الطريق كالح بتُرابه . الغبار مُعلقٌ في السماء والشمس رفيقة الأسى تلفظ فينا غضباً بلا مُبرر. بدأتُ يومي أصعد وأهبِط دون جدوى ولم أنجز إلا القليل . تصببتُ عرقاً وجفَّ حلقي . قلتُ لنفسي :
ـ هنالك مظلة تقي من الحر و تفوح من جوف المكان ضحكات مُجلجِلات .
قدْ استرِح بعضاً من الوقت ، فالمواعيد اللاحقة يمكنها أن تنتظر .
أسرعتُ الخُطى ، ودلفت إلى مكان كعشِ العصافير . وقلتُ بصوتٍ فاتر :
ـ السلام عليكم .. أرغبُ كوباً من الشاي الأحمر ، لو سمحتِ .
هَجَم لُطفُ حديثي على الجالسين وأربكهم. أحسستُ كأني غريبٌ قرأ أوراده مُقدمةً لصلاةٍ في الأفق وسط جمهرة لا تؤمن . هناءٌ ما بعده هناء .انتفض ضَجرُ الحاضرين من منامه العميق ينفثَ سُمه من العيون الناظرة.
ردوا التحية كردود الحاسوب من سماعة الهاتف .
الأرضُ مفروشة بالرمل الخشن . مغسولة بالماء . تتصاعد منها رطوبة لذيذة . قوائم خشبية من غليظ أفرُع الشجر، تتلوى صاعدة لتُمسِك بحصير السقف . فقد تَخيرتها يدٌ استهدفت الثمن البخس . المقاعد مُختلفة الأجناس والطباع والألوان . منخفضة هيَّ. صغيرة الحجم . لا تكفي الجالسين عليها إلا بمقدار أنها مراكز ثِقل . ربما هيَّ الراحة التي أطلُب دون شك .
لحظات وثبتتْ قدماي لتُوازِن جسدي الذي هبط على أحد المقاعد .
" شاي السِّت " له طعمٌ خاص .
لا نقش حناء يدي " السِّت " ولا حديثها الناعم المكسور بنغمات اللغة ولا الخارطة العُمرية للأجساد التي التفّتْ من حولها جلوساً يمكنها أن تُغيِّر مسار سهم نظري الرشيق الذي انطلق متلصصاً بين الجالسين جميعاً ليُرضي الشهوات التي تنـزُّ بالرغبات .
تلمستُ موضع محفظتي واستللتُ ورقة نقدٍ مُعتدلة القيمة و القوام . رآها الجميع فجَّف ألقْ قدومي وبهرجه .بَسَم أحد الجالسين :
ـ يا أخ .. ورقة نقدٍ تانية ، فهذه لا تكفي ! .
ثم أردف آخر :
ـ " لو سمحت " ..
وضحكوا جميعاً .
قلت :
ـ عفواً ..
أخرجت ورقة تفوح منها روائح الغنى و البَطر واستبدلت الأولى . عادني الوجدُ أني سأستريح آخر المطاف وعاد الجالسين سلطانُ التوجُسِ مني . فأنا قد أصبحتُ بما يكفي يداً عُليا من فوق أيديهم .هندامي أيضاً يوحي بذلك . لن أصفُ لكم الأعراق وحفرها في الأجساد التي انتظمت المكان ، فلستُ أنوي النظر إلى الأمر إلا من جاذبية الغنى و نقيضه الفقر . نتقارب جميعاً فيما مضى من عُمرنا إلا أني أكثرهم شباباً .
" السِّت " جميلةٌ بكل المقاييس . من فوق الجسد المجدول تأتي عيناها مَجْمرَ سِحر تكشفان بنورهما المكان ، وبمكرهما تنشُران الشراكْ . تُرسل النظرات شبقاً بسولوفانٍ أغلفة ناعمة وبسمة وغمازتين . انفرجت منها أسارير الساقين قليلاً عن الكهوف الغامضة ، وانطلقت الروائح التي لا تخطئها الأنوف ، لتنهار الحوائط المُحافظة عند لغة الظل و الضوء . يمتد الزمان فسحة خُرافية بلا أسقُف . فكل أمر سينقضي لاحقاً دون شك ، .. فلِمَ العجلة ! .
قلتُ لنفسي :
ـ هذا المكان يُريح الأهواء و يُرضي الغرائز !.
" كلب السِّت " كما كانوا يسمونه عاد للمكان وجلس جوارها . عيناه تقدحان غَيْرة و شرراً . كنتُ قد حسبته عابر طريق مثلنا ، ولكنني اكتشفتْ مكانته عند انقطاع الضحك و انقطاع أصوات الغنج من طرفٍ "طري العود " في مجلسنا . فقد كانت " السِّت " تُحبِب المكان للذكورة المحرومة من كل شيء ، أو للذئاب البشرية التي تَشْتَم روائح الصيد من بعيد ، حين جاءت كلها تستريح وتستأنس وتشرب الشاي الأحمر وتستمتِع بالنظر : " لشاي التلفزيون " ! .
