غيليسيا، هي أرض ساحرة يحكى أنها بعثت من ريح الجنة التي سرقتها حواء حين طردت رفقة أبونا آدم إلى أرض الله ثمّ أسكنتها قوم اصطفتهم من بنيها الخاشعين.
حدث أن حلّ بالأرض الطيبة تنين قحاف ذو بطش عظيم. فاهتزت السرائر، زرع الخوف في القلوب، انتشر الهلع في أرجاء المملكة مثل الوباء، و خارت قوى أشدهم بأسا، و أصبحو له طائعين، يتجرعون الذل فى أقداح الصمت، يتنافسون في اهداءه أروع الخيرات التي تزخر بها تلك الأرض المعطاءة وتسليمه منابع النعم حتى كاد يستنزفها و يذهب بالأخضر و اليابس حتى أن أجسادهم وهنت و قلّ مالهم و أصبحوا حمّة من تعب، يفتك الصمت بأحلامهم و يجتر الخوف صبرهم ذلك أن من يحاول التصدي للظلم و الجهر بالحق سرعان ما يلقى به في هاوية سحيقة بعد أن يصلى لهيب النيران التي ينفثها التنين الجائر..
حين اشتد الضيق بأحدهم، ثار و واجه مصيره المحتوم ببسالة. لكن فعله الشاذ أجج نيران الثورة في عروق المضطهدين فتآلفوا و تحالفوا حتى تحسبهم يد واحدة لها أن تسحق الأرض بما فيها. فاستكان التنين و آثر الرحيل إلى إحدى الجبال البقاع النائية. تهللت النفوس بالنصر و انشرحت فرحا بالحرية فسادت البهجة المملكة مجددا..
لكن سرعان ما اجتاح الغضب النفوس، اجتمعوا، تناقشوا، تخاصموا ثمّ أجمعوا على ضرورة تنصيب طاغية آخر يذيقهم الذّل في أقداح الخوف و كان أن اختاروا الغول الهرم سيدا على عرش المملكة الرمادية…
في مراسم التنصيب، تعهد كل فرد ألا يجهر بالحق و يدعوا سرّا في كل صلاة أن يطيل الله عمر المسخ…
على ضفاف بحيرة “تريتونيس”، جلست “ساثانيا” حسناء المملكة محاطة بالجواري، تتراقص الفراشات على راحتيها و تتمايل الزهور على أنغام أهزوجة حزينة تتغنى بها والدموع تنسكب لألئ براقة على خدها المرمري ..
حين تفطنت السمكة الشقية “شنسومة” أنّ صديقتها حزينة، هرعت تسألها عن سبب حزنها، تنهدت “ساثانيا” ملأ قلبها و قالت:
ــ ألم يبلغك خبر الفاجعة التي حلّت بأرضنا و الغول غارق في سبات عميق …
تنهدت السمكة ثمّ قالت بصوت متهدج:
– حدثنا عصافير “غيليسيا” عما ترتكبه الغربان من خراب سرى مثل النار في الهشيم.
عمّ صمت طويل قطعته السلحفاة العجوز قائلة:
– تقول الأسطورة أنّ أما إن تسفك الدماء فإنّ هذه الأرض تفنى.
خفق قلب “ساثانيا” و ارتعدت خوفا. أذعنت لخيالها يصور لها الكارثة التي قد تحل بمملكتها ثمّ غلبتها الدموع مجددا فأجهشت ببكاء تنفطر له القلوب ..
سرعان ما اجتاح محيط البحيرة ضجيج عارم، اقتربت جيوش غربان بأجساد بشرية تجر أسراها، ثم تنحرهم عند حافة البحيرة.
فجأة، زمجرت ريح قوية، اهتزت لها الأشجار الضخمة و تهاوت من قوتها العصافير على الأرض مثل خرق بالية.
سال الدمّ أمواجا حمراء صاخبة تتدفق ببطء على العشب الأخضر وما إن اختلطت بمياه البحيرة الصافية، حتى زمجرت ريح هوجاء ارتعدت من هولها كلّ الكائنات وعصفت بالمملكة الصغيرة فجفت مياهها، تيبست جنانها، اختفت كل ملامح الحياة فيها و استحالت البحيرة شاطئا ملحيا يغرق كل من مشى فيه وقد أهلك قوافل و حشود ممن دخلها دون أن يدري بسرّها، على أطرافها تمتد صحراء قاحلة يسكنها سراب الحسناء التي تغتسل على حافة البحيرة …