لها رنين يهز القلب، يشعل كهرباء في جسم جسدي، تصاحبها غمزة من عينها الكحيلة توقظ صبوتي.. قالت وهي تمط ذيل ضحكتها وتلصق كتفها الطري بكتفي بعد مدفع الإفطار: «العيد قرب يابو صلاح». رفعت نظري إليها في استنكار، فهي أعلم بالحال.. وفي الحال، انهارت حجج التملص في نفسي.. لمحت وجه صلاح وفمه يتسع على آخره في ابتسامة مترقبة.. قلت خاضعا: «حاضر! باکر أسافر لبلدنا وأحضر من عند امي سمنا بلديا من الأصلي ودقيقا أبيض فاخرا!».
رنت ضحكة سكرة تضيء حجرتنا المعتمة بالبهجة، وقامت تتثني بعودها اللدن، فأحضرت الفانوس من فوق الرف وأشعلت شمعته، ثم ناولته لصلاح وهي تهندم بيدها الحنون ملابسة عامسة: «العب مع الأولاد حتى السحور، ليرتاح أبوك ويستطيع السفر».
طرحت ساقي في تكاسل لذيذ وأمسكت بسيجارتي انتظارا للشاي.. وسرعان ما جاءت به سكرة، وما زال طنين وابور الغاز يملأ الأسماع، فهمت إشارتها، فتلقيتها بالشوق، ونسينا الدنيا .
رمت بالماء الساخن المتجمع في الطست من النافذة ترش به الحارة قبل عودة صلاح، ولكن العفريت بمجرد رجوعه أطال النظر إلى جلبابي النظيف وإلى شعر أمه المبلول وبرقت عيناه في استمتاع وكأنه ذاق حلاوة نعيمنا!.. تناولنا السحور، فأدلي بقية الطعام من الشق الذي يسكنه صديقه الفأر الصغير الذي بات يمرح بيننا باطمئنان.. ثم اندس بيننا على الفراش في سكون، وسرعان ما نام فنامت سكرة وهي تحتضنه وابتسامة تضيء قسماتها الحبيبة .
خرجت للجامع لأصلي الفجر، ثم مشيت لأصل للشركة في الوقت المناسب لأقوم بعملي في تنظيف المكاتب قبل حضور الرؤساء في العاشرة.
***
أمي كانت أمنيتها أن تراني واحدا من أفنديات المدينة، فلم تسمح لي بالعمل في الغيط مع أبي، وإنما صممت على أن أتعلم، ثم سعت حتى وظفني أهل الخير، فأصبحت من موظفي الدولة وزوجتي بنت بندر بيضاء .
***
خرجت مبكرا من المكتب.. خرجت من المدينة المختلفة إلى خلاء الريف الأخضر فغمرتني راحة عميقة وشعرت بالصفاء.. حمدت الله على يده الممدودة بالخير تنثر الرزق الوفير في سخاء، وظللت أختزن في صدري الهواء النظيف وأنا في طريق عودتي السريعة، وقد وفقت ورجعت أحمل على ذراعي سلة بها قدر السمن الشهي، وعلى ذراعي الأخرى ينام كيس الدقيق النقي.
سرت على قدمي، سرت أتفادى الحفر وأقفز فوق نتوء البلاط المكسور، وأنزلق فوق المياه الناشعة من المجاري وأتخطاها بمهارة حرصا على سروالي الذي سأرتديه في العيد.. أبت سيارة فارهة إلا أن تطاردني ناثرة المياه في وجهي، ومع هذا واصلت سيري بإصرار، فالمكافأة سخية في انتظاري، ضحكة سكرة حبة القلب.. وفرحة صلاح قرة العين.
