للمرّة السابعة أخذ (ثابت يقظان) يقرأ نبأَ وفاته المنشورَ على الصفحة الثقافيّة من صحيفة (الشعلة) الأسبوعيّة، وهو في حَيْرة من أمره. ماذا عليه أن يفعل الآن، وقد اتّضح له أنْ ليس هناك خطأ أو التباس في الاسم؟ عاد إلى سطور الخبر، وأخذ يقرأ:
«تُوفّي إلى رحمة الله الأديبُ الكبير ثابت يقظان، وهو من الروّاد الأوائل الذين خاضوا غِمار المعترَك الأدبيّ، وله كتابات جليلة في الأدب عموماً، وفي القصّة بشكل خاصّ...».
قذف بالصحيفة جانباً، واتّجه إلى جهاز الهاتف، وأدار رقم الصحيفة، وانتظر ... ولكنّ أحداً لم يرُدّ، انتظر لحظات أخرى دون فائدة، أيقن أنَّ مقرّ الصحيفة خالٍ، وضع السمّاعة في تبرُّم وضيق، ونظر إلى ساعته فوجدها الثامنة صباحاً. انكبّ على عمله محاولاً أن ينسى ذلك الخبر المشؤوم، ولكنّه لم يستطع، فقد كان في شوق إلى ذلك المحرِّر الذي اغتاله بجرَّة قلم، مرّت نصف ساعة وهو يكاد يهذي مع نفسه، عاد إلى جهاز الهاتف يستنطقه، رفع السمّاعة وطلب الرقم، وبعد لحظات ثقيلة جاءه الصوت:
- هالو، مَنْ يتكلّم؟
- صحيفة الشعلة؟
- نعم.
-أريد أن أتحدّث مع مدير التحرير من فضلك.
- المدير مريض، ولن يجيءَ للعمل اليوم.
- ورئيس التحرير؟
- لم يصل بعد.
- إذن لم يبقَ أمامي غيرُه.
- من تقصد؟
- المحرِّرَ الأدبيَّ للمجلّة.
- جاء قبل قليل، وخرج.
- وأنت؟
- أنا نائب رئيس التحرير، هل من خدمة أُقَدّمها لك؟
- نعم، أريدُ أن أتكلّمَ معك بخصوص خبرٍ نُشر في العدد الأخير من صحيفتكم.
- قل ما عندك.
- في عدد يوم أمس نشرتم خبر وفاة أديب كبير، ألا تدري كيف مات؟
- المرحوم ثابت يقظان؟
- نعم.
- علمتُ أنّه مات بالسكتة.
- أَيَّةِ سكتة؟
- وهل هناك سكتةٌ أخرى غيرُ السكتة القلبيّة؟!
- قصدي، أريد أن أعرف الظروف التي مات فيها.
- الحقيقة لا أدري بالضبط كيف مات، خبرُ السكتة القلبية هذه لم أتأكّدْ منه، والكلام حول موته كثير.
- ماذا تعني؟
- سمعت قولاً آخَر يقول: إنَّ وفاته كانت كارثة.
- كارثة!
- يقولون: إنَّ المسكين كان خارجاً من بيته قبل أيّام وهو في همٍّ وغمّ، وكان قاصداً مكتب الكهرباء (حجيف) لمراجعتهم بعد أن قطعوا النور عن منزله، نتيجة لتراكم الفواتير التي عجز عن تسديدها.
- وبعد ذلك؟
- بعد أن نزل من السيّارة، وفيما هو يخطو أوَّلَ خطوة ليقطعَ الرصيف إلى الجانب الآخر، داهمته سيّارة
كبيرة وقطعت أجله.
- وخبرُ السكتة القلبيّة؟
- الآراء تتضارب حول ذلك.
- أريد كلَّ الآراء التي سمعتَها.
- قريبون له يقولون: إنَّه كان ليلتَها ساهراً على فراشه حتّى الصباح، والمِذياع بجانبه وتحت أذنه تماماً، يستمع لأخبار العالم العربيّ.
- تمام، وبعد ذلك؟
- في السادسة صباحاً حاولوا إيقاظه فوجدوه جثّة هامدة، والمِذياع بجانبه يشدو بصوت عالٍ: «انتصرنا انتصرنا».
- غريبٌ ما أسمعه، ولكن قل لي: هل هناك رأيٌ آخرُ غيرُ ذلك؟
- نعم، الرأي الآخر يذكر أنَّ وفاتَه كانت في السوق، كان يومها قد أتمّ شراء كلِّ لوازمه من سمك وخَضراوات، ولم يكد يخطو بأحماله الثقيلة خارج السوق حتى تهاوى على الأرض، وفاضت روحه.
