محمد خيرالدين - مقتطف من رواية "أگادير"... ترجمة: مبارك وساط

(...)
البرْد الرّاتع في غرفتي التي تنفتح على الشّارع، ونافذتي التي لا تنغلق... مخّي السّارح الحاضِر متى إذنْ ستكون بَغْلا بشكل أقلّ؟ رأسي، لُقْيَتِي، حافظةُ أوراقي، وجدّي الذي نبشتُ قبره لأعرف إن كان قد غيّرَ مكَانَه، الموتُ الذي يَرفضني، أنا عَفِن، أنا لِحاءُ الشّجرة العجوز المهووسة، دمي أو بالعكسِ لِمْفايَ ضاربة إلى السّواد، دمٌ عَدَمٌ، دمُ نحلةٍ، دمي الهائل، دمي بلا اسْمٍ، دمي الذي هو ليلٌ دائما... أُفْرِغُ لوحدي بنوكَ الدّم، دمٌ هو هياجُ حشرة تجوسُ الحديقة حيث الصّداقة معقودة بين المصاطب، دمٌ مُمَلّحٌ مُدَخَّنٌ، دمٌ زلزال يَنطلقُ من إبهام قدمِي... دمٌ نقود مزيّفة، أنْسَلُّ وليس بدافع الخطأ يُسلّمني الدّم كأني جانٍ، أمضي إلى ضوضاء المدن من دون اسم حقيقي، وفي كلّ مكان ألاقي سُحُبًا
من الذّرّات... لا أتوجّه إليكَ بالكلام إلا لأننا نبقى غير منفصلين، تقول نحن غير قابلين للانفصال، نحن قابلان للانفصال، أجيب أنا الذي استُحْلِفتُ في اللحظة التي تمّ خلالها اغتيالي، لقد شكّلْتُكَ كما اقتضتْ لياقتي، وبحسب مهارة الفخاخ، دون إسقاط شيء من سحر إله الفودو الذي أطاح به الأوربي ذو الأسنان المشحوذة جيدا واليدين الطّويلتين، الحائزُ معارفَ العظاية الباسمة، وهنالك أبو الآباء، أبو السمكة العجوز التي صنعتْها الرُّتيلاء المُسِنّة أمام أبِي الآباء وأمّ الآباء... طبعا أنا أختفي، أيها الدّم- المحرقة الدّم- البنزين الدّم- المعركة ... شهدتُ عمليات فَصْدٍ من العنق والعانة، كان ذلك على عرش من الحجر المتبلّر وعلى الفراغ الذي يتوسّط الهذيان، وكانت العانس المحتدّة المزاج
بسبب مشاقّ العمل في الحقل وحَفْرِ الآبار تغرز رأسَها نفسَه في الحجر وتضحك شِبْهَ نائمة فيما أعْلَى منها بلْ على جلدها ترسُمُ الدّكتورةُ الطّوفانَ، الدّخانَ، الثّلجَ، الحَرْبَ، كانت المنيّة حاضِرة، قلْتُ لنفسي، فهل لها قلب ودمٌ وجسدٌ يمكنه أن يسحرني؟ كلّا . ربّما تَعود في ليلة ما وهي لن تنبثقَ من أحشائي، وستُصَفّق ومن بعيدٍ تناديني يا سيّدا كأنّي قيصر، يا بومةُ كأني القُرصان أو الإعصارُ حاملاَ هذا الاسم، تعال لأسمّمك، تعالَ لأكسوَك لباسَ رومانيٍّ قديم، لباسا أبيضَ مذهلا، تعالَ أيّها النّسيان، ولْأكُفّ عن الظّنّ . علاماتٌ مُشاةٌ سائقو سيّارات راكبو درّاجاتٍ مُلوكٌ أفّاكون كتّابٌ أنساقٌ منطقيّةٌ جماركُ غزواتٌ، المساءُ يفتحُ المقاهي، المصابيح تقتات من الشّمسِ، الإنسان يُتلف كبده، إنّهم
يُرَقّعون دمي، وأشعر بالألم في الأماكن التي تحمرّ من جسدي... وأنا دوما أسائل دمي الذي أنعتُه بمطرح نفايات المدينة، بالفأر المُصاب بالطّاعون، بوباء أقمارٍ نتنة، بنقيضِ كُلِّ ما يمنحنا الهناء فنتشبّثُ به أثناء تهاطل المطر إذْ يُصبح الفحم الحجريّ بثمن الدّم، دمي الذي تقيّأتُه، دمي الذي لا يمضي لتناوُلِ الكَرْكَنْدِ مُضمّخََ الشّارب بالطِّيبِ مُصفَّفَ الشَّعر على الطّريقة الإيطاليّة، دمي الأعرجُ... دمي الجُذامُ، دمي مثل سانْ جوستْ على منصّة الإعدام، دمي إنّكَ ترتجف، دمي إنّك تُتَوِّجُ شِرّيرا حقيقيا، دمي إنّك تُطْلِقُ النّار...


