ألقى أخونا هذا المساء بجسده المرهق والمتوتر جدا على مقعده الخشبي المفضل الذي يجلس عليه دائما كل مساء، حين يعود من عمله الشاق ليتناول عشاءه مع زوجته وأولاده الثلاثة الصغار، على تلك الشرفة الشمالية المفضلة من تلك الشقة الضيقة التي يسكنها بالأجرة الباهظة منذ أكثر من خمس سنوات.. ألقى أخونا نفسه على ذلك المقعد وعاد يفكر مرة أخرى من جديد في مثل هذه الزيادة في الأجرة الشهرية غير المبررة على الإطلاق والتي اعتبرها تعجيزية والتي طلبها منه هذا اليوم أبو شاحوط الجربان كما يطلق عليه معظم الناس صاحب الملك الذي يسكن أخونا في ملكه.. لقد جاء إليه هذا الملاك صباح هذا اليوم إلى مكان عمله الذي يعمل فيه وطلب منه مائة ورقة خضراء " طب غم" زيادة إضافية عن تلك الأجرة الحالية الباهظة التي يدفعها له أجرة هذه الشقة الضيقة التي يسكن فيها.. طلب منه خمسمئة ورقة خضراء في الشهر بدلا من أربعمئة ورقة التي يدفعها بسبب هبوط قيمة الورقة الخضراء الآن.. منذ أن جاء إليه هذا الملاك إلى المكان الذي يعمل فيه وطلب منه مثل هذه الزيادة الكبيرة وهو في حيرة من أمره يضرب أخماسا بأسداس ولا يعرف ماذا يفعل وماذا يقرر.. لقد قال له وبلسانه الألوق الذي يقرط به وبالحرف الواحد وبشكل قاطع وحاسم لا رجعة فيه.. هكذا أريد يا هذا.. هكذا أريد يا زلبوط هكذا تراه يخاطب كل مستأجر عنده بهذه اللهجة التهكمية البذيئة.. إما أن تدفع لي يا زلبوط هذه الزيادة التي أريدها وإما، وأعادها وكررها مرة ثانية وإما أن تفرجينا عرض كتافك من هذه الشقة.. وكاد يقول له وإما أن تنقلع وتتخيب- من ملكي وتُخلي لي الشقة آخر هذا الشهر.. يوجد لدي بصريح العبارة مستأجر آخر سواك أفضل منك بكثير مقرش ومستعد أن يدفع لي مثل هذه الأجرة مع حبة مسك أيضا ومع بوسة إيد.. معك حتى يوم غد لترد علي إما بكلمة نعم وإما بكلمة لا.. يا له من ملاك عديم الخلق.. يا له من ملاك متجبر وقاس.. يا له من ملاك جشع وطماع.. يا له من ملاك كلحوت وسحتوت أيضا.. أية صفة وأي نعت من هذه الصفات ومن هذه النعوتات في الطمع والجشع والكلحتة والسحتتة تجدها تنطبق عليه في تصرفاته وسلوكه.. ليس في قلبه ذرة الملعون واحدة من شفقة ومن رحمة ليس في وجدناه ذرة واحدة من ضمير.. ليس في عروقه ذرة من إحساس.. إنه ملاك جشع بامتياز إنه ملاك حبيب مصاري مثل باقي الملاكين الآخرين.. لا يشبع أخو الشليتة ولا يقنع على الإطلاق.. عينه فارغة.. كم يدخل إليه من إيجارات شهرية لا يكتفي بها.. أعطه مال الدنيا لا يقنع بها.. أعطه مال قارون لا يكتفي به.. يريد دائما المزيد والمزيد.. يدخل إليه آلاف وآلاف في الشهر.. مثل الجربان تراه دائما بشحوطة مثل الشحاذين تراه دائما.. مثل حياة الشيخ عبيد والجربان في حياته.. هكذا فعل مع بعض المستأجرين هكذا فعل مع أبو عزو قبل شهر يا حرام.. طلب منه أيضا مائة ورقه "طب غم" زيادة بنفس الحجة.. إستغل وضع ذلك المستأجر.. إستغل حاجته للسكن في ملكه.. فاضطر المسكين أن يدفع له تلك الزيادة التي طلبها منه ولا حول له ولا قوة.. المال بالنسبة إليه الإله الأوحد.. المال بالنسبة إليه المعبود الأول.. كم وكم سمع وقرأ في حياته عن ملاكين متجبرين فلم يسمع ولم يقرأ عن مثل هذا الملاك المتجبر أبو شاحوط.. كم وكم سمع وقرأ عن ملاكين جشعين وطماعين فلم يسمع ولم يقرأ عن