"وليم تل" صائد سويسري مشهور، اعتاد أن يذهب بأغنامه كل يوم إلى شواطئ نهر "رواس" - أحد نهيرات سويسرا وكان عند انتهاء يومه يتردد إلى كوخه في أحد كهوف تلك الجبال بعد جهاد النهار الطويل وقد قنعت نفسه بما ناله من كسب قليل شريف، وكان لوليم هذا ابن جميل، ذهبي الشعر، طيب القلب، قوي العضل، وكانت أغنام والده هي كل صحبه وخلانه في هذه الدنيا، وكان يدعوها بالاسم ويشاركها في رواحها وسراحها في الحقول والغيطان.
وهكذا كانت الحياة خلوًا من الأكدار والأقذار، ولكن سرعان ما تظهر غمامة سوداء تحجب وجه يوم صبوح من أيام إبريل الجميل، وسرعان ما تنقلب أفراح قوم اتراحا.. وتتبدل مسرتهم بالبكاء والعويل! أجل ـ أن سويسرا في ذلك الوقت لم تكن قد رأت بعد فجر الحرية والاستقلال، بل كانت ترزح وتنوء تحت نير الحكم الأجنبي، وكانت النمسا تسوم أبناءها سوء العذاب وتذيقهم منه أشكالاً وألوانًا، فجاءها ذات يوم حاكم جبار من قبل النمسا وكان في أبهته وعظمته مثالا للكبرياء والجبروت، سار في أنحائها في أحد الأيام ونادى منادية: "أيها العبيد الأذلاء، هيا اركعوا مع الراكعين، واسجدوا مع الساجدين، وأن من لم يطع أمر مولاي سيصبح عما قريب خبرا من الآخرين".
واتفق أن خرج في ذلك اليوم "وليم تل" مع ولده من قريته إلى المدينة، فرأى "وليم" هذا الازدحام وتلك القبعة العالية وذلك الجبين المقطب الذي كان يقطر زهوا وكبرا - رأي كل ذلك وسمع المنادي ينادي: "أيها العبيد الأذلاء - هيا اركعوا مع الراكعين.. واسجدوا مع الساجدين" فوقف في مكانه ولم يبد حراكًا وبينا هو كذلك لحظ الحاكم "سترن جزلر" الأنفة وعزة النفس مرتسمتين على محيا ذلك الفلاح "وليم" وانتظر أن يراه راكعًا ساجدا، ولكنه رأى أمامه استقامة عود تزوي باستقامة جذع النخلة، ثم بادر "وليم" الحاكم بهذه الكلمات بكل شجاعة: "إذا ركعت فلله - أو سجدت فلله - قد تكون حياتي في يديك ولكن ضميري في يد الله".
فصاح الحاكم في وجهه وقد خنقه الغضب: "أيها الحراس! خذوه فغلوه أنه يهزأ بعزتي وجلالي، إنه سيموت موتة الخونة الآثمين.. ولكن مهلاً! أن السويسريين - كما يقول أهل العالم أجمع - رماة أقوياء.. عليَّ بهذا اليافع الجميل، إنا اليوم لشجاعتكم مختبرون".
فاحضروا الابن المسكين وأوثقوه بشجرة ليمون كثيرة الأفنان ووضعوا على رأسه تفاحة فدهش مما يعملون، فصاح الوالد عاليا: "إذا كان هناك خطأ قد اقترف فأنا الذي اقترفته، ألا فانزلوا بي غضبكم وسخطكم ودعوا قرة عيني - ولدي وفلذة كبدي"، فأجابه "جزلر" بكبريائه وجبروته: "لن أوقع الضر بولدك إذا ما ضر وقع - ولكنك أنت أنت الذي ستقتله أو تخلصه، ألا خذ سهمك وأشدد يديك وأعلم بإن التفاحة هدفك فإن أصبتها فالحرية جزاؤك".