***
لفظت المدينة آخر لمساتها العنون فانعقد دخان أبيض كثيف حول السماء إلى فوهة بركان يفور في دوامات مفزعة.. ومع اشتداد القيظ اشتد الزحام وتكاثر الناس كان السكان كلهم خرجوا من بيوتهم.. سد الزحام الشوارع فبدت مرشوقة بالرؤوس البشرية تحملق عيونها في ذهول متجمد.. بعض المحلات المكدسة بالبضائع المستوردة تحترق بفعل لصوص أشعلوا النار ليغطوا سرقتهم.
- تحترق
وستون عربة إطفاء ترشها بالماء الشحيح الذي تستجديه الخراطيم بغير جدوى.
تحترق، ومالي أنا؟ ماذا يخصني من الورد البلاستيك والمراتب الكاوتش والنجف الكريستال؟! كل أمنيتي بضع "شكاير" من الأسمنت أرمم به المنزل الذي نقطن إحدى غرفه، وقيل أنه آيل للسقوط، كما قيل عن أغلب بيوت الحي العتيق أنها يجب أن تهدم بسبب المياه الجوفية المختزنة.. مياه مختزنة ولا يستطيعون إطفاء الحريق.. سال عرقي على وجهى المتسخ من لفح الوقود المحترق في العربات التي تدفق شلالها مع إشارة المرور حتى جف حلقي، وما زلت أخوض الزحام مدافعا عن حملي أشجع عزيمتي وأستجمعها بالتسبيح، وما رحمتك بالطيف.. لطفك يارحيم .
زاغ بصرى في بريق سيارة أتوبيس حمراء رشيقة، وقفت مسمرا من الدهشة.. خالية؟ غير معقول.. خالية يعني بها موضع لقدمي الاثنتين وسلمها خال من المتشعبطين.. أبت إشارة المرور السماح لها بالتحرك وكأنها في انتظاري بأمر من السماء.. قفزت عليها شاكرًا حامدًا، ووضعت أحمالي بين قدمي، وفردت ساعدي أعيد لعضلاتها المتيبسة المرونة.. كدت أسقط في وقفتي حين اندفعت السيارة مرة واحدة في عنف بقوة المحركات الجديدة.. انكببت أحتضن قدري الغالية وأفديها بسلامتي.. وصرخ الكمساري وهو جالس على كرسي مرتفع فوق رأسي: «تذكرة يا أخ».
ابتسمت له في تملق أبله وأنا أبحث في جيوبي حتى أخرجت قرشین، نظر إليّ في تعجب وعاد يصرخ «هنا تذكرة موحدة كله بعشرة قروش یا سید».. هتفت «یا خبر.. إذن سأنزل المحطة «القادمة» هبش بأظافره عنقي، ودفعني من ياقتي للسلم وهو يضغط زرا كهربائيا توقف على إثره الأتوبيس دفعة واحدة في صریر هائل، طوحني ساق سيدة بدينة ترتدي الحداد صرخت في وجهي کنمر هائج.. انزل وخلصنا!..
غمرني عرق الخجل فمسحت خط الدم النازف من عنقي وأنا أستنجد برحمة الله التي أدركتني ومنعها عني الناس.. لم احتضنت أحمالي مرة أخرى لأمشي متمتما في حلم.. «اللهم أني صائم» مشيت أرمق العربات التي انغرست متكدسة مرة أخرى بشماتة فربما أسبقها مع وهن خطواتي.. اقتربت من حينا، وفجأة وجدتني في عاصفة ترابية هائلة.. حارتنا ضاعت.. تحولت إلى خرابة هائلة بعد أن انهارت البيوت دفعة واحدة!.
رميت بأحمالي وجريت في كل اتجاه أنادي.. تلفتّ باحثا، أين ضحكة سكرة.. هل تلاشت إلى الأبد في دوي الصراخ؟ أصغت السمع، برز من خلال أخدود رأس امرأة ملطخ بالأوحال يحمل سمات ابتسامة مسلوبة الفرحة والبهجة بالحياة.. أهلت عليها الطين في فزع واستنكار.. ضممت صلاح إلى صدري وجريت لاهثا.. المدينة.. المدينة تغرق يا صلاح.. لنترك بكواتها ينظفون مكاتبهم بأنفسهم.. ونعد إلى أرضنا الخضراء.. المدينة تغرق ولا فائدة، تغوص في الأوحال وضاعت فيها ضحكة سكرة يا صلاح.
