د. حسن الجزولي - فصل من كتاب توثيقى : "عنف البادية .. وقائع اللحظات الأخيرة فى حياة السكرتير العام للحزب الشيوعى السودانى".

ظل عبد الخالق يتتبع الأزقة المظلمة الخالية، ويتجنب الأماكن المضيئة والمطروقة، حتى عبر، بسلام، حى القماير وحى الكبجاب الكائنين فى الجزء الشمالى الشرقى من أمدرمان القديمة، ومن هناك دلف إلى حى أب روف من جهته الشمالية الغربية. كان حظر التجول قد أًعلن، وكان عبد الخالق يسمع، فى ذلك الوقت المتأخر من الليل، أثناء سيره وسط الأزقة الضيقة، أجهزة الراديو والتلفزيون تردد من داخل البيوت المتقاربة نداءات جهاز الأمن ووزارة الداخلية للمواطنين بمساعدتها فى القبض على قادة الحزب الشيوعى، وتهديد كل من يأوى أحداً منهم!


فى العتمة طرق منزل أحد معارفه من الشيوعيين. فتح الرجل الباب، ورحب بعبد الخالق، والأسى ملء عيونه، ووقف يتحدث إليه فى تلك العتمة همساً. شرح له بلباقة أنه، وبحكم موقعه الجماهيرى فى العمل السياسى خلال الأيام الثلاثة الماضية، أضحى (مكشوفاً) لرجال الأمن الذين يتوقع وصولهم، بين كل لحظة وأخرى، لاعتقاله وربما لتفتيش المنزل أيضاً، ولذلك فليس من الحكمة أن يورط عبد الخالق بإيوائه أو حتى بالاقتراب منه فى مثل ذلك الظرف. تفهم عبد الخالق الموقف وشكره ومضى فى طريقه.


فى غضون ذلك كانت أرتال الدبابات والمصفحات العسكرية تجوب شوارع العاصمة وتنشر الرعب فى النفوس. وكان جنود السلطة العائدة يجوسون بين الأزقة، ويداهمون المنازل، مدججين بالبنادق الرشاشة، وكل أنواع الأسلحة الخفيفة، بحثاً عن المطلوبين. وقد نشط كل من جهاز الأمن القومى حينها واقسام وزارة الداخليه فى تعقب الشيوعيين ومن شايعهم، وامتدت الملاحقات إلى كل أنحاء العاصمة والاقاليم، حتى بلغ عدد المعتقلين، خلال بضعة أيام، آلاف المواطنين والمواطنات من 83 مدينة وقرية.


*** حى أب روف يقع فى الجزء الشرقى من مدينة أمدرمان، على الشاطئ الغربى لنهر النيل. يحده من الشمال حى الكبجاب وحى القماير، وتتداخل معه من الغرب عدة أحياء كالهجرة وسوق الشجرة والخنادقة وود أرو، أما من ناحية الجنوب فيتداخل مع حى بيت المال تداخلاً شديداً. ويعد حى أب روف من أعرق أحياء المدينة، فقد تأسس فى أعقاب انتصار الثورة المهدية، ومع بدايات نشوء أمدرمان نفسها، متخذاً اسمه من اسم الأمير أب روف، أحد قادة الثورة المهدية. ومن أقدم وأشهر الشخصيات التى سكنته رابحه الكنانية التى عاشت حتى منتصف الخمسينات، وكانت قد اكتشفت، على أيام الثورة المهدية خلال الربع الأخير من القرن 19، تدبير الادارة الاستعمارية التركية لمباغتة جيش المهدى فى قدير، فتسللت فى نفس الليلة مشياً على الأقدام لمدة 12 ساعة كى تبلغ المهدى بأمر الهجوم العسكرى الوشيك، وبهذا أنقذت الثوار من ابادة محققة 138.


ويُعد حى أب روف، ضمن جملة أحياء أخرى بأمدرمان القديمة، رصيداً تقليدياً للحزب الشيوعى بما لديه فيها من وجود مميز، وهى الأحياء التى شكلت خارطة (الدائرة 22 أمدرمان الجنوبية)، حيث فاز عبد الخالق، عام 1968م، على منافسه أحمد زين العابدين مرشح الحزب الوطنى الاتحادى، فقد أحرز عبدالخالق 7665 صوتاً بينما نال الآخير 7122 صوتاً. وكانت تلك الدائرة تضم، بالاضافة إلى أب روف، الأحياء التى تقع على طول الشريط الحدودى الموازى لنهر النيل والذى يضم أحياء بيت المال والملازمين والموردة حتى مدينة الفتيحاب، وإلى ذلك أحياء بانت والعباسية وحى الضباط وأب عنجة وغيرها. وقد نافح أعضاء الحزب وأصدقاؤه فى تلك الأحياء، ومن بينها أب روف وبيت المال، عن دار الحزب الكائنة داخل بيت المال، متصدين، ببسالة نادرة وتضحية جمة، للهجوم الذى شنته عام 1965م، على الدار وعلى الشيوعيين بالسلاح الأبيض، القوى والجماعات المعادية للحزب، آنذاك، بقيادة الأخوان المسلمين وحزب الأمة، والتى سعت لحل الحزب، وحظر نشاطه، وطرد نوابه من الجمعية التأسيسية، وذلك فى أعقاب حادثة معهد المعلمين العالى الشهيرة التى تعرض فيها أحد الطلاب فى ندوة سياسية لبيت النبوة، فسارعت تلك القوى والجماعات تنسبه فى لهوجة مفضوحة للحزب الشيوعى.