- يرحمُه الله، ولكنْ أريد أن أعرفَ من هو أوَّلُ من نقل لكم خبر وفاته؟
- المحِّررُ الأدبيّ للمجلة.
- وأين هو الآن؟
- هذه الأيامُ مشغولٌ بأمر خاصٍّ يتعلّق به.
- أيِّ أمر؟
- الرجل له أكثر من سنتين -منذ أن عقد قِرانه- على أمل أن يجد له مسكناً ليتزوّجَ فيه، ومنذ ذلك التاريخ وهو في سَفَر دائم بين الصحيفة والإسكان، ولكن أنت ماذا تريد منه؟ هل تعرفه؟
- أنا في شوق إليه.
- تحبُّ عندما يصل أن نقول أيَّ حاجة؟
- لا، قل له: إني اتّصلتُ به.
- من حضرتك؟
- ثابت يقظان.
ووضع السمّاعة.
(السبت، الحادي والثلاثون من كانون الأوّل).
أمامه الآن غيرَ الصحيفة السابقة ثلاثُ صحف أخرى كلُّها تحذو حَذْوَ صحيفة (الشعلة). أخذ الأولى وقرأ:
«ننعى للشعب وفاة أحدِ أبنائه البَرَرة وهو في أَمسِّ الحاجة إليه».
رماها وتناول غيرَها وقرأ:
«لقد كان الفقيد شخصيّةً محبوبة، وفكراً مضيئاً، وشعلة وطنية»
كاد رأسه ينفجر، وهو يتساءل مع نفسه:
لماذا نحن -العربَ- لا نحتفي بأدبائنا ومفكِّرينا إلا بعدَ وفاتهم؟ أكان يجب عليهم أن يموتوا أوّلاً لكي نعدّدَ
مزاياهم؟ ثمّ أين محرِّرُ المصائب هذا؟
ولم يُطِقْ صبراً، تناول سمّاعة الهاتف وطلب رقم الصحيفة:
- هالو، صحيفة الشعلة؟
وأتاه صوت ناعم رقيق.
- نعم، من أنت؟
- ثابت يقظان.
- الأديب المتوفّى؟
- روح ثابت يقظان.
- أتغازلني يا أستاذ؟
- أوه، أنتِ بالُكِ رائق، من فضلكِ أريدُ مخاطبة محرّر الشؤم الذي عندكم.
- أيَّ محرِّرٍ تعني؟
- وهل من أحد غيرُه يشغلُني؟ المحرّرُ الأدبيّ للصحيفة.
- آسفة، لم يصل بعد.
- هل هو في الإسكان أيضاً؟
- أنت عرفْتَ قصَّته؟
- أوه أنا أريد أن أعرفَ قصّتي.
- خبرَ وفاتك؟
- بالضبط.
- سيكون صاحبك هنا بعد نصفِ ساعة، ومنه ستعرف القصة.
- حسن، مع السلامة.
- مع السلامة يا روحي، أقصد يا روح ثابت يقظان.
وضع السمّاعة وكلمات فتاة الهاتف تَرِنُّ في أُذُنه، ابتسم رغماً عنه، ثمّ عاد إلى عبوسه بعد أن أخذ يتذكّر حوادث يومِ أمسِ الجمعة، عندما وصلت إلى منزله صديقة قديمة لزوجته، جاءت إلى بيته بثوب الحداد الأسود، بعد أن علمت من زوجها بنبأ الصحيفة المشؤوم، وكان موقفاً سخيفاً وقع فيه حينما فتح لها الباب بنفسه حتّى كاد يُغمى على المسكينة عندما رأته.
قطع شريطَ ذكرياته ونظر إلى ساعته، فوجد أمامه رُبْعَ ساعةٍ أخرى حتى يحينَ موعد مكالمة الصحيفة، عند ذلك عاد ليصلَ ما انقطع من حوادث أمسه.
تذكّر حادثة أخرى، كان خارجاً من المسجد بعد صلاة الجمعة عندما التقى بأحد شيوخ حارته، وكان له مدّةٌ طويلة لم يلتقِ به، صافحه الشيخ في شكٍّ وريبة، وهو غير مصدّق عينيه، ثم قال وهو يتفرّس مليّاً في وجهه:
- العفوَ يا بُنيَّ، نظري ضعيف هذه الأيام، ألسْتَ أنت ثابت يقظان أم إنّك أحدُ إخوانه، لقد علمت بوفاة... بوفاة شخص من أسرتكم، ولكنْ لربما التبس عليّ الأمرُ يا بُنيّ، أو إنّني بدأت أخرَفُ، أو لربما إنّ لك إخوةً آخرين، ومات أحد منهم مثلاً، والله لم أعد أفهم شيئاً ممّا يجري هذه الأيّام.
