1-
طه حسين : "ارْم نظّارتيْكَ ما أنت أعْمَى/إنّما هُمْ جَوْقَةُ العُمْيان". لأنَّكَ تخَطَّيْتَ بقُوَّة القَلْب المحابِسَ الثّلاثةَ الرَّهيبةَ لِلفقر والجهل والعَمَى، وعوَّضْتَ البصَرَ الكفيفَ بالرّوح الشَّفيف، وجعَلْتَ من الحروف المسْموعَة في دَخيلَتِكَ طعاماً ومِنْ رَنين الكلمات موئِلاً ومُقاماً، وقَفَزْتَ بِقَدَرِكَ الشَّخْصيّ عالياً خارجَ جُبَّة الأزْهَريّ الّذي كنْتَ سَتَبْقاهُ لوْلا قَلْبِكَ الوقّاد الّذي عبَرَ بكَ البحْرَ، وآزَرَكَ في عُزْلاتِ الـَّحْصيل المعرفيّ الطَّويلة، وهَداكَ إلى رفيقَتِكَ سوزان الّتي مَرّرَتْ إليْكَ أضْواءَ العالم واللُّغاتِ منْ خلال عَيْنَيْها، مِمَّا أعادَكَ إلى مَصر مُكْتمِلَ العُدَّة والجرأة لتَرُجَّ المؤسَّسات الأكاديميَّة والدّينيّة بكتابِكَ -الحَدَث "في الشّعْر الجاهليّ"، ولتَنْتَصِرَ للإبداع في زَمن الاتّباع، وللعَقْل أمام جبروت النَّقْل، ولتُضيءَ أبا العلاء، هذا الثّائر الآخر الكبير، في السِجْن المُزْدَوج لِعَماهُ وعَمَى عَصْرِه عنْ قامَته، ولتَجْعَلَ منْ دراساتك ورواياتِكَ وأحاديثكَ الإذاعيَّة ومواقفِكَ أرضَ مُواجَهات مفْتوحَة معَ كُلّ حُرّاس الدُّوغمائيَّة والتَّحَجُّر والارتزاق حدَّ أنّكَ لمْ تجِدْ، وأنْتَ وزير للمعارف، ما تَدْفَعُ به ضرائبكَ فطلبْتَ مُهْلَةً منْ وزارة المالية ريثما تتوصّلُ بعائدات كُتُبِك... لأنَّكَ كُنْتَ كُلَّ ذلك، وكُنْتَ ما ستكون وأنْتَ آت نحونا من المُستقبل، أقول لكَ، ببعْض التّصرُّف، ما قاله لكَ الشّاعر الكبير نزار قباني حين رثاكَ بـ "حوار ثوريّ" معكَ في الذّكرى الأولى لرَحيلكَ إلى ما وراء ليْل العالَم :
ضَوءُ عيْنَيْكَ أمْ هُما نجمتان. . . . . . . .جُلُّهُم لا يرى وأنْتَ تراني إرْمِ نَظّارتيْكَ ما أنْتَ أعْمى. . . . . . . . إنَّما هُمْ جَوْقَةُالعُمْيان
2- رامبو : "المَحبَّةُ هي مفتاح الوليمة القديمة".
