لطالما كانت رمالُ شاطئِ المَعمورة المُفضَّلة بالنسبةِ لي، ألجأُ إليها كُلَّما أردْتُ إفراغَ طاقتي، فارتطامُ الأمواجِ بقدمي يُذيبُني عِشقًا في تمرُّدِ الكونِ الذي يُشبهُني. أضعُ يدي على جبهتي فأتحسسُ الندبةَ التي لا يزولُ أثرُها وينهالُ عليَّ سيلٌ من الذكريات الأليمةِ التي لا أُحبُّ تذكُّرَها لكن لا ألبثُ أن أنساها، يسألُني الجميع عن سببِها فأُخبرُهم أني تعثرْتُ في صغري وارتطمت رأسي بصخرةٍ دون قصد، في كذبتي المعروفةِ كي لأ أُفصحَ عن ضربِ والدي المُبرحِ لي في طفولتي.
لا أدري السببَ، لكنه ذاك الأستاذُ الجامعي الذي يُكنُّ له الجميعُ احترامًا، لرُبَّما هي تعليماتُ أمي بعدمِ فضحِه رغم انفصالِها عنه منذُ سنواتٍ طويلة، أُحاولُ تناسي ذلك الشخص المُتوفى برأيي، أسرحُ بناظري فأجدُ فتى صغيرًا مُحاطًا بمجموعةٍ من الأطفالِ كبار الحجم يوسعونه ضربًا، لطالما كان قانون الحياةِ أن البقاءَ للأقوى، وها هي ذي الطبيعةُ تفرضُ رأيها من خلالِ هؤلاء الأغبياء، لا يُدركون أني سأُعلِّمُهم درسًا جديدًا من خلالِ تدخُّلي.
"توقفوا، ماذا أنتم بفاعلين؟"
قُلْتُها بصوتي الذكوري فَرِحًا ببلوغِه مؤخرًا، توتروا لسماعِه لولا تدخُّلِ زعيمهم الذي تقدَّم وقال بحزم: "ابتعد عن هنا؛ فلا شأن لك." لم أشعرْ سوى بإبراحِه ضربًا حتى بدأ أنفُه ينزفُ فتذكرْتُ يوم ندبتي، ابتعدْتُ عنه وقُلْتُ له بصوتٍ يرتعد: "فلتذهبْ الآن".
في تلك اللحظة كان الأطفالُ جميعُهم يهرولون مُبتعدين، إلا واحدًا لاحظ ارتفاع صوتِ أنفاسي وأنا أنظرُ ليدي التي حالت تُشبه والدي وأصبحْتُ أتبِّعُ تصرُّفاته التي أبغضُها، قال بصوتِه الرقيقِ الحاد: "هل أنت بخير؟ أشكرُك كثيرًا لأنك ساعدتني، خُذ هذا"، نظرت إلى ما أهداني فوجدْتُ مبلغًا من المالِ، ظهرت عليَّ علامات الدهشة، فسرد:
"هذه حصتُك، يوسعُني هؤلاء الأوغادِ ضربًا فأستسلمُ لهم وأسرقُ ما تطاله يدي من جيوبِهم، يظنون أنهم الفائزون لكنهم مُغفلون كفاية لأظفرَ أنا بما أرغب".
اندهشْتُ من كلماتِه، يتركُهم يضربونه دون ضغينةٍ لأجلِ المال؟ استطاع استيعاب دهشتي فأكمل: "ليست بيدي حيلة، أمي بائعةُ مناديلٍ في محطة القطار، لكن مكسبَها لا يكفي عيشتنا، فأتدبرُ مصاريفي".
سكت لحظةً ثم قال: "اسمع، لا طاقة لي بتأنيبٍ لا فائدة منه، خُذ حصتك واذهب، وَادْع أن يهديني الله لما فيه الخير".
