكان خطيبها، وكان فريد، يترددان عليها في المصحة، يواسيانها، ويسألان عن حالها. وكانت عزة تشعر كلما زارها خطيبها كابوسًا يجثم على صدرها يكاد يمزقه! فلم يكن منها غير أنات وسعال يخالط الكلمات القليلة المتقطعة التي تشكره بها على زيارته! فإذا جاء فريد عندها تراءى لها فيض من نور الأمل في الحياة، فابتسمت وتحدثت إليه مغتبطة بزيارته وسألته عن الكثير من أمره!
فإذا تصورت بعد ذلك مجيء خطيبها ذوى في نفسها كلُّ أمل، وخُيل إليها أن شبحين أسودين يحيطان بها: شبح الموت عن يسارها، وشبح هذا الخطيب عن يمينها!
وبعد أشهر، رأى الخطيب أثناءها أنها لا تتقدم إلى الشفاء، ذهب إلى طبيب المصحة يسأله رأيَه في حالها، ومتى يتم في تقديره شفاؤها؟ وهز الطبيب كتفه وقال: لا أستطيع أن أجيب عن هذا السؤال يا سيدي! فهذه المريضة عصبية الطبع، ولأعصابها تأثير بالغ في صحتها، فأنا أراها أحيانًا تتقدم ولو في بطء إلى ناحية الشفاء، ثم أراها فجأة انتكست، حتى أكاد أيأس من شفائها. وقد حاولت أن أستدرجها لأعرف شيئًا من قصة حياتها، لعلي أستطيع إن وقفت على سرها أن أنجح في علاجها، فكانت تأبى كل الإباء أن تفضي إليَّ بشيء. هذا على الرغم من حرصي الشديد على العناية بها، لرقتها وحلو طبعها ودماثة خلقها وسِحْر حديثها في الساعات التي يبتسم لها الأمل فيها. أما وذلك شأنها فمن العسير عليَّ أن أقول لك شيئًا عن سير مرضها، أو مبلغ تقدمها نحو الشفاء والعافية!
وعجب خطيبها لما سمع … هي إذن تبتسم، لكنه لم ير قط هذه الابتسامة على ثغرها، وهي إذن تتحدث وفي حديثها رقة وحلاوة، لكنه لم يسمع غير كلماتها المتقطعة بين تأوهاتها ونوبات السعال التي تعتريها. والطبيب لا يستطيع أن يذكر شيئًا عن شفائها؛ أي إنها إن عاشت، فقد تبقى بالمصحة عامًا أو أعوامًا. أليس خيرًا أن يفصم العقدة التي تربطه بها، فتُتاح له الفرصة في الزواج من غيرها، وقد يتيح لها ذلك فرصة البرء والعود إلى الحياة من جديد؟!
وتحدث إلى أبيه وأبيها في الأمر، فلم يجدَا ما يعترضان به عليه، وزارها أبوها يومًا، وقال لها مُتكلِّفًا اللطف والرقة: لقد فهمت يا ابنتي أن خطيبك يريد أن يتزوج، ولا أحسبك ترضين أن يخطب غيرك وأنت لا تزالين خطيبته؛ لذا أرى — إن كان مُصمِّمًا على هذا الأمر — أن نحل خطبتك له، وقد رأيت أن أعرف رأيك قبل أن أصرح لأبيه برأيي!
قالت عزة: «الرأي لك يا أبت، فاصنع ما بدا لك.» ولمح أبوها على وجهها إشراق المسرة وهي تقول هذا الكلام. فلما خرج من عندها، أخذ يسأل نفسه: أفكان قبوله خطبتها على غير رغبتها هو الذي أدَّى إلى مرضها هذا المرض العضال! وأخذ يحاسب نفسه ويستغفر ربه، ويرجو لها البرء بعد فَصْم خطبتها حتى لا يعذبه ضميره بقية حياته إن أصابها مكروه!
•••
بعد أيام من هذا الحديث، أقبل فريد إلى المصحة، ودخل عند عزة، وعيناه تفيضان سرورًا. فلما رأته أيقنت أن خطبتها تم فَصْمُها، فغلبها الفرح الذي غلب مُحِبَّها، ونطقت بذلك أساريرها. لكنها أرادت أن تداعب فريدًا، فقالت: أراك اليوم مسرورًا بحل خطبتي شماتة! أوَذلكَ هو الحب الذي كنتَ تحدثني من قبل عنه؟!
وأُخِذَ فريد حين سمع هذا الكلام، فنظر إليها وكلُّه الإشفاق والمحبة، وقال: أوَتَرضى شفتاكِ أن تنطقا بمثل هذا الكلام ولو على سبيل الدعابة؟ أنا يا عزة أشمت بك أنت، وأنت حياتي وأعز من حياتي؟! إنما سُررت لحل خطبتك لأجدد لك عهدًا قطعناه أن يتوج الزواج حبنا، وإنني لعلى ثقة اليوم بأن الشفاء قريب منا، وأن الله أراد أن يبلو حالي بما أصابنا، ليعلم أن للحب قدسية واجبة الاحترام. وهأنذا أقطع لك العهد من جديد، على أن نتزوج، أفتقطعين لي أنت مثل هذا العهد صادقة؟
وارتبكت الفتاة لما سمعت، وتولتها الحيرة دون الجواب. أفمن حقها أن تقطع مثل هذا العهد، والمرض العضال يعبث بصدرها، وفريد في صحة وفتوة شبابه؟ وبدا عليها من الوجوم ما أدهش فريدًا، فقال: ما كنت أحسب عواطفك نحوي تغيرت بهذا القَدْر، بل حسبتك اغتبطت بحل خطبتك اغتباطي أنا بذلك، لنعود إلى عهدنا الأول.
ونظرت إليه عزة بعينين ترقرقت فيهما دمعة لم تنحدر، وقالت: أفمن حق مثلي أن يقطع اليوم مثل هذا العهد؟ أنتَ لا تعلم، وأنا لا أعلم، كم يطول مقامي هنا، وما يكون مصيري بعد هذا المقام، فكيف تطلب إليَّ أن أقطع عهدًا قد أعجزُ عن الوفاء به؟ ولولا هذا الشعور، لكنت أسرع منك إلى قطع هذا العهد. وكل ما أستطيع أن أقوله: «إنني أحببتك، وإنني أحبك، وإنني سأحبك ما بقيت في هذه الدنيا، وستحبك روحي حتى نلتقي في رحاب الآخرة، وفي رحمة الغفور الرحيم!»