بوجود " كلب السِّت " تسلل الجميع فُرادى وبقيتُ أنا و " السِّت " وكلبُها .
شرِبتُ الشاي الأحمر بالنعناع وأنا أتلذذ من برودة المكان تمسحُ بدني . جفَّ العَرق . فرغ الكوب ولم تزل الأبخرة مُتصاعدة منه ! .قلتُ بصوتٍ هادئ خفيض :
ـ شاي تاني لو سمحتِ ؟
حدَّث " كلبُ السِّت " نفسه مُتَهكِماً :
ـ " لو سمحتِ " !!. هذا الرقيق الناعم ليس منه خوف ...
انتصب هو قائماً وخرج و خَلَوْنَا بأنفسنا ....
زحزح العصرُ شمس الظهيرة قليلاً إلى الغرب ليُخفف حُمّتها . جلس الزمان ينتظرني وأنا غارق في بحور اللذة من شاطئها الضحل إلى مواضع الزواحف الخطِرة .
مَنْ مِثلنا ؟!.
مشينا رملَ السواحلِ كُلها جرياً وراء الرغبات وقاطرة البُخار عندي تنفُث بُخارها الحار ، تتحدى القاطرة البُخارية من وراء حُجب التاريخ و عظمة الإمبراطورية التي غَرُبت شمسها ولم تَغرُب شمسي . يا لفرحتي بالصدفة التي قَدِمَتْ بلا موعد لتنتشلني من لهب الشمس الحارقة إلى لهبٍ لا شمس فيه !. ناره تُشْعل الحرائق في الروح وفي الجسد . منْ لم يَمُت بحرِّها ... مات بغيره . تذوقنا العسل و وَخز إبر النَّحل . تَضاحكت مُهجتينا حتى الثمالة وكدنا نبلُغ القمم .
رجع " كلب السِّت " . لا غَيرة ولا شرر يتطاير من العيون !. حمدتُ الله على النـزوة المأمونة ونسيتُ وِزرها !. قُمتُ من مكاني مُودعاً كالهامس . خرجتُ لتلفحني الشمسُ المُنكسرة قبل الغروب. نظرت الأمكنة حولي لأتذكر نُقطة حضور الشهوة وموقعها على سطح الكُرة الأرضية وانطلقت .
عبد الله الشقليني
10/05/2009 م
ـ هنالك مظلة تقي من الحر و تفوح من جوف المكان ضحكات مُجلجِلات .
قدْ استرِح بعضاً من الوقت ، فالمواعيد اللاحقة يمكنها أن تنتظر .
أسرعتُ الخُطى ، ودلفت إلى مكان كعشِ العصافير . وقلتُ بصوتٍ فاتر :
ـ السلام عليكم .. أرغبُ كوباً من الشاي الأحمر ، لو سمحتِ .
هَجَم لُطفُ حديثي على الجالسين وأربكهم. أحسستُ كأني غريبٌ قرأ أوراده مُقدمةً لصلاةٍ في الأفق وسط جمهرة لا تؤمن . هناءٌ ما بعده هناء .انتفض ضَجرُ الحاضرين من منامه العميق ينفثَ سُمه من العيون الناظرة.
ردوا التحية كردود الحاسوب من سماعة الهاتف .
الأرضُ مفروشة بالرمل الخشن . مغسولة بالماء . تتصاعد منها رطوبة لذيذة . قوائم خشبية من غليظ أفرُع الشجر، تتلوى صاعدة لتُمسِك بحصير السقف . فقد تَخيرتها يدٌ استهدفت الثمن البخس . المقاعد مُختلفة الأجناس والطباع والألوان . منخفضة هيَّ. صغيرة الحجم . لا تكفي الجالسين عليها إلا بمقدار أنها مراكز ثِقل . ربما هيَّ الراحة التي أطلُب دون شك .
لحظات وثبتتْ قدماي لتُوازِن جسدي الذي هبط على أحد المقاعد .
" شاي السِّت " له طعمٌ خاص .
لا نقش حناء يدي " السِّت " ولا حديثها الناعم المكسور بنغمات اللغة ولا الخارطة العُمرية للأجساد التي التفّتْ من حولها جلوساً يمكنها أن تُغيِّر مسار سهم نظري الرشيق الذي انطلق متلصصاً بين الجالسين جميعاً ليُرضي الشهوات التي تنـزُّ بالرغبات .
تلمستُ موضع محفظتي واستللتُ ورقة نقدٍ مُعتدلة القيمة و القوام . رآها الجميع فجَّف ألقْ قدومي وبهرجه .بَسَم أحد الجالسين :
ـ يا أخ .. ورقة نقدٍ تانية ، فهذه لا تكفي ! .