اختفى، وتركني في بئرٍ من الحيرة، أفقره دافعٌ كافٍ للخِلسة؟ هل يعتبرُ تلك الأموال عرقه مُقَابِل ضربِه؟ هل بإمكانِه الدفاع عن نفسِه؟ أو كان تدخلي خطأً أصلاً؟ أم أنها كانت إشارةً من اللهِ كي لا أحكمَ ثانيةً من المظهر؟ عشرات الأسئلة خطرت ببالي قطعها صوتٌ عراكٍ على الطريق بجانبِي، يبدو أن سيارةً مُسرعةً كانت على وشكِ الاصطدامِ بأحدِهم أثناء عبورِه، وكعادتي أسرعْتُ لأفُضَّ الاشتباكَ الذي اعتدْت، حين وجدْتُ المُتضرر هو والدي!
نجحت مُحاولاتي في سلوكِ الحيادية، واعتذر السائقُ على سُرعته في منطقةٍ سكنية، أمعن أبي النظرَ إليَّ مُتأملاً شُعيرات شاربي التي بدأت تظهر، مُحاولًا إيقافي ليسردَ تبريراتِه التي لا أصدِّقُ أيًّا منها، لكني ابتعدْتُ قبل أن يدركَني، وعُدْتُ لأمي أُخبرُها بما حدث.
فوجئْتُ بها تقفُ إلى صفِه، تحثُّني على الإنصاتِ إليه ولو لمرة، تعجبْتُ من مَوقِفِها بعد كل ما حدث بينهما، لكني استشفيْتُ من كلامِها أن مرضًا خطيرًا أصابه وأنه في هذه الفترة يُكفرُ عن كل ذنوبِه، طلبت مني أن أستمعَ إليه لمرةٍ أخيرةٍ؛ عساه تغيَّر بعد محنتِه واستوعب خطأه بحقي.
استجبْتُ لها بعد مُحايلاتٍ كثيرة، أرسلْتُ رسالةً له فحواها أني مستعدٌ لسماعِه، فرحت بي كثيرًا لكنها أبدًا لم تعرفْ قط أنها كانت رسالةً وهمية، عنيدٌ أنا جدًا ولا قدرةَ لي بسماعِه، أظنُّ أني إن قابلْتُه لن أتوقفَ عن ضربِه حتى أتسبب له في ندبةٍ تُشبه خاصتي، وإن كنْتُ على وشكِ فعلِ هذا مع أحمقٍ لا ذنب له، إن لهيبَ الانتقام ينهشُ فيَّ ولا أستطيع السيطرة عليه، ربما عندما أنضجُ قليلًا سيسعُ صدرِي للسماع والغفران، أما الآن، فلا.
علياء مصطفى مرعي
لا أدري السببَ، لكنه ذاك الأستاذُ الجامعي الذي يُكنُّ له الجميعُ احترامًا، لرُبَّما هي تعليماتُ أمي بعدمِ فضحِه رغم انفصالِها عنه منذُ سنواتٍ طويلة، أُحاولُ تناسي ذلك الشخص المُتوفى برأيي، أسرحُ بناظري فأجدُ فتى صغيرًا مُحاطًا بمجموعةٍ من الأطفالِ كبار الحجم يوسعونه ضربًا، لطالما كان قانون الحياةِ أن البقاءَ للأقوى، وها هي ذي الطبيعةُ تفرضُ رأيها من خلالِ هؤلاء الأغبياء، لا يُدركون أني سأُعلِّمُهم درسًا جديدًا من خلالِ تدخُّلي.
"توقفوا، ماذا أنتم بفاعلين؟"
قُلْتُها بصوتي الذكوري فَرِحًا ببلوغِه مؤخرًا، توتروا لسماعِه لولا تدخُّلِ زعيمهم الذي تقدَّم وقال بحزم: "ابتعد عن هنا؛ فلا شأن لك." لم أشعرْ سوى بإبراحِه ضربًا حتى بدأ أنفُه ينزفُ فتذكرْتُ يوم ندبتي، ابتعدْتُ عنه وقُلْتُ له بصوتٍ يرتعد: "فلتذهبْ الآن".