***


كان حسين أحمد عثمان الكد، وشقيقه التوأم حسن، من أبكار خريجى كلية غردون التذكارية، ومن المثقفين اليساريين، بمعايير ثلاثينات القرن الماضى، الذين أسسوا جمعية أب روف للقراءة، وتأثروا بفكر الفابيين FABIANS فى بريطانيا. وكان حسين حتى وفاته فى منتصف ستينات القرن الماضى صديقاً لعدد من الماركسيين، من بينهم قريبه وسكرتير الحزب الشيوعى السودانى عبد الخالق محجوب، والصحفى وعضو لجنة الحزب المركزية محجوب عثمان، وآخرون.


ومنذ ما بعد ظهيرة يوم 22 يوليو كانت أسرة حسين الكد بحى أب روف، على مقربة من شاطئ النيل، تواجه ظرفاً عصيباً. فقد ادلهمت الخطوب عليها دفعة واحدة، حيث كان ابنها الضابط خالد حسين الكد قد أعيد إلى الخدمة بالقوات المسلحة السودانية بقرار من القيادة الجديدة عقب نجاح انقلاب 19 يوليو مباشرة، وبذلك تم إلغاء قرار تسريحه السابق، الأمر الذى كان مصدر سعادة للأسرة. لكن ها هى الأنباء ترد إليها، وإن كانت غير مؤكدة، بأن خالد قد قتل أثناء المعارك الشرسة التى ظلت دائرة منذ عصر ذلك اليوم، 22 يوليو. فهناك من يقول إنه قتل بكبرى شمبات! وآخرون يؤكدون إصابته قرب إحدى محطات الوقود!


من جهة أخرى تضاربت الأخبار أيضاً حول مصير ابن الأسرة الآخر والشقيق الأصغر لعبد الخالق، الرائد محمد محجوب عثمان، والذى تم تعيينه عضواً بمجلس قيادة الثورة فى انقلاب 19 يوليو أثناء وجوده خارج البلاد. وكان من المفترض أن يطير من برلين الشرقية إلى لندن، ليكون برفقة بابكر النور وفاروق حمد الله فى طريق العودة إلى الخرطوم على متن نفس طائرة الخطوط البريطانية التى اختطفتها سلطات القذافى وأجبرتها على الهبوط بمطار بنغازى ليعتقلا هناك تمهيداً لتسليمهما للنميرى عقب عودته لينكل بهما! وسوف يتضح فى ما بعد أن محمد محجوب لم يتمكن، لأسباب فنية، من اللحاق بتلك السفرية المشئومة!


أما من الجهة الثالثة فها هو عبد الخالق أيضاً تهدر الدبابات والشاحنات فى أثره، ويضج المذياع والتلفزيون بنداءات جلاديه إلى المواطنين ليساعدوهم فى القبض عليه!



***


فى تلك الساعة المتأخرة من الليل كان الأديب المعروف طه الكد، الشقيق الأكبر لخالد، يجلس مهموماً مغموماً على كرسى بفناء منزل الأسرة، يحاول متابعة الأخبار من راديو ترانزيستور، وذهنه مشغول بأفكار مبعثره ولا يكاد يقوى على التركيز، وإلى جانبه يستلقى خاله محمد التجانى على سريره، ومسبحته تكر بين أصابعه، بينما شفتاه تنثران الأدعية، وعيناه معلقتان بالسماء البعيدة.


وفى الجزء الداخلى من البيت كانت الهموم تجثم على صدور جميع أفراد الأسرة بعد أن رأوا، أول المساء، وجه النميرى يطل من شاشة التلفزيون، بعينين تقدحان شرراً، وحنجرة ترغى وتزبد كالثور الهائج، وتتوعد الانقلابيين والشيوعيين، وتطالب بالقبض عليهم "واحداً واحداً"، لافظاً بطريقة غريبة إسم ابن الأسرة "خالد الكد و .. something"، على حد تعبيره!


كانت زخات الرصاص وانفجارات الدانات ما تزال، أنذاك، تاتى متقطعةً يحمل صداها نيل أمدرمان، الصامت الحزين هو الآخر، طوال مساء وليل ذلك اليوم. كان الظلام دامساً، وحركة الشارع قد خبت تماماً مع حظر التجوال والوقت المتأخر من الليل.


وكان لحوش آل حسين الكد، على عادة بيوت أمدرمان العتيقه فى إشهار كرم الضيافة، باب مفتوح فى كل الأوقات، ولا يغلق إلا فى الهزيع الأخير. وعبر هذا الباب الغارق فى العتمة انتبه طه فجأة إلى حركة آتية، فى تلك الساعة، من جهة الشارع الغارق، هو الآخر، فى العتمة، فوضع جانباً جهاز الترانزيستور الذى كان ما يزال يكرر، بشكل رتيب، نداءات وزارة الداخليه وجهاز الأمن للمساعدة فى القبض على عبد الخالق ومجموعته، ونهض ليستجلى مصدر تلك الحركة قرب الباب المفتوح، فلاحظ طيف شخص يدلف إلى داخل الفناء. ظل طه واقفاً يحاول بصعوبة أن يتبين ملامح ذلك القادم كلما اقترب رويداً رويداً من الهالة الشاحبة التى ينثرها، بالكاد، ضوء المصباح الخافت فى الفيراندا العتيقة على جزء من الفناء. ولما اقترب القادم أكثر رأى طه فيه رجلاً يرتدى جلباباً أبيض ويضع عمامة تخفى جزءاً كبيراً من رأسه ووجهه ويتلفع بملفحة سمنية وينتعل حذاءً أبيض!