وصاح فريد: «حسبي منكِ ذلك العهد. والغفور الرحيم رءوف بعباده، وأنا مُوقِن بأنه سيشفيك لي، فيُتَوِّجُ الزواج عهدنا غدًا، كما كنا نرجو أن يُتَوِّجَه بالأمس. لقد عاهدني قلبي يوم خطبتك لابن أسعد بك ألَّا يحب غيرَك، وألَّا تشركني في حياتي امرأة سواك. وقد وفَّى قلبي بعهده، وفتح الله أمامنا اليوم صفحة جديدة من صفحات الأمل في دوام الوفاء!»
وانصرف فريد من زيارته سعيدًا بها كل السعادة. ولم تلبث عزة حين خرج أن قامت إلى نضد زينتها، ونظرت إلى وجهها في المرآة، فاطمأنت إلى أن المرض لم يعبث بملامحها، وأن نظراتها أشد جاذبية مما كانت. فلما جن الليل، استراحت إلى أحلام لم تعرف مثلها حلاوة منذ أشهُر. ودخل الطبيب حجرتها صبح الغد، فألفاها تُغَنِّي، وألفى خَدَّيْها قد خالطهما تَوَرُّد كأنه تَوَرُّد العافية. ورأى على ثغرها ابتسامة ناضرة، فكأنما عاودتها صحتُها كاملة. وسُر بذلك وأخذ يحادثها. ولم تستطع هذه المرة أن تكتمه سرَّها، بل قالت له إن خطبتها حُلَّتْ، وأشارت في خفرٍ إلى حديث فريد معها أمس!
وخرج الطبيب من عندها يتردد بين الأمل في شفائها واليأس منه، فهو يعلم أن لا شيء أخطر على حياة المصدور من الانفعالات العنيفة، سواء أكان الحزن أم كان السرور مَبْعثها؟!
وكان الطبيب يرى انفعالها بالسرور يزداد عنفًا كلما جاء فريد لزيارتها، وفكَّر في منعه اتقاء الخطر، ثم لم يفعل مخافة أن يؤدي انقطاعُه عنها إلى نكسة تصيبها، تكون أسوأ في صحتها!
لكن انفعال عزة بالسرور كان يزداد على الأيام عنفًا، ذلك أنها لم تكن تفكر في أمر صحتها، بل كان ابتهاجها بالعهد الذي قطعه فريد لها أجلَّ قَدْرًا عندها من شفائها، بل من حياتها.
وأصبحت يومًا فإذا صَدْرُها يدفق دمًا، فيُلزمها الطبيب سريرها، ويبالغ في العناية بعلاجها، لكن الأمر كان قد خرج من يده، فلم ينجح العلاج. وفي الغد من ذلك اليوم أسلمت عزة روحها، في حضرة أبيها وأمها، وفي حضرة فريد الذي سبقهما إليها لأول ما بلغه نبأ ما أصابها، وقبل أن يحم قضاء الله فيها!
وقد رأته مُقْبِلًا وهي في نَزْعِها، فقالت في صوت لا يكاد يبين: وداعًا يا فريد! أنا على عهدي، ولكني أحلُّكَ من عهدك لي، فلا عهد على الأحياء للذين يفارقون الحياة!
وبكى فريد لوفاتها أحرَّ بكاء، وسار في جنازتها إلى قبرها، فلما رأى جثمانها ينزل إلى مثواه الأخير، قال والدموع تخنقه: وداعًا يا عزة، وأنا على عهدي لكِ حتى ألقاكِ!
وأقام فريد سنين متعاقبة، يذهب إلى قبرها صباح الجمعة من كل أسبوع، يضع عليه الورد والريحان، ويتلو عنده الفاتحة. ويعود بعد ذلك إلى بيته، وقد تحطم قلبه، وتحطمت أعصابه.
بعد سنوات، كانت وفاء، قريبة عزة، قد أصابها القدر في أمها ثم أبيها. وكان فريد يعرف هذه الفتاة الرقيقة، وإن لم يكن يزورها أو يتردد على أهلها. وكان يعلم أنها، بموت أبويها، قد أصبحت وحيدة ليس لها مَنْ يَكْفُلها من أخ أو قريب. لذلك واساها في مُصابِها وفاءً لعزة قريبتها، وأخذ يتردد عليها، لعله يستطيع أن يؤدي لها أية خدمة تطلبها!
وكانت وفاء مُحدِّثة بارعة. وقد أدهش فريدًا ما كان من صوتها وصوت عزة من شَبَهٍ عجيب، حتى لكان يغمض عينيه أحيانًا، فيُخيل إليه أنه يسمع صوت تلك التي وُورِيَتِ التراب من سنين. وكان تكوين وفاء كله الإغراء: فقوامها، وصدرها، وخطواتها، وبشرتها، وشعرها المرسل من رأسها إلى قدميها … كل ذلك كانت تتضوع منه أنوثة شابة تسحر العين، وينشق ريحها الأنف، في إعجاب يعادل إعجاب الأذن بصوتها، وإعجاب الروح برقتها … رغم عصبيةٍ لا تخلو من عنف، كان فريد يلتمس عذرها في تلك الوحدة التي ضربت نطاقها حول هذه الفتاة البديعة التكوين!
وتَوَسَّمَتْ وفاء في هذا الرجل — الذي واساها في مصابها، ثم عكف على زيارتها وخدمتها — طِيبةَ قلبٍ، وسُمُوَّ نفسٍ، حبباه إليها، وجعلاها تشعر بالسعادة كلما رأته مُقبِلًا لزيارتها. وسألت نفسها يومًا: «ترى لو أنه خطبني ليتزوجني، وبيني وبينه مِن فارق السن ما بيننا، أتراني أسعد بخطبته؟»
وكان الجواب الذي سَمِعَتْهُ أذناها ردًّا على سؤالها: «وهل يمنعه فارق السن من أن يُؤْنِس وحدتك ما عاش؟ إنه يتخطى الشباب إلى الكهولة، لكنكِ تعيشين الآن وكأنك في صومعة أو في دير. فإذا تزوجك خرجتِ إلى الدنيا ونعمت بالحياة.»