ملاك مثل هذا الملاك الجشع والطماع أبو شاحوط.. لعنة الله عليه وعلى جميع الملاكين الذين على شاكلته... إنه ملاك يفوق كل الملاكين في جشعه وفي طمعه وفي حبه وعبادته للمال.. إذا أردت أن تجري مسابقة في الطمع والجشع وحب المال بين جميع الملاكين سوف يفوز هذا الملاك أبو شاحوط بالمرتبة الأولى.. وإذا أردت أن تجري أيضا بين جميع الملاكين مسابقة في البخل والكلحتة والسحتتة سوف يفوز هذا الملاك أبو شاحوط في البخل والكلحتة والسحتتة.. قبل أن ينتهي الشهر بيوم أو يومين تراه يأتي قبل طلوع الشمس ويقرع بابك ويقول لك الأجرة.. الويل ثم الويل لأي مستأجر يتأخر يوما واحدا في الدفع تراه يطلب ورقة أو ورقتين جزية أو غرامة مثل ضريبة الدخل وغيرها.. انه ملاك غريب الأطوار.. كلمته قاطعة وحاسمة لا يتراجع عنها.. لقد وضعه هذا الملاك الآن في مأزق كبير جدا وحرج.. لقد حشره في خانة اليك كما يقولون.. لم يعطه فرصة أكثر من آخر هذا الشهر ليفكر أنه لا يعرف ماذا يفعل وماذا يقرر.. وضعه أمام أمرين حرجين لا ثالث لهما.. إما أن يدفع له هذه الزيادة الباهظة ولا حول له ولا قوة.. وإما كما قال أن يفرجيه عرض كتافه ويُخلي له هذه الشقة آخر هذا الشهر.. وضعه المادي الآن لا يسمح له أن يدفع مثل هذه الزيادة على الإطلاق.. وضعه المادي لا يسمح له أن يدفع ورقة واحدة عما يدفعه الآن.. راتبه الشهري محدود جدا وبالكاد يسد رمقه ورمق زوجته ورمق أولاده الثلاثة الصغار.. راتبه الشهري يا دوبك يكفيه ويكفي زوجته ويكفي أولاده الثلاثة.. الغلاء فاحش والأسعار مرتفعة كثيرا والضرائب عديدة.. الحاجة التي كان سعرها كذا وكذا إرتفع إلى سعر كذا وكذا مضاعف.. وزوجته الآن حامل في شهرها الثامن.. بطنها إلى حلقها كما يقولون وعلى وشك أن تدخل في شهرها التاسع الأخير وتلد.. لم تعد تقوى على الجلوس خلف ماكنة الخياطة وتصلح بعض القطع من الثياب النسائية التي تأتيها أحيانا بين الحين والآخر لتساعده في تغطية بعض الحاجات المعيشية الضرورية.. كانت قبل شهر تستطيع وتجلس خلف ماكنتها وتصلح وتكسب بعض الأوراق في اليوم وتساعده بها.. لكنها الآن لا تستطيع كل شيء مطلوب منه الآن.. ماذا يا تراه يفعل الآن..؟ أجل ماذا تراه يفعل الآن..؟ هل تراه يدفع هذه الزيادة ويقلص من شراء بعض الحاجات المعيشية الضرورية ولا حول له ولا قوة.. أم تراه يفتش له عن شقة أصغر من هذه الشقة التي يسكن فيها وتكون أجرتها أرخص من أجرة هذه الشقة التي يسكن فيها..؟ لقد ارتكب خطأ كبيرا ما بعده خطأ.. لقد ارتكب خطأ وسكن بالأجرة منذ البداية واستمر حتى الآن في السكن في الأجرة الباهظة.. انه يعترف الآن بهذا الخطأ الذي ارتكبه.. انه يعترف على رؤوس الأشهاد وعلى صنوبر بيروت أيضا لقد ارتكب خطأ بحق نفسه بالدرجة الأولى بحق زوجته وبحق أولاده الثلاثة.. كان عليه منذ البداية منذ أن تزوج قبل خمس سنوات ان يفعل مثل كل زوج آخر ومثل كل أب آخر ويأخذ قرضا من أحد بنوك الإسكان المخصصة في مساعدة الأزواج الشابة ويشتري له شقة ويسكن فيها ويدفع ثمنها بالتقسيط أجل بالتقسيط.. لو كان قد فعل هذا الفعل منذ أن تزوج قبل خمس سنوات.. لكان الآن قد سدد بهذه الأجرة الشهرية الباهظة التي دفعها وراحت عليه هباءً.. لكان قد سدد ثلث أو ربع ثمنها على الأقل.. لقد دفع حتى الآن أكثر من عشرة آلاف ورقة خضراء أجرة