كان محمد التجانى، خال طه، مازال مستلقياً على السرير ممسكاً بمسبحته، غير منتبه للقادم حتى بعد أن ألقى بالتحية عليهما. وعندما لم يعد يفصل بين طه وبين القادم سوى خطوة أو خطوتين ظهرت بوضوح ملامح عبد الخالق لطه الذى ألجمته المفاجأة لبرهة بددها فوراً بأن اندفع نحو ابن خاله معانقاً له فى صمت، وجسده يهتز من شدة الانفعال لفترة طالت، حتى انتبه محمد التجانى فنهض هو الآخر يعانق عبد الخالق بتأثر شديد، ثم ما لبث ثلاثتهم ان دلفوا من فورهم، عبر الفيراندا، إلى داخل الديوان.



***


لم يكن طه الكد فى الواقع منتمياً للحزب أو حتى مناصراً لأيدولوجيته، بل يمكن القول بأنه كان مناوئاً للماركسية، انطلاقا من قناعاته الفكرية، ونشأته المحافظة، ورؤيته الخاصة للثقافة العربية الاسلامية، اٍضافة الى أنه لم يكن لديه فى الأصل أى ميل إلى السياسة ومعتركاتها، بل كان منصرفاً عنها بكلياته إلى الأدب العربى الكلاسيكى، وبخاصة الشعر العربى بأغراضه وعروضه وأوزانه وقوافيه القديمة التى ظل شغوفاً بها، منافحاً عنها، ومعتزاً بذلك. ومع هذا فقد كانت له، فى المستوى الانسانى، علاقاته الحميمة بكثير من الشعراء والأدباء الشيوعيين، كما كانت تربطه بابن خاله عبد الخالق وشائج من المودة والاحترام. وربما يعود ذلك إلى قدرات عبد الخالق الفذة، وإحاطة موسوعيته بالثقافة العربية الاسلامية منذ بواكير صباه، من جهة، وما عرف عنه من شجاعة وبسالة وصمود، من الجهة الأخرى، وإعجاب طه واحتفائه، أصلاً، بمثل هذه الملكات والخصائص الشخصية، من الجهة الثالثة، علاوة على صلة الرحم التى يعتز بها طه أيما اعتزاز، من الجهة الرابعة، بغض النظر عن الاختلاف فى الرأى والفوارق فى الأفكار.


وثمة عامل إضافى لا يقل أهمية بالنسبة لطه، فقد كان عبد الخالق على علاقة حميمة ووثيقة بحسين أفندى الكد أوان حياته. ولا غرو، فقد كان والد طه، كما سبق أن أشرنا، من كبار المثقفين فى زمانه، وأحد أبرز مؤسسى (مدرسة أب روف) اليسارية، بمعايير ثلاثينات القرن الماضى، والتى انتمى إليها أيضاً توأمه حسن الكد وحماد توفيق وابراهيم يوسف سليمان ومكاوى سليمان أكرت وغيرهم. وكان عبد الخالق ".. كثيراً ما يقضى أوقاتاً طويلة مع والد طه كلما زار حوش أبناء عمته بابى روف، حتى أنه خلال فترات اختفائه فى سنوات سابقة، كان يحرص على زيارة حسين أفندى الكد، حيث يقضى معه فترة طويلة ثم يغادر عند منتصف الليل) 139.


وإذن فقد كان لدى طه ألف سبب فى محبته لعبد الخالق!



***


ـ "لو كنت أعرف مكاناً آخر فى هذا الظرف لما اضطررت للحضور إليكم وأنا أعلم وضعكم حالياً"! قال عبد الخالق لطه.


فرد طه بصوت مزيج من الانفعال والحزم:


ـ "ثق يا عبد الخالق .. والله لن أتخلى عنك أبداً حتى لو قطعونى اٍرباً اٍرباً"! 140


ثم أضاف قائلاً له:


ـ "هذا بيتك ياعبد الخالق .. الله الله!! ولكن يجب أن نبحث عن سلامتك" .141


ولكن للخاتم عدلان رأى لا نتفق فيه معه حول أن لجوء عبد الخالق إلى طه الكد هو لجوء "لرابطة الدم بعد أن لم تسعفه رابطة الانتماء الحزبى عند بعض الرفاق الذين كانوا يستجدونه استجداءً لزيارتهم فى منازلهم فى ليال غير تلك الليلاء. ولم يكن عبد الخالق ليذهب إلى طه، ثم يبقى ثلاثة أيام فى منزل قريبه ذى المنصب الحكومى الكبير، وبعلم ذلك المسؤول الكبير، لولا أن تلك الأبواب قد أغلقت فى وجهه"! 142.


وأخشى أن هناك تناقضاً فى هذا الكلام. فمن ناحية، وبعد أن يؤمن الخاتم نفسه على أن ذلك السلوك بدر من (بعض الرفاق)، يعود ليعممه على مجموع الحـزب، وهذا غير منطقى! أما من الناحية الأخرى فإن أحداً ممن لامسوا عبد الخالق عن قرب فى تلك الأيام لم يقل إنه أشار لشئ من ذلك أو أنهم أحسوا بأنه ينطوى على مثل هذا الشعور. ضف إلى ذلك أن المصادر المشار إليها أثبتت مشاركة شيوعيين آخرين، قدر معرفتهم واستطاعتهم، فى الجهود التى بذلت لإيواء عبد الخالق وحمايته. وبالتالى فاٍن حق لنا الاحتكام لوقائع الافادات التى وردت وسترد لاحقاً فى هذا الخصوص والتى اٍجتهدنا قدر ما نستطيع للحصول عليها واٍخضاعها للفحص، فانها لاتشير قط الى ثمة أية شبهة فى تردد بدر من شيوعيين أعضاء حزب تجاه قيم المروءة والشهامة والبسالة لكى يخفوا للذود عن سكرتيرهم العام وقائدهم الفكرى من أجل حمايته، وبالتالى فاٍننا نخشى على الخاتم من هذا التفسير الوحيد الذى أبرزه!