عند ذلك سمعت ضجة الحزن والغضب وسط هذا الازدحام العظيم وانهالت اللعنات الحارة من أفواه الرجال على هذا الحاكم الظالم وتحدرت العبرات من عيون النساء وأخيرًا وقف الوالد على بعد خمسين خطوة من ولده وبيده سهمه - بل منية ابنه - وقف ثابتا رابط الجأش بعينين براقتين وشفتين مضغوطتين، وفي هذه الساعة ازدادت اللعنات وازداد المنظر كآبة واعتلى الجميع سحابة من الحزن سوداء وهذا لم يستطع الولد صبرا فصاح: "ألا أقذف بسهمك يا والدي ولا تبطئ، إن هدفك لن يخطئ.. وكيف يخطئ اليوم وهل كان يخطئ في يوم من الأيام".
قال الوالد: "بورك فيك يا ولدي، لقد أخجلتني شجاعتك، وأعلم أنه إذا كان الإنسان يطأ بأقدامه أخاه الإنسان، فقل أن الله ربي ورب الورى يسمع منا ويرى" ثم ذهب السهم في الهواء، وكأنما أرشده ملك من السماء، فرأى الجميع التفاحة تحت الشجرة مشطورة شطرين على السواء فصاح الحاكم قائلًا: "أحسنت، أني سأحتفظ بكلمتي، فاذهب أنت وولدك إلى قريتكما وأطعما أغنامكما"، فخاطبه الوالد بأنفة وهدوء: "وهل أشكر لك عطيتك؟ إني أحمد الله ربي وأشكر له شكر العبيد الأذلاء، دعوته فأجابني أن ربي سميع الدعاء، ولكن اعلم أيها العاتية الجبار، أن حينك كان قريبا لو كنت أخطأت مرماي، وأن ابني ما كان ليموت غير مأخوذ بثأره، ألا فاذهب أنت الآن وأحمد الله على نجاتك وأشكره على أصابني المرمى، لأني لو أخطأته لمثلت رواية ثانية على هذا المسرح، ولكن قضى الله.. أجل.. إن الله مع الحق، وأنه ليذل الظالم بظلمه، وأنه ليكلا الضعيف بعين رعايته اذا ما اعتدى عليه القوي، أن ربك لبالمرصاد.
فغضب الحاكم وأمر رجاله بربط "وليم تل" وحمله على سفينته إلى حصن كسنخت ليطرح فيه سجينا ولكن "وليم" تمكن من الفرار في أثناء الرحلة وانتقم من الحاكم العاتي وعلى أثر تلك الحادثة هب السويسريون عن بكرة أبيهم ولم يلبثوا أن نالوا أمنيتهم وحازوا استقلالهم، وما برحت بلادهم من ذلك الحين موطن الحرية والديمقراطية.
1 فبراير عام 1920
وهكذا كانت الحياة خلوًا من الأكدار والأقذار، ولكن سرعان ما تظهر غمامة سوداء تحجب وجه يوم صبوح من أيام إبريل الجميل، وسرعان ما تنقلب أفراح قوم اتراحا.. وتتبدل مسرتهم بالبكاء والعويل! أجل ـ أن سويسرا في ذلك الوقت لم تكن قد رأت بعد فجر الحرية والاستقلال، بل كانت ترزح وتنوء تحت نير الحكم الأجنبي، وكانت النمسا تسوم أبناءها سوء العذاب وتذيقهم منه أشكالاً وألوانًا، فجاءها ذات يوم حاكم جبار من قبل النمسا وكان في أبهته وعظمته مثالا للكبرياء والجبروت، سار في أنحائها في أحد الأيام ونادى منادية: "أيها العبيد الأذلاء، هيا اركعوا مع الراكعين، واسجدوا مع الساجدين، وأن من لم يطع أمر مولاي سيصبح عما قريب خبرا من الآخرين".
واتفق أن خرج في ذلك اليوم "وليم تل" مع ولده من قريته إلى المدينة، فرأى "وليم" هذا الازدحام وتلك القبعة العالية وذلك الجبين المقطب الذي كان يقطر زهوا وكبرا - رأي كل ذلك وسمع المنادي ينادي: "أيها العبيد الأذلاء - هيا اركعوا مع الراكعين.. واسجدوا مع الساجدين" فوقف في مكانه ولم يبد حراكًا وبينا هو كذلك لحظ الحاكم "سترن جزلر" الأنفة وعزة النفس مرتسمتين على محيا ذلك الفلاح "وليم" وانتظر أن يراه راكعًا ساجدا، ولكنه رأى أمامه استقامة عود تزوي باستقامة جذع النخلة، ثم بادر "وليم" الحاكم بهذه الكلمات بكل شجاعة: "إذا ركعت فلله - أو سجدت فلله - قد تكون حياتي في يديك ولكن ضميري في يد الله".
