حنا عبود - (البلاغة من الابتهال إلى العولمة)... أبو العبر وتحطيمُ البلاغة

* أبو العبر وتحطيمُ البلاغة:
العبث بين الغيظ وصناعة الفرح
لم يكن أبو العبر صانع فرح. صانع الفرح يتخذ أسلوبا آخر، لا يتحرش بالناس على الشكل الذي فعله أبو العبر. صناعة الفرح تكون بالغناء والموسيقى والرقص. . . تكون بالدخول في عالم جميل حتى ننسى العالم الذي نحن فيه. الفن وحده يصنع الفرح، فعندما ندخل في لوحة أو قطعة موسيقى أو دبكة أو رقصة أو أغنية، فإننا نخرج من العالم الذي نحن فيه، عالم أمواج من المصائب والآلام والعثرات والخيانات، عالم الحياة اليومية.
لم يكن أبو العبر يدخل في هذا العالم الجميل، كان يدخل ويدخلنا في عالم الغيظ، كان يغيظ أبناء عصره بسخريته منهم. كان يحتقر البشرية، ويقول كلمته بغض النظر عمن يكون أمامه، خليفة أو أحد أبناء الشعب. وفي القصة التالية ما يدل على شجاعة أبي العبر وتطاوله بلسانه على المسئولين: لما بلغ إسحاق بن إبراهيم الطاهري ما فيه أبو العبر من الخلاعة والمجانة وإظهار الحماقة أمر بحبسه، فكتب إليه ورقة يذكر فيها أنه تائب، ويسأله أن يخرجه من الحبس حتى يعلمه بأنه يعرف رقية العقرب فيعلمه إياها. وأنه ليس في الدنيا مثلها.فأحضره وقال له: هات علِّمنا رقيتك. قال: على أن توثق أنك لا تعرض لي بعدها. فوثق له بذلك. فقال له: إذا رأيت العقرب فتناول النعل واضربها ضربة شديدة فإنها لا تعود تتحرك.
كان يسير في الدرب المعاكس لصناعة الفرح، كان يسير في الطريق المعاكس للبلاغة العربية، التي كانت تعمل بدأب على تزييف الحقيقة، وتعويم المستبدين، والدعوة للمعقدين وتستر عورات البشرية. . . أما أبو العبر فكان يذكّر البشرية بكذبها ونفاقها وكيد بعضها لبعضها الآخر، وكان يلح أكثر ما يلح على الغباء البشري المتجلي في البلاغة الموروثة، سواء ظهر من أبيه أو من غير أبيه. وكان خبيرا بعيوب الناس والمطاعن التي يجعلها من أدوات سخريته ومن وسائل تحقيق مآربه. جاء في كتاب الحصري القيرواني "جمع الجواهر في الملح والنوادر":
"ولما استقرت الخلافة للمعتز بالله شخص إليه أبو العبر من ولد عبد الصمد بن علي فهنأه بالخلافة وتعرض لصلته بالجد، وهجا المستعين كما فعل البحتري في قصيدته التي أولها:
يجانبنا في الحبّ من لا نجانبه
ويبعد منّا في الهوى من نقاربه
فلم يقبل عليها، فعمل أبو العبر قصيدة مزدوجة كلها هزل من غير تقويم ولا إعراب منها قوله:
أيا أحمد الرقيع، ومن أكلك الرجيع، أتنسى من كان، نصيرك قهرمان، فيأتيك بالسويق، من السوق والدقيق، فصرت الآن في الدار، على رتبة البزار، أما تعلم يا فار، بأن الله يختار، ويعطي غيرك الملك، عزيزاً يركب الفلك.
