محمد عبدالولي - الأطفال يشيبون عند الفجر!.. قصة قصيرة

الظلام أسود أسود أسود، والليل بارد بارد بارد والأشباح تملأ المكان خوفاً، وطلقات بعيدة تردد الجبال والوديان صداها، الأسلحة تجمدت فوقها الأيدي، الدم الحار التحم بالقصب البارد، حبات الرصاص كانت دافئة مثل القلوب القليلة التي تخفق في الربوة .. الليل طويل، طويل، طويل، والدقائق دهور والساعات عصور هل يدرك أولئك معنى الموت؟.

الأعين تدور بامتعاض عن المدينة التي تقبع وراءهم، الربوة تشرف على سهل والسهل أجرد أغبر .. ألوان الموت، لا لون آخر للسهل كل شيء أغبر الناس والتراب، والصخور، والشجر القليل المتناثر .. العيون تتعود على الظلام لكن البرد يجمد الرؤيا، ولكنه لا يبلد الإحساس، كانوا سبعة وضابط كانوا نعم سبعة وضابط .. ولكن هز الليل رأسه بهزء.

سبعة أمامه بلون الظلام والبرد يضحك باستهزاء وهو ينخر عظامهم التي لم تستطع ملابس الجيش القليلة أن تحمي اللحم الذي يغطي العظام .. علب مبعثرة بعضها مليان والبعض الآخر فارغ وما داخل العلب يثير الغثيان بعد أن جمده البرد .. كانوا يأكلون حتى لا يموتون جوعاً .. كانوا يعرفون تماماً أن الموت قادم لكن لا يريدون الموت جوعاً، ولذا كانوا يأكلون في زاوية الخيمة .. نعم كانت لهم خيمة قديمة من بقايا ما تعطف به الصليب الأحمر ذات يوم ليوضع في مناطق دافئة تحمي المرضى من أشعة الشمس .. ولكن الذين في المدينة يفهمون الفرق بين خيمة وأخرى ولذا كانت الرياح قد مزقت الخيمة، ولم يبق منها سوى نتف ترفعها الرياح لتذكر المجموعة بأنهم لا يزالون فوق الربوة.

بجانب الخيمة كوم من (الكدم) تكبر كل يوم لأنهم لم يتعودا طعم (الكدم) الذي يشبه بقاياهم التي يتركونها في أي مكان .. كانوا سبعة وضابط .. الدفء الوحيد في الخيمة هو أنهم جميعاً معا .. انتقلت السيجارة من مكان إلى آخر، وضوءها الخافت تخفيه أيديهم لئلا يكتشف العدو مكانهم، ولكي تدفئ الشعلة أيديهم المتجمدة .. كان الوقت نهاية ديسمبر وبعد دقائق سيحتفل العالم كله ما عداهم بقدوم عام جديد .. أما السبعة والضابط فلم يكونوا يعرفون في أي يوم هم وماذا يعني عام جديد مضى عليهم منذ أن احتلوا هذه الربوة، وبقوا فيها أسبوع وهم يهاجمون كل ليلة ولم ينهزموا.

فقدوا الكثير وعددهم سبعة وضابط برتبة ملازم ثان، ولكن هنا لا يمكن أن تجد فرقا بينهم فكلهم، لم يعرف الحلاقة بعد، ولم يتعد أكبرهم السادسة عشرة الضابط نفسه كان بالأمس طالبا في الكلية، وهو الآن يقاتل منذ أن بدأ الحصار .. المدفع أمامهم صغير في السن أيضاً .. تسلموه قبل شهر وكان في صندوق .. لم يمض على صنعه سوى سنين في مثل عمر أصغرهم ولذا فهم من جيل واحد، وكانوا جميعاً يحبون مدفعهم ويعتنون به وخاصة عندما يقهقه في وجه العدو .. يتمنى كل واحد أن يقهقه معه .. لا قمر في السماء والليل بارد، والظلام أسود، وقلوبهم دافئة أما أيديهم فقد تجمدت على الأسلحة.

تأخر العدو هذه الليلة كما تأخرت المدينة خلفهم من تزويدهم بالأغذية والمؤن وعيونهم تخترق الظلام وتمسح السهل الأغبر تحت الربوة - سيسقط الجبل غداً بيد زملائهم وعندها لن يكون لمدفعهم فائدة عسكرية، وسيعودون إلى مواقع أخرى، أو إلى المدينة .. كان أصغرهم في الحادي عشرة اسمه (علي)، هو من (عتمة) .. انضم قبل عام وقاتل في عدة مواقع وكان يريد أن ينام .. ليحلم بالبقر والغنم الذي تركهم وهرب .. كان راعياً لكنه مع ذلك مثله مثل بقية زملائه السبعة رعاة من أبناء فلاحي (عتمة وريمه وحراز) .. وكان واحد منهم من صنعاء واسمه (يحيى)، كان لصا قبل أن ينضم (وكان يعرف كل سجون صنعاء .. (الرادع) بقى به سنة، و(القلعة) تردد عليها مرات، وسجن الداخلية والمباحث الجنائية والمركزي وكل السجون فقد كان لصاً.

