بقي الشعر الإيروتيكي خلال التاريخ العربي حتى العصر الحديث رديفاً للذكورة، فحين نتذكر هذه الكلمة (إيروتيك) يتبادر إلى ذهننا ذلك الغزل الفاحش الذي تميز به شعراء عصر ما قبل الإسلام والعصر العباسي، على أنه غالباً ما كان يأتي في سياق موضوعات أخرى، فالجنس ليس أكثر من تابعٍ للغربة والفراق حيناً، و للخمر ومجالس اللهو حيناً آخر، أما القصائد التي تتحدث عن الجنس الخالص فأغلبها منحصرٌ في وصف المعشوقة و لحظة الجِماع، دون أن يأخذَ الإيروتيك امتداداً إنسانياً بعيداً عن الفجاجة أو السطحية.
والحالُ هذه نتساءلُ عن صوت الشاعرة العربية تجاه هذا الموضوع: الجنس، ولن يُفاجئنا انعدام هذا الصوت في تاريخ الشعر العربي لأسباب كثيرة معروفة، أما في العصر الحديث، فقد تناولت الشاعرات مسألة الرغبة بعد أن نزعن التابوهات وحطمن حواجز الخوف، لكن يبقى السؤال: كم عدد الشعراء والشاعرات الذين لا يشكِّلُ الإيروتيك مجرَّد عرَضٍ بل هاجساً تلتفُّ حوله سائر الأفكار والصور على امتداد تجربتهم الشعرية؟، نستطيع أن نعثر على أعمال كثيرة تتناول هذا الجانب في الشعر العربي، لكن ماذا عن الشعراء الذين شكل الإيروتيك لديهم طابعاً عُرفوا به؟ ففي الثقافات الأخرى، لا يصعب علينا تحديد أسماء مثل (سافو) و(بيليتيس) و(فروغ فرخ زاد)، حين نطرح التساؤل السابق.
في قصائد الشاعرة اللبنانية (جوزيه حلو)، لا يشكل الإيروتيك مجرد هاجس، بل هو مركز لانصهار سائر ما تكتبه، إذ تُخرج الشاعرة الإيروتيك من حيزه التقليدي والمُتداوَلِ لتجعله أكثر رحابة وعلوَّاً، فهو كائن حُرٌّ يُحاوَرُ ومرآةٌ لما يخفى من العالم، عن طريقه تُكتشف أسرار الكون ومن خلاله تتضح المعرفة وتُحلُّ عُقد الألم، هو لغةٌ داخل اللغة، وكَشفٌ للـ (أنا) ووللـ(آخر) (ولدتُ ملاكاً بلا أجنحة/ ممتلئ حوضي بالمنايا/ شوك الأصابع في رحمي/ كشوقِ الطيور للسموات/ يا أصابع الرغبات في الغربة)، (حِمم الأجسادِ وشهوة الأفاعي فيّ/ تعلو في ضياع الخلجات/ تغفو المواعيد على الرمال المالحة/ نساء غارقات في عواء الذئاب/ حليب الصباح ينساب على جسدي/ وتغتسل حنجرتي بك كل صباح/ لأبوح لك بعذابي ونهمي/ فيما جسدي يذوب بك/ أسفلك في أعلاي/ ويرقدُ ضجيج الفضيحة في فمي)*.
على امتداد التجربة الشعرية، تتنوع الهواجس عند بعض الشعراء: الحب، المنفى، الغربة، الوطن..إلخ، أما إذا كان الهاجس فكرة واحدة دائماً كما عند جوسيه فلا بُد من أن تنبع لغة مختلفة ومفاجئة، وحقول دلالية مُفَعَّلةٌ لصالح هذا الهاجس الأعلى، هكذا تتكرر في نصوص جوزيه مفردات "جسد" و "عري" و"رعشة" بمختلف دلالاتها (عابقٌ جسدُكَ بالضحى)، (داعبِ الجسدَ بالظلِّ ، باللهاثِ، بالخلل)، (جسدانِ يلتقيان ووركانِ يتَّسِعَان)، (رعشاتُ ثقوبٍ ترقصُ في الغرام)، (دَعْ رعشات الجسدِ تلتحم)، (أرتجفُ في رعشةٍ خانقةٍ لأنَّ السماءَ سوداء)، (أعرِّي الفراش بجسدي)، (جسدُكَ الملتصقُ في ذاكرتي يُغريني ويُعَرِّيني أمام المرآة)، (تُعَرِّينيْ في مناميْ وتنامُ بجانبي مع الغيوم).