وفيها ما لا يذكر من حماقات واختلال، وبرد وانحلال، وكلام مرذول، غث مهزول؛ فضحك المعتز منها، وأمر له بألف دينار، فألح على جعفر بن محمود الإسكافي في الاقتضاء، وهو حينئذ وزير المعتز، فألط عليه. فقال له جعفر: عهدي ببني هاشم يأخذون الصلات بشرفهم وعلومهم وجدهم، وأنت تأخذ بالمحال والهزل؛ فأنت عجيب من بينهم !! فقال أبو العبر: صدقت أنا عجيب من بينهم، كما أنت عجيب في أهل إسكاف، كلهم نواصب وأنت من بينهم رافضي، وكان جعفر ينسب إلى ذلك. ثم أنشد أبو العبر قول جميل:
بثينة قالت يا جميل أربتنا
فقلت كلانا يا بثين مريب
وأريَبُنا من لا يؤدّي أمانةً
ومن لا يفي بالعهد حين يغيب
فدفع إليه الألف دينار، واستعفاه أن يعاود مثل هذا"
كان ظريفا من الظرفاء، ولكنه لم يكن مهرجا على النمط الغربي الذي يلازم البلاط، ويكون رهن الإشارة، وتكون إشاراته واعية بحيث لا تغيظ الملك أو أصحاب السلطة الذين يرضى عنهم الملك. وبالتالي يكون سليط اللسان على الذين يغضب عليهم الملك، ولو كانوا من القادة أو الوزراء. كما أنه لم يكن ماجنا من المجان المشهورين في العصر العباسي، أما المعتقدات الغيبية فلم يظهر له موقف منها، وهي التي كان يسخر منها بعض المندفعين في العصر العباسي، وفي عهد المأمون بشكل خاص. ربما كانت هذه الجوانب هي التي تبرز خصوصية أبي العبر. كل ما يمكن قوله إنه كان مستهترا بالبلاغة الإنسانية، ويراها سخفا وباطلا، يخفي طيلسانها الجميل كومة من عظام الموتى.
في الخمسين انتقل من "أبي العباس الهاشمي" إلى "أبي العبر" فقط وحذف لقب الهاشمي، وهو لقب مجز وعظيم في تلك الأيام. والعبر في هذه الكنية هي العيوب التي يتصيدها الرجل من الناس والملوك. ومنذ أن صارت كنيته أبا العبر لم يغير سلوكه ولا ربط لسانه بكلمة جادة، ولا ترك "اللغة" التي كان يتقنها جيدا من قبل، لأنه عثر فيها على كل عيوب البشر، واعتقد أنه بتغيير اللغة يمكن أن يغير البشر أنفسهم. ولهذا كان يعمد إلى طريقة تمزيق اللغة، وخلق لغة جديدة كل الجدة، عسى أن تنشأ بلاغة جديدة بعيدة عن الزيف والبهتان. وكما سبق وأشرنا، كان يتسقط لغة الدهماء والرعاع والعامة، عسى أن يجد فيها أداة أرقى من اللغة التي يتعاطاها الرسميون، ولكنه لم يجد فيها ما يريد، فكان يكتبها ثم يقسم الصفحات ويعيد توزيع الأقسام بحيث لا يبقى قسم في مكانه، فتخرج لغة جديدة فعلا، ولكن لا جدوى لها في تربية الناس من جديد.
قلما نجد في التاريخ العالمي شخصية مثل شخصية أبي العبر. كان قبل الخمسين بشخصية، ثم صار بعد الخمسين بشخصية أخرى مناقضة لها، وظل محافظا عليها حتى مات. أدرك في الخمسين (عقد النضج والوعي) مدى تفاهة العمل البشري الأناني. كان يعرف أن معظم الأعمال البشرية ما هي إلا اعتداء على الآخر، فانقلب ذلك الانقلاب الكبير، لذلك كان ينصح: إذا حدثك إنسان بحديث لا تشتهي أن تسمعه فاشتغل عنه بنتف إبطك، حتى يكون هو في عمل وأنت في عمل. إنه يمارس العبث في كل شيء.
ظل أبو العبر محتفظا بشخصيته العابثة بعد الخمسين حتى مات. كل ما قاله كان يثير الغيظ في نفوس الناس. وإذا ضحك خليفة، فإنما يضحك من غيظ الآخرين. كان أبو العبر لا يكتفي بالإغاظة بل أيضا كان يخيف الناس ويهددهم، فينال مرتجاه. ومع ذلك كان في إغاظته شيء من الظرف. وكانت اللغة سبيله إلى ذلك. كتب مرة إلى صديق له هذه اللغة: ما قبل فأحكم بنيانك على الرمل، واحبس الماء في الهواء، حتى يغرق الناس من العطش، فإنك إن فعلت ذلك أمرت لك كل يوم بسبعة آلاف درهم ينقص كل درهم سبعة دوانيق.