يأتي نَحونا باستِمرار لأنَّه سهْرةُ الحَرْف وعيدُ الرُّؤيا... فهذا الشّابُّ الأبَدِيُّ، ذو الَوَجْه "الأندروجيني" والنَّظرة البروميثيوسيَّة، الّذي نادَتْهُ الأرض آرثور رامبو وسمّاه مالارمي الكبير "العابِر الهائل بِنَعْلَيْن من ريح"، أنْهى فَرْضَه الشِّعريّ باكراً في أوروبا القديمة وصَفَّق البابَ ورَحل، تارِكاً وراءهُ - على حَدّ تعبير رينيه شار - "شوارعَ الكُسالى ومقاهي المُسْتأدِبين ودَبيب النَّمل الصّادِر عن عائلتِه المَجْنونَة قليلاً..."... غاَدَرَ جِبالَ الأرْدين "ذاتَ الثُّلوج المَبْهورة" إلى هَجير الحَبَشَة، وتِجارة الصُّموغ والقَهوة، ومُجاوَرَة البُسَطاء الّذين ظَلَّ دائِماً، بِروحِه النَّقِيَّة، واحِداً مِنهُم، دونَ أنْ يُدْرِكَ، بلامُبالاتِه الطُّفوليَّة، أنَّه فَرَكَ أُذُنَي العالَم، وأنَّ نُصوص "فصل في الجَحيم" و"الإشراقات" سَتُحْدِثُ، لاحِقاً، زِلْزالاً في الأرْضِ الشِّعريَّة شبيهاً، في الدَّرَجة والمَدى، بِرَجَّةِ حَجَرٍ نيْزَكِيٍّ قديمٍ آتٍ بكُلّ قُوَّةٍ وشُموخ من التَّضاريس البَعيدةِ لِلَّيْل الكَونيّ. لا يهُمُّ أنَّه عادَ، بعْدَ سنواتٍ من الكَدْح الأرْضيّ في المَجاهِل الأفريقيّة، منْخوراً بالغنغرينا ومَحْمولاً على مِحَفَّةٍ إلى المَشْفى المَرسيليّ حيْثُ سيُغْمِضُ عَيْنَيْه الشّاسِعَتيْن نهائِيّاً "لِيَبْحَثَ في المَوْت عنْ أُمِّه الحقيقيَّة"، كما سيكتُب عنْهُ هنري ميلر، لأنَّ أُمَّه العُضْوِيَّة لَمْ تَرَ فيه طيلة مُقامِه الشَّقيّ معها سوى طائشٍ أرْعَن لا يُرْجَى مِنْهُ أَيُّ خَيْر. ذلك يُتْمُهُ اللاّمَحدود والمَعْنى الأعْمَق لِهرَبِه عَبْر الخَرائط بَحْثاً عن "المَحَبَّة الّتي هي مِفتاحُ الوليمَةِ القَديمَة"، هُو الّذي كتبَ في "الإشراقات"، وكأنّه يُشيرُ إلى ظِلّه الشّامخ"... إنَّنا لَنسْتَرْجِعُه نَحْوَنا ويُسافر.. لكِنَّه لَنْ يذْهَب... لأنَّ الأمْرَ قَدْ تَمَّ بكوْنِهِ مَوْجوداً وكَوْنِه محبوباً... فلْنَعْرِفْ في هذا اللّيْل الشّتويّ، مِنْ لسان بَحْر إلى لسانِ بَحْر، مِن القُطْب الصّاخِب إلى القَصْر، مِن الجُمْهور إلى الشّاطئ، مِنْ نَظَراتٍ إلى نَظَراتٍ، بقوىً ومَشاعِر مُرْهِقة، أنْ نُنادِيَهُ مِنْ بعيدٍ، وأنْ نراهُ، وأنْ نَعْكِسَهُ، وتَحْتَ طبقات المَدّ والجَزْر وفي أعْلى صحارى الثَّلْج، أنْ نَتْبَعَ أبْصارَهُ وأنْفاسَهُ وجَسَدَهُ ويَوْمَه"...