***


أوضح عبد الخالق لطه حاجته للبقاء فى أب روف لثلاثة أيام على الأقل، ريثما يتمكن من إعادة ترتيب الاوضاع فى ظروف التطورات الخطيرة التى كانت تجتازها البلاد آنذاك، ".. وأنه فى حاجة للقاء أحد أعضاء الحزب ممن يقطنون بالحى حتى ينسق معه ومع طه ما يستوجب عمله، وأن الأمر يحتاج لكثير من العجلة، واستطرد بالانجليزية: Things are moving very fast. " 143"


وهناك رواية أخرى لملكة الكد، الشقيقة الصغرى لطه وخالد، تؤكد "أن عبد الخالق .. لم يطلب من طه سوى أن يوفر له بأقصى سرعة أى وسيلة لمركب.. ينقله الى الطرف الآخر من نهر النيل عند الخرطوم بحرى! فطمأنه طه بتدبير الأمر مع بعض (مراكبية أب روف) صباح اليوم التالى" 144.


وإذا تركنا مؤقتاً رواية الرفاعى، وتعاملنا مع رواية ملكة، فمن خلال قرائن الأحوال ومنطق الأحداث نجد أن هناك احتمالين لرغبة عبد الخالق فى الانتقال إلى الضفه الأخرى من النهر: الأول أنه كان يريد الوصول إلى حلة خوجلى، حيث الخليفه النور، أحد خلفاء السيد على الميرغنى ووالد زوجة فاروق عثمان حمد الله، والذى قيل إن علاقة وثيقة كانت تربط بينه وبين عبد الخالق. ولكن أفراداً من أسرة الخليفه ينفون هذا الأمر. ورغم ذلك يظل الاحتمال قائماً، حيث أن فى أسرة عبد الخالق من يؤكد تلك العلاقة! أما الاحتمال الثانى فهو أن عبد الخالق كان يريد الوصول إلى بيت صديقه محمد نور السيد الذى رأينا، فى ما تقدم، أنه كان قد أسند اليه مهمة البحث له عن منزل بديل لمنزل (ص. أ) بالخرطوم/2، والذى كان قد أصبح قبلة الناس، مما أعاق أداءه لمهامه. وهكذا فإن من المحتمل أن يكون عبد الخالق قد قصد الاتصال بصديقه القديم لينقله الى ذلك المنزل، واثقاً من قدراته المجربة!



***


قضى عبد الخالق بعض ليلته تلك فى فناء منزل حسين الكد، بينما نام بقربه كل من طه وخالهما محمد التجانى، فكأن ثلاثتهم "فى جفن الردى وهو نائم"!


وقبيل فجر الجمعة 23 يوليو انتقل عبد الخالق إلى داخل (الديوان) لبعض الوقت. وهنالك ظل رابط الجأش، يتابع الأحداث، فى صمت، من خلال جهاز الراديو. وكان، كما نقل عنه طه، "هادئ النبرات، ثابت الجنان، تشى قسمات وجهه بصرامة وحزن عميقين" 145.


ولأنه لم تكن لتخفى عليه فداحة الاخطار التى كانت تحيط بمنزل يُتوقع أن يقتحمه عسكر السلطة فى أى وقت بحثاً، على الأقل، عن خالد، ضمن من انطلقوا يبحثون عنهم منذ أول المساء، فقد ناقش الأمر مع طه الذى اقترح، فى البداية، الانتقال إلى منزل خالهما محمد التجانى، الكائن على تخوم منطقتى القماير والكباجاب شمال حى أب روف. (ولكن محمد التجانى أبدى كثيراً من التردد رغم العاطفة التى يكنها لعبد الخالق!)146، وبإزاء ذلك اقترح طه الانتقال إلى حوش عمه حسن الكد، فمع كونه يقع على مرمى حجر فى الجوار، إلا أن المنصب الخطير الذى يشغله ابن عمه كمال فى أجهزة النميرى الأمنية ربما .. ربما تعصم ذلك الحوش بالذات عن التفتيش!


هكذا بدت الخيارات ضيقة إلى ذلك الحد!


وكان عبد الخالق، عندما يرى قريباته منتحبات جزعاً على مصيره ومصير خالد ومحمد، يعمد إلى تجاهل حزنه هو الرابض فى جوفه كالجبل، ويروح ينهمك فى ملاطفتهن وممازحتهن ليبدد عنهن رهق الأحزان الجاثمة على صدورهن. وما أن يهدأن قليلاً حتى يعود إلى ارتشاف قهوته ومتابعة إذاعة أم درمان التى كانت تنقل أخبار المحاكم العسكرية الميدانية التى تشكلت على عجل لتطال بأحكامها غير العادلة العديد من قادة ورموز يوليو، عسكريين ومدنيين، بينما سحابة من الحزن العميق لا تخطئها العين تلوح على محياه، وترتسم على تقاطيع وجهه، علاوة على تعب كل تلك الأيام.