وتذكّر بعد حديث الشيخ كيف كان ردُّه عليه بعد أن استرجع في ذاكرته حديثه مع نائب رئيس التحرير يوم الخميس الماضي، ردّ عليه قائلاً:
- نعم يا أبتِ، لي ثلاثةُ إخوة، جميعُهم تُوُفّوا إلى رحمة الله، الأوّل مات مدهوساً أمام مكتب الكهرباء
وبيده فاتورةٌ غير مُسدَّدة، أما الثاني فقد أسكتَتْ قلبَه حوادثُ العرب المفجعة، ومات والمِذياع تحت أُذُنِه.
- والثالث؟
- أمّا الثالثُ -يرحمُه الله- فمات في السوق،وهو محمَّل بأكياس البصل والثّوْم، حتى قيل: إنَّ روحه
صَعِدت إلى السماء وهي تعبَق برائحة الثَّوْم.
وأيقظه من استرجاع تأمُّلاته تلك رنينُ جرسِ الهاتف، اختطفه بسرعة وصرخ في لهفة:
- هالو.
- مكتبُ المرحوم ثابت يقظان؟
- نعم، هذا قبرُه .. أقصِدُ مكتبَه، من أنت؟
- أنا أحد المعجبين بأدبه، أرجو أن تبلِّغَ أسرته تعازيَنا القلبية.
وردّ في غيظ قائلاً:
- اطمئنّ، سأبلغه شخصياً تعازيَكم.
ثمّ عاد ووضع السمّاعة، ثمَّ رفعها:
هالو، صحيفة الشعلة؟
وجاءه الصوت الناعم.
- نعم، من يتكلّم؟
- ثابت يقظان.
- أهلا بروح الروح.
- هل أنتِ هكذا دائماً خالية البال، ألا يثيرك شيءٌ ممّا يجري في هذا العالم ... أخبريني بسرعة، هل وصل محرِّر (البلاوي) أم لا؟
أجابت الفتاة وهي تتغنّى:
- آه، وصل .. وصل يا حبيبي وصل.
- أوه، هذا وقت الغناء الآن؟ من فضلكِ أنا مشغول الآن، أوصليني بالمحرِّر، وغنّي وارقصي بعد ذلك.
- أوه، طبعاً، انتظر لحظة ريثما أوصلكَ به.
وانتظر لحظة خالها ساعاتٍ، ثمّ جاءه الصوت مرتبكاً:
هالو ثابت يقظان بنفسه!
- بروحه ودمه وهمّه.
- لا حَوْلَ ولا قوّة إلا بالله.
- هوِّن عليك يا أخي .. أنا لا ألومك بعد أن عرفتُ ظروفَك الصعبة، وكلُّ ما أريده منك الآن هو معرفةُ
حكايتي من أوّلِها.
- الحكايةُ يا أستاذ هو أنَّني سمعتُ قبل أيّام عن وفاة أديب كبير، ولكنَّني لم أكن أعرف من هو بالضبط.
- جميل، وبعد ذلك؟
- استحضرتُ جميع الأدباء في ذاكرتي، فخطر لي اسمُك فجأة.
- ولكن لماذا اخترتَني أنا بالذات من بين كلِّ الأدباء؟
- لي مدَّةٌ طويلة لم أسمع عنك شيئاً، ولم أقرأ لك أيَّ إنتاج أدبيٍّ جديد.
- قلتَ في نفسك هذا هو المطلوب، أليس كذلك؟!
- لا. ليس هذا ما قصدتُه.
- قصدتَ ذلك أم لا، المهمُّ أنّك نشرتَ النعي، متعمِّداً ذلك أو غيرَ متعمِّد.
- هذه غلطة لن تتكرّر.
- لا أظنُّ ذلك، فالأدباء كثيرون.
- آسف، وأرجو المعذرة يا أستاذ.
- اسمع، أريد أن أسألك سؤالاً واحداً.
- اسأل ما بدا لك.
- قلت: إنَّ لك مدّةً لم تسمع عنّي شيئاً.
- نعم، مدَّة طويلة جداً.
- وهل سألتَ عنّي أحداً طَوال هذه الفترة؟
- سألتُ كثيراً من أصحاب الشّلل الأدبيّة.
- وماذا قالوا لك؟
- قال لي بعضهم: إنَّهم لا يعرفون أحداً بهذا الاسم.
- هؤلاء معروفون لديَّ جيّداً، والآخرون؟
- قالوا: إنَّ لهم مدّةً طويلةً لم يَروْك قطُّ في مجالسهم.
- إنّهم يعرفون جيّداً أنّني لا أرتاد مثل هذه المجالس، أكملْ أكملْ، والفريقُ الثالث ماذا قال؟
- قال: إنّكَ هاجرتَ وهجرتَ الكتابة.
- هذا وأنا على بُعد خطوات منهم!