3- أمبادوقليس : الحنين الجارف إلى الأعماق. ذات صَباح أو ذاتَ مساء منْ سنة 430 قبل الميلاد، أقْدَمَ أمبادوقليس، الشّاعر والفيْلسوف اليونانيّ، صاحبُ نظريّة العناصر الأربَعَة المُكَوّنة للوُجود (الماء والهواء والتّراب والنّار) ومَبْدأَي الحُبّ والكراهيّة اللّذيْن يتنازعان تسْيير البَشَر والعالَم، على إلْقاء نَفْسه في فوهَة بُرْكان "إثنا"، بعْدما ترَكَ صندَلَه على حافّته. وتَمَثَّلت الدَّوافعُ العميقةُ لهذه الارتماءة الكُبْرى في يأسه منْ شَعْبه، ورَغْبَته في إنْجاز مَوت شخْصيّ حُرّ، وحَنينه الجارف - وهذا هُوَ الدّافع الوجدانيّ الحاسم - إلى الاتّحاد بأعْماق الأرض الزّاخرة. غيْرَ أنَّ ارتماءَتَه الشّعائريّة هذه لم تَخْترق أحشاء البُركان الشّهير فحسب، بلْ عبَرَتْ ليْل القرون إلى أن التقطها هولدرلين، الشاعر الألمانيّ المُنيف، وأفرَدَ لها نصّاً شعريّاً مسْرَحيّاً في مُستوى عُمقها المَهيب بعنوان "مَوت أمبادوقليس"، كمَا اسْتعادَها في قصيدَة جوْهَريّة أُخْرى مُهداة إلى نفْس الاسم الملحَميّ، تماهى فيهما معاً، بتواطُؤ حدوديّ ، مَعَ الفيْلَسوف الكبير، مُناديّاً إيّاه ب"المَيت الجَسور"، ومُتَمنّياً أن يَتْبعَ "البطَلَ إلى الأعماق" لوْلا أنّ الحُبّ كان يَمْنَعُه (كان لا يزالُ في بيْت حبيبته سوزيت غونتار).
4- يوكيو ميشيما : الموت كنَشيد أنشاد. لا تنْفَكُّ الكلماتُ والصُّور الشّعائريّة لـ"يوكيو ميشيما"، الرّوائيّ اليابانيّ المَهيب، تُضَمِّخُ الزَّمن بعِطرِها الجارف والوارف. لا تنْفَكُّ قامَتُه الرّمزيّةُ تتسامَقُ وتَعْبُرُ أرْخبيلات الأرَق الخَصيب، هُو الّذي أبْدَع ثلاثيةَ "بحْر الخِصْب" حيْثُ شبَّه نفْسَه ب "ملاكٍ ساقِطٍ فَقَدَ مكانَه في العالَم"، وأطَلَّ في "اعترافات قناع" على تمَزُّقاتِه الكبيرة الدّاخليّة ، واجْترَح في مَجموعتِه القَصَصِيّة "الموت في الصَّيْف" نشيدَ أنْشاد المَوْت الطُّقوسيّ. لكِنَّ ما يُشِعُّ أكثَر، في قلب ليلته الكبيرة اللاّنهائيّة، هو الفيلم القصير "يوكوكو: طُقوس الحُبّ والمَوت " الّذي أخرَجَه بنَفْسِه سنة 1966 وأدّى فيه، هو وممثّلة يابانيّة جميلة، دَوْرَيْ عاشِقَيْن قرّرا ـ بعْدَما هالَهُما الانْحِدار الرّمزيّ لِبَلَدهِما - أنْ ينْتَحِرا بطريقة الهاراكيري الشّهيرة، وهُوما نَفَّذاه بِعُمْقٍ وشَغَفٍ، وكأنّهُما يُقيمان حفْلَ عُرْسٍ نهائيّ لنْ تُنيرهُ شَمْسُ اليوم الموالي، فيما كانتْ تُصاحِبُهُما في الخَلْفِيّة موسيقى ريتشارد فاغنر. كلُّ ميشيما، بوجودِيّتِه المُشْتَعِلة وشَهوانِيّتِه البِدائيّة ورأْفَتِه ماوراء البَشَريّة، مُتَحَقّقٌ في هذا الفيلم- الوصيّة، حيْثُ كلُّ لَقْطةٍ زاخِرَةٌ بما لا يُقاس من الرّسائل المَضْفورة بالحُبّ كقرينٍ عالٍ للمَوت، ما دامَ العاشقان مُتَورّطين معاً في ميثاقٍ جِذْريّ مُتَشَرَّبٍ روحانِيّاً. ويبْقى أنّ هذا الشريط المذهل كان اسْتِباقاً واسْتِشرافاً لما سيُقْدِمُ عليه ميشيما فعلاً بعْد أرْبَع سنوات (في25 نونبر1970)، حيْثُ انْتَحَر بالطّريقة نَفْسِها ولِلأسباب العميقة نَفْسِها الواردة في الفيلم القصير المَديد المسافات الجوّانيّة...