وذات مرة أرخ اليوم الذي هو فيه فكتب: "يوم إلا تسعا لخمس وأربعين ليلة خلت من شهر ربيع الأوسط سنة عشرين إلا مائتين"
وباعتباره من الأسرة الهاشمية فقد كان له ختم يمهر به ما يستلم من عوائد تقدمها له السلطة. لم يكتب اسمه الحقيقي على الختم، بل كتب عليه: "توفي جحا يوم الأربعاء". وصار يستخدم هذا الختم متباهيا، كأن بقية الأختام مبتذلة.
شخصية مثل هذه الشخصية تكون في العادة عرضة للتأليف، فتستهوي الكثيرين ممن يحبون الطرائف دون الولوج في الأعماق. ولذلك كنا نجد العديد من الروايات المختلفة حول حادثة واحدة، وكل رواية تعرضها من وجهة نظر راويها. لا شك أن اختلاف الروايات لا ينفي الواقعة. المهم هو الهدف الذي نريد الوصول إليه اعتمادا على وقائع أبي العبر. وهناك أحيانا روايات متناقضة، لا بد من التريث قليلا عندها لحشد مسوغات الرفض أو القبول. فقد روى عنها الرواة ما لم يحدث لها، بل رووا عنها أحيانا أشياء متناقضة.
من ذلك موت أبي العبر نفسه. روى الحصري القيرواني في كتابه "جمع الجواهر في الملح والنوادر" ما يلي: "مرض رجل فجاء أبو العبر يعوده وقد ثقل، فصاحت امرأته؛ من لي بعدك يا سيدي ؟ فغمزها أبو العبر وأومأ إليها أنا لك بعده، فلما مات الرجل وانقضت عدتها تزوجها أبو العبر، فأقامت عنده حيناً؛ ثم حضرت أبا العبر الوفاة، فجاء عواده؛ فصاحت من لي بعدك يا سيدي؟ ففتح عينيه وقال: لا يغمزها إلا من تكون أمه زانية". أما في كتاب "أشعار أولاد الخلفاء وأخبارهم" للصولي، فهناك رواية أخرى ترى أن سبب موته يعود إلى مخالفته البلاغة العربية الممالئة، فقد كان أبو العبر معارضا لكل تيارات البلاغة العربية، ومنهم التيار العباسي وتيار آل البيت. وقد سمعه أحد الكوفيين يسخر من البلاغة العربية في آل البيت فاستحل دمه وقتله في بعض الآجام وعرقه فيها (أي قطعه إربا).
في كتاب "كيف نسوس حياتنا بعد الخمسين" لسلامة موسى، يقترح المؤلف على من ناف على الخمسين أن تكون لديه قضية مفيدة للجنس البشري، أو لوطنه، أو لشعبه، يعمل من أجلها، فيضحي ببعض وقته وماله لأجل هذه القضية. فـ "الاهتمام" هو أفضل طريقة للخلاص من برودة الشيخوخة، لأنه يدفع إلى اتخاذ خطط هجومية تشعر المرء بوجوده، وتبعد عنه الشعور بالعجز.
وقد اتبع أبو العبر نصيحة سلامة موسى، قبل أن يولد سلامة موسى بثلاثة عشر قرنا، فجعل همه تحطيم البلاغة البشرية، لأنها تغطي الزيف وتفرض الموروث وتحمي المتسلطين وتجعل الغباء أداة للتفكير الإنساني. . . ونعتقد أنه أمضى شيخوخة مليئة بالإثارة، أبعدت عنه الملل ودفعته إلى العمل لإنجاز مهمته في تحطيم البلاغة البشرية المزيفة. ويكون قد سبق مشاريع الكتاب المحدثين في هذا العصر.
لكن الفرق بين أبي العبر وسلامة موسى هو أن الأول لم يكن متفائلا بجدارة العنصر البشري. إن البشرية التي ابتكرت هذه البلاغة الزائفة لا تصلح للوجود، بينما يؤمن سلامة موسى بالبشرية ويتوهم أنها فطرت على الخير، وفي مقدروها أن تصنع فردوسها بيديها.
كل ما يمكن تأكيده أن أبا العبر بعد الخمسين من عمره، كان يدرك ماذا يفعل، ويعي ذلك وعيا كاملا.