***


ما لبث عبد الخالق أن تسلل مع طه، قبل شروق الشمس، إلى منزل حسن الكد. وهو المنزل الذى سيسمع فيه، عبر جهاز الترانزيستور، نبأ إعدام هاشم العطا وعثمان أبو شيبة ومحجوب (طلقة) وعبد المنعم الهاموش وغيرهم من الضباط الشيوعيين والديموقراطيين رمياً بالرصاص، والذى سترد إليه فيه معلومات غير مؤكدة عن إقدام النميرى على تنفيذ حكم الاعدام شنقاً حتى الموت، بسجن كوبر جنوب شرق الخرطوم بحرى، على الشفيع أحمد الشيخ، الرجل الثانى فى الحزب وعضو لجنته المركزية ورئيس إتحاد عام نقابات عمال السودان ونائب رئيس الاتحاد العالمى لنقابات عمال العالم والحائز على وسام النيلين من حكومة السودان ووسام لينين من الاتحاد السوفيتى قبل ما لا يزيد على العام فقط من ذلك، بالاضافة إلى جوزيف قرنق، عضو سكرتارية اللجنة المركزية. ومما زاد من احتمالات صحة تلك المعلومات القرار الذى صدر وتم بثه عبر الاذاعة والتلفزيون بتجريد الشفيع من وسام النيلين!


وسيبدى عبد الخالق غضبه الشديد من تلك الأخبار، خصوصاً إعدام الشفيع وجوزيف، وذلك لمعرفته الأكيده بأن أية محكمة، بأدنى قدر من العدالة والانصاف، ما كانت لتنزل بهما مثل هذه العقوبة الفظيعة، وسيظل يردد أنهما لا صلة لهما بما جرى، وأنه إذا قدر له أن يعيش فإنه لن يترك ما فعله النميرى ونظامه يمر بدون عقاب!


كما سيستطرد عبد الخالق قائلاً لطه، فى ذلك المنزل، إنه ليست لديه ولا للحزب أدنى علاقة بتدبير الانقلاب، و"أنا لن أنكر مسئوليتى .. لأنهم سوف يقولون إن عبد الخالق خاف وأنكر، سوف أدافع دفاعاً سياسياً إذا قبضونى، ولكن أحملك أمانة أن تقول عنى حين تكون فى مأمن أننى رفضت فكرة الانقلاب، وأننى سمعت به فى الراديو كأى مواطن آخر" 147.



***


وبهذا الصدد فإن ثمة حديثاً ظل متداولاً فى أروقة الحزب بصورة غير رسمية عما يسمى (بوصية عبد الخالق)، وفحواه أن عبد الخالق كتب بعض الملاحظات فى كراسة قام طه الكد، فى وقت لاحق، بتسليمها لمحمد ابراهيم نقد الذى انتخب سكرتيراً عاماً بعد إعدام عبد الخالق، وذلك حين التقاه طه فى مخبئه لأجل هذا الغرض. غير أنه لم يصدر عن قيادة الحزب ما يشير لهذه الكراسة. بل لقد أبدى كل من استفسرته عنها من القياديين دهشته نافياً نفياً قاطعاً معرفته أو حتى سماعه بها! فقد أشار التجانى الطيب إلى أنه لا علم له "بأية وصية مكتوبة من عبد الخالق سلمت بصورة أو بأخرى لمركز الحزب" 148. كما نفى يوسف حسين، عضو السكرتارية المركزية، علمه بأية وصية من عبد الخالق، سواء كانت كتابة أو شفاهة 149.


على أن للخاتم عدلان، أيضاً، إفادة مغايرة يؤكد من خلالها أن عبد الخالق سلم أوراقاً لطه طالباً منه ألا يقرأها "وعندما سألته بعد ذلك بسنوات: هل قرأتها ياطه؟ قال لى: أنا أبوك يا حسين! أنا أحنث بالقسم؟! أنا أخون الأمانة"؟! 150 ويضيف الخاتم أن طه قام بالفعل، بعد فترة من الأحداث، بتسليم تلك الأوراق إلى نقد وهو مختفى، و".. سألته شخصياً عنها فأكد لى أنها موجودة معه"! 151


لكن محمد ابراهيم نقد، السكرتير العام للحزب، ينفى "قصة الوصية" جملة وتفصيلاً، بل ويؤكد أنها "محض أسطورة .. عبد الخالق لم يكتب شيئاً ولم يكلف طه بحمل أية رسالة إلى قيادة الحزب، كتابةً أو شفاهة، وربما اختلط الأمر لدى البعض، فطه قد سلمنا بالفعل كراسة .. ولكنها الكراسة التى تحتوى على إفادته هو نفسه، أى طه، عن الأيام التى لازم خلالها عبد الخالق بأب روف"! 152


ومن جانبه يفيد كمال الجزولى الذى ربطت بينه وبين طه علاقة صداقة خلال السنوات التى أعقبت عودة كمال من الاتحاد السوفيتى فى أغسطس عام 1973 وحتى وفاة طه فى ديسمبر عام 1977م، قائلاً: "لا أستطيع بالطبع أن أنفى أو أؤكد فأنا لم أكن حاضراً تلك الأحداث. لكن طه حدثنى كثيراً، وفى مناسبات مختلفة، عن وقائع تلك الأيام. وأذكر أن أطول تلك الأحاديث، وأكثرها استفاضة وتفصيلاً، كانت بعد يومين تقريباً من هزيمة حركة الثانى من يوليو عام 1976م بقيادة محمد نور سعد. وكنا عدنا سوياً، فى الظهيرة، إلى أم درمان بعد أن قضينا بعض الوقت مع بعض الأصدقاء فى زيارة اجتماعية إلى منزل الكاتبة خديجة صفوت بمنطقة العمارات بالخرطوم، فعرج معى إلى منزلنا بحى بانت جنوب أم درمان، حيث تناولنا الغداء، وأمضينا الساعات التالية، حتى أول المساء، وهو يحدثنى عن أدق تفاصيل تلك الفترة التى كان خلالها لصيقاً بعبد الخالق بأب روف. وأخبرنى فى النهاية بأنه قد ضمن كل ذلك فى (كراسة) سلمها للحزب فى وقت لاحق. لكنه، على كثرة التفاصيل والاستطرادات التى أوردها فى حديثه، والزمن الطويل نسبياً الذى استغرقته مؤانستنا، لم يذكر لى أى شئ عن (كراسة) أو وصية أو رسالة أو مذكرة طلب إليه عبد الخالق تسليمها للحزب"153.


