المقاهي عبدالله الميالي: - “المقهى في الرواية العراقية.. رواية الطيّب عباس عباس الطيّب نموذجاً”.

يحتل المكان حيزاً واسعاً في الأعمال الروائية، حيث ينشغل الروائي بتنويع المكان في روايته لكي يضفي عليها مزيداً من الواقعية، وفق قاعدة: (إنّ المكان يعطي الانطباع بأنّ النص حقيقي)، وعلى رأي الناقد ياسين النصيّر: (المكان في العمل الفني شخصية متماسكة، ومسافة مقاسة بالكلمات، ورواية لأمور غائرة في الذات الاجتماعية. ولذا لا يصبح غطاءً خارجياً أو شيئاً ثانوياً، بل هو الوعاء الذي تزداد قيمته كلما كان متداخلاً بالعمل الفني.)[1]

يمكننا القول أنّ المكان في الرواية هو شريانها النابض، فغالباً ما نجد فيها: (المدينة، الحي، الشارع، الزقاق، البيت، الغرفة، المستشفى، المدرسة، الجامعة، المسجد، الكنيسة، ضريح الولي، المقهى، السينما، الحديقة العامة، محطة القطار، المطار، الفندق، المكتبة، مركز الشرطة، المزرعة، الصحراء، الجبل، النهر.. الخ) ، ومن بين هذه الأماكن المتعددة، يعد المقهى الأكثر جذباً للروائيين في أعمالهم الأدبية، ولم يكتف بعض الروائيين بتوظيف المقهى داخل الرواية فحسب، بل عملوا على أن يتضمّن عنوان الرواية هذا المسمّى، فعالمياً نقرأ مثلاً:
ـــ رواية (أنشودة المقهى الحزين) للكاتبة الأمريكية كارسن ماكالزر
ـــ رواية (المقهى المجري) للكاتب الإيطالي دانتي مارياناتشي
ـــ رواية (مقهى الشباب الضائع) للكاتب الفرنسي باتريك موديانو
وعربياً نقرأ مثلاً:
ـــ رواية (المقهى الزجاجي) للكاتب المصري محمد البساطي
ــ رواية (مقهى البازلاء) للكاتب الأردني عثمان مشاورة
ـــ رواية (المقهى) للكاتب المصري إسلام حجي
ـــ رواية (مقهى نهاية الطريق) للكاتب الأردني خميس قطشان
ـــ رواية (مقهى نساء ضائعات) للكاتبة سمية تيشة
ـــ رواية (مقهى سيليني) للكاتبة المصرية أسماء الشيخ
رواية (المقهى الخلفي) للكاتبة السعودية بثينة الشرفي
ـــ رواية (مقهى البسطاء) للكاتبة الكويتية مريم الموسوي
ـــ رواية (نجمة المقهى) للكاتبة اللبنانية عواطف الزين
ـــ رواية (مقهى بلا رواد) للكاتب السوري د. نزار أباظة
ـــ رواية (جريمة في المقهى) للكاتب الإماراتي د. فيصل سعيد السويدي
ـــ رواية (رجل يجلس على المقهى) للكاتب المصري أحمد عبد الجبار
ـــ رواية (مقهى القصر) للكاتب السوري فيصل خرتش
ـــ رواية (مقهى المجانين) للكاتب السوري فيصل خرتش
وعراقياً نقرأ مثلاً:
ـــ رواية (المقهى والجدل) للكاتب سهر العامري
ـــ رواية (المقهى الأسباني) للكاتب عائد خصباك
وقبل أن يغزو الانترنيت والسوشيال ميديا العالَم، كان المقهى طيلة القرن العشرين هو المكان الأبرز في حياة المجتمع، فهو ملتقى مختلف طبقات الشعب، وعلى رأي الناقد شاكر النابلسي: (المقهى هو مسرح الحياة الشعبية، وهو مكان اللعب واللغو، والتأمل، والترويح والتفريج عن النفس التي ضاقت بالحاضر وهمومه وأغلاله الاجتماعية والسياسية والفكرية.)[2]
ساهم المقهى بشكل أو بآخر بدفع عجلة الأدب إلى الأمام، من خلال احتضانه الأدباء في جلسة خاصة أو عامة، فبعض المقاهي تقوم مقام المنتدى الأدبي، بل وجدنا بعض المقاهي أكثر فاعلية في المشهد الأدبي من بعض النوادي الأدبية الرسمية التي يحضرها خمسة أو سبعة يتثاءبون!، ونتيجة لهذا الحراك الأدبي الذي احتضنته المقاهي، نشأ ما يُسمى بـ(أدب المقاهي).
عربيّاً كان لنجيب محفوظ الريادة في توظيف المقهى في معظم أعماله الروائية، حيث نجد مقاهي نجيب محفوظ هي مركز أحداث رواياته واستقطاب شخوصها، كما هو الحال مع مقهى “الزهرة” في رواية خان الخليلي، ومقهى “كرشة” في رواية زقاق المدق، ومقهى “أحمد عبده” في رواية قصر الشوق، ومقهى “الكرنك” في رواية الكرنك، ومقهى “قشتمر” في رواية قشتمر، وغيرها من المقاهي في رواياته المتعددة.