وتردد هذا الخاطر في نفسها غير مرة، فتمنت لو أنه خطبها. وهي لم تكن تستطيع مفاتحته في الأمر وإن كانت تتمناه. وكانت تظن فريدًا لا يأبى التزوج منها إذا نُبِّه إلى خطبتها. فهو يعيش مثلها وحيدًا لا مؤنس له. تُرى لو أنها ذَكرت ما يدور بخاطرها لأحد معارفها، وطلبتْ إليها أن تُحدِّث فريدًا فيه فما عسى أن يكون جوابه؟
وخاطبت وفاء سيدة تعرفها وتعرف فريدًا فيما دار بخاطرها، ولقيتِ السيدةُ فريدًا وقالت له: إنك رجل تتخطى الشباب الآن إلى الكهولة، وأنت تتردد على وفاء ترددًا أثار لَغَطَ الناس، رغم اطمئنانهم إلى رجحان عقلك، وحسن سيرتك. وهي شابة رقيقة مهذبة، وأحسبها تغتبط بزيارتك إياها. أفلا ترى أن تقطع الألسن عنك وعنها، بأن تخطبها إلى نفسها، فلا تجد هذه الألسنُ ما تتقول به عليك وعليها؟ وأكبر ظني أنها ترحب بك زوجًا لها. فإن شئت حدثْتُها ونقلتُ إليك جوابها.
وجم فريد لما سمع، فلم يَدُرْ بخاطره قطُّ أن يتزوج وفاء وبينهما فارقُ السن ما بينهما، وهو بعدُ قد جاوز سن الزواج ولا يُفَكِّر فيه. وبعد برهة قال ولا تزال الحيرة تعلو وجهه: أنا أخطب وفاء؟! أترينني يا سيدتي كفؤًا لها، أو قديرًا وأنا في هذه السن على إسعادها؟ إن لها من الاحترام في قلبي، ومن المكانة في نفسي، ما أخشى أن تَجني عليه رابطة الزواج. هي مني بمثابة الأخت الكريمة وأنا لذلك في خدمتها. أما أن أتزوجها فذلك ما لم يرد إلى خاطري، وما لم أفكر فيه!
وأجابت السيدة: «ليست وفاء بالطفلة الغريرة التي لا تعرف ما تريد، فإنْ هي وافقتْ على الزواج منك، لم يكن لوساوسك موضِعٌ، وأكبر ظني أن يُسعِد اللهُ كلًّا منكما بصاحبه، وفارقُ السن بينكما لا يحول دون سعادتكما زوجين كريمين عزيزين. أما ولم تفكر أنتَ في الأمر من قبل، فإني أَدَعُكَ الآن لأعود إليك بعد غدٍ فأسمع كلمتك، وأرجو الله أن يُكلِّل مسعاي بالنجاح!»
وغادرت السيدة فريدًا وتركته لنفسه. وأخذ هو يفكر في هذا الأمر، الذي لم يفكر في مثله، منذ اختارت عزة جوار رَبِّها، وحين عاهد جثمانَها ساعة نزلت إلى قبرها أن يَظَلَّ على عهده لها حتى يلقاها، ولم يمنعه هذا العهد من التفكير فيما حدثته السيدة عنه من أمر وفاء وخطبتها، وكأنما تُنسي السنون العهودَ، إذا لم يذكر بها من قطعت لهم، حتى لا يبتلعها النسيان في لجته!
وفيما هو يفكر، ارتسمت وفاء أمام بصره وبصيرته، وداعب صوتها سمعه، وبدت وكلها الإغراء الذي لا يقاوم. فلما أرخى الليل سدوله، قضى فريد ليلة نابغية، ساورت غفواته في أثنائها أحلام مضطربة، كان يبدو خلالها أحيانًا قبر عزة، ثم تبدو خلالها وفاء، في رقتها وإغرائها. وفي واحد من هذه الأحايين، اختلط عليه الأمر، فبدا لوهمه قبر عزة وقد نقشت عليه كلمة «وفاء». فلما أصبح وكان ذلك يوم جمعة، مر ببائع الأزهار فابتاع منه وردًا وريحانًا، ذهب بهما إلى المقابر، فوضعهما على قبر عزة، وقرأ الفاتحة عنده.
وفيما هو يتأهب للخروج، وكأنما يودع القبر الوداع الأخير، سمع القارئ يتلو: وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا. عند ذلك ارتد إلى ناحية القبر وهو يقول: «صدق الله العظيم … لقد عاهدتك يا عزة، ولن أنكث العهد، ولن أخونك من أجل وفاء!»
ومرت السيدة الغداة لتسمع جوابه عما اقترحتْ عليه، فقال لها: إن الرجل الجدير بأن يتزوج وفاء لم يُخلق بعد!
وبعد الظهر من ذلك اليوم، ذهب فريد إلى دار وفاء، وقال لها: إني مسافر سفرًا أخشى أن يطول، وقد جئت أستودعك الله، فوداعًا!
ووَدَّعَتْه وانصرف عنها، ومن يومئذ انقطع عن زيارتها!
تركت قصة فريد هذه مع وفاء أثرًا أقنع الرجل بأن صحبة الناس وصحبة النساء خاصة لا تخلو من خطر، وأن الوحدة عبادة حقًّا. فاختار سكنًا على حافة الصحراء به حديقة، واتخذ من الدواجن، ومن الحيوانات الصغيرة الأليفة أصدقاء عَمَّروا هذه الحديقة، واستمتعوا بكل عواطفه ورعايته. واختار لخدمته وخدمة دواجنه وحيواناته طاهية متقدمة في السن، لها ابنة لم تبلغ العاشرة من سنها. وتوثقت الصلة بينه وبين هذه الدواجن والحيوانات الأليفة، واعتبر البنت واحدة منها، فأسبغ عليها من العطف ما كان يسبغه على زميلاتها العجماوات!
وانقضت سنوات أخرى وهو سعيد بوحدته وحيواناته، وإنه لفي منزله يومًا، إذ نعى الناعي «وفاء» إليه، وأنها ستدفن بعد ظهر ذلك اليوم عذراء بتولًا. وسار في جنازتها، فلما بلغ المقابر، وجد عند قبرها سيدة واحدة تودع المتوفاة الوداع الأخير، تلك هي السيدة التي خاطبته يومًا في التزوج من وفاء، فلما ذهب نحوها يحمل إليها عزاءه، نظرت إليه في عتاب، وقالت: إن المرأة الجديرة بأن تتزوج فريدًا لم تُخلق بعدُ!
وأجابها فريد: بل خُلقت واختارها الله إلى جواره من زمن طويل.
رحم الله عزة، ويرحم الله وفاء!
===================
محمد حسين هيكل(1305 هـ / 1888 - 1376 هـ / 1956م) شاعرٌ وأديبٌ وسياسي مصري كبير ، ولد في 20 أغسطس 1888م الموافق 12 ذو الحجة 1305 هـ في قرية كفر غنام في مدينة المنصورة، محافظة الدقهلية، مصر.
