ناجي ظاهر - هكذا تتحول الومضة الى قصة قصيرة جدًا... تجربة شخصية في كتابة نوع ادبي جديد ورائد

تعتبر القصة القصيرة جدًا بالنسبة لي رؤية اجتماعية ثقافية جمالية قائمة بحد ذاتها، لها ابعادُها الخاصة بها، وتستمد وجودها من كونها ومضة تضيء عالمًا ما كنا نراه رأي العين لو انه بقي رهن الظلام ولم يُقيّض له كاتب يلتقطه ويقدمه إلى قرائه. هذه الومضة او الاضاءة تبدأ شعاعًا ثم تظهر رويدًا رويدًا ما في اعماقها من ثراء.. وتنتهي بعد ذلك إلى نهاية مفاجئة تحاول ان تضع قارئها في حالة من الاكتشاف المصحوب بالذهول، وهذه النهاية من ناحية ما تختلف عن نهاية القصة القصيرة اختلافًا كليًا، ولعلّي اقوم هنا بمقارنة خاصة بين القصة القصيرة والقصة القصيرة جدًا، وذلك ايضاحًا لما اود قوله عن القصة القصيرة جدًا، ففي حين تبدأ القصة القصيرة بداية تهيء الجو لما سيأتي بعدها، ثم تنتقل إلى لحظة التأزم والتعقّد، وبعدها إلى لحظة التنوير او الذروة، فان القصة القصيرة جدًا تعتبر ومضة تنير ناحية معتمة كانت ستبقى رهن واقعها المعتم لو لم يتيسر لها كاتبٌ ذو نظرة ثاقبة ليقدمها إلى نفسه اولًا وإلى قارئه ثانيًا. هذه الومضة تختصر عالمًا من المشاعر والرؤى وتنتهى نهايةً مفاجئة تحاول أن تضع القارئ في حالة من الذهول والاكتشاف.
القصة القصيرة جدًا لديّ بهذا، لا تستمد وجودها من كونها قصة قصيرة جدًا من الناحية الشكلية، وانما من الناحية المضمونية، لهذا قد تتراوح المساحة الكلامية لهذه القصة بين الاسطر المعدودة وبين الصفحة وحتى الصفحتين، واشدد أن هذه القصة عادةً ما تسعى لأن تضع قارئها في حالة اكتشاف ودهشة، لهذا هي تقوم على التركيز والتكثيف، ولا تسعى بأي حال إلى الاطناب والاسترسال، وإنما تسعى بالعكس من هذا الى التفاعل مع الايماضة التي تسببت في وجودها وتقديمها بالتالي وكأنما هي مساحة واسعة من الكلمات المحشورة في كبسولة صغيرة، لهذا اقول إن القصة القصيرة جدًا لا تتحمل كثرة الكلمات او الثرثرة، ويحاول كاتبها أن يضيف بعد كتابته لأي كلمة اضافية فيها إلى الكلمة السابقة، وهذا يعني ان حذفنا لأي كلمة من هذه القصة قد يؤثر على بنائها العام وقد يبلبل قارئها فلا يتمكّن من الغوص في متاهاتها والتغلغل إلى ما وراء كلماتها تمام الغوص.. وتمام التغلغل ايضًا. اما نهايتها فان ازالتها قد تتسبب بانهيار مبناها ومعناها في آن، الامر الذي يفقدها سببية وجودها ويجعلها مجرد كلام ناقص ولا ينقل رسالةً كاملة متكاملة.
واضح من هذا ان القصة القصيرة جدًا تنطلق، في مفهومها المعمق، من رؤية للوجود والاشياء، وهي من هذه الناحية تتقاطع مع القصة القصيرة التي تسعى في مفهومها المعمق ايضا لإثارة احساس واحد او انطباع واحد لدى قارئها، مع فارق جدي سبق واشرنا إليه هو ان القصة القصيرة ترمي في العادة لإثارة دهشة قارئها خاصة عبر انتهائها المفاجئ.
القصة القصيرة جدًا بهذا المفهوم تقترب جدًا من الشعرية التي لا بد منها في اي عمل ابداعي يريد أن يكون وأن يحقق وجوده لدى القارئ الجاد، بل انها تسعى عبر ارتباطها الشديد بالتركيز والتكثيف، إلى اجواء شعرية تُقرّبها من الشعر وتربطها به، لتصبح العلاقة بينها وبين الشعر علاقة طردية.