وقد أبدع نجيب محفوظ أيما أبداع في رسم أجواء المقاهي في رواياته، فلم يكن المقهى في روايات نجيب محفوظ مكاناً للتسلية أو المسامرة أو قتل الوقت فحسب، بل تغلغل من خلاله إلى أعماق الحياة الشخصية لشخصيات رواياته، فاستمد من خلال المقهى الترحال مع شخصيات رواياته ونماذجه الشعبية، ومنظومة قيمه والمعايير العامة لبنية الأفكار والسلوك في المجتمع.
عراقياً نجد عدد من الروائيين قد وظفوا المقهى بشكل أو بآخر في أعمالهم الروائية، فنجد مثلاً عبد الرحمن مجيد الربيعي في روايته (الأنهار) قد أبرز ثلاثة مقاهي: مقهى “الهورس شو” في بيروت، ومقهى “البرازيلي” ومقهى “البرلمان” في بغداد.
وفي رواية (ما انكشف عن حجر الصوان) للروائي محمود جاسم عثمان النعيمي التي اهتمت بثورة النجف عام 1918، أشار لعدد من المقاهي التي توزعت بين محلات النجف الأربع في ذلك الوقت، ومنها: (مقهى ﮔـل حسن، مقهى جواد الموسوي، مقهى عباس، مقهى ﮔـل محمد، مقهى حسن فته، مقهى حطحوط، مقهى ما شاء الله، مقهى فيروز) ، ويُحسب للنعيمي أنه وثّق في روايته هذا العدد من المقاهي التي يبدو أنها انتشرت سريعاً في بيئة كالنجف بشكل مبكر مع مطلع القرن العشرين.
ولم يغفل الروائي حميد الحريزي في ثلاثيته (محطات) من توظيف المقهى في البيئة النجفية ومنها: (مقهى شدهان، مقهى عبد ننّه، مقهى الشمّاع، مقهى اللنكراني، مقهى أبو المسامير)
أما الروائي غائب طعمة فرمان، فقد كان مقهى “دبش” هو محور روايته الشهيرة (القربان) وكان توظيف المقهى في الرواية بشكل مميّز وغير تقليدي عبّر عنه الناقد فاضل ثامر في دراسة نقدية للرواية: (إنّ سير الأحداث الروائية يكشف لنا بما لا يقبل الشك بأنّ المقهى في رواية “القربان” لا يمكن أن تكون مجرد بنية مكانية اعتيادية، بل هي بنية رمزية دالة على التسلط والتحكم والقمع .. وهكذا تخرج المقهى – من شكلها البدائي – الاجتماعي والترفيهي لتتحول إلى نواة ورمز للسلطة والتسلط والتحكم، وهي وظيفة متميّزة لم نجد لها مثيلاً في تجارب عربية سابقة جعلت من المقهى البطل المحوري في الرواية).
وإذا كان مقهى “دبش” في رواية القربان يرمز للسلطة والتسلط والحكم على رأي الناقد فاضل ثامر، فإنّ مقهى “أبو جبار” في رواية (الطيّب عباس .. عباس الطيّب) للروائي مهدي النجار يرمز للطبقة الشعبية في المجتمع، فقد تشاطر هذا المقهى بطولة الرواية جنباً إلى جنب مع عباس الطيّب أو عباس “أبو شوارب”.
صدرت رواية (الطيّب عبّاس .. عبّاس الطيّب) عام 1973 في مدينة النجف، وعدد صفحاتها 132 من الحجم المتوسط، ومضمونها باختصار يتمحور حول مقهى “أبو جبار” في زقاق ما لمدينة ما، لم يشأ الكاتب تسميتها، ولكنه سرّب بعض الإشارات التي تدل من خلالها إنها تقع في منطقة الفرات الأوسط: “انتقل – عباس الطيّب – من حوزة لأخرى ومن جامع لآخر يلهث خلف كلمات هذا الشيخ ويتأمل ذلك ومدينته تمتلئ بالمساجد والشيوخ كامتلائها بالقبور والألسن.” ص39.
يجتمع في المقهى روادها من عامة الشعب، يمارسون طقوسهم المعتادة في الثرثرة: “لم يكن ثمة كلام جديد في المقهى، تحتضن المقهى مجاميع كبيرة من روادها، وتطفح بكلماتهم وتصبح كتلة من الضجيج بحيث يتعذر على أحدهم _أحياناً_ سماع دقات رقّاص الساعة” ص10.
أسهب الكاتب في وصف ساعة المقهى العاطلة في أكثر من مقطع في إشارة رمزية للزمن الضائع لمدينة تراوح مكانها:
“ساعة المقهى مصلوبة فوق الجدار، تحرّك رقّاصها بصورة اعتيادية توقّف في الوسط بحالة شبه ساكنة حيث استمر بالتذبذب قليلاً إلى اليسار وإلى اليمين بعدها أصبح محنطاً تماماً داخل صندوق الساعة الخشبي ذي الواجهة الزجاجية” ص1
“الساعة ما زالت مصلوبة على الحائط مثل جثمان محنطاً، العجيب أنها دائماً متأخرة إلا أنّ الرواد اعتادوا هذا النظام المغلوط وأصبح وقتهم مألوفاً بالنسبة لساعة متأخرة” ص22.