***

* أبو العبر وتحطيمُ البلاغة:
ممارسة العبث
بعد الانقلاب الحاسم في حياة أبي العبر، أي بعد أن تخلى عن كنية "أبو العباس" واتخذ "أبو العبر" لم نجد له موقفا جادا. وقد عرف بالعبث حتى اشتهر عنه. وعندما انتقد الآمدي قول أبي تمام يمدح الواثق بعد مبايعته بالخلافة:
جعل الخلافة فيه رب قوله
سبحانه للشيء كن فيكون
قال: لأن مثل هذا إنما يقال في الأمر العجب الذي لم يكن يقدر ولا يتوقع ولا يظن إنه مثله يكون، فيقال إذا وقع ذلك قدرة قادرة واحد وفعل من لا يعجزه أمر، وتلك واحد، ومن يقول للشيء كن فيكون، فأما الأمور التي لا يتعجب منها ولا تستغرب، والعادات جارية بها وبما أشبهها فلا يقال فيها مثل هذا، وإنما يسبح الله تبارك وتعالى وتذكر قدرته على تكوين الأشياء، لو جاءوا بأبي العبر أو بجحا فجعلوه خليفة. فأما الواثق فما وجه تسبيح أبي تمام؟
يريد الآمدي أن صعود أبي العبر إلى الخلافة هو الذي يحتاج إلى معجزة ربانية تقول للشيء كن فيكون حتى يقبل به خليفة، وليس الواثق الذي جاءته الخلافة بحكم طبيعة الأمور والظروف الجارية العادية. وقد صدق الآمدي، فمن المعجز فعلا أن يصل إلى العرش من يرفض بلاغة "العصر"، أي بلاغة السلطة.
هذا الموقف الشامل لم يكن موقفا لفظيا مثل كثير من العبثيين قديما وحديثا، بل كان ممارسة حقيقية. كان كامو وسارتر وسيمون دي بوفوار وجورج شحاده وصموئيل بيكيت ويوجين يونسكو وسواهم يدعون إلى مواجهة الحياة بالنزعة العبثية، فما دام الموت أمام الإنسان فلا حاجة إلى النزعة الجادة، التي تزيد آلام الحياة. ولكنهم في تصرفهم كانوا مثل غيرهم تماما، في الملبس والمسكن والمشرب والمأكل وسلوك العادات المتبعة. أبو العبر وحده كان يمارس العبث في كل شيء، وأمام جميع الناس: من الحمالين حتى الخلفاء. لم يكن معارضا لبلاغة البشر معارضة لفظية، ثم ينساق معها في سلوكه. كان معارضا حقيقيا.
وقد بدأ يمارس العبث منذ أن اختار كنيته وجعلها أبو العبر. وأبو العبر تدليل من صاحبه أن العبر هي في مواجهة الحياة بالعبث، ولن تجد له موقفا إلا يكون عابثا فيه حتى مع نفسه.
سأله ثعلب مرة: الظبي معرفة أو نكرة؟ فأجابه: إن كان مشويا على المائدة فمعرفة، وإن كان في الصحراء فهو نكرة. فقال له ثعلب: ما في الدنيا أعرف منك بالنحو.
كان يضمر حقدا على اللغة، فهي التي جاءت إلى البشرية بكل هذه المصائب من أوامر وقوانين وفروض واستبداد، وهي التي قمعت الموجود باسم الغائب، وإذا لم يسيطر الإنسان على اللغة ويجعلها قادرة على خلق العلاقة الجيدة، صارت سببا لكل المشاكل البشرية. . . كان يتحين الفرص للسخرية من اللغة، التي صنعت بلاغة العصر.
قدم أبو العبر بغداد في أيام المستعين وجلس للناس فبعث إسحق بن إبراهيم فأخذه وحبسه فصاح في الحبس لي نصيحة فأخرج ودعا به إسحق فقال هات نصيحتك قال على أن تؤمنني قال نعم، فقال الكشكية لا تطيب إلا بالكشك. فضحك إسحق وقال هو فيما أرى مجنون فقال لا هو امتخط حوت قال أيش هو امتخط حوت؟ ففهم ما قاله وتبسم ثم قال أظن أني فيك مأثوم، قال لا ولكنك في ماء بصل فقال أخرجوه عني إلى لعنة الله ولا يقيم ببغداد فأرده إلى الحبس، فعاد إلى سر من رأى.