درس القانون في مدرسة الحقوق الخديوية بالقاهرة وتخرج منها في عام 1909م. حصل على درجة الدكتوراه في الحقوق من جامعة السوربون في فرنسا سنة 1912م، ولدى رجوعه إلى مصر عمل في المحاماة 10 سنين، كما عمل بالصحافة. اتصل بأحمد لطفي السيد وتأثر بأفكاره، والتزم بتوجيهاته، كما تأثر بالشيخ محمد عبده وقاسم أمين وغيرهم.
كان عضوا ًفي لجنة الثلاثين التي وضعت دستور 1923، أول دستور صدر في مصر المستقلة وفقاً لتصريح 28 فبراير 1922م. لما أنشأ حزب الأحرار الدستوريين جريدة أسبوعية باسم السياسة الأسبوعية عُيِّن هيكل في رئاسة تحريرها سنة 1926. اختير وزيراً للمعارف في الوزارة التي شكلها محمد محمود عام 1938م، ولكن تلك الحكومة استقالت بعد مدة، إلا أنه عاد وزيراً للمعارف مرة ثانية سنة 1940م في وزارة حسين سري، وظل بها حتى عام 1942م، ثم عاد وتولى هذا المنصب مرة أخرى في عام 1944م، وأضيفت إليه وزارة الشؤون الاجتماعية سنة 1945م.
اختير سنة 1941م نائبًا لرئيس حزب الأحرار الدستوريين، ثم تولى رئاسة الحزب سنة 1943م، وظلَّ رئيساً له حتى ألغيت الأحزاب بعد قيام ثورة 23 يوليو 1952. تولى رئاسة مجلس الشيوخ سنة 1945م وظل يمارس رئاسة هذا المجلس التشريعي حتى يونيو 1950م حيث أصدرت حكومة الوفد المراسيم الشهيرة التي أدت إلى إخراج هيكل وكثير من أعضاء المعارضة من المجلس نتيجة الاستجوابات التي قدمت في المجلس وناقشت اتهامات وجهت لكريم ثابت أحد مستشاري الملك فاروق. تولى أيضاً تمثيل السعودية في التوقيع على ميثاق جامعة الدول العربية عام 1945م، كما رأس وفد مصر في الأمم المتحدة أكثر من مرة.
توفي يوم السبت 5 جمادى الأولى 1376 هـ الموافق 8 ديسمبر 1956م عن عمر يناهز 68 عامًا.
وكان «فريد» من جانبه شديد الثقة بنفسه، وكانت نظرة عزة إليه تضاعف هذه الثقة عنده، وتضاعف من طموحه ليكون أهلًا لها، جديرًا بها. فلما بلغت الفتاة الثامنة عشرة من سِنها، خاطب زوجة خاله في خطبة «عزة» إلى أبيها فقالت له: لا أحسب خالك يضنُّ عليك بابنته، لكنه لا يرضى أن تحدثه في هذه الخِطبة، قبل أن تخطب أختها، فهي أكبر منها، ولا يجوز في عرف الناس أن تخطب الصغرى قبل أختها التي تكبرها!
وقَبِل فريد هذا الكلام على مضض، وإن طمأنه أن الأم ترحب بزواجه من ابنتها. ففي هذا الترحيب أمارة خير، ولا ضير عليه أن يصبر، وأن يرجو الله أن تُخطب الأخت الكبيرة في زمن وجيز!
وتعاقبت الأسابيع والشهور، وفريد في انتظاره على لظى. وإنه لكذلك، إذ علم أن «أسعد بك» ذهب إلى خاله يخطب ابنتيه لولديه!
وكان أسعد بك رجلًا وجيهًا من عِلية القوم، واسع الثراء، وكان ابناه شابين مهذبين حصلَا على مؤهلات علمية أعلى من مؤهلات فريد!
واضطرب فريد إذ بلغه هذا النبأ، وذهب لفوره إلى زوجة خاله، يسألها عن هذه الخطبة ورأي خاله فيها.
قالت الزوجة: أنت تعلم أننا معشر الأمهات قلَّ أن يكون لنا في مثل هذا الأمر رأي، فأما الرأي كله فللآباء، وقد ذكرت لخالك حين أنبأني أمس بحديث أسعد بك كلامَك معي منذ أشهر في شأن عزة. فقال: أوَتُريدين أن تُمَيِّلي بَخْتَ ابنتك لعبارة طارئة كالتي أفضى بها إليك فريد؟ وهل تطمعين في أن يخطب بناتنا خير من أولاد أسعد بك، وهم مَن هم ثراء وتربية وعلمًا؟!
وماذا تريدينني أن أقول للرجل؟ أأقول له: إنني أقبل خطبة كبرى البنتين ولا أقبل خطبة أختها؛ لأن عزة تحب ابن عمتها؟ أوَتَحْسَبِينه يرضى بعد ذلك أن يصاهرنا؟ أم تَرَيْنه يحسب أن تربية بناتنا سيئة لأنهما يعرفان الحب؟ وعند ذلك ينصرف عنا، تاركًا للناس أن يقولوا فينا ما يشاءون. كلا! لن أقبل هذا الوضع لنفسي ولا لبناتي، وسأزوجهما من هذين الخطيبين الكريمين، فأنا المسئول عنهما وعن مستقبلهما، وأرجو منك ألَّا تخاطبيني في هذا الأمر مرة أخرى!
وأضافت أمُّ عزة، في لهجة رقيقة تواسي بها فريدًا: وأنت يا بني، لا ريب تفرح لما يناله أختاك من خير، وأنا أعرف لك عروسًا أجمل من عزة، ستحبها ساعة تراها، فلا تبتئس، ولا يأخذ الضيق عليك مسالك نفسك!
وانصرف فريد كاسف البال آسفًا، وخُيل إليه أن باب هذا البيت يوشك أن يوصد دونه، فهو يعلم أن خاله رجل عنيف، وأنه إن خاطبه في أمر عزة، بعد أن خطبها أسعدُ بك لابنه، رده أقبح ردٍّ فأدى ذلك إلى القطيعة بينهما، وقد يؤدي إلى ألَّا يرى عزة بعد ذلك ما عاش!
•••
ودعا الأب ابنتيه، وقبَّلَهما، وبارك لهما على خطبتهما لابني أسعد بك … أما الكبرى فقبَّلت أباها كما قبَّلها، وافْتَرَّ ثَغرُها عن ابتسامة المسرة والرضا. فأما عزة، فانهملت من عينيها دمعة حارة لدى سماعها هذا النبأ. وبعد برهة انسحبت من البهو الذي يجلسون فيه إلى غرفتها وأسلمت نفسها للبكاء، وخُيل إليها أن أباها يبيعها، كما كانت تباع الإماء في سوق الرقيق، وأن القدر كتب عليها أن تكون بائسة طوال حياتها، لكنها كانت موقنة أنها لن تستطيع لقرار أبيها نقضًا، ولن تستطيع عليه ثورة. فأبوها لا يقبل أن تعارضه زوجه، أو تعارضه إحدى ابنتيه، بل يرى في أية معارضة له عقوقًا وخروجًا على ما أدب أسرته به من أنه السيد المطاع، وأنهن جميعًا له تَبَع!