عباس الطيّب المثقف، أصابه الإحباط واليأس من مدينته التي أراد لها التغيير والإصلاح، فآثر الانزواء مكتفياً بصمته أينما حلّ، وكذلك العزوف عن الزواج، حتى اتهم بالمرض والجنون من قبل رواد المقهى وزقاق المدينة ومن قبل أهله أيضاً:
“أجابت الأم: ولدي عباس تحوّل إلى أصم، أبكم، لا يتكلم، يصفن فقط .. ولدي عباس مريض .. مريض.” ص44.
“ضحكت صفيّة وقالت: يا عالم اتركوا الحديث عن عباس .. هل هو المجنون الأول في المدينة” ص46
“تابع والد عباس: لم يكن ولدي أيها السادة مخرب للمدينة، إنه مجنون!” ص115.
مشكلة عباس الطيب أنه يرى نفسه مصلح اجتماعي بمنزلة نبي، ولكنه كان يغرّد خارج السرب، فنجده يخاطب نفسه وهو يتفرّس بوجوه رواد المقهى:
“ما هو رأيك لو تقول لهم مثلاً: أنا نبي .. ههههه – ألم يخطر ببالك هذا الحلم ذات يوم – سيضحكون منك، يتهمونك بالجنون والانحراف العقلي لأنّ قولك جاء متأخراً في زمن انتهت فيه أحاديث الأنبياء.” ص53.
توترت العلاقة بين عباس الطيب والمقهى وروّادها، فهم ينظرون إليه باستخفاف وتندّر وسخرية:
“والله عباس أبو شوارب بلاء هذه المدينة، جاء بأشياء لم تتعوّد عليها .. الله غاضب على مدينتنا تحوي أمثال أبو شوارب .. هذه الأيام يتردد أبو شوارب إلى المقهى قليلاً، ولكن أضجر عندما أشاهده يدخل، صامت مثل الحجر، يحدق في الوجوه مثل الأخرس.” ص66.
أما هو فقد هتفت هواجسه من المقهى وروّادها:
“سأصلب كل ألسنتهم، سأجعلها تتعفن داخل أفواههم، كم هو رائع أن يصبح الإنسان بلا لسان، وأن تعيش المدينة بلا أحرف، بلا قصائد، بلا لغة، بلا قواعد.. عندها فقط ينتهي الزيف.” ص22.
“أنا ضحية هؤلاء .. هل أنا الوحيد في المقهى؟” ص51.
وهكذا نجد كلاً من المقهى كونها نموذج مصغّر للمجتمع وعباس الطيّب قد شكّلا ثنائية القطيعة والتنافر والاختلاف، فينما كان المقهى يمثل حالة مجتمع يعاني من داء الثرثرة الفارغة، يعني (بيّاع كلام) ومتذبذب الآراء والأهواء ، وفاقد للإرادة في التغيير والإصلاح، كتصليح ساعة المقهى أو شراء أخرى جديدة على سبيل المثال، أو التكاتف لبناء سدة جديدة تمنع عن المدينة الفيضان القادم، في إشارة رمزية من الكاتب إلى التغييرات السياسية المتلاحقة التي عصفت بالعراق، فإنّ عباس الطيّب أو “أبو شوارب” كما يُسمّى تهكّماً، يرى نفسه قطب الرحى في التغيير من خلال صمته كدلاله على رفضه لزيف المجتمع، ويرى وجوده في هكذا مجتمع كمشعل في وجه الظلام، ويفتخر بكل نرجسية المثقف المعروفة أن يكون كبش فداء لهذا التغيير المنتظر:
(كان الظلام في مدينتنا مرعباً، شعلت رأسي، حملته مشعلاً فوق جسدي، صفق الناس لي، التموا حولي، شعل البعض رؤوسهم، المدينة أصبحت كتلة من المشاعل، الظلام مات في مدينتنا، حاول بعض الناس الهرب من النور لأنهم لم يعتادوه، إلا أننا جعلنا رؤوسهم تحترق.) ص102.
من الواضح أنّ الروائي مهدي النجار أراد في روايته أن ينقل تناقضات وصراعات بلده السياسية والاجتماعية والفكرية من خلال زقاق المدينة ومقهى (أبو جبار) مبرزاً بشكل أو بآخر المعاناة السايكولوجية لشخصيات روايته وتحديداً عبّاس الطيّب.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ــ ياسين النصيّر، الرواية والمكان، ص17، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد – 1986
2 ــ شاكر النابلسي، جماليات المكان في الرواية العربية، ص222، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، عمّان – 1994.
3 ــ مهدي النجار، رواية (الطيب عباس .. عباس الطيب) مطبعة النعمان، النجف – 1973.
شارك هذا الموضوع:

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...