5- آنّا أخماتوفا : "منذ رأيتَني في الحُلُم تعذّر عليّ النّوم أمكنَ لـ"آنا أخماتوفا"، ولَوْ بألَم فادح، أنْ تجْترحَ أُعجوبَتَها الإبداعيَّة الخصيبَة في قَلَب الجليد السّيبيريّ الوحْشيّ. فالأعاجيب هي دائماً ثمار آلام حُدوديَّة مبرّحة. أمْكنَها أنْ تًحوّلَ كيانها الفَخْم والهَشّ إلى روح شاهقة أنْجزتْ قَفْزَتها الجبّارة خارج جبال الأورال القاسية، وأنْ تنْفَلتَ، كوَرْدة برّيّة عنيدَة، منْ بيْن صُدوع الزَّمن الحديديّ السّتالينيّ، الّذي لا تَخْتَلفُ عنْهُ أزْمنَتُنا الفولاذيْةُ الرّاهنةُ سوى في الشَّكْل، وليْسَ في الفصيلة المُتَجَسّسة المُرَوّعة (حيْثُ لم تعُد الجاسوسيّةُ وَقْفاً على الدّولة، بلْ صارتْ طبيعَةً ثانيةً لغالبية المُجْتَمع المُتَجسّس بعضه على بعْض). غيْرَ أنَّهُ بمُقْتضى القانون العميق، الّذي سَطَّرَتْه أخماتوفا ومثيلاتُها وأمثالُها، بمُسْتطاع ورْدَة برّيّة يتيمة واحدة أنْ تُنْهيَ قَدَريَّةَ الصَّحراء، كما بمَقْدور الحُلُم أنْ ينْهيَ قَدريَّةَ الفراق. ألَمْ تَكتُبْ "آنّا" لحبيبها هذه الأبْيات - البرْقيَّة العميقة : " أنْتَ رأيْتَني في الحُلُمْ أعْرفُ هذا ومُنْذُئذ تَعَذَّر عَلَيَّ النَّوْمْ. . ."
6- ستظَلُّ ثقتُنا عاليةً في المغارات وقَلْبها الغنائيّ العَظيم. أمام انطفاء التّاريخ، وانكفاء الواقع، وانغلاق المُجتمع، وبَوار السّياسة، وإفلاس أنْظِمة الحُكْم العرَبيَّة، وتَغَوُّل الرَّقابة، وأمام تهافُت أشباه المُثَقَّفين، وتكالُب أشْباه الفَنّانين، ووَقاحة "بلاطِجة" الرّيع، وانْتِصاراً لروُح الأعْماق (الّتي تَكْنِسُ في النّهاية كُلَّ الرّداءات والاسْتِبْدادات والنَّذالات)، سَتَظَلُّ ثِقَتُنا عالِيَةً في المغارات وقَلْبِها الغِنائِيّ العَظيم... 7- برْقِية إلى فرجينيا وولف : " يا فرجينيا العالية ،
كانتْ ساعاتُ هذا المَساء شَرِسَةً. كأنَّها مَحْفوفَةٌ بِصُخورٍ قيامِية قاسِية. حالةٌ مِنْ حالات المَنْفى الأكبَر. وفَتَحْتُ كُتُبَكِ. فتَحْتُ "الأمواج"، و"غُرْفَة تَخُصُّ المَرء"، و"المُذَكّرات". خُصوصاً "المُذكّرات" المَكتوبة بكُلّ ذّرّات أحْشائكِ المُبارَكة. ووضَعْتُ يدي العَزْلاء على كَتِفِكِ الرّؤوم فيما أنْتِ تتَقَدَّمينَني في الطَّريق الخَطِر. ألَم تَكتُبي أنَّ "الحياةَ عُبورٌ لِطريقٍ ضيِّقٍ بيْنَ هاوِيَتيْن"؟ بِفَضْلكِ اجْتَزْتُ، هذا المَساء، جِسْر الزَّمن المُعَلَّق بيْن الأجْراف، لأنَّكِ ابْنَةُ الأجْراف الخبيرة. شُكْراً لَكِ وأنْتِ تَجيئينَ، وتُسافِرينَ إلى أنْهارِكِ، وتَعودينَ مِنْ جَديد. نَحْنُ على اتّصال..".