فصاح الحاكم في وجهه وقد خنقه الغضب: "أيها الحراس! خذوه فغلوه أنه يهزأ بعزتي وجلالي، إنه سيموت موتة الخونة الآثمين.. ولكن مهلاً! أن السويسريين - كما يقول أهل العالم أجمع - رماة أقوياء.. عليَّ بهذا اليافع الجميل، إنا اليوم لشجاعتكم مختبرون".
فاحضروا الابن المسكين وأوثقوه بشجرة ليمون كثيرة الأفنان ووضعوا على رأسه تفاحة فدهش مما يعملون، فصاح الوالد عاليا: "إذا كان هناك خطأ قد اقترف فأنا الذي اقترفته، ألا فانزلوا بي غضبكم وسخطكم ودعوا قرة عيني - ولدي وفلذة كبدي"، فأجابه "جزلر" بكبريائه وجبروته: "لن أوقع الضر بولدك إذا ما ضر وقع - ولكنك أنت أنت الذي ستقتله أو تخلصه، ألا خذ سهمك وأشدد يديك وأعلم بإن التفاحة هدفك فإن أصبتها فالحرية جزاؤك".
عند ذلك سمعت ضجة الحزن والغضب وسط هذا الازدحام العظيم وانهالت اللعنات الحارة من أفواه الرجال على هذا الحاكم الظالم وتحدرت العبرات من عيون النساء وأخيرًا وقف الوالد على بعد خمسين خطوة من ولده وبيده سهمه - بل منية ابنه - وقف ثابتا رابط الجأش بعينين براقتين وشفتين مضغوطتين، وفي هذه الساعة ازدادت اللعنات وازداد المنظر كآبة واعتلى الجميع سحابة من الحزن سوداء وهذا لم يستطع الولد صبرا فصاح: "ألا أقذف بسهمك يا والدي ولا تبطئ، إن هدفك لن يخطئ.. وكيف يخطئ اليوم وهل كان يخطئ في يوم من الأيام".
قال الوالد: "بورك فيك يا ولدي، لقد أخجلتني شجاعتك، وأعلم أنه إذا كان الإنسان يطأ بأقدامه أخاه الإنسان، فقل أن الله ربي ورب الورى يسمع منا ويرى" ثم ذهب السهم في الهواء، وكأنما أرشده ملك من السماء، فرأى الجميع التفاحة تحت الشجرة مشطورة شطرين على السواء فصاح الحاكم قائلًا: "أحسنت، أني سأحتفظ بكلمتي، فاذهب أنت وولدك إلى قريتكما وأطعما أغنامكما"، فخاطبه الوالد بأنفة وهدوء: "وهل أشكر لك عطيتك؟ إني أحمد الله ربي وأشكر له شكر العبيد الأذلاء، دعوته فأجابني أن ربي سميع الدعاء، ولكن اعلم أيها العاتية الجبار، أن حينك كان قريبا لو كنت أخطأت مرماي، وأن ابني ما كان ليموت غير مأخوذ بثأره، ألا فاذهب أنت الآن وأحمد الله على نجاتك وأشكره على أصابني المرمى، لأني لو أخطأته لمثلت رواية ثانية على هذا المسرح، ولكن قضى الله.. أجل.. إن الله مع الحق، وأنه ليذل الظالم بظلمه، وأنه ليكلا الضعيف بعين رعايته اذا ما اعتدى عليه القوي، أن ربك لبالمرصاد.
فغضب الحاكم وأمر رجاله بربط "وليم تل" وحمله على سفينته إلى حصن كسنخت ليطرح فيه سجينا ولكن "وليم" تمكن من الفرار في أثناء الرحلة وانتقم من الحاكم العاتي وعلى أثر تلك الحادثة هب السويسريون عن بكرة أبيهم ولم يلبثوا أن نالوا أمنيتهم وحازوا استقلالهم، وما برحت بلادهم من ذلك الحين موطن الحرية والديمقراطية.
1 فبراير عام 1920