شهادات خاصة مخلوف عامر - عبدالحميد شكيّل، هذا الشاعر الذي يجْهَش باللغة.

لعلّي لا أغالي إذْ أقول إن جيل السبعينيات من القرن الماضي كان معظمه من العصاميين، لأنهم وجدوا أنفسهم غداة الاستقلال في منظومة تربوية تحبو وئيدة. وحتى حين أخذ عودها يشتدُّ تدريجياً لم تكن مناهج تدريس اللغة العربية وآدابها في مستوى كثير من البلدان التي سبقتنا أو ساعدها خطابُ القومية العربية على أنْ تكثِّف جهودها للحرص على النهوض بهذه اللغة. لكن الواقع الاستثنائي في بلادنا يُثبت أن كثيرا من الجزائريين ظلوا يُتقنونها ويُنتجون بها في سائر الحقول بخلاف ما يتوهَّم بعض المشارقة.
يُعدُّ (عبدالحميد شكيل)،من هذا الجيل الذي تعلّمَ الحروف الأولى في الكُتَّاب،حيث كانت هذه المدرسة القرآنية ركيزة أساسية في الحفاظ على البُعْد العربي الإسلامي من الهوية. إنه جيل اللوحة والصلصال والقلم القصبي ورائحة السمق والوَذَح.وإني أتصوَّر (عبد الحميد) طفلاً يذرع اللوحة من أعلاها إلى أدناها،دافعاً بجسده النحيل إلى أمام وإلى وراء وسط صخب زملائه، يُلجلج ما تيسَّر من القرآن حِرْيصاً منه على أنْ يكون سبَّاقاً إلى محْو لوحته لكتابة سورة جديدة أو جزء من سورة.وربّما ابتهج مرات ومرات بختم حزب أو أكثر.
ولد عبد الحميد عام 1950م، بأولاد عطية بالقُل ولاية سكيكدة . انتقل إلى مدينة قسنطينة، فتعلم في المدارس الليلية، ثم دخل مدرسة الكتانية في العام الدراسي (1965-1966م)، وبعدها التحق بالمعهد الإسلامي فتحصَّل على الشهادة الأهلية عام 1970م ليشتغل في سلك التعليم إلى أنْ تقاعد.
لكن يبدو أنه أحبَّ مدينة عنابة أكثر من غيرها فهي التي ألهمته شعره،ومنها وفيها سرُّ التحوُّل ، يقول:
((أُحبُّ عنابة
وردة
الروح،
سر
التحول
الذي شارف المنتهى!
صار وشما في الثقوب!!))
لعلِّي لا أغالي، إذْ أعدُّ ( عبد الحميد)عصامياً، لأنَّه- ولو أمضى سنوات في المعهد التكنولوجي- إلا أنَّ ذلك لا يكفي لأنْ يجعل منه شاعراً مميَّزاً ،يتمكَّن من ترويض اللغة العاصية لتنساب في((قصائد متفاوتة الخطورة وتجليات مطر الماء وتحولات فاجعة الماء ومرايا الماء ومراثي الماء ومراتب العشق وتلوذ بِظلالها الأشجار)) .
من غير شكّ أنه بذل جهوداً مضنية من أجل أنْ يُتْقِن اللغة العربية وُيُطوِّعها لقول الشعر ، وفي شعره من التناصات والإشارات ما يؤكِّد أنه كان مدمناً على المطالعة. توحي قصائدُه بأنه كان يغرف من كتب التراث بحسّ نقدي استمراراً لا تقليداً وتكراراً، حيث تعثر على (غيلان الدمشقي والمعتمد بن عباد وسليمان وبلقيس) وغيرهم فيقول مثلاً:
((لوّحتُ "لبلقيس" بأسباب الخطاب..
شمرتْ لواحظها ..
وانتمتْ لسورة في "وادي النمل.".
ولقصيدة حبلى بأناشيد الرعاة..
"لسليمان.."ممالك الطير..
وعروش اللغات..
ولي ..مهماز الدراويش..
واختلافات النحاة..!!
على سبب غامض في لوز التراثْ..!!))
كما كان دائم الاحتكاك بكبار الأدباء والمثقَّفين إمّا عرفهم شخصياً أو من خلال إنتاجهم فيهدي بعض شعره إلى:ـ(بدر شاكر السياب ويوسف سعدي وسليمان جوادي وبلقاسم بن عبد الله..)
فأمّا أن يتضمَّن شعرُه نبرة صوفية، فذلك ممَّا لا يتأتَّى إلا لمن انغمس في فلسفة التصوُّف العصيَّة وأدرك أبعادها. فهو قد عوَّل على تسلُّق معارجها:
((تسلقتُ معارج الصوفية..
وهم يُورّقون دم المصلوب..
عولتُ على لغات العشق..
يقول الناقد(اليامين بن تومي))في هذا المعنى:
((إن عالم "عبد الحميد شكيل " الشعري ينفتح على كل العرفانيات التي انتظمت منظومتنا الثقافية، فهي تجربة غنية من حيث: الشكل- الأسلوب- اللغة. "فعبد الحميد شكيل" يراوغ اللغة، وبها يفتح مغاليق النصوص ويستنطق بها المدفون وراء العتبات تلك المساحات البيضاء وتلك الفواصل المركونة من زاوية كل سطر شعري. اللغة تضمحل على عتبة الرمز والأسطورة الصوفية حيث يصبح الشاعر مخبرا وراويا بالمعنى السردي)).
ولو أنه في كل ذلك يتوق دوماً إلى وطن جميل، يتَّسع للمواطن كما للقيم الإنسانية التي يتألَّم لفقدانها. يقول مناجياً الشاعر العراقي (سعدي يوسف):
((الجزائر يا صاحبي..
لم تعد" واسعة مثل إفريقيا"
و" قرصان" العراق..
جدّد مجده بالردى، والحديد..
غادرتني القصيدة..
وأنا في عظيم الألم))..
ثم إنَّ (عبد الحميد) الشاعر لا يصدمك بلغة مباشرة فجَّة . إنه يختار العناوين والكلمات. ويوظِّف الرمز والأسطورة وعلى القارئ أنْ يبحث في ظلال الكلمات.وهو -فوق ذلك-الإنسان الذي ينمحي تواضعاً بأخلاقه العالية ولا يدَّعي.
ألا –أيها الناس-اذْكُروا أَحياءَكُم بخـير. فَلأنْ نحمد للإنسان قيمته ومقامه في حياته، أصْدَقُ بكثير من أن نتباكى عليه بعد رحيله.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...