يُعتبر الفيلسوف الألماني هيجل (1770م– 1831م) من بين أكبر المفكرين الألمان في حركة الفكر المثالي وصاحب الفلسفة الجماليّة المثيرة للجدل والمعروفة بالأستطيقا، والتي تركت آثارها في العديد من التّحليلات الفكرية والفلسفية للعديد من الأبحاث الفلسفية التي أتت بعده، حيث تمكن بفلسفته هذه أن يؤثر في كتابات متعددة حول الجمال وفلسفته الفنية وانتاجاتهم المتعلقة بنظرتهم للفن والجمال عموماً. وفي هذا الإطار نجد أن الفكر الجمالي عند هيجل يعتبر بمثابة حلقة أساسية في العلوم الفلسفيّة والانطلاق من مملكة الجمال وميدان الفنّ بكل أجناسه وتجلياته. ومن هنا يُمكن القول إن «إدراج فلسفة علم الجمال في مجمل الفلسفة، لأنّ الفنّ هو أحد الأشكال الكليّة للعقل. وما الفنّ سوى خطوة سابقة في طريق العقل نحو الحقيقة. أما الجمال فلا يتحقق، في درجاته القصوى، إلا في الجمال الفنّي، لأنّه فكرة الإنسان التي تُعبّر عن الوحدة المباشرة بين الموضوع والذّات. وهذه الفكرة تنبع من الرّوح البشريّة»1. ولعل أفضل تشبيه نستطيع أن نشبه به فلسفة هيجل هو الهيكل المحكم البناء، الشاهق الطول، المنسجم الأبعاد، فمذهبه هو عبارة عن نسق متكامل، وليس من المستبعد أن يهتم هيجل هذا الاهتمام ببناء فلسفة على هذا الأساس المحكم، إذ أن الفكر الذي لا يصاغ بهذه الصورة النسقيّة لا يعتبر فلسفة علمية لدى هيجل الذي يقول: «ما لم تشكل الفلسفة نسقاً فإنها لن تكون نتاجاً علمياً»2.
«إدراج فلسفة علم الجمال في مجمل الفلسفة، لأنّ الفنّ هو أحد الأشكال الكليّة للعقل. وما الفنّ سوى خطوة سابقة في طريق العقل نحو الحقيقة. أما الجمال فلا يتحقق، في درجاته القصوى، إلا في الجمال الفنّي، لأنّه فكرة الإنسان التي تُعبّر عن الوحدة المباشرة بين الموضوع والذّات. وهذه الفكرة تنبع من الرّوح البشريّة»1
إن قضية الفن وعلاقته بالجمال بالنسبة إلى هيجل هي مسألة تلازمية، ومن هنا يعتقد أن مسألة الفن الجميل هي مسألة تتعلق بظهور التفكير الفلسفي الأول مع أفلاطون وأرسطو، وتطورت مع كانط ثم مع هيجل نفسه الذي استطاع استيعاب ما جاء به جميع الفلاسفة منذ القديم حول قضية الفن وعلاقته بالجمال حيث جمع كل ما أتى به هؤلاء فخلق حواراً جدلياً معهم ومع أفكارهم ثم أعاد في النهاية بناء الأفكار الجمالية في الحضارة الغربية الأوربية على ضوء التطور الفكري والفلسفي الذي عرفته هذه الحضارة. ولقد تطرق هيجل في فلسفته الجمالية إلى مفهوم الفكرة ومفهوم الجمال والعلاقة بينهما وإلى نواقص الجمال الطبيعي موضحاً أن الفكرة الجمالية لا يمكنها أن تتحقق في الجمال الطبيعي، بل في الجمال الفني، ثم بعد ذلك انتقل إلى تناول مفهوم الفن وكيفية تحقق فكرة الجمال فيه من خلال التطرق إلى مفهوم الفن وخصائصه وشروطه وأهدافه وسمات الفنان.