لم يكن الشعر يوماً بعيداً عن اليقظة الإنسانية، لهذا فإن ثمة علاقة تربط بين هذا الهاجس والتركيز على موضوع واحد من الكون عند البوذيين أو ما يُسمَّى بـ(التأمُّل التركيزي)، بغية التوحد معه، وبالتالي إنكار الذات والوصول إلى مراتب وجودية أعلى، وحين حين يسيطر الهاجس الواحد على التجربة يغدو الخيال الشعري دائم الخصوبة، يستمر بإدهاشنا كلما تعمَّقَ في الفكرة المكثفة من الكون، أما اللغة الشعرية فإنها تأتي من أمكنة مجهولة، من هنا تفوَّقَت لغة محمد الماغوط بهاجسه: البحث عن الأمان، وأبو القاسم الشابي بهاجس الحرية، وعمر الخيام بهاجس الخمر والوجود، فهؤلاء كان هاجسهم ركناً أساساً من بصمتهم الشعرية، أما عند جوزيه حلو، فلا نستطيع التنبؤ باختلاجات اللغة، لأنها تقترب من الدفءِ والغموض الشفاف وهدوء النثر تارة، ومن الانطلاق والوضوح تارة أخرى، هي لغة ذات مستويات عدة لا يحددها سوى الصوت الداخلي والعفوي وهاجسها الدائم: الإيروتيك، ليس بصفته جنساً بل طريقاً مُقلقاً، مع مسافة غير مرئية تحرص على تركها بين القصيدة والقارئ، (تأتي بالصمتِ/ وتُغيّر لون جلدي/ وجهكَ الوسيم كوجه الآلهةِ اليونانية/ أنتَ شغفي/ وارتِعاشٌ في حنجرتي/ أنتَ آلهةُ "الآهِ" على الأرضِ/ دقائقُ وحيدةٌ نائمةٌ في عروقي/ بجمر قُبُلاتِكَ على أحمرِ شِفاهي/ تضمني)، (من عالمِ الموتى تنام الأجسادُ رطبةً بشهوةِ الأحياءِ/ عِشقٌ مفتوح الجُرحِ لرجلٍ يلهو بالنارِ وبالقُبُلات/ كُل النساء تموتُ وتحيا تحتَ الخصرِ/ لا تدمعي، حوضكِ مُرتفع فيه ضغطُ الدمِ / ليذوبَ الثلجُ في الأسفلِ/ حواءُ رحيق العِطرِ الأزلِ).
يمتزج الإيروتيك في قصائد الشاعرة بالشغف واللوعة والتوق إلى الاستمرار والحلم، ما يجعله أقرب إلى النشيد الوجودي الذي تنصهر فيه الفلسفة وتساؤلات الموت والحياة والأوطان (عابق جسدكَ بالضُحى/ فوق سريرك وثوب عُرسي/ غواية العشق منذ بداية الكون/ ومنذ هذا الفجر/ غداً تنهض للهجر/ وتنسى أسمي في الغسقِ/ أغلقِ الباب وراء موعدكَ/ عطر النساء ضياع الخليقة/ شفتاك بعمر الورد الأحمر/ مبللة بدموع الحلم المخطوف/ بهوس اللمسِ في أقصى المسامّات)، (ارمِ ثيابِكَ/ عُراةٌ خُلقنا من عرسٍ ودمٍ ودمع انتظار/ من خطر الموج الآخذ خطايا الأجساد بعيداً بعيداً/ مُتعباً من عشق النساء يُسيطر ولعي على شهواتِكَ/ يسحقني المدّ فأترك جسدي يغرق فيكَ/ الكون باهت يتلاشى في أحضانكَ/ لياليَّ همزة وصل بين حُلمكَ ويقظتي).
للأسباب السابقة مجتمعة، تُشكل تجربة جوزيه حلو علامة فارقة تستحق الدراسة، هي ليست تجربة مباشرة، كما أنها تتجنب بذكاء الوقوع في فخ البذخ اللغوي والتكرار الذي كثيراً ما يُغري كتاب شعر الإيروتيك العربي لا سيما الشاعرات، ولعل لاحتكاكها بالتجربة الشعرية في فرنسا حيث تقيم أثراً على ذلك، فتقاطع الثقافات، والهاجس الواحد، والحذف والاشتغال على اللغة جعل للشاعرة صوتها المُكرس والمختلف في الشعر الجديد.
