الطعام.. في شهر الصيام (2) شعراء بغداد أبدعوا فن القوما ليتغنى به المسحرون أطعمة رمضان ألهمت السيوطي كتابه منهل اللطايف في الكنافة والقطايف
فرضت الأطعمة التي ابتكرها المسلمون خصيصا لشهر الصيام نفسها على دنيا الإبداع، أحيانا من باب الظرف وأحيانا من باب الضرورة، وليست مصادفة أن فن «القوما» هو أول ما ظهر من فنون ارتبطت برمضان، فقد استدعته الحاجة إلى ما يوقظ النيام وينبه الناس لحلول وقت السحور. و«القوما» لون من الشعر، اخترعه البغداديون في الدولة العباسية, ليتغنى به «المسحرون»، و«اشتقاق اسمه من قول المغنين للتسحير في آخر كل بيت منه: قُوماً للسحور، ينبهون به رب المنزل، ويذكرون فيه مدحه، والدعاء له» كما يقول «صفي الدين الحلي» في كتابه «العاطل الحالي والمرخص الغالي». وهو فن قيل إن أول من اخترعه رجل يدعى «ابن نقطة»، كان يسحر الخليفة العباسي «أبي العباس أحمد الناصر لدين الله»، الذي ولد في 572 هـ وبويع بالخلافة595 هـ وتوفي بعد 27 سنة سنة 622 هـ فهو أطول خلفاء بني العباس عهداً، والصحيح ـ كما يقول «الحلي» إن ابن نقطة لم يخترع هذا الفن وإن كان أشهر من أبدع فيه، فلما توفي خلفه ابنه، الذي أعلم الخليفة بموت أبيه بطريقة مسرحية حيث اصطحب أتباع أبيه، وراح يغنى أمام قصر الخلافة بصوت رقيق أصغى إليه الخليفة وطرب له، فلما وصل إلى «القوما» كان أول ما قاله: يا سيد السادات لك بالكرم عادات أنا بني ابن نقطة تعيش، أبي قد مات فأعجب الخليفة منه هذا الاختصار، واستحضره، وأعطاه ضعفي ما كان يعطي لأبيه. كنافة.. وفول مع «القوما» تبارى الشعراء ـ خاصة الظرفاء منهم ـ في التعبير عن ألوان الطعام في شهر رمضان، ووصف حالهم مع صيامه، من ذلك أن شاعراً مملوكياً راح يدعو للكنافة قائلاً «سقى الله أكناف الكنافة بالقطر»، وآخر أخذ يشكو من «الفول» أو «الباقلاء» كما كانوا يسمونه ـ الذي يكثر على موائد رمضان خاصة في السحور، ويقول مخاطباً رمضان «فقد تركتني باقلاؤك باقلاً» أي أنه كان شاعراً مفوهاً، فأصبح مثل «باقل» الذي يضرب العرب به المثل في العي ـ وهو العجز عن التعبير ـ وذلك بسبب كثرة أكله «الباقلاء» في رمضان، وكانت الكنافة والقطايف موضع مساجلات بين الشعراء، جمع الفقيه المعروف «جلال الدين السيوطي» جانباً منها في رسالة عنوانها: «منهل اللطايف في الكنافة والقطايف». أما الشاعر العباسي «ابن الرومي» فله أبيات ضمنها معاناته عندما أدركه الصيام في شهر أغسطس يقول فيها: شهر الصيام مبارك ما لم يكن في شهر آب الليل فيه ساعة ونهاره يوم الحساب خفت العذاب فصمته فوقعت في نفس العذاب وعلم «ابن العميد» أن قاضيا أفطر خطأ في أول رمضان، وصام خطأ أيضا في أول أيام عيد الفطر، فقال فيه : يا قاضيا بات أعمى عن الهلال السعيد أفطرت في رمضان وصمت في يوم عيد ولعل «حسين شفيق المصري» هو صاحب أظرف ما قيل في رمضان وطعامه، وهو زجال مصري من رواد لون عُرف بـ«الشعر الحلمنتيشي»، يخلط الفصحى باللهجة الدارجة ويظهر حركات الإعراب على الألفاظ العامية، وفي قصيدة من هذا اللون ينسج «المصري» على منوال قصيدة «أبي العتاهية» المعروفة التي يقول مطلعها: ألا ما لسيدتي مالها؟ أدلاً فأحمل إدلالها؟ فيقول: أظن «الوليةَ» زعلانةً وما كنت أقصد إزعالها أتى رمضانُ فقالت هاتوا لي «زكيبةَ نُقلٍ» فجبنا لها ومن «أمر الدين» جبتُ ثلاثَ لفائف تتعب شيالها وجبتُ «صفيحةَ سمنٍ» وجبتُ حوائجَ ما غيرُها طالها فقل لي على «إيهِ» بنت الذينَ «بتشكي» إلى أهلها حالها والزكيبة نوع كبير من الأجولة، أما «النقل» فهو الثمار المجففة كاللوز والبندق، وجانب من فكاهة القصيدة ينبع من معاملة الكلمات العامية معاملة الفصحى، مثل: بنت الذين، وبتشكي، أما موضوع القصيدة، وهو شكوى الأزواج من مبالغة الزوجات في نفقات رمضان، فثابت لا يكاد يتغير من عصر إلى آخر، ومن فصحى إلى عامية. رمضان في حياة وروايات نجيب محفوظ في روايات عميد الروائيين العرب، الراحل «نجيب محفوظ»، يتجلى أثر رمضان، وما يصاحبه من أطعمة وطقوس وعادات، في الإبداع المعاصر. وفي روايته «خان الخليلي» يصف الأستاذ «نجيب محفوظ» أبهة الاحتفال برمضان في حي «الحسين» بالقاهرة، الذي تعبق أجواؤه في رمضان بما لا نظير له في أية بقعة أخرى، حتى قيل إن من لم يشهد رمضان في الحسين فكأنه لم يشهده. أحداث الرواية تدور في أثناء الحرب العالمية الثانية، ومع هذا نرى أن رغبة الناس في الاحتفال برمضان تغلبت على خوفهم من الحرب، يقول نجيب محفوظ واصفاً ليلة رؤية رمضان في حي الحسين: «جاء مساء الرؤية، وانتظر الناس بعد الغروب يتساءلون، وعند العشي أضاءت مئذنة مسجد الحسين إيذاناً بشهود الرؤية ـ وقد اجتزءوا بالإضاءة عن إطلاق المدافع لظروف الطوارئ ـ وازينت المئذنة بعقود المصابيح مرسلة على العالمين ضياء لألاء، فطاف بالحي وما حوله جماعات مطبلة هاتفة «صيام صيام كما أمر قاضي الإسلام» فقابلها الغلمان بالهتاف والبنات بالزغاريد، وشاع السرور في الحي كأنما حمله الهواء الساري، فلم يملك أحمد عاكف إلا أن يقول: ـ أين من رمضان شارع قمر هذا الرمضان البهيج ؟! فابتسم والده وقال: ـ وما رأيت مم رأيت يا غلام؟! أشهدت رمضان في حينا الجديد هذا قبل اندلاع الحرب؟ إنه النور والسرور، إنه الليل المنير اليقظان، إنه الليل العامر بالسمار والمنشدين واللهو البريء. وفى أيام الفتوة والصحة كنت أسري قبيل السحور بساعة في جمع من الإخوان من السكاكيني إلى حينا هذا، نتسحر كوارع ولحم الرأس وندخن البوري في مقهى الحسين ونستمع إلى آذان الشيخ علي محمود ثم نعود». و«نجيب محفوظ» عاش طفولته وصباه في منطقة الجمالية ـ والحسين جزء منها ـ في شوارعها تفتحت عيناه على مظاهر الاحتفال برمضان، حيث كان الناس ـ وما زالوا ـ يعلقون الزينات من رايات ومصابيح تجعل الشوارع قطعة من نور، ويطلقون البخور حتى تسبح المنطقة كلها في العطر، وفي إحدى ندواته الأسبوعية الخاصة التي كان يلتقي فيها محبيه، قال لي الأستاذ «نجيب محفوظ»: كنت معجباً على نحو خاص بالمسحراتي، بإنشاده وما فيه من خيال، ومع هذا الإعجاب كنت غاضباً منه، لأنه لا ينادي عليَّ باسمي مثلما ينادى الناس بأسمائهم وهو ينشد كل ليلة. وعن أول يوم صامه قال: لا أذكر كم كان عمري، لكنني كنت طفلاً صغيراً، وكان الجو حاراً خانقاً، وأذكر أنني جعت فتسللت إلى المطبخ، كانت والدتي تعد الأرز، وانتهزت فرصة انشغالها، وظللت آكل كأنني لم آكل من قبل، معتقداً أنها لا تراني، لكنني عندما كبرت وفكرت في الأمر؛ أدركت أنها تظاهرت بأنها لا تراني؛ لتمنحني فرصة إشباع جوعي شفقة عليَّ، وعندما حان موعد الإفطار كنت أول من جلس إلى المائدة، وتظاهرت بأنني كنت صائماً، وهي تظاهرت بأنها تصدقني! من التاريخ