ودخلت عليها أمها وهي في بكائها وحزنها، وحاولت أن تقنعها بأن أباها أعلى منهن رأيًا، وأبعد نظرًا، وأنه أحرص على مستقبلهن من أنفسهن، فلا مفر لهن من قبول قضائه بالتسليم والرضا!
ولم تجب عزة بكلمة، ولم تَنبس ببِنت شفة. فلم يكن في مقدورها أن تتكلم والعبرات تخنقها، والهم قد جفف حَلْقها وأعجزها عن النطق!
وخرجت أمها بعد زمن حيرَى، وكل الذي دار بخاطرها أن حزن ابنتها طارئ لن يلبث عطفها أن يغرقه، ثم تغرقه هدايا خطيبها، ويغرقه بعد ذلك جهازها وفرح زواجها، وانتقالها إلى حياتها الجديدة!
لكن هذا الرجاء الذي خالج نفس الأم، وهون عليها حيرتها، لم يتحقق. فقد تشبث الهم بنفس عزة، وركبها حزن محَا عن ثغرها ابتسامته، ولم يخفف منه ما كان خطيبُها يبعث به إليها الحين بعد الحين من نفيس الهدايا. لقد شعرت بأنها كمٌّ مهمل، وبأن عواطفها ووجودها وحياتها لا رأي لها فيها، ولا قيمة لها عند أبيها. ورأت إلى ذلك أنها لا تستطيع أن تعترض أو تثور، فاحتقرت الحياة وما فيها، وانصرفت عن كل نعمائها، مكتفية بأن تلوك شجاها وهمها وليلها ونهارها! وأدى ذلك إلى فَقْدِ شهيتها للطعام، وإلى ذبول نضارتها، وإلى تَسرُّب المرض إلى نفسها ثم إلى جسمها، من غير أن يشعر بذلك المرض أحدٌ!
•••
كانت الأسرة كلها في شغل بالمصاهرة الجديدة، وبالهدايا الثمينة المتعاقبة، وبالحديث عن يوم الزفاف وما يكون فيه، وبهذا الجهاز القيم الذي كان الأب ينفق في اختياره ساعات من كل يوم، ولا يفكر مع ذلك في اصطحاب ابنتيه ليرياه أو يريا منه شيئًا. إنه مطمئن إلى حسن ذوقه، ودقيق اختياره، وإلى أنه لا يجوز أن يكون وراء رأيه معقِّب!
وبدأت علامات المرض تظهر على عزة، فقد بدأ ينتابها سعال خفيف، ظنه أبوها أول الأمر من أثر البرد، فلما طال بها، واستدعى الطبيب لعلاجها، ودقق في فحصها، أسرَّ إلى أبيها أن الأمر أخطر مما يدور بخاطره، وأن فتاته مصدورة، وأن الخير في نقلها إلى مصحة تُعنى بها!
ووجم الأب لما سمع، وطال تفكيره فيه، فقد أوشك الجهاز أن يتم، وأسعد بك يطلب مُلِحًّا في تحديد يوم الزفاف. فماذا تراه يصنع وعزة مريضة، ولا يمكن أن تزف إلى خطيبها قبل بُرئها؟
ولم يجد حلًّا لهذا الموقف إلا أن يذكر لأسعد بك مرض عزة، وإن لم يذكر له نوع المرض، ووجم أسعد بك طويلًا ثم قال: «هذا قضاء الله لا سلطان لنا عليه، والرأي عندي أن نتم زفاف ابنتك الكبرى إلى خطيبها، فهو أكثر إلحاحًا من أخيه في الإسراع بالزفاف. فإذا برئت عزة من بعد، زُفت هي الأخرى إلى خطيبها!»
واغتبط الأب بهذا الرأي، وتم زفاف كبرى البنتين، وانتقلت إلى بيتها. أما عزة فنقلت بعد أسابيع من فرح أختها إلى مصحة تُعالَج فيها من مرضها!
•••
وكان خطيبها، وكان فريد، يترددان عليها في المصحة، يواسيانها، ويسألان عن حالها. وكانت عزة تشعر كلما زارها خطيبها كابوسًا يجثم على صدرها يكاد يمزقه! فلم يكن منها غير أنات وسعال يخالط الكلمات القليلة المتقطعة التي تشكره بها على زيارته! فإذا جاء فريد عندها تراءى لها فيض من نور الأمل في الحياة، فابتسمت وتحدثت إليه مغتبطة بزيارته وسألته عن الكثير من أمره!
فإذا تصورت بعد ذلك مجيء خطيبها ذوى في نفسها كلُّ أمل، وخُيل إليها أن شبحين أسودين يحيطان بها: شبح الموت عن يسارها، وشبح هذا الخطيب عن يمينها!
وبعد أشهر، رأى الخطيب أثناءها أنها لا تتقدم إلى الشفاء، ذهب إلى طبيب المصحة يسأله رأيَه في حالها، ومتى يتم في تقديره شفاؤها؟ وهز الطبيب كتفه وقال: لا أستطيع أن أجيب عن هذا السؤال يا سيدي! فهذه المريضة عصبية الطبع، ولأعصابها تأثير بالغ في صحتها، فأنا أراها أحيانًا تتقدم ولو في بطء إلى ناحية الشفاء، ثم أراها فجأة انتكست، حتى أكاد أيأس من شفائها. وقد حاولت أن أستدرجها لأعرف شيئًا من قصة حياتها، لعلي أستطيع إن وقفت على سرها أن أنجح في علاجها، فكانت تأبى كل الإباء أن تفضي إليَّ بشيء. هذا على الرغم من حرصي الشديد على العناية بها، لرقتها وحلو طبعها ودماثة خلقها وسِحْر حديثها في الساعات التي يبتسم لها الأمل فيها. أما وذلك شأنها فمن العسير عليَّ أن أقول لك شيئًا عن سير مرضها، أو مبلغ تقدمها نحو الشفاء والعافية!