- قد يكون لبعضهم عذرٌ في ذلك؛ فالأديبُ حيّ في نظر الناس ما دام عطاؤه الأدبيُّ مستمرّاً، فإذا توقّف عن الكتابة مات في نظرهم.
- لكنْ، للأديب ظروفٌ كثيرة قد تَحولُ بينه وبين الكتابة، وأحياناً تحول دون مواصلة الحياة نفسِها.
- الناسُ لا دخل لهم بكلِّ ذلك.
- صحيحٌ ما قلت، لكنّ الناس لا تفكر بهموم الكاتب ومشاكلِه، يكفيهم ما هم فيه.
- وماذا تنوي عمله الآن؟
- لأمثال هؤلاء الناس المهمومين، وللقرّاء كافة، سأعود لمزاولة الكتابة من جديد.
- ونحن من جانبنا سنقوم بتكذيب خبر وفاتك في العدد القادم من الصحيفة.
- لا تتعجّلوا بالنشر، فحتّى يحينَ موعدُ عددكِم القادم لربمّا وقع المحتوم، فتنشرون وفاتي وأنا حيّ، وتنشرون نجاتي وأنا ميّت.
- أطال اللّهُ عمرَك يا أستاذ، ولكن قل لي: ما هو المطلوب منّا يا أستاذ؟
- سأبعث لكم بقصّة جديدة تنشرونها في عددكم القادم، لتكون بعثاً جديداً لي.
- جميل ما قلت، وبذلك ستثبتُ للناس عكس ما أُشيعَ عنك.
- إذن اتّفقنا، ومع السلامة.
وضع السمّاعة، ثمّ قام من على مكتبه، واتّجه إلى التقويم الذي خلفه على الحائط، ونزع منه آخر ورقة للعام المنتهي، واتجه إلى النافذة أمامه ورماها، ووقف يتأمّل طيرانها في الهواء؛ وكأنّه يودِّعُ ضيفاً ثقيلاً، ثمّ عاد إلى مكتبه ممتلئ النفس بالبِشْر والتفاؤل، ثمّ بسط أوراقه، وبدأ يكتب قصّته الجديدة.
* (الحذاء: مجموعة قصصية، ص13-21)
============
عبد الله سالم باوزير
- ولد في 30 مارس 1938 ، في بلدة غيل باوزير في محافظة حضرموت
- توفي في 7 أكتوبر 2004)
- روائي، كاتب قصص قصيرة، ومؤلف يمني شهير.
ختم تعليمه النظامي في سن السادسة عشر وبسبب فقر عائلته ذهب إلى عدن بحثا عن عمل.
- عمل هناك لسنوات عدة في مختلف المحلات التجارية قبل أن يعود إلى حضرموت في عام 1962. ومع ذلك لم يقم فترة طويلة في المكلا عاصمة حضرموت وعاد إلى عدن في عام 1963 ليعمل مديرا لمحل تجاري معروف في السنوات الثلاثة والثلاثين التالية. في عام 1997 حاول مرة أخرى الاستقرار في المكلا ولكن هذه المحاولة كانت غير ناجحة. عاد إلى عدن للمرة الأخيرة ليعيش فيها السنوات الأخيرة من حياته.
وكان باوزير كاتب غزير الإنتاج وتنوعت أعماله ما بين القصص القصيرة والروايات والمسرحيات وكتب الأطفال والسيرة الذاتية ناهيك عن مقالات في الصحف والمجلات. في وقت مبكر من الخمسينيات من القرن الماضي ،كان يكتب عمود في مجلة أنغام. أول قصة قصيرة نشرت بعنوان قصة في عام 1961 في صفحات الطليعة وهي صحيفة من المكلا. قصص أخرى نشرت في "الطليعة" بعنوان "شجرة الشيطان" وأدرجت في نهاية المطاف في المناهج الدراسية الوطنية. نشرت الطليعة مسرحيته الأولى المحاكمة في عام 1962. أعماله تنعكس بشكل كبير على الساحة الاجتماعية والسياسية المضطربة من الستينات.
مجموعته الأولى من القصص القصيرة تدعى الرمال الذهبية ونشرت في عام 1965 حيث ضمت مجموعة من القصص التي ظهرت من قبل في مختلف الصحف في المكلا وعدن. مجموعته الثانية تدهى ثورة البركان في 1968. نشر عدة مجموعات من القصص القصيرة طوال حياته المهنية وآخرها نشر في عام 1999. يعتبر باوزير واحد من رواد القصة القصيرة في اليمن.
شملت كتبه روايات أخرى كثيرة ومصنفات صحفية ومجموعات من المسرحيات والكتب للأطفال. كما كتب سيرته الذاتية في ثلاثة أجزاء التي تم إصدارها بعد وفاته في عام 2007. توفي باوزير في 7 أكتوبر 2004 في سن 66 ودفن في عدن.