طه حسين : "ارْم نظّارتيْكَ ما أنت أعْمَى/إنّما هُمْ جَوْقَةُ العُمْيان". لأنَّكَ تخَطَّيْتَ بقُوَّة القَلْب المحابِسَ الثّلاثةَ الرَّهيبةَ لِلفقر والجهل والعَمَى، وعوَّضْتَ البصَرَ الكفيفَ بالرّوح الشَّفيف، وجعَلْتَ من الحروف المسْموعَة في دَخيلَتِكَ طعاماً ومِنْ رَنين الكلمات موئِلاً ومُقاماً، وقَفَزْتَ بِقَدَرِكَ الشَّخْصيّ عالياً خارجَ جُبَّة الأزْهَريّ الّذي كنْتَ سَتَبْقاهُ لوْلا قَلْبِكَ الوقّاد الّذي عبَرَ بكَ البحْرَ، وآزَرَكَ في عُزْلاتِ الـَّحْصيل المعرفيّ الطَّويلة، وهَداكَ إلى رفيقَتِكَ سوزان الّتي مَرّرَتْ إليْكَ أضْواءَ العالم واللُّغاتِ منْ خلال عَيْنَيْها، مِمَّا أعادَكَ إلى مَصر مُكْتمِلَ العُدَّة والجرأة لتَرُجَّ المؤسَّسات الأكاديميَّة والدّينيّة بكتابِكَ -الحَدَث "في الشّعْر الجاهليّ"، ولتَنْتَصِرَ للإبداع في زَمن الاتّباع، وللعَقْل أمام جبروت النَّقْل، ولتُضيءَ أبا العلاء، هذا الثّائر الآخر الكبير، في السِجْن المُزْدَوج لِعَماهُ وعَمَى عَصْرِه عنْ قامَته، ولتَجْعَلَ منْ دراساتك ورواياتِكَ وأحاديثكَ الإذاعيَّة ومواقفِكَ أرضَ مُواجَهات مفْتوحَة معَ كُلّ حُرّاس الدُّوغمائيَّة والتَّحَجُّر والارتزاق حدَّ أنّكَ لمْ تجِدْ، وأنْتَ وزير للمعارف، ما تَدْفَعُ به ضرائبكَ فطلبْتَ مُهْلَةً منْ وزارة المالية ريثما تتوصّلُ بعائدات كُتُبِك... لأنَّكَ كُنْتَ كُلَّ ذلك، وكُنْتَ ما ستكون وأنْتَ آت نحونا من المُستقبل، أقول لكَ، ببعْض التّصرُّف، ما قاله لكَ الشّاعر الكبير نزار قباني حين رثاكَ بـ "حوار ثوريّ" معكَ في الذّكرى الأولى لرَحيلكَ إلى ما وراء ليْل العالَم :
ضَوءُ عيْنَيْكَ أمْ هُما نجمتان. . . . . . . .جُلُّهُم لا يرى وأنْتَ تراني إرْمِ نَظّارتيْكَ ما أنْتَ أعْمى. . . . . . . . إنَّما هُمْ جَوْقَةُالعُمْيان
2- رامبو : "المَحبَّةُ هي مفتاح الوليمة القديمة".