رنت ضحكة سكرة تضيء حجرتنا المعتمة بالبهجة، وقامت تتثني بعودها اللدن، فأحضرت الفانوس من فوق الرف وأشعلت شمعته، ثم ناولته لصلاح وهي تهندم بيدها الحنون ملابسة عامسة: «العب مع الأولاد حتى السحور، ليرتاح أبوك ويستطيع السفر».
طرحت ساقي في تكاسل لذيذ وأمسكت بسيجارتي انتظارا للشاي.. وسرعان ما جاءت به سكرة، وما زال طنين وابور الغاز يملأ الأسماع، فهمت إشارتها، فتلقيتها بالشوق، ونسينا الدنيا .
رمت بالماء الساخن المتجمع في الطست من النافذة ترش به الحارة قبل عودة صلاح، ولكن العفريت بمجرد رجوعه أطال النظر إلى جلبابي النظيف وإلى شعر أمه المبلول وبرقت عيناه في استمتاع وكأنه ذاق حلاوة نعيمنا!.. تناولنا السحور، فأدلي بقية الطعام من الشق الذي يسكنه صديقه الفأر الصغير الذي بات يمرح بيننا باطمئنان.. ثم اندس بيننا على الفراش في سكون، وسرعان ما نام فنامت سكرة وهي تحتضنه وابتسامة تضيء قسماتها الحبيبة .
خرجت للجامع لأصلي الفجر، ثم مشيت لأصل للشركة في الوقت المناسب لأقوم بعملي في تنظيف المكاتب قبل حضور الرؤساء في العاشرة.
***
أمي كانت أمنيتها أن تراني واحدا من أفنديات المدينة، فلم تسمح لي بالعمل في الغيط مع أبي، وإنما صممت على أن أتعلم، ثم سعت حتى وظفني أهل الخير، فأصبحت من موظفي الدولة وزوجتي بنت بندر بيضاء .
***
خرجت مبكرا من المكتب.. خرجت من المدينة المختلفة إلى خلاء الريف الأخضر فغمرتني راحة عميقة وشعرت بالصفاء.. حمدت الله على يده الممدودة بالخير تنثر الرزق الوفير في سخاء، وظللت أختزن في صدري الهواء النظيف وأنا في طريق عودتي السريعة، وقد وفقت ورجعت أحمل على ذراعي سلة بها قدر السمن الشهي، وعلى ذراعي الأخرى ينام كيس الدقيق النقي.
سرت على قدمي، سرت أتفادى الحفر وأقفز فوق نتوء البلاط المكسور، وأنزلق فوق المياه الناشعة من المجاري وأتخطاها بمهارة حرصا على سروالي الذي سأرتديه في العيد.. أبت سيارة فارهة إلا أن تطاردني ناثرة المياه في وجهي، ومع هذا واصلت سيري بإصرار، فالمكافأة سخية في انتظاري، ضحكة سكرة حبة القلب.. وفرحة صلاح قرة العين.
***
لفظت المدينة آخر لمساتها العنون فانعقد دخان أبيض كثيف حول السماء إلى فوهة بركان يفور في دوامات مفزعة.. ومع اشتداد القيظ اشتد الزحام وتكاثر الناس كان السكان كلهم خرجوا من بيوتهم.. سد الزحام الشوارع فبدت مرشوقة بالرؤوس البشرية تحملق عيونها في ذهول متجمد.. بعض المحلات المكدسة بالبضائع المستوردة تحترق بفعل لصوص أشعلوا النار ليغطوا سرقتهم.