* كافة المقاطع في هذا المقال مأخوذة من قصائد منشورة للشاعرة في موقع (مركز النور) الإلكتروني
- See more at: http://www.elaph.com/Web/Culture/2014/6/913832.html...
والحالُ هذه نتساءلُ عن صوت الشاعرة العربية تجاه هذا الموضوع: الجنس، ولن يُفاجئنا انعدام هذا الصوت في تاريخ الشعر العربي لأسباب كثيرة معروفة، أما في العصر الحديث، فقد تناولت الشاعرات مسألة الرغبة بعد أن نزعن التابوهات وحطمن حواجز الخوف، لكن يبقى السؤال: كم عدد الشعراء والشاعرات الذين لا يشكِّلُ الإيروتيك مجرَّد عرَضٍ بل هاجساً تلتفُّ حوله سائر الأفكار والصور على امتداد تجربتهم الشعرية؟، نستطيع أن نعثر على أعمال كثيرة تتناول هذا الجانب في الشعر العربي، لكن ماذا عن الشعراء الذين شكل الإيروتيك لديهم طابعاً عُرفوا به؟ ففي الثقافات الأخرى، لا يصعب علينا تحديد أسماء مثل (سافو) و(بيليتيس) و(فروغ فرخ زاد)، حين نطرح التساؤل السابق.
في قصائد الشاعرة اللبنانية (جوزيه حلو)، لا يشكل الإيروتيك مجرد هاجس، بل هو مركز لانصهار سائر ما تكتبه، إذ تُخرج الشاعرة الإيروتيك من حيزه التقليدي والمُتداوَلِ لتجعله أكثر رحابة وعلوَّاً، فهو كائن حُرٌّ يُحاوَرُ ومرآةٌ لما يخفى من العالم، عن طريقه تُكتشف أسرار الكون ومن خلاله تتضح المعرفة وتُحلُّ عُقد الألم، هو لغةٌ داخل اللغة، وكَشفٌ للـ (أنا) ووللـ(آخر) (ولدتُ ملاكاً بلا أجنحة/ ممتلئ حوضي بالمنايا/ شوك الأصابع في رحمي/ كشوقِ الطيور للسموات/ يا أصابع الرغبات في الغربة)، (حِمم الأجسادِ وشهوة الأفاعي فيّ/ تعلو في ضياع الخلجات/ تغفو المواعيد على الرمال المالحة/ نساء غارقات في عواء الذئاب/ حليب الصباح ينساب على جسدي/ وتغتسل حنجرتي بك كل صباح/ لأبوح لك بعذابي ونهمي/ فيما جسدي يذوب بك/ أسفلك في أعلاي/ ويرقدُ ضجيج الفضيحة في فمي)*.
على امتداد التجربة الشعرية، تتنوع الهواجس عند بعض الشعراء: الحب، المنفى، الغربة، الوطن..إلخ، أما إذا كان الهاجس فكرة واحدة دائماً كما عند جوسيه فلا بُد من أن تنبع لغة مختلفة ومفاجئة، وحقول دلالية مُفَعَّلةٌ لصالح هذا الهاجس الأعلى، هكذا تتكرر في نصوص جوزيه مفردات "جسد" و "عري" و"رعشة" بمختلف دلالاتها (عابقٌ جسدُكَ بالضحى)، (داعبِ الجسدَ بالظلِّ ، باللهاثِ، بالخلل)، (جسدانِ يلتقيان ووركانِ يتَّسِعَان)، (رعشاتُ ثقوبٍ ترقصُ في الغرام)، (دَعْ رعشات الجسدِ تلتحم)، (أرتجفُ في رعشةٍ خانقةٍ لأنَّ السماءَ سوداء)، (أعرِّي الفراش بجسدي)، (جسدُكَ الملتصقُ في ذاكرتي يُغريني ويُعَرِّيني أمام المرآة)، (تُعَرِّينيْ في مناميْ وتنامُ بجانبي مع الغيوم).