فهو يستغل كلمة مجنون ويفككها مثل ديريدا فيجعلها مج: بمعنى مخط، ونون: بمعنى حوت. ويستغل كلمة مأثوم (خاطئ) فيجعلها ماء ثوم ثم يأتي مقابلها بماء البصل.
وكان يعبث بالناس الذين يسألونه كيف يجيء بهذه اللغة الغريبة فيقول: أبكر، فأجلس على الجسر، ومعي دواة ودرج ، فأكتب كل شيء أسمعه من كلام الذاهب الجائي والملاحين والمكارين، حتى أملأ الدرج من الوجهين، ثم أقطعه عرضاً وطولاً وألصقه مخالفاً، فيجيء منه كلام ليس في الدنيا أحمق منه.
ومثل هذه الممارسة يقوم بها اليوم بعض الكتاب الثوريين الذين ضجوا من ضغط اللغة المعتادة، فراحوا يثورون عليها بتشويهها. فأبو العبر يدير ظهره للغة الرسمية، لأنها مصدر كل الشرور، وينصت للغة الحياة اليومية، ويستخدمها، ولكن بحسب طريقته العبثية، كأنه يريد أن يقنع الناس أنهم في غنى عن اللغة التي كانت الأداة التي صيغت بها كل ألوان التضليل والقمع والاستبداد.
كان يدرك أن اللغة سبب كل هذه المشاكل في الحياة، ولكن موقفه لم يكن مقتصرا على اللغة بل امتد إلى كل الأشياء. روى أحدهم: رأيت أبا العبر واقفاً على بعض آجام سر من رأى، وبيده اليسرى قوس جلاهق ، وعلى يده اليمنى باشق، وعلى رأسه قطعة رثة في حبل مشدود بأنشوطة، وهو عريان، في ذكره شعر مفتول مشدود فيه شص قد ألقاه في الماء للسمك، وعلى شفته دوشاب ملطخ، فقلت له: خرب بيتك، أيش هذا العمل؟ فقال: أصطاد يا كشخان يا أحمق بجميع جوارحي، إذا مر بي طائر رميته عن القوس، وإن سقط قريباً مني أرسلت إليه الباشق، والرثة التي على رأسي يجيء الحدأ ليأخذها فيقع في الوهق والدوشاب أصطاد به الذباب، وأجعله في الشص، فيطلبه السمك، ويقع فيه، والشص في قضيبي، فإذا مرت به السمكة أحسست بها، فأخرجتها.
لا أحد يصدق هذه الرواية الموضوعة وضعا. ولكن واضعها كان يرسم صورة واقعية لنفسية أبي العبر العبثية. فلم يكن موقف العبث نابعا من ظروف طارئة أو عابرة، ولا من حرب كالحرب العالمية الأولى التي جاءتنا بعبثية الدادائية ولغة السيريالية. . . وإنما من قناعة الرجل بعد أن وصل إلى الخمسين من عمره وخبر الحياة في جميع أشكالها وألوانها، وقد أتاحت له هاشميته دخول قصور الخلفاء والمتنفذين، فكان يعرف أسرار الطبقة العليا، كما كان يعرف حياة الناس العاديين.
ولكن هذه الممارسة كانت تجر عليه المذلة، فقد سمع به المتوكل، وصار كلما سكر وأراد أن يتسلى طلب أن يقذف أبو العبر بالمنجنيق، أو يرمى في البحيرة الكبيرة المشهورة، ثم يصاد كما يصاد السمك. تقول إحدى الروايات إن المتوكل كان يرمي به في المنجنيق إلى الماء وعليه قميص حرير فإذا علا في الهواء صاح: الطريق الطريق، ثم يقع في الماء فتخرجه السباح. وكان المتوكل يجلسه على الزلاقة فينحدر فيها حتى يقع في البركة ثم يطرح الشبكة فيخرجه كما يخرج السمك، وفي ذلك يقول:
ويأمر بي الملك
فيطرحني في البرك
ويصطادني بالشبك
كأني من السمك
ويضحك كك كك ككك
كك كك كك كك ككك
كان لا بد ممن سار في هذه الطريق أن يستدعيه المتوكل، وأن يتسلى بالطريقة التي يراها.