فلسفة الفن والجمال
تشكل فلسفة هيجل في الفن جزءاً من النظام الفكري والفلسفي الذي يمثله في المنظومة الفكرية والفلسفية في العصر الحديث. ومن أجل فهم فلسفته في الفن، يجب على المرء أن يفهم الادعاءات الأساسية لفلسفته بالمجمل والكُلِّ والتي تتأسس على رؤية واضحة المعالم للحقيقة والطبيعة وعناصر الجمال فيها. حيث يحتجّ هيجل في منطقه النظريّ بأن الوجود مسلَّمٌ به أو مفهومٌ على أنه عقل متعيّنٌ بذاته أو “فكرة Idée” ومع ذلك يتابع في فلسفة الطبيعة ليظهر أن المنطق يروي نصف الحكاية فقط: فالعقل على سبيل المثال ليس شيئاً مجرداً– فهو ليس لوجوس غير متجسّد– بل يتشكل على هيئة مادة منظمة بشكلٍ عقلانيّ ومنطقي، لأنه ذلك يفترض أن العقل الموجود حسب هيجل ليس عقلاً محضاً، وإنما مادة فيزيائية وكيميائية حيّة تخضع للمبادئ العقلانية3.
إن مفهوم الجمال عند هيغل يرتبط أساساً بمدى الإدراك الحسي الذي لا يتطلب بالضرورة أقيسة مجردة، باعتباره في الأساس، فكرةً عامة خالدة لها وجود مستقل يتجلى في الشكل الحسي للأشياء التي تخالف الحقيقة في ذاتها باعتبار أن لها «وجود ذهني غير حسي. كما أنها تتحقق في الخارج عن طريق وجود محدد المعالم عيني، وفي حالة تحققها إذا اقترن ظهورها بإدراكها مباشرة من دون أقيسة مجردة تكون حقيقة جمالية»4. ومن هنا نخلص مع هيجل إلى أن الجمالية في حد ذاتها لا تستهدف الفن فحسب، وإنما تتعداه إلى الطبيعة، وإلى جميع تجليات الجمال. فهذا الأخير إن كان في الفن فهو بالضرورة موجود في مصدر هذا الفن بمعنى وجوده في الإنسان والطبيعة معاً، وهو في النهاية عند هيغل معناه: الحسن والبهاء5.
مفهوم الجمال عند هيغل يرتبط أساساً بمدى الإدراك الحسي للأشياء التي تخالف الحقيقة في ذاتها باعتبار أن لها «وجود ذهني غير حسي. كما أنها تتحقق في الخارج عن طريق وجود محدد المعالم عيني، وفي حالة تحققها إذا اقترن ظهورها بإدراكها مباشرة من دون أقيسة مجردة تكون حقيقة جمالية»4.
ولتفسير ذلك يرى روبير مطانيوس معوض أن هذا المعنى يعني حسَّ الأفعال كامل الأوصاف والإدراك الجمالي الذي لا يرقى إلى درجة الفلسفة الجمالية، إلا عندما تأتي للمفكر الفيلسوف فكرة أو نظرة جمالية للفن تتأسس على رؤية فلسفية للإنسان والكون والحياة. إن الجمالية في حد ذاتها «هي النظرة الفلسفية إلى الفن وقضايا الإبداع عامة. وأما ما دونها من تأملات أو نظرات في الفن فليست تدخل في نطاق الجماليّة بالمعنى العلمي للكلمة، وإن تكن مراحل أولى لازمة في نشوء الجماليّة وتطوّرها نحو التّكامل الفلسفيّ وارتباطها بشموليّة الفلسفة ومنهجيتها والإدراك الجماليّ يرقى إلى درجة الفلسفة الجماليّة، لاستناده على رؤية فلسفيّة جليّة وشاملة للعالم بكل مكوناته. فالرؤية الجماليّة متماسكة ترتبط فيها النتائج بالأسباب ارتباطاً وثيقاً ودقيقاً»6.
تتأسس فلسفة الفن والجمال عند هيجل انطلاقاً من رؤيته في الفلسفة الميتافيزيقية، وفي مقدور من قرأ عنها وفهم الغاية منها أن يفهم فلسفته في الجمال ويدركها جيداً قراءة وتحليلاً، فهو يبدأ رؤيته لفلسفة الجمال من خلال نظريته في الروح المطلق التي تنشأ من التضاد ما بين المتناهي واللا-متناهي، كمركب عن الفكرة في ذاتها والطبيعة في تخارجها– أي القضية ونقيضها، «فالروح يعقل التناهي بالذات بوصفه نفيه، فيدرك عن هذا السبيل اللا-متناهي، وما حقيقة الروح المتناهي هذه سوى الروح المطلق، فالروح المطلق هي تلك الكلية هو الحقيقة العليا»7، فالجمال الفني، حسب رؤية هيغل دائماً، هو موضوع أساسي للمتناهي الذي يتماهى مع اللا-متناهي حيث ينتج عن الجدلية بينهما ما يمكن تسميته بالروح المطلق. وهنا نستحضر مقولته التي تعتبر الجمال مسألة نمطية للوقوف على الحقيقة واستحضارها كعملية لصياغة المفاهيم التي تمثل العالم والحياة والطبيعة، يقول: «أن الجمال بالنظر إلى أنه نمط معين لتظهير الحقيقة وتمثيلها، يعرض نفسه من كل جانب للفكر المفهومي، متى ما كان هذا الفكر يمتلك حقاً القدرة على صوغ المفاهيم»8.