يأتي نَحونا باستِمرار لأنَّه سهْرةُ الحَرْف وعيدُ الرُّؤيا... فهذا الشّابُّ الأبَدِيُّ، ذو الَوَجْه "الأندروجيني" والنَّظرة البروميثيوسيَّة، الّذي نادَتْهُ الأرض آرثور رامبو وسمّاه مالارمي الكبير "العابِر الهائل بِنَعْلَيْن من ريح"، أنْهى فَرْضَه الشِّعريّ باكراً في أوروبا القديمة وصَفَّق البابَ ورَحل، تارِكاً وراءهُ - على حَدّ تعبير رينيه شار - "شوارعَ الكُسالى ومقاهي المُسْتأدِبين ودَبيب النَّمل الصّادِر عن عائلتِه المَجْنونَة قليلاً..."... غاَدَرَ جِبالَ الأرْدين "ذاتَ الثُّلوج المَبْهورة" إلى هَجير الحَبَشَة، وتِجارة الصُّموغ والقَهوة، ومُجاوَرَة البُسَطاء الّذين ظَلَّ دائِماً، بِروحِه النَّقِيَّة، واحِداً مِنهُم، دونَ أنْ يُدْرِكَ، بلامُبالاتِه الطُّفوليَّة، أنَّه فَرَكَ أُذُنَي العالَم، وأنَّ نُصوص "فصل في الجَحيم" و"الإشراقات" سَتُحْدِثُ، لاحِقاً، زِلْزالاً في الأرْضِ الشِّعريَّة شبيهاً، في الدَّرَجة والمَدى، بِرَجَّةِ حَجَرٍ نيْزَكِيٍّ قديمٍ آتٍ بكُلّ قُوَّةٍ وشُموخ من التَّضاريس البَعيدةِ لِلَّيْل الكَونيّ. لا يهُمُّ أنَّه عادَ، بعْدَ سنواتٍ من الكَدْح الأرْضيّ في المَجاهِل الأفريقيّة، منْخوراً بالغنغرينا ومَحْمولاً على مِحَفَّةٍ إلى المَشْفى المَرسيليّ حيْثُ سيُغْمِضُ عَيْنَيْه الشّاسِعَتيْن نهائِيّاً "لِيَبْحَثَ في المَوْت عنْ أُمِّه الحقيقيَّة"، كما سيكتُب عنْهُ هنري ميلر، لأنَّ أُمَّه العُضْوِيَّة لَمْ تَرَ فيه طيلة مُقامِه الشَّقيّ معها سوى طائشٍ أرْعَن لا يُرْجَى مِنْهُ أَيُّ خَيْر. ذلك يُتْمُهُ اللاّمَحدود والمَعْنى الأعْمَق لِهرَبِه عَبْر الخَرائط بَحْثاً عن "المَحَبَّة الّتي هي مِفتاحُ الوليمَةِ القَديمَة"، هُو الّذي كتبَ في "الإشراقات"، وكأنّه يُشيرُ إلى ظِلّه الشّامخ"... إنَّنا لَنسْتَرْجِعُه نَحْوَنا ويُسافر.. لكِنَّه لَنْ يذْهَب... لأنَّ الأمْرَ قَدْ تَمَّ بكوْنِهِ مَوْجوداً وكَوْنِه محبوباً... فلْنَعْرِفْ في هذا اللّيْل الشّتويّ، مِنْ لسان بَحْر إلى لسانِ بَحْر، مِن القُطْب الصّاخِب إلى القَصْر، مِن الجُمْهور إلى الشّاطئ، مِنْ نَظَراتٍ إلى نَظَراتٍ، بقوىً ومَشاعِر مُرْهِقة، أنْ نُنادِيَهُ مِنْ بعيدٍ، وأنْ نراهُ، وأنْ نَعْكِسَهُ، وتَحْتَ طبقات المَدّ والجَزْر وفي أعْلى صحارى الثَّلْج، أنْ نَتْبَعَ أبْصارَهُ وأنْفاسَهُ وجَسَدَهُ ويَوْمَه"...