وعجب خطيبها لما سمع … هي إذن تبتسم، لكنه لم ير قط هذه الابتسامة على ثغرها، وهي إذن تتحدث وفي حديثها رقة وحلاوة، لكنه لم يسمع غير كلماتها المتقطعة بين تأوهاتها ونوبات السعال التي تعتريها. والطبيب لا يستطيع أن يذكر شيئًا عن شفائها؛ أي إنها إن عاشت، فقد تبقى بالمصحة عامًا أو أعوامًا. أليس خيرًا أن يفصم العقدة التي تربطه بها، فتُتاح له الفرصة في الزواج من غيرها، وقد يتيح لها ذلك فرصة البرء والعود إلى الحياة من جديد؟!
وتحدث إلى أبيه وأبيها في الأمر، فلم يجدَا ما يعترضان به عليه، وزارها أبوها يومًا، وقال لها مُتكلِّفًا اللطف والرقة: لقد فهمت يا ابنتي أن خطيبك يريد أن يتزوج، ولا أحسبك ترضين أن يخطب غيرك وأنت لا تزالين خطيبته؛ لذا أرى — إن كان مُصمِّمًا على هذا الأمر — أن نحل خطبتك له، وقد رأيت أن أعرف رأيك قبل أن أصرح لأبيه برأيي!
قالت عزة: «الرأي لك يا أبت، فاصنع ما بدا لك.» ولمح أبوها على وجهها إشراق المسرة وهي تقول هذا الكلام. فلما خرج من عندها، أخذ يسأل نفسه: أفكان قبوله خطبتها على غير رغبتها هو الذي أدَّى إلى مرضها هذا المرض العضال! وأخذ يحاسب نفسه ويستغفر ربه، ويرجو لها البرء بعد فَصْم خطبتها حتى لا يعذبه ضميره بقية حياته إن أصابها مكروه!
•••
بعد أيام من هذا الحديث، أقبل فريد إلى المصحة، ودخل عند عزة، وعيناه تفيضان سرورًا. فلما رأته أيقنت أن خطبتها تم فَصْمُها، فغلبها الفرح الذي غلب مُحِبَّها، ونطقت بذلك أساريرها. لكنها أرادت أن تداعب فريدًا، فقالت: أراك اليوم مسرورًا بحل خطبتي شماتة! أوَذلكَ هو الحب الذي كنتَ تحدثني من قبل عنه؟!
وأُخِذَ فريد حين سمع هذا الكلام، فنظر إليها وكلُّه الإشفاق والمحبة، وقال: أوَتَرضى شفتاكِ أن تنطقا بمثل هذا الكلام ولو على سبيل الدعابة؟ أنا يا عزة أشمت بك أنت، وأنت حياتي وأعز من حياتي؟! إنما سُررت لحل خطبتك لأجدد لك عهدًا قطعناه أن يتوج الزواج حبنا، وإنني لعلى ثقة اليوم بأن الشفاء قريب منا، وأن الله أراد أن يبلو حالي بما أصابنا، ليعلم أن للحب قدسية واجبة الاحترام. وهأنذا أقطع لك العهد من جديد، على أن نتزوج، أفتقطعين لي أنت مثل هذا العهد صادقة؟
وارتبكت الفتاة لما سمعت، وتولتها الحيرة دون الجواب. أفمن حقها أن تقطع مثل هذا العهد، والمرض العضال يعبث بصدرها، وفريد في صحة وفتوة شبابه؟ وبدا عليها من الوجوم ما أدهش فريدًا، فقال: ما كنت أحسب عواطفك نحوي تغيرت بهذا القَدْر، بل حسبتك اغتبطت بحل خطبتك اغتباطي أنا بذلك، لنعود إلى عهدنا الأول.
ونظرت إليه عزة بعينين ترقرقت فيهما دمعة لم تنحدر، وقالت: أفمن حق مثلي أن يقطع اليوم مثل هذا العهد؟ أنتَ لا تعلم، وأنا لا أعلم، كم يطول مقامي هنا، وما يكون مصيري بعد هذا المقام، فكيف تطلب إليَّ أن أقطع عهدًا قد أعجزُ عن الوفاء به؟ ولولا هذا الشعور، لكنت أسرع منك إلى قطع هذا العهد. وكل ما أستطيع أن أقوله: «إنني أحببتك، وإنني أحبك، وإنني سأحبك ما بقيت في هذه الدنيا، وستحبك روحي حتى نلتقي في رحاب الآخرة، وفي رحمة الغفور الرحيم!»
وصاح فريد: «حسبي منكِ ذلك العهد. والغفور الرحيم رءوف بعباده، وأنا مُوقِن بأنه سيشفيك لي، فيُتَوِّجُ الزواج عهدنا غدًا، كما كنا نرجو أن يُتَوِّجَه بالأمس. لقد عاهدني قلبي يوم خطبتك لابن أسعد بك ألَّا يحب غيرَك، وألَّا تشركني في حياتي امرأة سواك. وقد وفَّى قلبي بعهده، وفتح الله أمامنا اليوم صفحة جديدة من صفحات الأمل في دوام الوفاء!»
وانصرف فريد من زيارته سعيدًا بها كل السعادة. ولم تلبث عزة حين خرج أن قامت إلى نضد زينتها، ونظرت إلى وجهها في المرآة، فاطمأنت إلى أن المرض لم يعبث بملامحها، وأن نظراتها أشد جاذبية مما كانت. فلما جن الليل، استراحت إلى أحلام لم تعرف مثلها حلاوة منذ أشهُر. ودخل الطبيب حجرتها صبح الغد، فألفاها تُغَنِّي، وألفى خَدَّيْها قد خالطهما تَوَرُّد كأنه تَوَرُّد العافية. ورأى على ثغرها ابتسامة ناضرة، فكأنما عاودتها صحتُها كاملة. وسُر بذلك وأخذ يحادثها. ولم تستطع هذه المرة أن تكتمه سرَّها، بل قالت له إن خطبتها حُلَّتْ، وأشارت في خفرٍ إلى حديث فريد معها أمس!
وخرج الطبيب من عندها يتردد بين الأمل في شفائها واليأس منه، فهو يعلم أن لا شيء أخطر على حياة المصدور من الانفعالات العنيفة، سواء أكان الحزن أم كان السرور مَبْعثها؟!
وكان الطبيب يرى انفعالها بالسرور يزداد عنفًا كلما جاء فريد لزيارتها، وفكَّر في منعه اتقاء الخطر، ثم لم يفعل مخافة أن يؤدي انقطاعُه عنها إلى نكسة تصيبها، تكون أسوأ في صحتها!
لكن انفعال عزة بالسرور كان يزداد على الأيام عنفًا، ذلك أنها لم تكن تفكر في أمر صحتها، بل كان ابتهاجها بالعهد الذي قطعه فريد لها أجلَّ قَدْرًا عندها من شفائها، بل من حياتها.