يمثل الفن بالنسبة لهيجل تلك الوسيلة التي تبرز الوعي الشخصي للروح المطلق، لأنه يفترض التعيين الحقيقي الشخصي لها خارجاً من خلال تمثيلها بطريقة حسية، حيث يكون الفن موضوعاً للحقيقة باعتباره «يعقل ويمثل الوجود بوصفه حقيقياً في تظاهراته الظاهراتية، أي في توافقه مع مضمون متماسك تجاه ذاته، وله بذاته قيمته الذاتية، ليست حقيقة الفن إذن الصوابية المحضة البسيطة، وهو ما يقتصر عليه ما يسمى بمحاكاة الطبيعة، بل على الفن لكيلا يكون حقيقياً، أن يحقق التوافق بين الخارج والداخل»9. ومن هنا، نخلص مع هيجل إلى أن الحقيقة لا يمكنها أن تتماهى مع الطبيعة لأن هذه الأخيرة قاصرة على إدراك الموجودات البسيطة أو المعروفة مثل النجوم والكواكب وغيرها لأن لها خصوصيات ومميزات ذاتية محددة. كل هذا دفع هيجل إلى تبني رؤية أن جمال الفن بكل حيثياته وعناصره الواقعية وغير الواقعية أعظم من جمال الطبيعة وعناصرها الثابتة الجامدة قائلاً: «في وسعنا أن نؤكد على ما يخيل إلينا أن الجمال الفني بخلاف ما تزعمه تلك النظرة الدارجة من الجمال الطبيعي لأنه من نتاج الروح، فما دام الروح أسمى من الطبيعة، فإن سموه ينتقل بالضرورة إلى نتاجاته، وبالتالي إلى الفن»10.
إن مفهوم الجمال عند هيجل هو الذي يمثل الظاهر العيني للفكرة، وذلك بكونه لا يحتفظ الحسي والموضوعية فيه بأي حرية أو استقلال في الجمال بعينه، بمعنى أن الموضوعي هو الحقيقي الفعلي، وبالتالي هو العقلاني، حيث يصير الجميل هو الفكرة المفهومة التي تجسد الواقع، ولكن هذا الوجود الموضوعي الواقعي في حد ذاته لا تصبح له أية قيمة إلا إن كان يمثل ظهوراً للمفهوم «لأن الجميل هو المفهوم، والمفهوم يبثُّ النفس، يبث الوجود الحقيقي الذي يجسده”»11. فالجميل عند هيجل هو الشيء الحاصل في وجوده والذي يُكَوّن مفهومه الخاص متحققاً في ظاهريته، أي في وجوده الحقيقي الذاتي الظاهر للعيان، ومن هنا يمكننا القول إنه يحدد غايته الخارجية في ذاته وليس من نتاج شيء آخر غيره. في حين يكون الجمال الطبيعي جمالاً مجرداً لم يكن نتاجاً للوعي بالذات، أو أنه وُجد ليكون جميلاً محضاً، بل لأننا نراه جميلاً وندرك أهمية جماله بالنسبة إلينا وفق وعي خاص منا وإقرار منا بذلك.
الهوامش والمراجع:
[1] – يمكن الاطلاع على: روبير مطانيوس معوّض، “فلسفة هيغل الجمالية”، مجلة أوراق أدبية، العدد 7، بيروت، ربيع 2020.
[2] – سليمان السلطان، “فلسفة الفن والجمال عند هيغل”، موقع مجلة حكمة، مقال منشور بتاريخ: 8 يونيو 2016، رابط المقال: فلسفة الجمال والفن لدى هيجل.