لم يكن الشعر يوماً بعيداً عن اليقظة الإنسانية، لهذا فإن ثمة علاقة تربط بين هذا الهاجس والتركيز على موضوع واحد من الكون عند البوذيين أو ما يُسمَّى بـ(التأمُّل التركيزي)، بغية التوحد معه، وبالتالي إنكار الذات والوصول إلى مراتب وجودية أعلى، وحين حين يسيطر الهاجس الواحد على التجربة يغدو الخيال الشعري دائم الخصوبة، يستمر بإدهاشنا كلما تعمَّقَ في الفكرة المكثفة من الكون، أما اللغة الشعرية فإنها تأتي من أمكنة مجهولة، من هنا تفوَّقَت لغة محمد الماغوط بهاجسه: البحث عن الأمان، وأبو القاسم الشابي بهاجس الحرية، وعمر الخيام بهاجس الخمر والوجود، فهؤلاء كان هاجسهم ركناً أساساً من بصمتهم الشعرية، أما عند جوزيه حلو، فلا نستطيع التنبؤ باختلاجات اللغة، لأنها تقترب من الدفءِ والغموض الشفاف وهدوء النثر تارة، ومن الانطلاق والوضوح تارة أخرى، هي لغة ذات مستويات عدة لا يحددها سوى الصوت الداخلي والعفوي وهاجسها الدائم: الإيروتيك، ليس بصفته جنساً بل طريقاً مُقلقاً، مع مسافة غير مرئية تحرص على تركها بين القصيدة والقارئ، (تأتي بالصمتِ/ وتُغيّر لون جلدي/ وجهكَ الوسيم كوجه الآلهةِ اليونانية/ أنتَ شغفي/ وارتِعاشٌ في حنجرتي/ أنتَ آلهةُ "الآهِ" على الأرضِ/ دقائقُ وحيدةٌ نائمةٌ في عروقي/ بجمر قُبُلاتِكَ على أحمرِ شِفاهي/ تضمني)، (من عالمِ الموتى تنام الأجسادُ رطبةً بشهوةِ الأحياءِ/ عِشقٌ مفتوح الجُرحِ لرجلٍ يلهو بالنارِ وبالقُبُلات/ كُل النساء تموتُ وتحيا تحتَ الخصرِ/ لا تدمعي، حوضكِ مُرتفع فيه ضغطُ الدمِ / ليذوبَ الثلجُ في الأسفلِ/ حواءُ رحيق العِطرِ الأزلِ).
يمتزج الإيروتيك في قصائد الشاعرة بالشغف واللوعة والتوق إلى الاستمرار والحلم، ما يجعله أقرب إلى النشيد الوجودي الذي تنصهر فيه الفلسفة وتساؤلات الموت والحياة والأوطان (عابق جسدكَ بالضُحى/ فوق سريرك وثوب عُرسي/ غواية العشق منذ بداية الكون/ ومنذ هذا الفجر/ غداً تنهض للهجر/ وتنسى أسمي في الغسقِ/ أغلقِ الباب وراء موعدكَ/ عطر النساء ضياع الخليقة/ شفتاك بعمر الورد الأحمر/ مبللة بدموع الحلم المخطوف/ بهوس اللمسِ في أقصى المسامّات)، (ارمِ ثيابِكَ/ عُراةٌ خُلقنا من عرسٍ ودمٍ ودمع انتظار/ من خطر الموج الآخذ خطايا الأجساد بعيداً بعيداً/ مُتعباً من عشق النساء يُسيطر ولعي على شهواتِكَ/ يسحقني المدّ فأترك جسدي يغرق فيكَ/ الكون باهت يتلاشى في أحضانكَ/ لياليَّ همزة وصل بين حُلمكَ ويقظتي).
للأسباب السابقة مجتمعة، تُشكل تجربة جوزيه حلو علامة فارقة تستحق الدراسة، هي ليست تجربة مباشرة، كما أنها تتجنب بذكاء الوقوع في فخ البذخ اللغوي والتكرار الذي كثيراً ما يُغري كتاب شعر الإيروتيك العربي لا سيما الشاعرات، ولعل لاحتكاكها بالتجربة الشعرية في فرنسا حيث تقيم أثراً على ذلك، فتقاطع الثقافات، والهاجس الواحد، والحذف والاشتغال على اللغة جعل للشاعرة صوتها المُكرس والمختلف في الشعر الجديد.
* كافة المقاطع في هذا المقال مأخوذة من قصائد منشورة للشاعرة في موقع (مركز النور) الإلكتروني
- See more at: http://www.elaph.com/Web/Culture/2014/6/913832.html...