هذه الشقة الضيقة التي يسكن فيها.. عندما استأجرها قبل خمس سنوات كانت واسعة له ولزوجته العروس.. لكن حين بدأ يأتيه الولد تلو الولد صارت تضيق عليه وتقلص من راحته وراحة زوجته معه.. وحين يأتيه المولود الرابع بعد أقل من شهر سوف تضيق عليه وعلى زوجته أكثر وأكثر.. يا له من رجل أحمق.. يا له من رجل غبي.. يا له من رجل " تمبل" يا له من رجل عديم التفكير.. يا له ويا له.. فهو الفهيم الذي يوزع الفهم والنصيحة على الآخرين لم ينصح نفسه.. لم يفعل مثل كل زوج غيره في أول زواجه.. كل الذين تزوجوا معه وقبله وبعده بسنة أو سنتين آنذاك أخذوا.. قروضا من بنوك الإسكان واشتروا لهم بيوتا الا هو "التمبل" كل الذين اشتروا لهم بيوتا بهذه الطريقة صاروا بكل تأكيد مسددين ثلث أو ربع أثمانها على الأقل.. لن ينفعه الندم الآن أبدا.. لن ينفعه أيضا الاعتراف بالندم.. المهم له الآن أن يعود عن خطأه ويفكر في حل آخر.. أجل في حل آخر.. ماذا تراه يفعل يا ترى..؟ هل تراه يدفع هذه الزيادة الكبيرة ويواصل السكن بالأجرة إلى ما لا نهاية مثل بعض الآخرين ويحرم نفسه ويحرم زوجته ويحرم أولاده الثلاثة الصغار ويحرم أيضا مولوده الرابع الذي سيأتي إلى الحياة بعد أقل من شهر..؟ إنه حتما سوف يحرم نفسه ويحرم زوجته وأولاده من بعض الحاجات المعيشية الضرورية بكل تأكيد فيما لو دفع مثل هذه الزيادة الكبيرة واستمر في السكن بالأجرة مثل غيره.. منذ أن جاء إليه صاحب الملك أبو شاحوط هذا الصباح إلى مكان عمله الذي يعمل فيه وطلب منه مثل هذه الزيادة وهو في حيرة من أمره... في حيص بيص كما يقولون في مد وجزر أيضا.. كلما تراه يميل إلى الخنوع والقبول بدفع هذه الزيارة تراه يتراجع أمام صوت في داخله يقول له لا ويحك يا هذا.. هذا ليس حلا.. هذا جبن.. وهذا استسلام.. هذه طريقة "ساداتية".. كلما تراه يميل إلى التفتيش له عن شقة تكون أصغر من هذه الشقة التي يسكن فيها الآن وتكون أجرتها أقل من أجرة هذه الشقة تراه يتراجع أمام صوت أيضا في داخله يقول له لا يا هذا.. هذا ليس حلا أيضا.. هذا استمرار وامعان في الخطأ.. هذا كما لو يكون الانتقال من تحت الدلف إلى تحت المزراب.. الحل الصحيح الآن والسليم أيضا أن يفعل مثل كل زوج آخر فعل في أول زواجه أو بعد زواجه بفترة قصيرة ويأخذ قرضا من أحد بنوك الإسكان ويشتري له شقة مثل كل واحد اشترى له شقة بهذه الطريقة ويدفع ثمنها بالتقسيط أجل بالتقسيط.. يدفع ثمنها من خلال هذه الاجرة الشهرية الباهظة التي يدفعها وتذهب هباء.. عليها وباتت أجل عليها وألف باتت وباتت.. لم يفت الوقت عليه.. كل إنسان يخطئ في حياته.. الانسان لا يتعلم إلا من كيسه كما يقولون.. الانسان لا يتعلم إلا من أخطائه.. لقد أخطأ بالفعل وعليه الآن أن يُصلح خطأه.. إنه قرار سليم الآن مائة بالمئة بل ألف بالمئة أيضا.. أنه قرار صائب أيضا مائة بالمئة بل ألف بالمئة أيضا ياما وياما من النقمة تأتي النعمة كما يقولون.. ليت هذا الملاك أبو شاحوط طلب منه مثل هذه الزيادة الباهظة قبل سنة أو قبل سنتين أو قبل ثلاث سنوات أيضا ليجعله يصحو ويفوق إلى نفسه ويتخذ مثل هذا القرار الحاسم ويوفر عليه كل تلك الآلاف من الأوراق الخضراء التي ذهبت هباء.. ليته وليته.. معلش.. كل شيء يأتي في أوانه.. كما يقولون.. لقد صحا الآن إلى نفسه وأفاق من غبائه لا يزال