أما سعاد ابراهيم احمد، عضو اللجنة المركزية، فتقول إنها لم تطلع على وصية من عبد الخالق، وإن أحداً لم يثر أمرها معها وسط الضغوط والمهام التى كانت تواجه الكادر القيادى فى تلك الفترة! إلا أنها تشير إلى أن عبد الخالق ".. ربما يكون قد رتب بعض الأمور التنظيمية ومن بينها مسألة القيادة ، فقد كان يكن احتراماً عميقاً وثقةً فى شخصية قاسم أمين، ومن الممكن أن يكون قد أشار إلى ذلك فى تلك الرسالة"! 154


ومع أن سعاد لم تؤكد أو تنف وجود تلك الوصية، إلا أن إفادتها تضمنت (إيحاءً) فى غاية الخطورة ، ومن شأنه أن يثير جدلاً واسعاً وأسئلة مقلقة. فهل الحزب قائم، من حيث بنيته الفكرية والتنظيمية، على المؤسسية أم على شئ آخر؟! وهل يعقل أن عبد الخالق الذى وهب عمره لقضية التغيير الاجتماعى التى تعتبر فى مضمونها من أوثق القضايا بمفاهيم الحداثة، يمكن أن يكون قد (أوصى) بأن تؤول القيادة من بعده لشخص محدد؟!



وفى شأن "الوصية"، تؤكد فائزة أبو بكر عضو فرع الحزب بأبروف ضمن إفادتها للكاتب بأن عبد الخالق وقبل انتقاله للمنزل الثالث والأخير الذي تم اْعتقاله منه قد أودع لديها (قصاصات) صغيرة الحجم تشير فائزة إلى أنها ربما تكون ملاحظات مهمة حرص على تسجيلها في فترة اختفائه بأبروف، ثم تضيف: "للأمانة لم أطلع عليها، وبعد فترة من تلك الأحداث قمت بتسليمها للمرحوم طه الكد"!





بهذه الإفادة لفائزة فإن قصة (وصية عبد الخالق) تزداد غموضاً ضمن مجمل أحداث تلك الفترة على ماهى عليه من تعقيد وإرباك! فبينما يشير الخاتم عدلان إلى أن طه قد أكد له أن عبد الخالق سلمه كراسةً طالباً منه أن لا يطلع عليها، وأنه سلمها نقد فيما بعد حسب رغبة عبد الخالق ، فهاهي فائزة تشير إلى أن (قصاصات ) أخرى كانت بحوزة عبد الخالق قامت هي فيما بعد بتسليمها طه الكد ! السؤال هو أن افترضنا صحة رواية طه للخاتم بأنه سلم كراسة اْستلمها ( يداً بيد) من عبد الخالق وأودعها نقد، فهل تكون تلك (القصاصات) التي سلمتها فائزة لطه فيما بعد ضمن تلك الكراسة؟! ولماذا لم يشر طه الكد إلى ذلك في حديثه للخاتم عدلان؟! وإن لم يكن الأمر كذلك، فما هو إذن مصير تلك القصاصات التي سلمتها فائزة إلى طه الكد، حسب إفادتها؟!


***


عندما دلف عبد الخالق وطه من الباب الخارجى إلى فناء منزل عم الأخير كان الفتى بابكر حاج الشيخ، الشقيق الأصغر لزوجة عم طه، ينام بحوش المنزل، فأيقظه طه هامساً له أن برفقته عبد الخالق الذى ينبغى أن يقضى بعض الوقت هناك، طالباً منه أن يتكتم على الأمر. وعلى حين ربض عبد الخالق غير بعيد فى الجزء المعتم من الحوش، بدا لطه أن الفتى شد قامته، وشمخ برأسه، قبل أن يؤكد له بعزم أنه لم يعد يافعاً حتى يثرثر بأمور كهذه!


والواقع أن طه الذى كان يتحوط ، خلال تلك الأيام، لكل شئ، قام فى وقت لاحق بصرف خدم المنزل، كما حرص على تجنب الضيوف بقدر الامكان!


لم يكن هناك إذن من كان يعلم بأمر عبد الخالق سوى أفراد الأسرة القلائل من أقربائه. فبالاضافة الى طه وخاله محمد التيجانى وبابكر حاج الشيخ كانت هناك شقيقات طه: بتول وصفية وملكة. لكن، فى ما بعد، وضع طه، بطلب عبد الخالق وتوجيهه، قلة من عضوية فرع الحزب بأب روف فى صورة ما يجرى. وقبل ذلك كانت ثريا الشيخ، زوجة شقيق عبد الخالق الأصغر محمد محجوب، والتى لم تكن قد التحقت، بعد، بعضوية الحزب، قد زارته لبعض الوقت، وكان عبد الخالق يصبرها مشجعاً ويذكرها ببعض الآيات القرآنية "قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا"، وذلك عندما كانت تنتحب ولا تستطيع كتمان جزعها 155.