3- أمبادوقليس : الحنين الجارف إلى الأعماق. ذات صَباح أو ذاتَ مساء منْ سنة 430 قبل الميلاد، أقْدَمَ أمبادوقليس، الشّاعر والفيْلسوف اليونانيّ، صاحبُ نظريّة العناصر الأربَعَة المُكَوّنة للوُجود (الماء والهواء والتّراب والنّار) ومَبْدأَي الحُبّ والكراهيّة اللّذيْن يتنازعان تسْيير البَشَر والعالَم، على إلْقاء نَفْسه في فوهَة بُرْكان "إثنا"، بعْدما ترَكَ صندَلَه على حافّته. وتَمَثَّلت الدَّوافعُ العميقةُ لهذه الارتماءة الكُبْرى في يأسه منْ شَعْبه، ورَغْبَته في إنْجاز مَوت شخْصيّ حُرّ، وحَنينه الجارف - وهذا هُوَ الدّافع الوجدانيّ الحاسم - إلى الاتّحاد بأعْماق الأرض الزّاخرة. غيْرَ أنَّ ارتماءَتَه الشّعائريّة هذه لم تَخْترق أحشاء البُركان الشّهير فحسب، بلْ عبَرَتْ ليْل القرون إلى أن التقطها هولدرلين، الشاعر الألمانيّ المُنيف، وأفرَدَ لها نصّاً شعريّاً مسْرَحيّاً في مُستوى عُمقها المَهيب بعنوان "مَوت أمبادوقليس"، كمَا اسْتعادَها في قصيدَة جوْهَريّة أُخْرى مُهداة إلى نفْس الاسم الملحَميّ، تماهى فيهما معاً، بتواطُؤ حدوديّ ، مَعَ الفيْلَسوف الكبير، مُناديّاً إيّاه ب"المَيت الجَسور"، ومُتَمنّياً أن يَتْبعَ "البطَلَ إلى الأعماق" لوْلا أنّ الحُبّ كان يَمْنَعُه (كان لا يزالُ في بيْت حبيبته سوزيت غونتار).
4- يوكيو ميشيما : الموت كنَشيد أنشاد. لا تنْفَكُّ الكلماتُ والصُّور الشّعائريّة لـ"يوكيو ميشيما"، الرّوائيّ اليابانيّ المَهيب، تُضَمِّخُ الزَّمن بعِطرِها الجارف والوارف. لا تنْفَكُّ قامَتُه الرّمزيّةُ تتسامَقُ وتَعْبُرُ أرْخبيلات الأرَق الخَصيب، هُو الّذي أبْدَع ثلاثيةَ "بحْر الخِصْب" حيْثُ شبَّه نفْسَه ب "ملاكٍ ساقِطٍ فَقَدَ مكانَه في العالَم"، وأطَلَّ في "اعترافات قناع" على تمَزُّقاتِه الكبيرة الدّاخليّة ، واجْترَح في مَجموعتِه القَصَصِيّة "الموت في الصَّيْف" نشيدَ أنْشاد المَوْت الطُّقوسيّ. لكِنَّ ما يُشِعُّ أكثَر، في قلب ليلته الكبيرة اللاّنهائيّة، هو الفيلم القصير "يوكوكو: طُقوس الحُبّ والمَوت " الّذي أخرَجَه بنَفْسِه سنة 1966 وأدّى فيه، هو وممثّلة يابانيّة جميلة، دَوْرَيْ عاشِقَيْن قرّرا ـ بعْدَما هالَهُما الانْحِدار الرّمزيّ لِبَلَدهِما - أنْ ينْتَحِرا بطريقة الهاراكيري الشّهيرة، وهُوما نَفَّذاه بِعُمْقٍ وشَغَفٍ، وكأنّهُما يُقيمان حفْلَ عُرْسٍ نهائيّ لنْ تُنيرهُ شَمْسُ اليوم الموالي، فيما كانتْ تُصاحِبُهُما في الخَلْفِيّة موسيقى ريتشارد فاغنر. كلُّ ميشيما، بوجودِيّتِه المُشْتَعِلة وشَهوانِيّتِه البِدائيّة ورأْفَتِه ماوراء البَشَريّة، مُتَحَقّقٌ في هذا الفيلم- الوصيّة، حيْثُ كلُّ لَقْطةٍ زاخِرَةٌ بما لا يُقاس من الرّسائل المَضْفورة بالحُبّ كقرينٍ عالٍ للمَوت، ما دامَ العاشقان مُتَورّطين معاً في ميثاقٍ جِذْريّ مُتَشَرَّبٍ روحانِيّاً. ويبْقى أنّ هذا الشريط المذهل كان اسْتِباقاً واسْتِشرافاً لما سيُقْدِمُ عليه ميشيما فعلاً بعْد أرْبَع سنوات (في25 نونبر1970)، حيْثُ انْتَحَر بالطّريقة نَفْسِها ولِلأسباب العميقة نَفْسِها الواردة في الفيلم القصير المَديد المسافات الجوّانيّة...