[3] – انظر: ملة حكمة، الجمال عند هيغل: موسوعة ستانفورد للفلسفة، ترجمة: فراس حمدان، رابط المقال: الجمال عند هيجل.
[4] – جيرار جيهامي، موسوعة مصطلحات فلسفيّة عند العرب، مكتبة لبنان، ناشرون، بيروت، ط. 1، 1998م، ص. 201.
[5] – هيغل، المدخل إلى علم الجمال: فكرة الجمال، ترجمة: جورج طرابيشي، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، ط. 3، 1988م، ص. 165.
[6] – روبير مطانيوس معوّض، “فلسفة هيغل الجمالية”، المرجع السابق نفسه.
[7] – هيغل، المدخل إلى علم الجمال: فكرة الجمال، المرجع السابق، ص. 167.
[8] – المرجع السابق، ص. 164.
[9]- المرجع نفسه، ص. 252.
[10] – نفسه، ص. 252.
[11] – نفسه، ص. 183- 184.
«إدراج فلسفة علم الجمال في مجمل الفلسفة، لأنّ الفنّ هو أحد الأشكال الكليّة للعقل. وما الفنّ سوى خطوة سابقة في طريق العقل نحو الحقيقة. أما الجمال فلا يتحقق، في درجاته القصوى، إلا في الجمال الفنّي، لأنّه فكرة الإنسان التي تُعبّر عن الوحدة المباشرة بين الموضوع والذّات. وهذه الفكرة تنبع من الرّوح البشريّة»1
إن قضية الفن وعلاقته بالجمال بالنسبة إلى هيجل هي مسألة تلازمية، ومن هنا يعتقد أن مسألة الفن الجميل هي مسألة تتعلق بظهور التفكير الفلسفي الأول مع أفلاطون وأرسطو، وتطورت مع كانط ثم مع هيجل نفسه الذي استطاع استيعاب ما جاء به جميع الفلاسفة منذ القديم حول قضية الفن وعلاقته بالجمال حيث جمع كل ما أتى به هؤلاء فخلق حواراً جدلياً معهم ومع أفكارهم ثم أعاد في النهاية بناء الأفكار الجمالية في الحضارة الغربية الأوربية على ضوء التطور الفكري والفلسفي الذي عرفته هذه الحضارة. ولقد تطرق هيجل في فلسفته الجمالية إلى مفهوم الفكرة ومفهوم الجمال والعلاقة بينهما وإلى نواقص الجمال الطبيعي موضحاً أن الفكرة الجمالية لا يمكنها أن تتحقق في الجمال الطبيعي، بل في الجمال الفني، ثم بعد ذلك انتقل إلى تناول مفهوم الفن وكيفية تحقق فكرة الجمال فيه من خلال التطرق إلى مفهوم الفن وخصائصه وشروطه وأهدافه وسمات الفنان.
فلسفة الفن والجمال
تشكل فلسفة هيجل في الفن جزءاً من النظام الفكري والفلسفي الذي يمثله في المنظومة الفكرية والفلسفية في العصر الحديث. ومن أجل فهم فلسفته في الفن، يجب على المرء أن يفهم الادعاءات الأساسية لفلسفته بالمجمل والكُلِّ والتي تتأسس على رؤية واضحة المعالم للحقيقة والطبيعة وعناصر الجمال فيها. حيث يحتجّ هيجل في منطقه النظريّ بأن الوجود مسلَّمٌ به أو مفهومٌ على أنه عقل متعيّنٌ بذاته أو “فكرة Idée” ومع ذلك يتابع في فلسفة الطبيعة ليظهر أن المنطق يروي نصف الحكاية فقط: فالعقل على سبيل المثال ليس شيئاً مجرداً– فهو ليس لوجوس غير متجسّد– بل يتشكل على هيئة مادة منظمة بشكلٍ عقلانيّ ومنطقي، لأنه ذلك يفترض أن العقل الموجود حسب هيجل ليس عقلاً محضاً، وإنما مادة فيزيائية وكيميائية حيّة تخضع للمبادئ العقلانية3.