***

* أبو العبر وتحطيمُ البلاغة
الانقلاب الواعي
الانقلاب في الخمسين من العمر ليس انقلابا عشوائيا، ولا انجرافا وراء تيار بعينه، وإنما هو انقلاب واع تماما. فالرجل يمارس قناعة على ما يبدو. ولا تقنعنا الأسباب التي تقول إنه مال إلى العبث طلبا للمال، لأنه لم يكن بحاجته إلى هذه الدرجة. إن ما نرجحه أنه انقلب بعد خبرة طويلة للحياة، وبعد أن رأى أن معالجة الواقع معالجة صحيحة أمر يستحيل على البشر، كل البشر، بمثل هذه البلاغة المشحونة بالزيف والبهتان والنفاق البشري. لم يبق أمامه سوى طريق واحد، هو أن يحطم البلاغة القائمة التي تحميها السلطة من جهة، وتؤيدها الدهماء من جهة أخرى. إنه أفضل طريق لحل كل المشاكل والصعوبات. هذا هو الشعب المصري الذي ذاق الكثير من الاستبداد، عبر آلاف السنين، لم يجد سوى النكتة حلا لما هو فيه، فترى الفلاح يعود مجهدا، ولا يجد في المنزل ما يكفي سكانه من الطعام، ومع ذلك يتبسط مع أهله ومع الناس بالفكاهة والتنكيت، وقد ظهر العدد الكثير في مصر من أمثال أبي العبر ، كمحمد بن مهران الدفاف.
إن موقف العبث الذي اتخذه أبو العبر وهو في الخمسين من عمره لم يكن موقفا واعيا فحسب، بل كان موقفا شاملا، لكل بلاغة العصر، من الأسرة والفرد حتى التاج والعرش، أي يشمل أناس ذلك العصر كلهم. فقد كان معاديا للسلطة الرسمية ولسلطة الدهماء معا.
بدأ بنفسه فسخر من كنيته حيث راح يضيف إليها في كل عام حرفا. ففي الخمسين اتخذ "أبو العبر" بدلا من "أبو العباس" ولما توفي كانت كنيته: أبو العبر طرد طيل طليري بك بك بك. فأرخ بذلك لعام وفاته قتلا أيام المتوكل. فلو استبدلنا الحروف بالسنوات، وأضفنا سنة إلى أول سنة سمّى نفسه فيها أبا العبر (وكان في الخمسين من عمره) لعرفنا أنه توفي وهو في السابعة والستين.
لقد سبق زعيم الدادائية ترستيان تزارا في هذه الناحية، لأنه لم يكن يعمل بالمصادفة ويفتح القاموس حتى يختار، مثل تزارا، بل عمد إلى تعاطي العبثية بأعلى درجاتها، أي تعاطاها بوعي كامل. لم يكن يختار مذهبا ويحار في التسمية فيستنجد بالمعجم، مثل تزارا، بل كان يسخر من كنيته العباسية قاصدا متعمدا. ولا نظن أنه عمد إلى ذلك طلبا للمال.
وقصصه مع أبيه تبين أنه كان يتخذ موقف العبث عن قناعة وبنظرة شمولية واسعة لا تستثني أحدا لا أباه ولا الخليفة نفسه. إنه موقف أراد منه تحطيم البلاغة البليدة الغبية، وليس الانحياز لأي طرف.
سأل بعض الأصحاب أباه عن سبب هجره ابنه؟ فقال: فضحني بما يفعله بنفسه، ثم لا يرضى بذلك، حتى يهجنني ويؤذيني، ويضحك الناس مني، فقالوا له: وأي شيء من ذلك؟ وبماذا هجنك؟ قال: اجتاز علي منذ أيام ومعه سلّم، فقلت له: ولأي شيء هذا معك؟ فأجابني: أقسم أني لن أقول لك لماذا السلّم، فأضحك بي كل من كان عندي، فلما أن كان بعد أيام اجتاز بي ومعه سمكة، فسألته: إيش تعمل بهذه؟ فقال: أفترعها وأستولدها، فحلفت بعدها ألا أكلمه أبدا.