ظل الفتى بابكر يقوم على خدمة عبد الخالق طيلة فترة وجوده هناك. ولم يكن بابكر فى واقع الأمر عضواً بالحزب، إلا أنه كان على المستوى الشخصى معجباً بشخصية وثقافة وبسالة عبد الخالق، فتعاطف مع الحزب كأغلبية شباب تلك المنطقة من أم درمان القديمة الذين حملوا عبد الخالق إلى مقاعد الجمعية التأسيسية عام 1968م. هكذا، ورغم فارق السن، نشأت علاقة حميمة بين بابكر وبين عبد الخالق فى تلك المدة الوجيزة بصالون حوش حسن الكد، وتحت ظروف ذلك الكرب، ورهق الساعات بل الدقائق التى كانت تمر ثقيلة متباطئة، والمصير المفزع الذى كان يدنو من عبد الخالق رويداً رويداً! فقد عمل عبد الخالق على إزاحة حاجز الهيبة والرهبة من نفس الفتى تجاهه، ورفع غطاء الكلفة عن علاقتهما، حتى خيل لبابكر أنه يتعامل مع صديق قديم حميم، يتقاسمان السيجارة الواحدة (تخميسة)، ويستدعيان ذكريات تلك الحملة الانتخابية الأنيقة. ومن بينها ذلك الحادث الذى كاد أن يودى بحياة بابكر لحظة اٍعلان النتيجة، عندما تهجم أحد الاتحاديين على بابكر بفأس حُمل على أثرها إلى مستشفى أم درمان، حيث ظل طريح سريرها لأيام زاره خلالها عبد الخالق للاطمئنان على صحته، فعد بابكر ذلك اليوم من أسعد أيام حياته.


سأله عبد الخالق عن شقيقه الأمين، وعن طبيعة عمله بتلغراف الخرطوم، وعن هواياته، وعن كيفية قضائه لأوقات فراغه. ودرءاً لأى التباس قد ينشأ فى ذهن الفتى الذى قد يكون منفعلاً فقط بقيم البسالة، دون أية دراية بمقتضيات العمل السياسى السرى، شرح له عبد الخالق أنه ليست للحزب أو له شخصياً علاقة بالانقلاب، وهو لم يلجأ للاختفاء فى تلك الظروف، خوفاً، ولكن واجبه القيادى يقتضيه الاختفاء فى مثل تلك الظروف حتى يستطيع أن يتحرك بحرية باتجاه إنقاذ ما يمكن إنقاذه والتقليل من حجم الكارثة بقدر المستطاع 156.


ويروى بابكر أن عبد الخالق، عندما أذيع خبر إعدام هاشم العطا ورفاقه الضباط، تأثر تأثراً بالغاً، حتى أنه لاذ بصمت مفاجئ، واستلقى على سريره منكفئا بوجهه على عمامته لفترة طويلة، حتى خيل لبابكر أنه قد غط فى نوم عميق!


وفى صبيحة السبت، وبينما كان بابكر يتهيأ للذهاب إلى عمله، أخطر عبد الخالق بأنه سيطلب إذناً بالخروج مبكراً من العمل فى ذلك اليوم، كى يعود سريعاً ليكون إلى جانبه. فأوصاه عبد الخالق بأن يجلب معه، عند عودته، بعض الصحف والسجائر، كما طلب منه موافاته بإحصائية عن برقيات التأييد التى وردت لسلطة 19 يوليو والجهات التى بعثتها.


لكن بابكر، عندما عاد للمنزل، وجده مقفلاً، وعند ذهابه للاستفسار فى حوش حسين الكد عرف أن عبد الخالق قد غادر الى مكان آخر 157



***


كان عبد الخالق، عندما غادره بابكر إلى عمله، مايزال مشغول البال بأمر الضفه الشرقية، حيث عاود سؤال طه عما إذا كان قد فعل شيئاً بهذا الخصوص. ويبدو أن طه كان قد تراجع عن فكرته الأولى حول ترتيب المسألة مع بعض (مراكبية اب روف)، حين استشعر خطورة تلك المغامرة على حياة عبد الخالق. وكان من المحتمل، بالفعل، أن يكون شاطئ اب روف قد أصبح مرصوداً أيضا من قبل الدوريات العسكرية وعيون العسس التى انتشرت مبثوثه فى كل الأمكنة. فنقل هواجسه تلك لعبد الخالق الذى لم يشاطره الرأى، بل كان يبدو متيقناً من سلامة (العملية)، ولكنه ساير طه، على أية حال، وصرف النظر عن المسألة برمتها!


أصر عبد الخالق، بعد ذلك، أن يتحول من منزل حسن الكد، حيث قدر أن لهاث أجهزة الأمن فى البحث عن خالد الكد لن يلبث أن يدفعها، إن عاجلاً أو آجلاً، إلى مداهمة ذلك الحوش، رغم المنصب الأمنى الرفيع الذى يشغله إبن الأسرة كمال!


كان طه وقتها يكاد يكون قد انصرف تماماً عن كل شئ، بما فى ذلك حتى مشكلة شقيقه خالد، وركز كل جهده فى إنقاذ ابن خاله عبد الخالق، فأجرى، بتوجيهات الأخير، بعض الاتصالات مع القلة التى لم يطالها الاعتقال بعد من أعضاء فرع الحزب بأب روف.


وبالنتيجة تقرر نقل عبد الخالق إلى منزل آخر لا يبعد كثيراً، لكن الشبهات لا تحوم حوله كون مالكه هو أحد رجالات حزب الامة!