وأصبحت يومًا فإذا صَدْرُها يدفق دمًا، فيُلزمها الطبيب سريرها، ويبالغ في العناية بعلاجها، لكن الأمر كان قد خرج من يده، فلم ينجح العلاج. وفي الغد من ذلك اليوم أسلمت عزة روحها، في حضرة أبيها وأمها، وفي حضرة فريد الذي سبقهما إليها لأول ما بلغه نبأ ما أصابها، وقبل أن يحم قضاء الله فيها!
وقد رأته مُقْبِلًا وهي في نَزْعِها، فقالت في صوت لا يكاد يبين: وداعًا يا فريد! أنا على عهدي، ولكني أحلُّكَ من عهدك لي، فلا عهد على الأحياء للذين يفارقون الحياة!
وبكى فريد لوفاتها أحرَّ بكاء، وسار في جنازتها إلى قبرها، فلما رأى جثمانها ينزل إلى مثواه الأخير، قال والدموع تخنقه: وداعًا يا عزة، وأنا على عهدي لكِ حتى ألقاكِ!
وأقام فريد سنين متعاقبة، يذهب إلى قبرها صباح الجمعة من كل أسبوع، يضع عليه الورد والريحان، ويتلو عنده الفاتحة. ويعود بعد ذلك إلى بيته، وقد تحطم قلبه، وتحطمت أعصابه.
بعد سنوات، كانت وفاء، قريبة عزة، قد أصابها القدر في أمها ثم أبيها. وكان فريد يعرف هذه الفتاة الرقيقة، وإن لم يكن يزورها أو يتردد على أهلها. وكان يعلم أنها، بموت أبويها، قد أصبحت وحيدة ليس لها مَنْ يَكْفُلها من أخ أو قريب. لذلك واساها في مُصابِها وفاءً لعزة قريبتها، وأخذ يتردد عليها، لعله يستطيع أن يؤدي لها أية خدمة تطلبها!
وكانت وفاء مُحدِّثة بارعة. وقد أدهش فريدًا ما كان من صوتها وصوت عزة من شَبَهٍ عجيب، حتى لكان يغمض عينيه أحيانًا، فيُخيل إليه أنه يسمع صوت تلك التي وُورِيَتِ التراب من سنين. وكان تكوين وفاء كله الإغراء: فقوامها، وصدرها، وخطواتها، وبشرتها، وشعرها المرسل من رأسها إلى قدميها … كل ذلك كانت تتضوع منه أنوثة شابة تسحر العين، وينشق ريحها الأنف، في إعجاب يعادل إعجاب الأذن بصوتها، وإعجاب الروح برقتها … رغم عصبيةٍ لا تخلو من عنف، كان فريد يلتمس عذرها في تلك الوحدة التي ضربت نطاقها حول هذه الفتاة البديعة التكوين!
وتَوَسَّمَتْ وفاء في هذا الرجل — الذي واساها في مصابها، ثم عكف على زيارتها وخدمتها — طِيبةَ قلبٍ، وسُمُوَّ نفسٍ، حبباه إليها، وجعلاها تشعر بالسعادة كلما رأته مُقبِلًا لزيارتها. وسألت نفسها يومًا: «ترى لو أنه خطبني ليتزوجني، وبيني وبينه مِن فارق السن ما بيننا، أتراني أسعد بخطبته؟»
وكان الجواب الذي سَمِعَتْهُ أذناها ردًّا على سؤالها: «وهل يمنعه فارق السن من أن يُؤْنِس وحدتك ما عاش؟ إنه يتخطى الشباب إلى الكهولة، لكنكِ تعيشين الآن وكأنك في صومعة أو في دير. فإذا تزوجك خرجتِ إلى الدنيا ونعمت بالحياة.»
وتردد هذا الخاطر في نفسها غير مرة، فتمنت لو أنه خطبها. وهي لم تكن تستطيع مفاتحته في الأمر وإن كانت تتمناه. وكانت تظن فريدًا لا يأبى التزوج منها إذا نُبِّه إلى خطبتها. فهو يعيش مثلها وحيدًا لا مؤنس له. تُرى لو أنها ذَكرت ما يدور بخاطرها لأحد معارفها، وطلبتْ إليها أن تُحدِّث فريدًا فيه فما عسى أن يكون جوابه؟
وخاطبت وفاء سيدة تعرفها وتعرف فريدًا فيما دار بخاطرها، ولقيتِ السيدةُ فريدًا وقالت له: إنك رجل تتخطى الشباب الآن إلى الكهولة، وأنت تتردد على وفاء ترددًا أثار لَغَطَ الناس، رغم اطمئنانهم إلى رجحان عقلك، وحسن سيرتك. وهي شابة رقيقة مهذبة، وأحسبها تغتبط بزيارتك إياها. أفلا ترى أن تقطع الألسن عنك وعنها، بأن تخطبها إلى نفسها، فلا تجد هذه الألسنُ ما تتقول به عليك وعليها؟ وأكبر ظني أنها ترحب بك زوجًا لها. فإن شئت حدثْتُها ونقلتُ إليك جوابها.
وجم فريد لما سمع، فلم يَدُرْ بخاطره قطُّ أن يتزوج وفاء وبينهما فارقُ السن ما بينهما، وهو بعدُ قد جاوز سن الزواج ولا يُفَكِّر فيه. وبعد برهة قال ولا تزال الحيرة تعلو وجهه: أنا أخطب وفاء؟! أترينني يا سيدتي كفؤًا لها، أو قديرًا وأنا في هذه السن على إسعادها؟ إن لها من الاحترام في قلبي، ومن المكانة في نفسي، ما أخشى أن تَجني عليه رابطة الزواج. هي مني بمثابة الأخت الكريمة وأنا لذلك في خدمتها. أما أن أتزوجها فذلك ما لم يرد إلى خاطري، وما لم أفكر فيه!
وأجابت السيدة: «ليست وفاء بالطفلة الغريرة التي لا تعرف ما تريد، فإنْ هي وافقتْ على الزواج منك، لم يكن لوساوسك موضِعٌ، وأكبر ظني أن يُسعِد اللهُ كلًّا منكما بصاحبه، وفارقُ السن بينكما لا يحول دون سعادتكما زوجين كريمين عزيزين. أما ولم تفكر أنتَ في الأمر من قبل، فإني أَدَعُكَ الآن لأعود إليك بعد غدٍ فأسمع كلمتك، وأرجو الله أن يُكلِّل مسعاي بالنجاح!»