إن مفهوم الجمال عند هيغل يرتبط أساساً بمدى الإدراك الحسي الذي لا يتطلب بالضرورة أقيسة مجردة، باعتباره في الأساس، فكرةً عامة خالدة لها وجود مستقل يتجلى في الشكل الحسي للأشياء التي تخالف الحقيقة في ذاتها باعتبار أن لها «وجود ذهني غير حسي. كما أنها تتحقق في الخارج عن طريق وجود محدد المعالم عيني، وفي حالة تحققها إذا اقترن ظهورها بإدراكها مباشرة من دون أقيسة مجردة تكون حقيقة جمالية»4. ومن هنا نخلص مع هيجل إلى أن الجمالية في حد ذاتها لا تستهدف الفن فحسب، وإنما تتعداه إلى الطبيعة، وإلى جميع تجليات الجمال. فهذا الأخير إن كان في الفن فهو بالضرورة موجود في مصدر هذا الفن بمعنى وجوده في الإنسان والطبيعة معاً، وهو في النهاية عند هيغل معناه: الحسن والبهاء5.
مفهوم الجمال عند هيغل يرتبط أساساً بمدى الإدراك الحسي للأشياء التي تخالف الحقيقة في ذاتها باعتبار أن لها «وجود ذهني غير حسي. كما أنها تتحقق في الخارج عن طريق وجود محدد المعالم عيني، وفي حالة تحققها إذا اقترن ظهورها بإدراكها مباشرة من دون أقيسة مجردة تكون حقيقة جمالية»4.
ولتفسير ذلك يرى روبير مطانيوس معوض أن هذا المعنى يعني حسَّ الأفعال كامل الأوصاف والإدراك الجمالي الذي لا يرقى إلى درجة الفلسفة الجمالية، إلا عندما تأتي للمفكر الفيلسوف فكرة أو نظرة جمالية للفن تتأسس على رؤية فلسفية للإنسان والكون والحياة. إن الجمالية في حد ذاتها «هي النظرة الفلسفية إلى الفن وقضايا الإبداع عامة. وأما ما دونها من تأملات أو نظرات في الفن فليست تدخل في نطاق الجماليّة بالمعنى العلمي للكلمة، وإن تكن مراحل أولى لازمة في نشوء الجماليّة وتطوّرها نحو التّكامل الفلسفيّ وارتباطها بشموليّة الفلسفة ومنهجيتها والإدراك الجماليّ يرقى إلى درجة الفلسفة الجماليّة، لاستناده على رؤية فلسفيّة جليّة وشاملة للعالم بكل مكوناته. فالرؤية الجماليّة متماسكة ترتبط فيها النتائج بالأسباب ارتباطاً وثيقاً ودقيقاً»6.
تتأسس فلسفة الفن والجمال عند هيجل انطلاقاً من رؤيته في الفلسفة الميتافيزيقية، وفي مقدور من قرأ عنها وفهم الغاية منها أن يفهم فلسفته في الجمال ويدركها جيداً قراءة وتحليلاً، فهو يبدأ رؤيته لفلسفة الجمال من خلال نظريته في الروح المطلق التي تنشأ من التضاد ما بين المتناهي واللا-متناهي، كمركب عن الفكرة في ذاتها والطبيعة في تخارجها– أي القضية ونقيضها، «فالروح يعقل التناهي بالذات بوصفه نفيه، فيدرك عن هذا السبيل اللا-متناهي، وما حقيقة الروح المتناهي هذه سوى الروح المطلق، فالروح المطلق هي تلك الكلية هو الحقيقة العليا»7، فالجمال الفني، حسب رؤية هيغل دائماً، هو موضوع أساسي للمتناهي الذي يتماهى مع اللا-متناهي حيث ينتج عن الجدلية بينهما ما يمكن تسميته بالروح المطلق. وهنا نستحضر مقولته التي تعتبر الجمال مسألة نمطية للوقوف على الحقيقة واستحضارها كعملية لصياغة المفاهيم التي تمثل العالم والحياة والطبيعة، يقول: «أن الجمال بالنظر إلى أنه نمط معين لتظهير الحقيقة وتمثيلها، يعرض نفسه من كل جانب للفكر المفهومي، متى ما كان هذا الفكر يمتلك حقاً القدرة على صوغ المفاهيم»8.