***


قبيل ظهيرة السبت الرابع والعشرين من يوليو كانت العربة التى يقودها المرحوم بكرى السمانى تقف ملاصقة تقريباً لباب منزل حسن الكد. وكان يجلس إلى جواره شقيق زوجته فضل البلولة (أحد أعضاء فرع الحزب بالحى). ومنذ ذلك اليوم أطلق طه إسم (الفحل) على بكرى الذى لم يكن عضواً بالحزب ومع ذلك تبرع بتنفيذ نقل عبد الخالق بعربته، بل وأصر على قيادتها بنفسه! وعلى حين وقفت صفية، إحدى شقيقات طه، تراقب الشارع ريثما يخرج عبد الخالق ليستقر بالعربة، كان هو يلح فى إبعاد طه عن المكان تحسباً لأى طارئ بعد أن رأى حرصه على مرافقته والبقاء إلى جانبه 158.



هكذا، وفى وضح النهار، انطلقت العربة تشق أزقة ذلك الحى الشعبى، وعلى مقعدها الخلفى جلس الرجل الذى كانت تبحث عنه أرتال عسكر مايو وعسسها، بجلبابه الأبيض وعمامته البيضاء بعد أن أحكم لف ملفحته السمنية حول عنقه ورأسه و صفحتى وجهه! وفى ما بعد حرص طه على رش منزل عمه بمادة تمحو آثار عبد الخالق فى حالة اصطحاب رجال الأمن لكلابهم البوليسيه! 159.


أوقف بكرى العربة ملاصقة أيضاً لباب منزل قطب حزب الأمة، ونزل عبد الخالق ليجد فى استقباله فائزة أبوبكر العضو بفرع الحزب بالحى وإٍبنة صاحب المنزل، حيث قضى وسط أسرتها الصغيرة ما تبقى من ذلك اليوم حتى فجر اليوم الذى يليه. وقد أفادت فائزة لاحقاً بأن "عبد الخالق قال لى بالحرف: أنا ما عندى علاقة بالانقلاب وبختفى ليس خوفاً من الموت ولكن من أجل أبناء وبنات الشعب السودانى وربنا يقدرنا نقدم ليهم ما يطورهم ويسعدهم، وكانت هذه كلماته الأخيرة لى" 160.


ما كاد ينقضى وقت قصير منذ وصول عبد الخالق إلى هذا المنزل حتى حدثت واقعة اعتقال لأحد الذين يقطنون المنزل الذى انتقل اليه عبد الخالق ،ذلك المنزل المأهول بعدة أسر صغيرة من عائلة واحدة كبيرة، كأغلب منازل أمدرمان القديمة، وعلى الرغم من أن اعتقال ذلك الشخص قد تم من مكان عمله بالخرطوم الا أن ذلك قد جرى دون أن يفطن رجال الأمن لوجود الشخصية المحورية فى حملاتهم المحمومة بمنزل ذلك المعتقل، بل ولم يخطر لهم ذلك أصلاً!


لكن عبد الخالق وما أن ورد خبر الاعتقال، حتى طلب من طه الذى كان قد وصل آنذاك الاسراع بنقله الى منزل خالٍ من السكان. والواقع أن عبد الخالق كان قد اقترح ذلك قبل مغادرة بيت حسن الكد، إذ يبدو أن إقدام النميرى على إعدام قادة الانقلاب من العسكريين، وعلى البطش بالمدنيين، جعله يفكر جدياً فى تسليم نفسه للسلطة المهتاجة، والتى قدر أنها لن تبرأ من سعارها، أو تتوقف عن دمويتها وبطشها بالشيوعيين والقوى الديمقراطية، إلا بالقبض عليه. وقد حاول طه، جهد طاقته، أن يثنيه عن قراره ذاك، إلا أنه تمسك به كقرار نهائى. فطلب منه طه التريث حتى يتم تدبير منزل مناسب، لكن عبد الخالق واصل إلحاحه على أن يتم ذلك فوراً! فخرج طه وأجرى اتصالات نتج عنها، على عجل، تدبير منزل أهله على سفر. ".. ويمكن القول هنا أن عبد الخالق كانت تشغله فى تلك اللحظات .. الطريقة التى يفدى بها حزبه ورفاقه، حتى اٍذا اقتضى الأمر تسليم نفسه لموت محقق. ويمكن أن يقال .. إنه كان يفكر فى تقديم نفسه قرباناً لحزبه، ولكنه لن يكف عن أن يكون شهيداً لهذا السبب .. فإن جميع الشهداء بالمعنى الواسع للكلمة هم بطريقة ما وبمعنى من المعانى قرابين"! 161.


ولا بد أن عبد الخالق قد أحس بصورة أو بأخرى أن الأمر قد قضى، وأن الخناق أصبح يضيق تماماً، فلم ينتظر، حيث غادر منزل قطب حزب الأمة على عجل برفقة شقيق فائزة أبوبكر،التى قالت "لم يأت أى أحد ليغادر معه ولكن ذهب معه معاوية شقيقى وقد كان وقتها وزير دولة وفيما بعد أصبح وزيراً للتشييد والأشغال وتوفى عام 1978، وكان صديقاً لعبدالخالق، وقد ذهب معه سيراً على الأقدام الى المنزل الذى انتقل اليه، والذى كان قريباً من منزلي، " 162!


هكذا انتقل عبد الخالق، فجر الأحد الخامس والعشرين من يوليو، إلى هذا المنزل الأخير الذى سيعتقل منه، والذى دبره المرحوم عثمان مصطفى عبد الرحمن ، أحد أعضاء فرع الحزب بأب روف، ويمتهن حرفة النجارة، والذى تؤكد فائزة أنه بذل قصارى جهده من أجل تأمين عبد الخالق، وقد وقع اختياره على ذلك المنزل باعتبار أنه لا تحوم حوله أية شبهات، وأنه مملوك لعمه المرحوم الطاهر حاج حمد الذى كان وقتها يرافق زوجته فى رحلة علاج بالقاهرة.​
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...