ترجمت أعماله إلى اللغة الإيطالية وأدرجت في مختارات الأدب اليمني عام 2009 في بيرلو ديلو اليمن.
«تُوفّي إلى رحمة الله الأديبُ الكبير ثابت يقظان، وهو من الروّاد الأوائل الذين خاضوا غِمار المعترَك الأدبيّ، وله كتابات جليلة في الأدب عموماً، وفي القصّة بشكل خاصّ...».
قذف بالصحيفة جانباً، واتّجه إلى جهاز الهاتف، وأدار رقم الصحيفة، وانتظر ... ولكنّ أحداً لم يرُدّ، انتظر لحظات أخرى دون فائدة، أيقن أنَّ مقرّ الصحيفة خالٍ، وضع السمّاعة في تبرُّم وضيق، ونظر إلى ساعته فوجدها الثامنة صباحاً. انكبّ على عمله محاولاً أن ينسى ذلك الخبر المشؤوم، ولكنّه لم يستطع، فقد كان في شوق إلى ذلك المحرِّر الذي اغتاله بجرَّة قلم، مرّت نصف ساعة وهو يكاد يهذي مع نفسه، عاد إلى جهاز الهاتف يستنطقه، رفع السمّاعة وطلب الرقم، وبعد لحظات ثقيلة جاءه الصوت:
- هالو، مَنْ يتكلّم؟
- صحيفة الشعلة؟
- نعم.
-أريد أن أتحدّث مع مدير التحرير من فضلك.
- المدير مريض، ولن يجيءَ للعمل اليوم.
- ورئيس التحرير؟
- لم يصل بعد.
- إذن لم يبقَ أمامي غيرُه.
- من تقصد؟
- المحرِّرَ الأدبيَّ للمجلّة.
- جاء قبل قليل، وخرج.
- وأنت؟
- أنا نائب رئيس التحرير، هل من خدمة أُقَدّمها لك؟
- نعم، أريدُ أن أتكلّمَ معك بخصوص خبرٍ نُشر في العدد الأخير من صحيفتكم.
- قل ما عندك.
- في عدد يوم أمس نشرتم خبر وفاة أديب كبير، ألا تدري كيف مات؟
- المرحوم ثابت يقظان؟
- نعم.
- علمتُ أنّه مات بالسكتة.
- أَيَّةِ سكتة؟
- وهل هناك سكتةٌ أخرى غيرُ السكتة القلبيّة؟!
- قصدي، أريد أن أعرف الظروف التي مات فيها.
- الحقيقة لا أدري بالضبط كيف مات، خبرُ السكتة القلبية هذه لم أتأكّدْ منه، والكلام حول موته كثير.
- ماذا تعني؟
- سمعت قولاً آخَر يقول: إنَّ وفاته كانت كارثة.
- كارثة!
- يقولون: إنَّ المسكين كان خارجاً من بيته قبل أيّام وهو في همٍّ وغمّ، وكان قاصداً مكتب الكهرباء (حجيف) لمراجعتهم بعد أن قطعوا النور عن منزله، نتيجة لتراكم الفواتير التي عجز عن تسديدها.
- وبعد ذلك؟
- بعد أن نزل من السيّارة، وفيما هو يخطو أوَّلَ خطوة ليقطعَ الرصيف إلى الجانب الآخر، داهمته سيّارة
كبيرة وقطعت أجله.
- وخبرُ السكتة القلبيّة؟
- الآراء تتضارب حول ذلك.
- أريد كلَّ الآراء التي سمعتَها.
- قريبون له يقولون: إنَّه كان ليلتَها ساهراً على فراشه حتّى الصباح، والمِذياع بجانبه وتحت أذنه تماماً، يستمع لأخبار العالم العربيّ.
- تمام، وبعد ذلك؟
- في السادسة صباحاً حاولوا إيقاظه فوجدوه جثّة هامدة، والمِذياع بجانبه يشدو بصوت عالٍ: «انتصرنا انتصرنا».
- غريبٌ ما أسمعه، ولكن قل لي: هل هناك رأيٌ آخرُ غيرُ ذلك؟
- نعم، الرأي الآخر يذكر أنَّ وفاتَه كانت في السوق، كان يومها قد أتمّ شراء كلِّ لوازمه من سمك وخَضراوات، ولم يكد يخطو بأحماله الثقيلة خارج السوق حتى تهاوى على الأرض، وفاضت روحه.
- يرحمُه الله، ولكنْ أريد أن أعرفَ من هو أوَّلُ من نقل لكم خبر وفاته؟
- المحِّررُ الأدبيّ للمجلة.
- وأين هو الآن؟
- هذه الأيامُ مشغولٌ بأمر خاصٍّ يتعلّق به.