-------------------
ترجمة: م. وساط


* مقتطف من روايته "أگادير" (الصادرة عن دار النشر لو سوي - 1967):




==============
محمد خير الدين يعتبر محمد خير الدين أو الطائر الأزرق من أبرز الشخصيات الأدبية المغربية في القرن العشرين.[1] ينحدر من عائلة امازيغية سوسية من مدينة تافراوت .

ولد الشاعر والروائي المغربي محمد خير الدين بـقرية أزروواضو التابعة لـبلدية تفراوت عمالة تزنيت.هاجرت أسرته إلى الدار البيضاء حيث كبر محمد وترعرع. ترك الدراسة باكراً وعمل وهو في العشرين من عمره مندوباً بالضمان الاجتماعي من عام 1961 إلى 1963 في أكادير ثم في الدار البيضاء.
هجرته إلى فرنسا

استقال سنة 1967 من منصبه وهاجر إلى باريس هارباً من الملاحقة القانونية لاشتراكه في انتفاضة مارس 1965 ليلتحق هناك بعد ثلاث سنوات في ثورة طلاب فرنسا (مايو 1968). وكان من بين الطلاب الذين احتلوا مسرح الأوديون بباريس. ولأنه أدرك أن “الطائر الأزرق” لا يتنفس كما يشاء في فضاء ضيق ولا يحلق عاليا في السموات الخفيضة، فأضاءت باريس طريقه بأنوارها، ونشر له سارتر قصيدة “الملك” في افتتاحية مجلته الشهيرة “الأزمنة الحديثة”
رجوعه إلى المغرب

رجع محمد خير الدين إلى المغرب سنة 1979 بعد غياب ستة عشر عاما وبقي في بلاده حتى وفاته بعد أن أصيب بمرض عضال قاتل.
حكايته مع الكتابة

بدأ محمد يكتب الشعر وهو بعد مراهقاًَ. وكان ينشر قصائده في صحيفة " لا فيجي ماروكين" LA VIGIE MAROCAINE. وكانت قصائده محبوكة على الطريقة الكلاسيكية وبلغة فرنسية أنيقة. وبرز في الستينات كواحد من ألمع الشعراء المحدثين إلى جانب الطاهر بن جلون وعبد اللطيف اللعبي ومصطفى النيسابوري وعبد الكبير الخطيبي. وكان هؤلاء الشعراء قد تحلقوا آنذاك حول الشاعر اللعبي ومجلته " أنفاس ".
صدور أول عمل له

صدر لخير الدين كتابه الأول في لندن سنة 1964 بعنوان "غثيان أسود" وقد ضم قصائد تشي بيأس وجودي متأصل. وفي سنة 1967 نشرت له دار سوي (Seuil) الفرنسية رائعته "أغادير" التي كتبها في أعقاب الزلزال الذي دمر المدينة المغربية سنة 1960. وكانت المخطوطة تحمل عنوان "التحقيق" قبل أن يقترح الناشر تغيير الاسم إلى أغادير. وفي هذه الرائعة نكتشف شاعراً حانقاً متأثراً بما شاهده في المدينة بعد الزلزال من شقاء الناس، متسلحاً بالسخرية والرفض. وفي العام التالي نشرت له دار سوي روايته الشعرية " الجسد السالب " حيث كرس أسلوبه الثائر عبر سرد شعري النفس يحبس الأنفاس. وفي سنة 1969 جمع قصائد تعكس إحساساً حاداً باليأس والتمرد في ديوان شعري سماه " شمس عنكبوتية". ثم تتالت أعماله التي نشرتها دار سوي بينها:

الملك 1966 Le Roi
أغادير 1967 Agadir
الجسد السالب 1968 Corps négatif
شمس عنكبوتية 1969 Soleil arachnide
أنا الحاد الطباع 1970 Moi l'aigre
النباش 1973 Le Déterreur
هذا المغرب 1975 Ce Maroc
رائحة المانتيك Une odeur de mantèque, 1976
حياة وحلم شعب دائم التيهان Une vie, un rêve, un peuple, toujours errants, 1978
انبثاق الأزهار المتوحشة Résurrection des fleurs sauvages, 1981
أسطورة وحياة أكونشيش Légende et vie d'Agoun'chich, 1984
كان يا مكان زوجين سعيدين Il était une fois un vieux couple heureux, 1993

بعد عودته إلى المغرب أصدر محمد خير الدين ديوان شعر جديد سماه " انبعاث الورود البرية". وواظب في المغرب على نشر نصوص متفرقة في جريدة " المغرب" الفرنكوفونية التي كانت تصدر في الثمانيات من القرن الماضي. وشكلت هذه النصوص نواة رواية جديدة غاص فيها عميقاً في أصوله السوسية الغابرة ونشرتها كالعادة دار سوي الفرنسية سنة 1984 بعنوان "أسطورة وحياة أغونشيش".


* عن ويكيبيديا

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...