يمثل الفن بالنسبة لهيجل تلك الوسيلة التي تبرز الوعي الشخصي للروح المطلق، لأنه يفترض التعيين الحقيقي الشخصي لها خارجاً من خلال تمثيلها بطريقة حسية، حيث يكون الفن موضوعاً للحقيقة باعتباره «يعقل ويمثل الوجود بوصفه حقيقياً في تظاهراته الظاهراتية، أي في توافقه مع مضمون متماسك تجاه ذاته، وله بذاته قيمته الذاتية، ليست حقيقة الفن إذن الصوابية المحضة البسيطة، وهو ما يقتصر عليه ما يسمى بمحاكاة الطبيعة، بل على الفن لكيلا يكون حقيقياً، أن يحقق التوافق بين الخارج والداخل»9. ومن هنا، نخلص مع هيجل إلى أن الحقيقة لا يمكنها أن تتماهى مع الطبيعة لأن هذه الأخيرة قاصرة على إدراك الموجودات البسيطة أو المعروفة مثل النجوم والكواكب وغيرها لأن لها خصوصيات ومميزات ذاتية محددة. كل هذا دفع هيجل إلى تبني رؤية أن جمال الفن بكل حيثياته وعناصره الواقعية وغير الواقعية أعظم من جمال الطبيعة وعناصرها الثابتة الجامدة قائلاً: «في وسعنا أن نؤكد على ما يخيل إلينا أن الجمال الفني بخلاف ما تزعمه تلك النظرة الدارجة من الجمال الطبيعي لأنه من نتاج الروح، فما دام الروح أسمى من الطبيعة، فإن سموه ينتقل بالضرورة إلى نتاجاته، وبالتالي إلى الفن»10.
إن مفهوم الجمال عند هيجل هو الذي يمثل الظاهر العيني للفكرة، وذلك بكونه لا يحتفظ الحسي والموضوعية فيه بأي حرية أو استقلال في الجمال بعينه، بمعنى أن الموضوعي هو الحقيقي الفعلي، وبالتالي هو العقلاني، حيث يصير الجميل هو الفكرة المفهومة التي تجسد الواقع، ولكن هذا الوجود الموضوعي الواقعي في حد ذاته لا تصبح له أية قيمة إلا إن كان يمثل ظهوراً للمفهوم «لأن الجميل هو المفهوم، والمفهوم يبثُّ النفس، يبث الوجود الحقيقي الذي يجسده”»11. فالجميل عند هيجل هو الشيء الحاصل في وجوده والذي يُكَوّن مفهومه الخاص متحققاً في ظاهريته، أي في وجوده الحقيقي الذاتي الظاهر للعيان، ومن هنا يمكننا القول إنه يحدد غايته الخارجية في ذاته وليس من نتاج شيء آخر غيره. في حين يكون الجمال الطبيعي جمالاً مجرداً لم يكن نتاجاً للوعي بالذات، أو أنه وُجد ليكون جميلاً محضاً، بل لأننا نراه جميلاً وندرك أهمية جماله بالنسبة إلينا وفق وعي خاص منا وإقرار منا بذلك.
الهوامش والمراجع:
[1] – يمكن الاطلاع على: روبير مطانيوس معوّض، “فلسفة هيغل الجمالية”، مجلة أوراق أدبية، العدد 7، بيروت، ربيع 2020.
[2] – سليمان السلطان، “فلسفة الفن والجمال عند هيغل”، موقع مجلة حكمة، مقال منشور بتاريخ: 8 يونيو 2016، رابط المقال: فلسفة الجمال والفن لدى هيجل.
[3] – انظر: ملة حكمة، الجمال عند هيغل: موسوعة ستانفورد للفلسفة، ترجمة: فراس حمدان، رابط المقال: الجمال عند هيجل.
[4] – جيرار جيهامي، موسوعة مصطلحات فلسفيّة عند العرب، مكتبة لبنان، ناشرون، بيروت، ط. 1، 1998م، ص. 201.
[5] – هيغل، المدخل إلى علم الجمال: فكرة الجمال، ترجمة: جورج طرابيشي، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، ط. 3، 1988م، ص. 165.
[6] – روبير مطانيوس معوّض، “فلسفة هيغل الجمالية”، المرجع السابق نفسه.
[7] – هيغل، المدخل إلى علم الجمال: فكرة الجمال، المرجع السابق، ص. 167.
[8] – المرجع السابق، ص. 164.
[9]- المرجع نفسه، ص. 252.
[10] – نفسه، ص. 252.
[11] – نفسه، ص. 183- 184.