- تحترق
وستون عربة إطفاء ترشها بالماء الشحيح الذي تستجديه الخراطيم بغير جدوى.
تحترق، ومالي أنا؟ ماذا يخصني من الورد البلاستيك والمراتب الكاوتش والنجف الكريستال؟! كل أمنيتي بضع "شكاير" من الأسمنت أرمم به المنزل الذي نقطن إحدى غرفه، وقيل أنه آيل للسقوط، كما قيل عن أغلب بيوت الحي العتيق أنها يجب أن تهدم بسبب المياه الجوفية المختزنة.. مياه مختزنة ولا يستطيعون إطفاء الحريق.. سال عرقي على وجهى المتسخ من لفح الوقود المحترق في العربات التي تدفق شلالها مع إشارة المرور حتى جف حلقي، وما زلت أخوض الزحام مدافعا عن حملي أشجع عزيمتي وأستجمعها بالتسبيح، وما رحمتك بالطيف.. لطفك يارحيم .
زاغ بصرى في بريق سيارة أتوبيس حمراء رشيقة، وقفت مسمرا من الدهشة.. خالية؟ غير معقول.. خالية يعني بها موضع لقدمي الاثنتين وسلمها خال من المتشعبطين.. أبت إشارة المرور السماح لها بالتحرك وكأنها في انتظاري بأمر من السماء.. قفزت عليها شاكرًا حامدًا، ووضعت أحمالي بين قدمي، وفردت ساعدي أعيد لعضلاتها المتيبسة المرونة.. كدت أسقط في وقفتي حين اندفعت السيارة مرة واحدة في عنف بقوة المحركات الجديدة.. انكببت أحتضن قدري الغالية وأفديها بسلامتي.. وصرخ الكمساري وهو جالس على كرسي مرتفع فوق رأسي: «تذكرة يا أخ».
ابتسمت له في تملق أبله وأنا أبحث في جيوبي حتى أخرجت قرشین، نظر إليّ في تعجب وعاد يصرخ «هنا تذكرة موحدة كله بعشرة قروش یا سید».. هتفت «یا خبر.. إذن سأنزل المحطة «القادمة» هبش بأظافره عنقي، ودفعني من ياقتي للسلم وهو يضغط زرا كهربائيا توقف على إثره الأتوبيس دفعة واحدة في صریر هائل، طوحني ساق سيدة بدينة ترتدي الحداد صرخت في وجهي کنمر هائج.. انزل وخلصنا!..
غمرني عرق الخجل فمسحت خط الدم النازف من عنقي وأنا أستنجد برحمة الله التي أدركتني ومنعها عني الناس.. لم احتضنت أحمالي مرة أخرى لأمشي متمتما في حلم.. «اللهم أني صائم» مشيت أرمق العربات التي انغرست متكدسة مرة أخرى بشماتة فربما أسبقها مع وهن خطواتي.. اقتربت من حينا، وفجأة وجدتني في عاصفة ترابية هائلة.. حارتنا ضاعت.. تحولت إلى خرابة هائلة بعد أن انهارت البيوت دفعة واحدة!.
رميت بأحمالي وجريت في كل اتجاه أنادي.. تلفتّ باحثا، أين ضحكة سكرة.. هل تلاشت إلى الأبد في دوي الصراخ؟ أصغت السمع، برز من خلال أخدود رأس امرأة ملطخ بالأوحال يحمل سمات ابتسامة مسلوبة الفرحة والبهجة بالحياة.. أهلت عليها الطين في فزع واستنكار.. ضممت صلاح إلى صدري وجريت لاهثا.. المدينة.. المدينة تغرق يا صلاح.. لنترك بكواتها ينظفون مكاتبهم بأنفسهم.. ونعد إلى أرضنا الخضراء.. المدينة تغرق ولا فائدة، تغوص في الأوحال وضاعت فيها ضحكة سكرة يا صلاح.