منذ أن بلغ السابعة ومارس مهنته بجدارة حتى بلغ الثانية عشرة وقبل الحصار حمل البندقية .. سرق مرة وهو يحمل البندقية وقال أنها سرقة شريفة .. فقد سرق مسدس أحد العقداء عندما هجم العدو وهرب العقيد .. ارتمى في الخندق وبدأ يزحف بعيداً ورأى (يحيى) مسدس العقيد وبعد لحظات ورغم تناثر (الدانات) على الموقع كان المسدس قد اختفى أما العقيد فقد حمدالله على نجاته عندما وصل إلى صنعاء، وبعد أيام كان في مهمة إلى الخارج .. وبقى المسدس مع (يحيى) فترة ثم باعه ليشتري له ولبعض زملائه ملابس للشتاء القارس فوق الجبال.

حتى الضابط قصته عادية سوى أنه أفضل من البقية لأنه يعرف القراءة والكتابة درس حتى المتوسط .. ولم يكن يقرأ سوى بعض الكتب الدينية، وبعض الجرائد .. غير أنه في الفترة الأخيرة بدأ يعرف أفكاراً جديدة .. لم يكن يدري أنها موجودة، وكان أحياناً يقصها لجنوده وهذا ما جعلهم يعتبرونه منهم خاصة وأنه لم يهرب من أي معركة مثل بقية الضباط.

قال يحيى بصوت هامس: "لماذا تأخروا الليلة؟" .. وأجاب علي وصوته ناعس: "ربما ناموا" .. تحرك الضابط نحوهم وقال: "لدي إحساس بأنهم يدبرون شيئاً" .. تجمعوا في حلقة، وكانت عيونهم تخترق الظلام ولم يكن البرد يعني شيئاً .. تحدث (الحرازي) قائلا: "اسمعوا لا بد أنهم يريدوننا أن ننتظرهم بينما هم نيام، وعند الفجر يهجمون ونكون نحن في إرهاق .. فنظر الضابط في ساعته وكانت في منتصف الليل أصدر أمراً بأن ينام النصف ساعتين وأن يبقى النصف في يقظة .. لم يكن علي يحتاج للأمر، فقد كان يحلم بأمه تسقيه قهوة حارة أعادت لخده الحرارة ورسمت ظل ابتسامة فوق شفتيه.

استقبل العالم العام الجديد، وفوق الربوة التي تبعد عشرين كيلو متر من (صنعاء) كان سبعة وضابط يخفيهم الظلام، ويحتويهم البرد، لا يعلمون بأن عاماً جديداً مر بجانبهم.




==============
محمد أحمد عبد الولي
قاص وروائي يمني شهير
ولد في 12 نوفمبر 1939 بمدينة دبرهان الإثيوبية عن أب يمني وأم إثيوبية، وكان والده من المهاجرين الذين انضموا إلى حركة الأحرار اليمنيين.
أمضى طفولته في إثيوبيا، حيث درس في مدرسة الجالية اليمنية بأديس أبابا من ثم عاد من غربته سنة 1946م.
سافر للدراسة في الأزهر يمصر سنة 1955م، وشارك في تأسيس أول رابطة للطلبة اليمنيين التي انعقد مؤتمرها التأسيسي سنة 1956م.
طرد مع 24 طالبا من مصر سنة 1959م، بتهمة الانتماء إلى الشيوعية، وسافر بعدها إلى موسكو ودرس في معهد غوركي للآداب الشهير لمدة عامين، من ثم عاد إلى أرض الوطن بعد الثورة في شمال الوطن في سنة 1962م.
انضم للسلك الدبلوماسي قائماً بأعمال سفارات الجمهورية العربية اليمنية في موسكو وغيرها من البلدان إلى أن تفرغ لافتتاح دار للنشر بتعز.
سجن بعدها لمدة عام سنة 1968م، وأعيد إلى سجن القلعة مكبلاً بالقيود مرة أخرى سنة 1972م.
له عدة أعمال طبعت منها مجموعته الأولى سنة 1966م ومجموعته الثانية سنة 1972م. وترجمت بعض أعماله إلى الفرنسية والروسية والألمانية والإنكليزية.
أشهر روايته "يموتون غرباء" مسلسلة في صحيفة "الشرارة" عام 1971م ومن ثم طبعت في بيروت في دار العودة عام 1973م. وله رواية أخرى هي "صنعاء مدينة مفتوحة"، وقد تعرضت الأخيرة لحملة تكفير عام 2000م.
مات محترقاً في طائرة عام 1973م.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...