- أيِّ أمر؟
- الرجل له أكثر من سنتين -منذ أن عقد قِرانه- على أمل أن يجد له مسكناً ليتزوّجَ فيه، ومنذ ذلك التاريخ وهو في سَفَر دائم بين الصحيفة والإسكان، ولكن أنت ماذا تريد منه؟ هل تعرفه؟
- أنا في شوق إليه.
- تحبُّ عندما يصل أن نقول أيَّ حاجة؟
- لا، قل له: إني اتّصلتُ به.
- من حضرتك؟
- ثابت يقظان.
ووضع السمّاعة.
(السبت، الحادي والثلاثون من كانون الأوّل).
أمامه الآن غيرَ الصحيفة السابقة ثلاثُ صحف أخرى كلُّها تحذو حَذْوَ صحيفة (الشعلة). أخذ الأولى وقرأ:
«ننعى للشعب وفاة أحدِ أبنائه البَرَرة وهو في أَمسِّ الحاجة إليه».
رماها وتناول غيرَها وقرأ:
«لقد كان الفقيد شخصيّةً محبوبة، وفكراً مضيئاً، وشعلة وطنية»
كاد رأسه ينفجر، وهو يتساءل مع نفسه:
لماذا نحن -العربَ- لا نحتفي بأدبائنا ومفكِّرينا إلا بعدَ وفاتهم؟ أكان يجب عليهم أن يموتوا أوّلاً لكي نعدّدَ
مزاياهم؟ ثمّ أين محرِّرُ المصائب هذا؟
ولم يُطِقْ صبراً، تناول سمّاعة الهاتف وطلب رقم الصحيفة:
- هالو، صحيفة الشعلة؟
وأتاه صوت ناعم رقيق.
- نعم، من أنت؟
- ثابت يقظان.
- الأديب المتوفّى؟
- روح ثابت يقظان.
- أتغازلني يا أستاذ؟
- أوه، أنتِ بالُكِ رائق، من فضلكِ أريدُ مخاطبة محرّر الشؤم الذي عندكم.
- أيَّ محرِّرٍ تعني؟
- وهل من أحد غيرُه يشغلُني؟ المحرّرُ الأدبيّ للصحيفة.
- آسفة، لم يصل بعد.
- هل هو في الإسكان أيضاً؟
- أنت عرفْتَ قصَّته؟
- أوه أنا أريد أن أعرفَ قصّتي.
- خبرَ وفاتك؟
- بالضبط.
- سيكون صاحبك هنا بعد نصفِ ساعة، ومنه ستعرف القصة.
- حسن، مع السلامة.
- مع السلامة يا روحي، أقصد يا روح ثابت يقظان.
وضع السمّاعة وكلمات فتاة الهاتف تَرِنُّ في أُذُنه، ابتسم رغماً عنه، ثمّ عاد إلى عبوسه بعد أن أخذ يتذكّر حوادث يومِ أمسِ الجمعة، عندما وصلت إلى منزله صديقة قديمة لزوجته، جاءت إلى بيته بثوب الحداد الأسود، بعد أن علمت من زوجها بنبأ الصحيفة المشؤوم، وكان موقفاً سخيفاً وقع فيه حينما فتح لها الباب بنفسه حتّى كاد يُغمى على المسكينة عندما رأته.
قطع شريطَ ذكرياته ونظر إلى ساعته، فوجد أمامه رُبْعَ ساعةٍ أخرى حتى يحينَ موعد مكالمة الصحيفة، عند ذلك عاد ليصلَ ما انقطع من حوادث أمسه.
تذكّر حادثة أخرى، كان خارجاً من المسجد بعد صلاة الجمعة عندما التقى بأحد شيوخ حارته، وكان له مدّةٌ طويلة لم يلتقِ به، صافحه الشيخ في شكٍّ وريبة، وهو غير مصدّق عينيه، ثم قال وهو يتفرّس مليّاً في وجهه:
- العفوَ يا بُنيَّ، نظري ضعيف هذه الأيام، ألسْتَ أنت ثابت يقظان أم إنّك أحدُ إخوانه، لقد علمت بوفاة... بوفاة شخص من أسرتكم، ولكنْ لربما التبس عليّ الأمرُ يا بُنيّ، أو إنّني بدأت أخرَفُ، أو لربما إنّ لك إخوةً آخرين، ومات أحد منهم مثلاً، والله لم أعد أفهم شيئاً ممّا يجري هذه الأيّام.
وتذكّر بعد حديث الشيخ كيف كان ردُّه عليه بعد أن استرجع في ذاكرته حديثه مع نائب رئيس التحرير يوم الخميس الماضي، ردّ عليه قائلاً:
- نعم يا أبتِ، لي ثلاثةُ إخوة، جميعُهم تُوُفّوا إلى رحمة الله، الأوّل مات مدهوساً أمام مكتب الكهرباء
وبيده فاتورةٌ غير مُسدَّدة، أما الثاني فقد أسكتَتْ قلبَه حوادثُ العرب المفجعة، ومات والمِذياع تحت أُذُنِه.