5- آنّا أخماتوفا : "منذ رأيتَني في الحُلُم تعذّر عليّ النّوم أمكنَ لـ"آنا أخماتوفا"، ولَوْ بألَم فادح، أنْ تجْترحَ أُعجوبَتَها الإبداعيَّة الخصيبَة في قَلَب الجليد السّيبيريّ الوحْشيّ. فالأعاجيب هي دائماً ثمار آلام حُدوديَّة مبرّحة. أمْكنَها أنْ تًحوّلَ كيانها الفَخْم والهَشّ إلى روح شاهقة أنْجزتْ قَفْزَتها الجبّارة خارج جبال الأورال القاسية، وأنْ تنْفَلتَ، كوَرْدة برّيّة عنيدَة، منْ بيْن صُدوع الزَّمن الحديديّ السّتالينيّ، الّذي لا تَخْتَلفُ عنْهُ أزْمنَتُنا الفولاذيْةُ الرّاهنةُ سوى في الشَّكْل، وليْسَ في الفصيلة المُتَجَسّسة المُرَوّعة (حيْثُ لم تعُد الجاسوسيّةُ وَقْفاً على الدّولة، بلْ صارتْ طبيعَةً ثانيةً لغالبية المُجْتَمع المُتَجسّس بعضه على بعْض). غيْرَ أنَّهُ بمُقْتضى القانون العميق، الّذي سَطَّرَتْه أخماتوفا ومثيلاتُها وأمثالُها، بمُسْتطاع ورْدَة برّيّة يتيمة واحدة أنْ تُنْهيَ قَدَريَّةَ الصَّحراء، كما بمَقْدور الحُلُم أنْ ينْهيَ قَدريَّةَ الفراق. ألَمْ تَكتُبْ "آنّا" لحبيبها هذه الأبْيات - البرْقيَّة العميقة : " أنْتَ رأيْتَني في الحُلُمْ أعْرفُ هذا ومُنْذُئذ تَعَذَّر عَلَيَّ النَّوْمْ. . ."
6- ستظَلُّ ثقتُنا عاليةً في المغارات وقَلْبها الغنائيّ العَظيم. أمام انطفاء التّاريخ، وانكفاء الواقع، وانغلاق المُجتمع، وبَوار السّياسة، وإفلاس أنْظِمة الحُكْم العرَبيَّة، وتَغَوُّل الرَّقابة، وأمام تهافُت أشباه المُثَقَّفين، وتكالُب أشْباه الفَنّانين، ووَقاحة "بلاطِجة" الرّيع، وانْتِصاراً لروُح الأعْماق (الّتي تَكْنِسُ في النّهاية كُلَّ الرّداءات والاسْتِبْدادات والنَّذالات)، سَتَظَلُّ ثِقَتُنا عالِيَةً في المغارات وقَلْبِها الغِنائِيّ العَظيم... 7- برْقِية إلى فرجينيا وولف : " يا فرجينيا العالية ،
كانتْ ساعاتُ هذا المَساء شَرِسَةً. كأنَّها مَحْفوفَةٌ بِصُخورٍ قيامِية قاسِية. حالةٌ مِنْ حالات المَنْفى الأكبَر. وفَتَحْتُ كُتُبَكِ. فتَحْتُ "الأمواج"، و"غُرْفَة تَخُصُّ المَرء"، و"المُذَكّرات". خُصوصاً "المُذكّرات" المَكتوبة بكُلّ ذّرّات أحْشائكِ المُبارَكة. ووضَعْتُ يدي العَزْلاء على كَتِفِكِ الرّؤوم فيما أنْتِ تتَقَدَّمينَني في الطَّريق الخَطِر. ألَم تَكتُبي أنَّ "الحياةَ عُبورٌ لِطريقٍ ضيِّقٍ بيْنَ هاوِيَتيْن"؟ بِفَضْلكِ اجْتَزْتُ، هذا المَساء، جِسْر الزَّمن المُعَلَّق بيْن الأجْراف، لأنَّكِ ابْنَةُ الأجْراف الخبيرة. شُكْراً لَكِ وأنْتِ تَجيئينَ، وتُسافِرينَ إلى أنْهارِكِ، وتَعودينَ مِنْ جَديد. نَحْنُ على اتّصال..".