في مقتبل العمر.. لا يزال قويا.. زوجته بعد شهر أو أقل من شهر ستلد مولودها الرابع وتعود إلى الجلوس خلف ماكنة الخياطة بضع ساعات في اليوم وتصلح بعض القطع من الثياب التي تأتيها أحيانا بين الحين والآخر لتصلحها وتساعده بأجرتها التي تكسبها في تغطية بعض النفقات المعيشية الضرورية بالدرجة الأولى.. زوجته فاضلة من النساء القلائل اللواتي يشعرن مع أزواجهن.. مساعدتها تدفعه إلى أول خطوة.. عليها وباتت يا هذا وألف باتت أيضا.. ضرب الحديد وهو حام كما يقولون.. البيوت الآن للبيع "حبطرش" كما يقولون.. البيوت للبيع وكثيرة جدا في هذه الأيام والتسليم فورا أيضا كثيرا وكثيرا جدا بعد تلك الموجة الجنونية من ارتفاعها.. يستطيع الآن أن يجد له شقة كبيرة وواسعة في أي مكان يريده من البلدة.. التي يعيش فيها مثل هذه الشقة التي يسكن الآن فيها بالأجرة الباهظة واوسع منها أيضا بكثير.. بستين أو سبعين ألف ورقة خضراء بكل سهولة.. أمس رأى في إحدى الصحف إعلانا عن شقة للبيع مساحتها أكثر من ثمانين مترا مربعا جاهزة للسكن لا يحتاج أن يضيف مسمارا واحدا فيها بسبعين ألف ورقة خضراء وفي حي مريح جدا فذهب وعاينها فوجدها مناسبة جدا له من جميع الوجوه ويسرح فيها الخيال كما يقولون.. قبل كل شيء قريبة من شقة أخيه الكبير المتزوج.. وقريبة أيضا من شقة أخته المتزوجة.. وقريبة أيضا من شقة والديه المسنين وقريبة من المجمع التجاري العام وقريبة من محطة المواصلات العامة.. وقريبة من مكان عمله الذي يعمل فيه مرمى عصا كما يقولون.. نصف كيلو متر فقط خلال بضع دقائق يكون في عمله.. لا لزوم أن يستعمل أية وسيلة.. كل بنك من بنوك الإسكان يعطيه مثل هذا المبلغ الذي يحتاجه حالا لشراء هذه الشقة.. قبل آخر هذا الشهر الذي حدده له ذلك الملاك يستطيع أن ينتقل إلى هذه الشقة.. سوف يقول لهذا الملاك غدا لا ولا كبيرة.. سوف يقول له بملء فمه طز عليك وعلى شقتك أيضا.. خلال عشر سنوات وربما أقل أيضا من عشر سنوات سوف يسدد ثمن هذه الشقة التي يشتريها.. سوف يسدد ثمنها بالتقسيط من خلال هذه الأجرة الشهرية الباهظة التي يدفعها الآن من أجل هذه الشقة التي يسكن فيها وتذهب عليه هباء .. سوف يحسب نفسه لا يزال يسكن في الأجرة الشهرية التي يدفعها.. سوف يحسب نفسه لا يزال مستمرا في خطأه.. سوف وسوف.. بعد أقل من شهر سوف تخلف زوجته مولودها الرابع وتعود للجلوس خلف مكانتها الخياطة بضع ساعات في اليوم وتصلح بعض القطع من الثياب التي تأتيها أحيانا بين الحين والآخر وتساعده في تسديد ثمن هذه الشقة التي قرر وصمم أن يشتريها الآن.. سوف يكون عنده الآن شقة ملك طابو مثل كل إنسان آخر لا يدفع أجرتها.. لقد هانت المشكلة الآن.. لقد حلت بعضها البعض على وجه مولوده الرابع الذي سيأتي بعد أقل من شهر إلى الحياة.. سوف تعود زوجته من المشفى.. إلى هذه الشقة.. حمل ثقيل نزل عن ظهره الآن.. من خلال هذه الأجرة الشهرية الباهظة التي يدفعها الآن وتذهب عليه هباءً.. سيكون عنده شقة ملك طابو.. غدا صباحا غدا صباحا.. وعندما نهض أخونا في صباح اليوم التالي من نومه شعر بقوة جارفة تدفعه إلى القيام بأول خطوة فخرج مسرعا وهو يردد عليها وباتت......
حيفا
الخميس 30/4/2009
نجيب سوسان
=================
1930 - 2011
حيفا
الخميس 30/4/2009
نجيب سوسان
=================
1930 - 2011