- والثالث؟
- أمّا الثالثُ -يرحمُه الله- فمات في السوق،وهو محمَّل بأكياس البصل والثّوْم، حتى قيل: إنَّ روحه
صَعِدت إلى السماء وهي تعبَق برائحة الثَّوْم.
وأيقظه من استرجاع تأمُّلاته تلك رنينُ جرسِ الهاتف، اختطفه بسرعة وصرخ في لهفة:
- هالو.
- مكتبُ المرحوم ثابت يقظان؟
- نعم، هذا قبرُه .. أقصِدُ مكتبَه، من أنت؟
- أنا أحد المعجبين بأدبه، أرجو أن تبلِّغَ أسرته تعازيَنا القلبية.
وردّ في غيظ قائلاً:
- اطمئنّ، سأبلغه شخصياً تعازيَكم.
ثمّ عاد ووضع السمّاعة، ثمَّ رفعها:
هالو، صحيفة الشعلة؟
وجاءه الصوت الناعم.
- نعم، من يتكلّم؟
- ثابت يقظان.
- أهلا بروح الروح.
- هل أنتِ هكذا دائماً خالية البال، ألا يثيرك شيءٌ ممّا يجري في هذا العالم ... أخبريني بسرعة، هل وصل محرِّر (البلاوي) أم لا؟
أجابت الفتاة وهي تتغنّى:
- آه، وصل .. وصل يا حبيبي وصل.
- أوه، هذا وقت الغناء الآن؟ من فضلكِ أنا مشغول الآن، أوصليني بالمحرِّر، وغنّي وارقصي بعد ذلك.
- أوه، طبعاً، انتظر لحظة ريثما أوصلكَ به.
وانتظر لحظة خالها ساعاتٍ، ثمّ جاءه الصوت مرتبكاً:
هالو ثابت يقظان بنفسه!
- بروحه ودمه وهمّه.
- لا حَوْلَ ولا قوّة إلا بالله.
- هوِّن عليك يا أخي .. أنا لا ألومك بعد أن عرفتُ ظروفَك الصعبة، وكلُّ ما أريده منك الآن هو معرفةُ
حكايتي من أوّلِها.
- الحكايةُ يا أستاذ هو أنَّني سمعتُ قبل أيّام عن وفاة أديب كبير، ولكنَّني لم أكن أعرف من هو بالضبط.
- جميل، وبعد ذلك؟
- استحضرتُ جميع الأدباء في ذاكرتي، فخطر لي اسمُك فجأة.
- ولكن لماذا اخترتَني أنا بالذات من بين كلِّ الأدباء؟
- لي مدَّةٌ طويلة لم أسمع عنك شيئاً، ولم أقرأ لك أيَّ إنتاج أدبيٍّ جديد.
- قلتَ في نفسك هذا هو المطلوب، أليس كذلك؟!
- لا. ليس هذا ما قصدتُه.
- قصدتَ ذلك أم لا، المهمُّ أنّك نشرتَ النعي، متعمِّداً ذلك أو غيرَ متعمِّد.
- هذه غلطة لن تتكرّر.
- لا أظنُّ ذلك، فالأدباء كثيرون.
- آسف، وأرجو المعذرة يا أستاذ.
- اسمع، أريد أن أسألك سؤالاً واحداً.
- اسأل ما بدا لك.
- قلت: إنَّ لك مدّةً لم تسمع عنّي شيئاً.
- نعم، مدَّة طويلة جداً.
- وهل سألتَ عنّي أحداً طَوال هذه الفترة؟
- سألتُ كثيراً من أصحاب الشّلل الأدبيّة.
- وماذا قالوا لك؟
- قال لي بعضهم: إنَّهم لا يعرفون أحداً بهذا الاسم.
- هؤلاء معروفون لديَّ جيّداً، والآخرون؟
- قالوا: إنَّ لهم مدّةً طويلةً لم يَروْك قطُّ في مجالسهم.
- إنّهم يعرفون جيّداً أنّني لا أرتاد مثل هذه المجالس، أكملْ أكملْ، والفريقُ الثالث ماذا قال؟
- قال: إنّكَ هاجرتَ وهجرتَ الكتابة.
- هذا وأنا على بُعد خطوات منهم!
- قد يكون لبعضهم عذرٌ في ذلك؛ فالأديبُ حيّ في نظر الناس ما دام عطاؤه الأدبيُّ مستمرّاً، فإذا توقّف عن الكتابة مات في نظرهم.