وغادرت السيدة فريدًا وتركته لنفسه. وأخذ هو يفكر في هذا الأمر، الذي لم يفكر في مثله، منذ اختارت عزة جوار رَبِّها، وحين عاهد جثمانَها ساعة نزلت إلى قبرها أن يَظَلَّ على عهده لها حتى يلقاها، ولم يمنعه هذا العهد من التفكير فيما حدثته السيدة عنه من أمر وفاء وخطبتها، وكأنما تُنسي السنون العهودَ، إذا لم يذكر بها من قطعت لهم، حتى لا يبتلعها النسيان في لجته!
وفيما هو يفكر، ارتسمت وفاء أمام بصره وبصيرته، وداعب صوتها سمعه، وبدت وكلها الإغراء الذي لا يقاوم. فلما أرخى الليل سدوله، قضى فريد ليلة نابغية، ساورت غفواته في أثنائها أحلام مضطربة، كان يبدو خلالها أحيانًا قبر عزة، ثم تبدو خلالها وفاء، في رقتها وإغرائها. وفي واحد من هذه الأحايين، اختلط عليه الأمر، فبدا لوهمه قبر عزة وقد نقشت عليه كلمة «وفاء». فلما أصبح وكان ذلك يوم جمعة، مر ببائع الأزهار فابتاع منه وردًا وريحانًا، ذهب بهما إلى المقابر، فوضعهما على قبر عزة، وقرأ الفاتحة عنده.
وفيما هو يتأهب للخروج، وكأنما يودع القبر الوداع الأخير، سمع القارئ يتلو: وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا. عند ذلك ارتد إلى ناحية القبر وهو يقول: «صدق الله العظيم … لقد عاهدتك يا عزة، ولن أنكث العهد، ولن أخونك من أجل وفاء!»
ومرت السيدة الغداة لتسمع جوابه عما اقترحتْ عليه، فقال لها: إن الرجل الجدير بأن يتزوج وفاء لم يُخلق بعد!
وبعد الظهر من ذلك اليوم، ذهب فريد إلى دار وفاء، وقال لها: إني مسافر سفرًا أخشى أن يطول، وقد جئت أستودعك الله، فوداعًا!
ووَدَّعَتْه وانصرف عنها، ومن يومئذ انقطع عن زيارتها!
تركت قصة فريد هذه مع وفاء أثرًا أقنع الرجل بأن صحبة الناس وصحبة النساء خاصة لا تخلو من خطر، وأن الوحدة عبادة حقًّا. فاختار سكنًا على حافة الصحراء به حديقة، واتخذ من الدواجن، ومن الحيوانات الصغيرة الأليفة أصدقاء عَمَّروا هذه الحديقة، واستمتعوا بكل عواطفه ورعايته. واختار لخدمته وخدمة دواجنه وحيواناته طاهية متقدمة في السن، لها ابنة لم تبلغ العاشرة من سنها. وتوثقت الصلة بينه وبين هذه الدواجن والحيوانات الأليفة، واعتبر البنت واحدة منها، فأسبغ عليها من العطف ما كان يسبغه على زميلاتها العجماوات!
وانقضت سنوات أخرى وهو سعيد بوحدته وحيواناته، وإنه لفي منزله يومًا، إذ نعى الناعي «وفاء» إليه، وأنها ستدفن بعد ظهر ذلك اليوم عذراء بتولًا. وسار في جنازتها، فلما بلغ المقابر، وجد عند قبرها سيدة واحدة تودع المتوفاة الوداع الأخير، تلك هي السيدة التي خاطبته يومًا في التزوج من وفاء، فلما ذهب نحوها يحمل إليها عزاءه، نظرت إليه في عتاب، وقالت: إن المرأة الجديرة بأن تتزوج فريدًا لم تُخلق بعدُ!
وأجابها فريد: بل خُلقت واختارها الله إلى جواره من زمن طويل.
رحم الله عزة، ويرحم الله وفاء!
===================
محمد حسين هيكل(1305 هـ / 1888 - 1376 هـ / 1956م) شاعرٌ وأديبٌ وسياسي مصري كبير ، ولد في 20 أغسطس 1888م الموافق 12 ذو الحجة 1305 هـ في قرية كفر غنام في مدينة المنصورة، محافظة الدقهلية، مصر.
درس القانون في مدرسة الحقوق الخديوية بالقاهرة وتخرج منها في عام 1909م. حصل على درجة الدكتوراه في الحقوق من جامعة السوربون في فرنسا سنة 1912م، ولدى رجوعه إلى مصر عمل في المحاماة 10 سنين، كما عمل بالصحافة. اتصل بأحمد لطفي السيد وتأثر بأفكاره، والتزم بتوجيهاته، كما تأثر بالشيخ محمد عبده وقاسم أمين وغيرهم.
كان عضوا ًفي لجنة الثلاثين التي وضعت دستور 1923، أول دستور صدر في مصر المستقلة وفقاً لتصريح 28 فبراير 1922م. لما أنشأ حزب الأحرار الدستوريين جريدة أسبوعية باسم السياسة الأسبوعية عُيِّن هيكل في رئاسة تحريرها سنة 1926. اختير وزيراً للمعارف في الوزارة التي شكلها محمد محمود عام 1938م، ولكن تلك الحكومة استقالت بعد مدة، إلا أنه عاد وزيراً للمعارف مرة ثانية سنة 1940م في وزارة حسين سري، وظل بها حتى عام 1942م، ثم عاد وتولى هذا المنصب مرة أخرى في عام 1944م، وأضيفت إليه وزارة الشؤون الاجتماعية سنة 1945م.
اختير سنة 1941م نائبًا لرئيس حزب الأحرار الدستوريين، ثم تولى رئاسة الحزب سنة 1943م، وظلَّ رئيساً له حتى ألغيت الأحزاب بعد قيام ثورة 23 يوليو 1952. تولى رئاسة مجلس الشيوخ سنة 1945م وظل يمارس رئاسة هذا المجلس التشريعي حتى يونيو 1950م حيث أصدرت حكومة الوفد المراسيم الشهيرة التي أدت إلى إخراج هيكل وكثير من أعضاء المعارضة من المجلس نتيجة الاستجوابات التي قدمت في المجلس وناقشت اتهامات وجهت لكريم ثابت أحد مستشاري الملك فاروق. تولى أيضاً تمثيل السعودية في التوقيع على ميثاق جامعة الدول العربية عام 1945م، كما رأس وفد مصر في الأمم المتحدة أكثر من مرة.
توفي يوم السبت 5 جمادى الأولى 1376 هـ الموافق 8 ديسمبر 1956م عن عمر يناهز 68 عامًا.