يجلس صامتاً في شرفة شقته الفارهة، وجهٌ شاحب هزيل كأنه يعاني منذ زمن بعيدٍ من مرض عضال، عينان جاحظتان يشكوان الأرق وطول السهر، لم يكن يعرفُ منذ متى هو ساكن في جلسته تلك، كما لا يعرف لما يعتزل الزحام وما فيه من أناس ومُتع وسلوى وبات يلتزمُ الوحدة كل ليلة كأنها جزء من جسده.
قطعتْ عليه خلوته زوجته الشابة عندما تقربتْ تتمايلُ بدلال وتهمس: هل أجهزُ لك العشاء؟....لم تأكل شيئاً منذ الصباح؟
نظرَ إليها بعينين يشتكيان غربة الروح: لا .. لا.. لا اشتهي شيئاً، نامي إن شئتِ.
وما أن غادرتْ حتى رفعَ نظره إلى السماء، بدتْ هي الأخرى خرساء، تمنى أن تنطق، أن تتفوه بأي شيء، ابتلع حسرة ثم قال بصوتٍ ضعيف: لما السماءُ هنا في الخليج بكماء؟..يا ليتكِ تتحدثين! ...لما لا تتحدثين معي؟ قولي شيئاً، اصرخي، أرعدي.... أمطري.... اغضبي..
وأخيراً خيّل إليه أن هنالكَ صوت ما يحدثه مستنكراَ: ماذا تريد أكثر مما أنتَ فيه؟!، زوجة شابة تصغركَ بعشر سنوات، عمل محترم بشركة بترول خليجية، شقة كبيرة....بل وقريباً سيتحققُ لكَ حلم أي رجل في الأبوة، ستلدُ زوجتك بعد أربعةِ أشهر.....أنت جشعٌ، ماذا تريد أكثر؟!
خرجتْ آه قوية من صدره وعلقَ رداً على هذا التساؤل ب: لا أريدُ أكثر من أن أعودَ كما كنتُ قبل أربع سنوات وان أتزوج الفتاة البسيطة التي كنتُ أحب..الحظُ الذي تتحدثُ عنه لم اشعر يوماً بلذةٍ لامتلاكه.
وفجأة.....وجد نفسه يتذكر أبياً للشعرِ لطالما أحبها و رددها مع نفسهِ منذ جاء هنا:
و أيقنتُ أن الحياة الحياة بغير الهوى قصة فاترة
و إني بغير التي ألهبتْ خيالي بأنفاسها العاطرة
شريدٌ يشق ازدحام الرجال و تخنقه الأعين الساخرة
ثم قالَ بصوتٍ مسموع وكأنه يحدّثُ احد يجلس معه: والآن..ما الآن؟! ...زوجة جميلة وشابة لم تزر العراق يوماً، عمل وشقة ......(سخرَ ضاحكاً وتابع): لم اشعر أنهما ملكي أبداً.
بعد أن أنهى جملته شعرَ بالبرد يغزو أوصاله، نهضَ من مكانه متأوهاً، دثر جسده بذراعيه، لم يستغرب لما انتابه شعور البرد هذا رغم انهم في أغسطس فلطالما افتقدَ الحرارة في كل شيء منذُ أن جاء هنا هارباً من جحيم الحرب في بغداد.
صوتٌ ما كأنه قادم من نجمةٍ من السماء يقول:
صوت تفجرَ في قرارةِ نفسي الثكلى: عراق
كالمد يصعد، كالسحابة، كالدموع إلى العيونِ
الريح تصرخُ بي: عراق
و الموج يعول بي: عراق، عراق، ليس سوى عراق.
---------
* الأبيات الشعرية في القصة لشاعر العراق الكبير بدر شاكر السياب
إيمان أكرم البياتي
قطعتْ عليه خلوته زوجته الشابة عندما تقربتْ تتمايلُ بدلال وتهمس: هل أجهزُ لك العشاء؟....لم تأكل شيئاً منذ الصباح؟
نظرَ إليها بعينين يشتكيان غربة الروح: لا .. لا.. لا اشتهي شيئاً، نامي إن شئتِ.
وما أن غادرتْ حتى رفعَ نظره إلى السماء، بدتْ هي الأخرى خرساء، تمنى أن تنطق، أن تتفوه بأي شيء، ابتلع حسرة ثم قال بصوتٍ ضعيف: لما السماءُ هنا في الخليج بكماء؟..يا ليتكِ تتحدثين! ...لما لا تتحدثين معي؟ قولي شيئاً، اصرخي، أرعدي.... أمطري.... اغضبي..
وأخيراً خيّل إليه أن هنالكَ صوت ما يحدثه مستنكراَ: ماذا تريد أكثر مما أنتَ فيه؟!، زوجة شابة تصغركَ بعشر سنوات، عمل محترم بشركة بترول خليجية، شقة كبيرة....بل وقريباً سيتحققُ لكَ حلم أي رجل في الأبوة، ستلدُ زوجتك بعد أربعةِ أشهر.....أنت جشعٌ، ماذا تريد أكثر؟!
خرجتْ آه قوية من صدره وعلقَ رداً على هذا التساؤل ب: لا أريدُ أكثر من أن أعودَ كما كنتُ قبل أربع سنوات وان أتزوج الفتاة البسيطة التي كنتُ أحب..الحظُ الذي تتحدثُ عنه لم اشعر يوماً بلذةٍ لامتلاكه.
وفجأة.....وجد نفسه يتذكر أبياً للشعرِ لطالما أحبها و رددها مع نفسهِ منذ جاء هنا:
و أيقنتُ أن الحياة الحياة بغير الهوى قصة فاترة
و إني بغير التي ألهبتْ خيالي بأنفاسها العاطرة
شريدٌ يشق ازدحام الرجال و تخنقه الأعين الساخرة
ثم قالَ بصوتٍ مسموع وكأنه يحدّثُ احد يجلس معه: والآن..ما الآن؟! ...زوجة جميلة وشابة لم تزر العراق يوماً، عمل وشقة ......(سخرَ ضاحكاً وتابع): لم اشعر أنهما ملكي أبداً.
بعد أن أنهى جملته شعرَ بالبرد يغزو أوصاله، نهضَ من مكانه متأوهاً، دثر جسده بذراعيه، لم يستغرب لما انتابه شعور البرد هذا رغم انهم في أغسطس فلطالما افتقدَ الحرارة في كل شيء منذُ أن جاء هنا هارباً من جحيم الحرب في بغداد.
صوتٌ ما كأنه قادم من نجمةٍ من السماء يقول:
صوت تفجرَ في قرارةِ نفسي الثكلى: عراق
كالمد يصعد، كالسحابة، كالدموع إلى العيونِ
الريح تصرخُ بي: عراق
و الموج يعول بي: عراق، عراق، ليس سوى عراق.
---------
* الأبيات الشعرية في القصة لشاعر العراق الكبير بدر شاكر السياب
إيمان أكرم البياتي