- لكنْ، للأديب ظروفٌ كثيرة قد تَحولُ بينه وبين الكتابة، وأحياناً تحول دون مواصلة الحياة نفسِها.
- الناسُ لا دخل لهم بكلِّ ذلك.
- صحيحٌ ما قلت، لكنّ الناس لا تفكر بهموم الكاتب ومشاكلِه، يكفيهم ما هم فيه.
- وماذا تنوي عمله الآن؟
- لأمثال هؤلاء الناس المهمومين، وللقرّاء كافة، سأعود لمزاولة الكتابة من جديد.
- ونحن من جانبنا سنقوم بتكذيب خبر وفاتك في العدد القادم من الصحيفة.
- لا تتعجّلوا بالنشر، فحتّى يحينَ موعدُ عددكِم القادم لربمّا وقع المحتوم، فتنشرون وفاتي وأنا حيّ، وتنشرون نجاتي وأنا ميّت.
- أطال اللّهُ عمرَك يا أستاذ، ولكن قل لي: ما هو المطلوب منّا يا أستاذ؟
- سأبعث لكم بقصّة جديدة تنشرونها في عددكم القادم، لتكون بعثاً جديداً لي.
- جميل ما قلت، وبذلك ستثبتُ للناس عكس ما أُشيعَ عنك.
- إذن اتّفقنا، ومع السلامة.
وضع السمّاعة، ثمّ قام من على مكتبه، واتّجه إلى التقويم الذي خلفه على الحائط، ونزع منه آخر ورقة للعام المنتهي، واتجه إلى النافذة أمامه ورماها، ووقف يتأمّل طيرانها في الهواء؛ وكأنّه يودِّعُ ضيفاً ثقيلاً، ثمّ عاد إلى مكتبه ممتلئ النفس بالبِشْر والتفاؤل، ثمّ بسط أوراقه، وبدأ يكتب قصّته الجديدة.
* (الحذاء: مجموعة قصصية، ص13-21)
============
عبد الله سالم باوزير
- ولد في 30 مارس 1938 ، في بلدة غيل باوزير في محافظة حضرموت
- توفي في 7 أكتوبر 2004)
- روائي، كاتب قصص قصيرة، ومؤلف يمني شهير.
ختم تعليمه النظامي في سن السادسة عشر وبسبب فقر عائلته ذهب إلى عدن بحثا عن عمل.
- عمل هناك لسنوات عدة في مختلف المحلات التجارية قبل أن يعود إلى حضرموت في عام 1962. ومع ذلك لم يقم فترة طويلة في المكلا عاصمة حضرموت وعاد إلى عدن في عام 1963 ليعمل مديرا لمحل تجاري معروف في السنوات الثلاثة والثلاثين التالية. في عام 1997 حاول مرة أخرى الاستقرار في المكلا ولكن هذه المحاولة كانت غير ناجحة. عاد إلى عدن للمرة الأخيرة ليعيش فيها السنوات الأخيرة من حياته.
وكان باوزير كاتب غزير الإنتاج وتنوعت أعماله ما بين القصص القصيرة والروايات والمسرحيات وكتب الأطفال والسيرة الذاتية ناهيك عن مقالات في الصحف والمجلات. في وقت مبكر من الخمسينيات من القرن الماضي ،كان يكتب عمود في مجلة أنغام. أول قصة قصيرة نشرت بعنوان قصة في عام 1961 في صفحات الطليعة وهي صحيفة من المكلا. قصص أخرى نشرت في "الطليعة" بعنوان "شجرة الشيطان" وأدرجت في نهاية المطاف في المناهج الدراسية الوطنية. نشرت الطليعة مسرحيته الأولى المحاكمة في عام 1962. أعماله تنعكس بشكل كبير على الساحة الاجتماعية والسياسية المضطربة من الستينات.
مجموعته الأولى من القصص القصيرة تدعى الرمال الذهبية ونشرت في عام 1965 حيث ضمت مجموعة من القصص التي ظهرت من قبل في مختلف الصحف في المكلا وعدن. مجموعته الثانية تدهى ثورة البركان في 1968. نشر عدة مجموعات من القصص القصيرة طوال حياته المهنية وآخرها نشر في عام 1999. يعتبر باوزير واحد من رواد القصة القصيرة في اليمن.
شملت كتبه روايات أخرى كثيرة ومصنفات صحفية ومجموعات من المسرحيات والكتب للأطفال. كما كتب سيرته الذاتية في ثلاثة أجزاء التي تم إصدارها بعد وفاته في عام 2007. توفي باوزير في 7 أكتوبر 2004 في سن 66 ودفن في عدن.
ترجمت أعماله إلى اللغة الإيطالية وأدرجت في مختارات الأدب اليمني عام 2009 في بيرلو ديلو اليمن.