***

* حنا عبود - (البلاغة من الابتهال إلى العولمة) ـ تتمة:

* أبو العبر وتحطيمُ البلاغة
التحول المفاجئ
قد يتحول المرء من مزاج إلى مزاج، أو من ظروف إلى ظروف بيئية جديدة فيتأقلم معها، أما أن يبلغ المرء الخمسين من عمره، ثم ينقلب انقلابا مغايرا لكل المسار الذي كان يتخذه، فإن هذا لا يحدث بالمصادفة، ولا نتيجة مزاج طارئ. ليس هذا وحسب بل إن الرجل الذي قام بهذا ينتمي إلى أصل عريق وأسرة عربية تعود إلى جدها عبد الله بن العباس. إنه أبو العباس الهاشمي، أي من سلالة العباسيين، الأسرة الحاكمة، التي صنعت لنفسها بلاغتها الخاصة.
نسب الرجل: أبو العباس بن محمد بن أحمد (وهو أبوه الذي كانوا يلقبونه بحمدون الحامض) بن عبد الله بن عبد الصمد بن علي بن عبد الله بن العباس. ولد قبل وفاة الرشيد بخمس سنوات وعاش إلى أن قتل في خلافة المتوكل، بسبب خرقه للبلاغة المقدسة. هذا الرجل قام بتغيير اتجاه حياته كلها، فبعد أن كان جادا إلى أبعد ما تكون الجدية، صار هازلا ساخرا، لم يتفوق عليه المشهورون في هذا الميدان من أمثال الفضل بن هاشم ومحمد بن الحكيم الكنبجي وأبي العجل الماجن ومحمد بن مهران الدفاف. . . الخ
حدث هذا التغير أو الانقلاب في الخمسين من العمر، وظهر التحول عليه فجأة دون مقدمات، أو الانتقال التدريجي، فرفض أن ينادوه "أبا العباس" واختار كنية جديدة وهي "أبو العبر" فكأنه في موقف رافض لنسبه الذي هو نسب الدولة العباسية، بل إنه نسب يساعده في تمكين وضعه لدى السلطة العباسية. وعلى مدار التاريخ البشري، كان الذين يحملون اسم عائلة الحاكم، حتى لو كان اسما مزيفا، يتمتعون بمراكز راقية، بالإضافة إلى أنهم يستغلون هذا الاسم في تيسير أمورهم في وظائف الدولة. أبو العبر رفض النسب ورفض الكنية (وكان يكنى بأبي العباس) ورفض الانتماء، في دولة كلها تقوم على الانتماء. واتخاذه كنية جديدة هي "أبو العبر" لم يكن عبثا، ففي "العبر" ما يقنعنا بأن التحول إنما كان بسبب ما رآه في الحياة من عبث وسخف، من أدنى المستويات إلى أعلاها. وقصد من "العبر" كل ما يستهزئ بالسلوك البشري ويسخر من بلاغته الزائفة، التي يفرضها على الدهماء، التي إن اعتنقتها شكلت درعا منيعا للسلطة.
روى أبو العنبس الصيمري أنه قال لأبي العبر في دار المتوكل: ويحك إيش يحملك على هذا السخف الذي قد ملأت به الأرض خطبا وشعرا، وأنت أديب ظريف مليح الشعر؟ فقال: يا كشخان أتريد أن أكسد أنا وتنفق أنت؟ وأيضاً أتتكلم؟ تركت العلم وصنعت في الرقاعة نيفاً وثلاثين كتاباً؟ أحب أن تخبرني لو نفق العقل أكنت تقدم على البحتري، وقد قال في الخليفة بالأمس:
عَنْ أَيِّ ثَغْرٍ تَبْتَسمْ
وَبِأَيَّ طَرْفٍ تَحْتَكِمْ
حسن يضنّ بحسنه
والحسن أشبه بالكرم
أفديه من ظلم الوشا
ة وإن أساء وإن ظلم
فلما خرجت أنت عليه وقلت:
فِي أَيِّ سَلْحٍ تَرْتطَمْ
وَبِأَيِّ كَفٍّ تَلْتَطِمْ
أَدْخَلْتُ رَأْسَكَ فِي الرَّحِمْ
وَعَلِمْتُ أَنَّكَ تَنْهَزِمْ
فأعطيت الجائزة وحرم، وقرّبت وأبعد. في حرّ أمك وحرّ أم كل عاقل معك. فتركته وانصرفت.