فرضت الأطعمة التي ابتكرها المسلمون خصيصا لشهر الصيام نفسها على دنيا الإبداع، أحيانا من باب الظرف وأحيانا من باب الضرورة، وليست مصادفة أن فن «القوما» هو أول ما ظهر من فنون ارتبطت برمضان، فقد استدعته الحاجة إلى ما يوقظ النيام وينبه الناس لحلول وقت السحور. و«القوما» لون من الشعر، اخترعه البغداديون في الدولة العباسية, ليتغنى به «المسحرون»، و«اشتقاق اسمه من قول المغنين للتسحير في آخر كل بيت منه: قُوماً للسحور، ينبهون به رب المنزل، ويذكرون فيه مدحه، والدعاء له» كما يقول «صفي الدين الحلي» في كتابه «العاطل الحالي والمرخص الغالي». وهو فن قيل إن أول من اخترعه رجل يدعى «ابن نقطة»، كان يسحر الخليفة العباسي «أبي العباس أحمد الناصر لدين الله»، الذي ولد في 572 هـ وبويع بالخلافة595 هـ وتوفي بعد 27 سنة سنة 622 هـ فهو أطول خلفاء بني العباس عهداً، والصحيح ـ كما يقول «الحلي» إن ابن نقطة لم يخترع هذا الفن وإن كان أشهر من أبدع فيه، فلما توفي خلفه ابنه، الذي أعلم الخليفة بموت أبيه بطريقة مسرحية حيث اصطحب أتباع أبيه، وراح يغنى أمام قصر الخلافة بصوت رقيق أصغى إليه الخليفة وطرب له، فلما وصل إلى «القوما» كان أول ما قاله: يا سيد السادات لك بالكرم عادات أنا بني ابن نقطة تعيش، أبي قد مات فأعجب الخليفة منه هذا الاختصار، واستحضره، وأعطاه ضعفي ما كان يعطي لأبيه. كنافة.. وفول مع «القوما» تبارى الشعراء ـ خاصة الظرفاء منهم ـ في التعبير عن ألوان الطعام في شهر رمضان، ووصف حالهم مع صيامه، من ذلك أن شاعراً مملوكياً راح يدعو للكنافة قائلاً «سقى الله أكناف الكنافة بالقطر»، وآخر أخذ يشكو من «الفول» أو «الباقلاء» كما كانوا يسمونه ـ الذي يكثر على موائد رمضان خاصة في السحور، ويقول مخاطباً رمضان «فقد تركتني باقلاؤك باقلاً» أي أنه كان شاعراً مفوهاً، فأصبح مثل «باقل» الذي يضرب العرب به المثل في العي ـ وهو العجز عن التعبير ـ وذلك بسبب كثرة أكله «الباقلاء» في رمضان، وكانت الكنافة والقطايف موضع مساجلات بين الشعراء، جمع الفقيه المعروف «جلال الدين السيوطي» جانباً منها في رسالة عنوانها: «منهل اللطايف في الكنافة والقطايف». أما الشاعر العباسي «ابن الرومي» فله أبيات ضمنها معاناته عندما أدركه الصيام في شهر أغسطس يقول فيها: شهر الصيام مبارك ما لم يكن في شهر آب الليل فيه ساعة ونهاره يوم الحساب خفت العذاب فصمته فوقعت في نفس العذاب وعلم «ابن العميد» أن قاضيا أفطر خطأ في أول رمضان، وصام خطأ أيضا في أول أيام عيد الفطر، فقال فيه : يا قاضيا بات أعمى عن الهلال السعيد أفطرت في رمضان وصمت في يوم عيد ولعل «حسين شفيق المصري» هو صاحب أظرف ما قيل في رمضان وطعامه، وهو زجال مصري من رواد لون عُرف بـ«الشعر الحلمنتيشي»، يخلط الفصحى باللهجة الدارجة ويظهر حركات الإعراب على الألفاظ العامية، وفي قصيدة من هذا اللون ينسج «المصري» على منوال قصيدة «أبي العتاهية» المعروفة التي يقول مطلعها: ألا ما لسيدتي مالها؟ أدلاً فأحمل إدلالها؟ فيقول: أظن «الوليةَ» زعلانةً وما كنت أقصد إزعالها أتى رمضانُ فقالت هاتوا لي «زكيبةَ نُقلٍ» فجبنا لها ومن «أمر الدين» جبتُ ثلاثَ لفائف تتعب شيالها وجبتُ «صفيحةَ سمنٍ» وجبتُ حوائجَ ما غيرُها طالها فقل لي على «إيهِ» بنت الذينَ «بتشكي» إلى أهلها حالها والزكيبة نوع كبير من الأجولة، أما «النقل» فهو الثمار المجففة كاللوز والبندق، وجانب من فكاهة القصيدة ينبع من معاملة الكلمات العامية معاملة الفصحى، مثل: بنت الذين، وبتشكي، أما موضوع القصيدة، وهو شكوى الأزواج من مبالغة الزوجات في نفقات رمضان، فثابت لا يكاد يتغير من عصر إلى آخر، ومن فصحى إلى عامية. رمضان في حياة وروايات نجيب محفوظ في روايات عميد الروائيين العرب، الراحل «نجيب محفوظ»، يتجلى أثر رمضان، وما يصاحبه من أطعمة وطقوس وعادات، في الإبداع المعاصر. وفي روايته «خان الخليلي» يصف الأستاذ «نجيب محفوظ» أبهة الاحتفال برمضان في حي «الحسين» بالقاهرة، الذي تعبق أجواؤه في رمضان بما لا نظير له في أية بقعة أخرى، حتى قيل إن من لم يشهد رمضان في الحسين فكأنه لم يشهده. أحداث الرواية تدور في أثناء الحرب العالمية الثانية، ومع هذا نرى أن رغبة الناس في الاحتفال برمضان تغلبت على خوفهم من الحرب، يقول نجيب محفوظ واصفاً ليلة رؤية رمضان في حي الحسين: «جاء مساء الرؤية، وانتظر الناس بعد الغروب يتساءلون، وعند العشي أضاءت مئذنة مسجد الحسين إيذاناً بشهود الرؤية ـ وقد اجتزءوا بالإضاءة عن إطلاق المدافع لظروف الطوارئ ـ وازينت المئذنة بعقود المصابيح مرسلة على العالمين ضياء لألاء، فطاف بالحي وما حوله جماعات مطبلة هاتفة «صيام صيام كما أمر قاضي الإسلام» فقابلها الغلمان بالهتاف والبنات بالزغاريد، وشاع السرور في الحي كأنما حمله الهواء الساري، فلم يملك أحمد عاكف إلا أن يقول: ـ أين من رمضان شارع قمر هذا الرمضان البهيج ؟! فابتسم والده وقال: ـ وما رأيت مم رأيت يا غلام؟! أشهدت رمضان في حينا الجديد هذا قبل اندلاع الحرب؟ إنه النور والسرور، إنه الليل المنير اليقظان، إنه الليل العامر بالسمار والمنشدين واللهو البريء. وفى أيام الفتوة والصحة كنت أسري قبيل السحور بساعة في جمع من الإخوان من السكاكيني إلى حينا هذا، نتسحر كوارع ولحم الرأس وندخن البوري في مقهى الحسين ونستمع إلى آذان الشيخ علي محمود ثم نعود». و«نجيب محفوظ» عاش طفولته وصباه في منطقة الجمالية ـ والحسين جزء منها ـ في شوارعها تفتحت عيناه على مظاهر الاحتفال برمضان، حيث كان الناس ـ وما زالوا ـ يعلقون الزينات من رايات ومصابيح تجعل الشوارع قطعة من نور، ويطلقون البخور حتى تسبح المنطقة كلها في العطر، وفي إحدى ندواته الأسبوعية الخاصة التي كان يلتقي فيها محبيه، قال لي الأستاذ «نجيب محفوظ»: كنت معجباً على نحو خاص بالمسحراتي، بإنشاده وما فيه من خيال، ومع هذا الإعجاب كنت غاضباً منه، لأنه لا ينادي عليَّ باسمي مثلما ينادى الناس بأسمائهم وهو ينشد كل ليلة. وعن أول يوم صامه قال: لا أذكر كم كان عمري، لكنني كنت طفلاً صغيراً، وكان الجو حاراً خانقاً، وأذكر أنني جعت فتسللت إلى المطبخ، كانت والدتي تعد الأرز، وانتهزت فرصة انشغالها، وظللت آكل كأنني لم آكل من قبل، معتقداً أنها لا تراني، لكنني عندما كبرت وفكرت في الأمر؛ أدركت أنها تظاهرت بأنها لا تراني؛ لتمنحني فرصة إشباع جوعي شفقة عليَّ، وعندما حان موعد الإفطار كنت أول من جلس إلى المائدة، وتظاهرت بأنني كنت صائماً، وهي تظاهرت بأنها تصدقني! من التاريخ