ثم أردف آخر :
ـ " لو سمحت " ..
وضحكوا جميعاً .
قلت :
ـ عفواً ..
أخرجت ورقة تفوح منها روائح الغنى و البَطر واستبدلت الأولى . عادني الوجدُ أني سأستريح آخر المطاف وعاد الجالسين سلطانُ التوجُسِ مني . فأنا قد أصبحتُ بما يكفي يداً عُليا من فوق أيديهم .هندامي أيضاً يوحي بذلك . لن أصفُ لكم الأعراق وحفرها في الأجساد التي انتظمت المكان ، فلستُ أنوي النظر إلى الأمر إلا من جاذبية الغنى و نقيضه الفقر . نتقارب جميعاً فيما مضى من عُمرنا إلا أني أكثرهم شباباً .
" السِّت " جميلةٌ بكل المقاييس . من فوق الجسد المجدول تأتي عيناها مَجْمرَ سِحر تكشفان بنورهما المكان ، وبمكرهما تنشُران الشراكْ . تُرسل النظرات شبقاً بسولوفانٍ أغلفة ناعمة وبسمة وغمازتين . انفرجت منها أسارير الساقين قليلاً عن الكهوف الغامضة ، وانطلقت الروائح التي لا تخطئها الأنوف ، لتنهار الحوائط المُحافظة عند لغة الظل و الضوء . يمتد الزمان فسحة خُرافية بلا أسقُف . فكل أمر سينقضي لاحقاً دون شك ، .. فلِمَ العجلة ! .
قلتُ لنفسي :
ـ هذا المكان يُريح الأهواء و يُرضي الغرائز !.
" كلب السِّت " كما كانوا يسمونه عاد للمكان وجلس جوارها . عيناه تقدحان غَيْرة و شرراً . كنتُ قد حسبته عابر طريق مثلنا ، ولكنني اكتشفتْ مكانته عند انقطاع الضحك و انقطاع أصوات الغنج من طرفٍ "طري العود " في مجلسنا . فقد كانت " السِّت " تُحبِب المكان للذكورة المحرومة من كل شيء ، أو للذئاب البشرية التي تَشْتَم روائح الصيد من بعيد ، حين جاءت كلها تستريح وتستأنس وتشرب الشاي الأحمر وتستمتِع بالنظر : " لشاي التلفزيون " ! .
بوجود " كلب السِّت " تسلل الجميع فُرادى وبقيتُ أنا و " السِّت " وكلبُها .
شرِبتُ الشاي الأحمر بالنعناع وأنا أتلذذ من برودة المكان تمسحُ بدني . جفَّ العَرق . فرغ الكوب ولم تزل الأبخرة مُتصاعدة منه ! .قلتُ بصوتٍ هادئ خفيض :
ـ شاي تاني لو سمحتِ ؟
حدَّث " كلبُ السِّت " نفسه مُتَهكِماً :
ـ " لو سمحتِ " !!. هذا الرقيق الناعم ليس منه خوف ...
انتصب هو قائماً وخرج و خَلَوْنَا بأنفسنا ....
زحزح العصرُ شمس الظهيرة قليلاً إلى الغرب ليُخفف حُمّتها . جلس الزمان ينتظرني وأنا غارق في بحور اللذة من شاطئها الضحل إلى مواضع الزواحف الخطِرة .
مَنْ مِثلنا ؟!.
مشينا رملَ السواحلِ كُلها جرياً وراء الرغبات وقاطرة البُخار عندي تنفُث بُخارها الحار ، تتحدى القاطرة البُخارية من وراء حُجب التاريخ و عظمة الإمبراطورية التي غَرُبت شمسها ولم تَغرُب شمسي . يا لفرحتي بالصدفة التي قَدِمَتْ بلا موعد لتنتشلني من لهب الشمس الحارقة إلى لهبٍ لا شمس فيه !. ناره تُشْعل الحرائق في الروح وفي الجسد . منْ لم يَمُت بحرِّها ... مات بغيره . تذوقنا العسل و وَخز إبر النَّحل . تَضاحكت مُهجتينا حتى الثمالة وكدنا نبلُغ القمم .
رجع " كلب السِّت " . لا غَيرة ولا شرر يتطاير من العيون !. حمدتُ الله على النـزوة المأمونة ونسيتُ وِزرها !. قُمتُ من مكاني مُودعاً كالهامس . خرجتُ لتلفحني الشمسُ المُنكسرة قبل الغروب. نظرت الأمكنة حولي لأتذكر نُقطة حضور الشهوة وموقعها على سطح الكُرة الأرضية وانطلقت .
عبد الله الشقليني
10/05/2009 م