والصيمري الذي يروي هذه الواقعة هو من القضاة المشهورين، ولكنه لم يكن صاحب شعر جيد، فلما ألقى البحتري قصيدته الشهيرة : عن أي ثغر تبتسم، ولاقت قبولا عند المتوكل، عمد الصيمري إلى ارتجال قصيدة هازلة ضد البحتري معارضا، فضحك المتوكل وأمر له بالجائزة وحرم منها البحتري. وهذا يدل أن الطريق العابث الذي اختاره أبو العبر لم يكن محصورا فيه، بل كان شائعا في أوساط المثقفين والشعراء، ولكن بطريقة تخصص بها أبو العبر وحده، لم يشركه فيها أحد.
فأبو العبر يختلف كل الاختلاف عن بقية الشعراء، فمثل هذا الانقلاب الذي حدث معه، عن وعي كامل، لم نجده إلا عند القلة القليلة من الشعراء. فقد كان بشار بن برد يقول الشعر الفخم، ويقول أيضا الشعر الشعبي القريب من العامي من حيث اللغة، وكان يقول الشعر الجاد والشعر الهازل في الوقت نفسه. ليس في حياته مرحلتان: جادة وهازلة مثلما كان لأبي العبر. أبو العبر انتقل انتقالا كاملا من الجد إلى الهزل. ومتى؟ في الخمسين من عمره.
كثرت تفسيرات هذا الانقلاب. فأبوه يقول إن ابنه كسب بالحمق أضعاف ما كسبه كل شاعر كان في عصره بالجد ونفق نفاقا عظيما، وكسب في أيام المتوكل مالا جليلا، وله فيه أشعار حميدة يمدحه بها، ويصف قصره وبرج الحمام والبركة، كثيرة المحال، مفرطة السقوط لا معنى لذكرها، سيما وقد شهرت في الناس. وفي إحدى المرات استنكر أحدهم على الخليفة أن يسمح لأبي العبر (وهو المنتمي إلى ما ينتمي إليه الخليفة نفسه) بالتشهير به وبعشيرته، فضلا عن أهله والأدنين وقال: إنه والله عر بني آدم جميعا، أفلا يردعه ويمنعه من سوء اختياره؟ فأجابه أحدهم: ليس بجاهل كما تعتقد، وإنما يتجاهل، وإن له لأدبا صالحا، وشعرا طيبا، كقوله:
لا أَقُولُ اللهُ يَظْلِمُنِي
كَيْفَ أَشْكو غَيْرَ مُتَّهَمِ
وَإذا ما الدَهْرُ ضَعْضَعَنِي
لَمْ تِجدْنِي كافِرَ النِّعَمِ
قَنَعَتْ نَفْسِي بِما رزُقِتْ
وَتَناهَتْ فِي الْعُلا هِمَمِي
لَيْس لِي مالٌ سِوَى كَرِمِي
وَبِهِ أَمْنِي مِنَ الْعَدَمِ
فقال ويحك فلم لا يلزم هذا وشبهه؟ فيرد: والله يا عم لو رأيت ما يصل إليه بهذه الحماقات لعذرته، فإن ما استملحت له لم ينفق.
فالغرض الذي جعل أبا العبر يهجر الشعر الجاد إلى الشعر الهازل هو الحصول على المال حسب هذه الروايات. ولكن أبا العبر، بنسبه الذي هو نسب الدولة، ضامن لحياته، لأنه نسب يدر عليه ما يغنيه عن هذا المطلب الطموح. كان بنو العباس ينالون من خزينة الدولة ما يجعلهم يعيشون حياة واسعة. فقد كانت لهم أرزاق توزع عليهم، من ملكية منقولة أو ثابتة. وذات مرة رفع كتابا لموسى بن عبد الملك بأرزاقه وأرزاق جماعة من أهله ليوقع فيه ويختمه، فدافعه به موسى مدة، فوقف له يوما لما ركب أنشده:
موسى إلى كم تتبرّد
وكم وكم تتردّد
موسى أجزني كتابي
بحقّ ربّك الأسود
يشير إلى محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي، الذي كانت الإمامية تعتبره إمام وقته، فجزع موسى وسأله كتم ما كان عليه ومعاودته.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...