في تلك اللحظة كان الأطفالُ جميعُهم يهرولون مُبتعدين، إلا واحدًا لاحظ ارتفاع صوتِ أنفاسي وأنا أنظرُ ليدي التي حالت تُشبه والدي وأصبحْتُ أتبِّعُ تصرُّفاته التي أبغضُها، قال بصوتِه الرقيقِ الحاد: "هل أنت بخير؟ أشكرُك كثيرًا لأنك ساعدتني، خُذ هذا"، نظرت إلى ما أهداني فوجدْتُ مبلغًا من المالِ، ظهرت عليَّ علامات الدهشة، فسرد:
"هذه حصتُك، يوسعُني هؤلاء الأوغادِ ضربًا فأستسلمُ لهم وأسرقُ ما تطاله يدي من جيوبِهم، يظنون أنهم الفائزون لكنهم مُغفلون كفاية لأظفرَ أنا بما أرغب".
اندهشْتُ من كلماتِه، يتركُهم يضربونه دون ضغينةٍ لأجلِ المال؟ استطاع استيعاب دهشتي فأكمل: "ليست بيدي حيلة، أمي بائعةُ مناديلٍ في محطة القطار، لكن مكسبَها لا يكفي عيشتنا، فأتدبرُ مصاريفي".
سكت لحظةً ثم قال: "اسمع، لا طاقة لي بتأنيبٍ لا فائدة منه، خُذ حصتك واذهب، وَادْع أن يهديني الله لما فيه الخير".
اختفى، وتركني في بئرٍ من الحيرة، أفقره دافعٌ كافٍ للخِلسة؟ هل يعتبرُ تلك الأموال عرقه مُقَابِل ضربِه؟ هل بإمكانِه الدفاع عن نفسِه؟ أو كان تدخلي خطأً أصلاً؟ أم أنها كانت إشارةً من اللهِ كي لا أحكمَ ثانيةً من المظهر؟ عشرات الأسئلة خطرت ببالي قطعها صوتٌ عراكٍ على الطريق بجانبِي، يبدو أن سيارةً مُسرعةً كانت على وشكِ الاصطدامِ بأحدِهم أثناء عبورِه، وكعادتي أسرعْتُ لأفُضَّ الاشتباكَ الذي اعتدْت، حين وجدْتُ المُتضرر هو والدي!
نجحت مُحاولاتي في سلوكِ الحيادية، واعتذر السائقُ على سُرعته في منطقةٍ سكنية، أمعن أبي النظرَ إليَّ مُتأملاً شُعيرات شاربي التي بدأت تظهر، مُحاولًا إيقافي ليسردَ تبريراتِه التي لا أصدِّقُ أيًّا منها، لكني ابتعدْتُ قبل أن يدركَني، وعُدْتُ لأمي أُخبرُها بما حدث.
فوجئْتُ بها تقفُ إلى صفِه، تحثُّني على الإنصاتِ إليه ولو لمرة، تعجبْتُ من مَوقِفِها بعد كل ما حدث بينهما، لكني استشفيْتُ من كلامِها أن مرضًا خطيرًا أصابه وأنه في هذه الفترة يُكفرُ عن كل ذنوبِه، طلبت مني أن أستمعَ إليه لمرةٍ أخيرةٍ؛ عساه تغيَّر بعد محنتِه واستوعب خطأه بحقي.
استجبْتُ لها بعد مُحايلاتٍ كثيرة، أرسلْتُ رسالةً له فحواها أني مستعدٌ لسماعِه، فرحت بي كثيرًا لكنها أبدًا لم تعرفْ قط أنها كانت رسالةً وهمية، عنيدٌ أنا جدًا ولا قدرةَ لي بسماعِه، أظنُّ أني إن قابلْتُه لن أتوقفَ عن ضربِه حتى أتسبب له في ندبةٍ تُشبه خاصتي، وإن كنْتُ على وشكِ فعلِ هذا مع أحمقٍ لا ذنب له، إن لهيبَ الانتقام ينهشُ فيَّ ولا أستطيع السيطرة عليه، ربما عندما أنضجُ قليلًا سيسعُ صدرِي للسماع والغفران، أما الآن، فلا.
علياء مصطفى مرعي