لقد حرصت في كل ما انتجته من قصص قصيرة جدًا، اضافةً إلى ما سبق والمحت اليه بالطبع، على عدد من الامور اشير فيما يلي الى اهمها:
أ‌- ان تكون القصة التي اكتبها حاملةً طاقة شعرية خاصة تعمق القول القصصي وتقدمه بأبهى حالاته إلى قارئي العزيز، وذلك عبر بطل قصصي قد يكون الكاتب ذاته، وقد يكون راويًا خاصًا وقع الاختيار عليه عمدا ليروي القصة عبر رؤية خاصة بعيدة عن شخصية الكاتب/ صاحبها، وهو هنا انا الكاتب. واؤكد ان هذه الشعرية لا تكون في العادة مجانية كما نلاحظها لدى الكثيرين ممن يكتبون القصة القصيرة جدًا في فترتنا الراهنة تحديدًا وفي فترات سابقة عامة، وانما هي تنبع من اعماق الرؤية القصصية التي لا بد منها عندما نُقبل على كتابة هذا النوع العصيّ من الكتابة القصصية الجديدة نسبيًا، اذ معروف ان تاريخ القصة القصيرة جدًا لا يتجاوز العشرات القليلة من السنوات، وهذه الماحة اضع تحتها اكثر من خط يُبرزها ليعيد قراءتها مرارًا وتكرارًا من يريد ان يكتب قصة قصيرة ناجحة وتلقى القبول لدى الجادين من القراء.
ب‌- القارئ المتمعن لما سبق وانتجته في مجال القصص القصيرة جدًا سيلاحظ انني حرصت في معظم ما كتبته، إن لم يكن فيه كله، على ان اخرج عالمًا ساكنًا عن سكونه، في محاولة مني لإنطاق السكون، وتحريك الدهشة عبر النهاية المفاجئة والقائمة على ما سبق وانطقته من صمت، ولنأخذ "قصة حب" من مجموعتي "نبتة رصيف- 75 قصة قصيرة جدًا من الناصرة"، مثالًا، فهذه القصة تحكي عن فتاة تخاطب محبوبها قائلة إنها متأكدة من أنه لن يكون لها، وأنها لن ترتبط به ولن تنجب له ولدًا يذهب الى البستان فأول فثان.. وتنتهي القصة نهاية مفاجئة جدًا ومثيرة للدهشة والتساؤل.. هذه النهاية تقول بصريح العبارة" مع هذا اشعر بانجذاب شديد اليك".
ت‌- ما احرص عليه هنا كما قد يلاحظ القارئ الكريم، يمكنني من الانتقال إلى أمر آخر احرص عليه كل الحرص، هو ذلك التوجه الاجتماعي الجمالي في ما انتجته في هذا اللون من القصص، فقد انطلقت من رؤية اجتماعية، تطرح في جوهرها بعضًا من الثيمات الواقعية، بالضبط كما فعلت في كل ما سبق وانتجته في مجال القصة القصيرة والرواية، وقد تجلى هذا تمام التجلي في تعيين العديد من الرواة للعديد من القصص، إضافة إلى انا الكاتب، وانا لم افعل هذا عبثًا ومجانًا، وانما فعلته عن وعي وانطلاقًا من رؤية خاصة تثق بالإنسان وترى فيه طاقةً هائلةً على التغيير. هذه الرؤية تقول إن المشكلة الاجتماعية هي الاهم في وجودنا، واننا إذا ما تقدّمنا اجتماعيًا فان التقدم، بما فيه الانجاز السياسي، سيكون تحصيلَ حاصلٍ وامرًا لا بد منه طال الزمان او قصر.
كما قلت آنفا فان تاريخ القصة القصيرة جدًا في عالمنا لا يتجاوز العشرات من السنين، إلى الوراء، وانه واحدة من اهم لغات العصر واشدها تعبيرًا عن رغبات الانسان المعاصر واحباطاته في تحقيق السعادة التي نشدها الانسان على هذه الارض.. منذ كان عليها. لهذا يحزنني ذلك الفقر الفكري الذي يتعامل مع هذا النوع الرائع من القص، على انه نوعٌ شكليّ، لا يوجد له اي بعد رؤيوي. مع انه ينطلق من رؤيا شاملة للوجود هي في حقيقتها أبعد ما تكون عن التسطيح الذي يحيط بهم ويدفعهم للاستخفاف بما يكتب وينشر من قصص قصيرة جدًا تمتلك قوة وجودها من رؤيتها الخاصة القائمة على مفهوم عميق للحياة واشيائها.. وليس على عدد محدود من الكلمات المقتطعة من هذه القصة او تلك، او المجموعة بطريقة عشوائية.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...