محمود البدوي - سكون العاصفة

كان خالد أفندي يتردد على مقهى (الحرية) في مدينة المنصورة أصيل كل يوم. ومع أن المقهى يشرف على النيل، ويقع في أجمل بقعة في هذا البلد؛ فإنه لم يحاول مطلقاً أن يملأ عينيه مما حوله من جمال وسحر. . . فهو لم يشاهد منظر غروب الشمس في النيل، ولا طلوع القمر من وراء السحاب، ولا الزوارق الشراعية وهي تسبح في ظل الغسق. . . كما أنه لم يعبر جسر طلخا قط، ويرى من وراء الجسر من مناظر خلابة في مدى السنين التسع التي قضاها في المنصورة منذ أن نقل إليها كاتباً في تفتيش الري!

وكان يجلس على ناصية الطريق زمن الصيف، فإذا جاء الشتاء انتقل مع الجالسين إلى الجزء الشتوي من المقهى على الرصيف الآخر من الطريق، وألقى بنفسه في مكان ضيق يعج بالخلق ويزهق الأنفاس. هذه المقاهي الغريبة المنتشرة في طول البلاد وعرضها تضم خلقاً عجيباً من صعاليك الأرض، ومحترفي النرد، وأصحاب العقول الذهبية الذين يدخلون أنوفهم في كل شيء على ظهر البسيطة، وينتقدون أنظمة الاجتماع الإنساني قاطبة! ويشعرون بأنهم ضحية نظم فاسدة لا سبيل إلى إصلاحها! فما يعوزهم هو شيء خارج عن نطاق البشرية وحدودها! على أن خالد أفندي كان يختلف عن هؤلاء جميعا، فهو رجل قد جاوز بسنه عمر الشباب، وحاد بتفكيره عن تفكير المخبولين!. . . بيد أنه كان يتفق معهم في الحيرة والقلق، والشعور المطلق بالنقص أبدا، ولهذا ظلت حياته تسير على منوال واحد ممل معذب. . . وكان قد أدرك الجيل الذي يتزوج فيه الشبان قبل الأوان، فتزوج معهم وأنجب، وكان زواجه من فتاة طيبة من أسرة كريمة، والأسر الكريمة كثيرة الود، فالزوجة عند عماتها وخالاتها، وخالات عماتها وعمات خالاتها! كما أنهم محط الرحل في المدينة لكل من يشرف المدينة من الأهل والصحب. ولهذا فر خالد أفندي من المنزل إلى المقهى، وقعد على حافة الطريق يرقب الرائحات والغاديات بعين عطشى. . .

ولما امتد لهب الحرب، وكثر عدد المهاجرين إلى الشرق، اكتظت المنصورة بالخلق، وازدحم منزل خالد أفندي بأفراد أسرته من المدن المعرضة لشر الغارات. فلما مضت الأيام على غير حادث، وقفت حركة الهجرة، وسئم المهاجرون تكاليف العيش الجديدة ورجعوا إلى بلادهم بالتدريج، ورحل ضيوف خالد أفندي ورحلت معهم زوجته، فقد رافقت أختها إلى القاهرة. وهكذا أصبح خالد أفندي وحيدا في المنصورة، أو أعزب إلى أجل! وتنفس الصعداء، وشعر بالحرية المطلقة في غدوه ورواحه، وراح يحن إلى أيام شبابه ولهوه

وكانت تمر أمامه، بعد غروب كل شمس، فتاة رائعة الحسن جذابة الملامح، من هؤلاء اللواتي تدفعهن الفاقة إلى العمل. كانت تبيع الحلوى، وتمر على الجالسين في المقهى ضاحكة مازحة. وكانت تخص خالد أفندي ببعض وقتها ومزاحها، لأنه رجل وقور حسن السمعة! وكان يمازحها ويتلطف معها في الحديث. ثم يشيعها بنظراته النهمة. وكان جسمها أكبر من سنها بارز المفاتن رائع التكوين. وفي عينيها بريق وإغراء قل أن يجتمعا في عيني امرأة. وكان خالد أفندي يدرك هذه المحاسن كلها ولكنه كان يرد نفسه عنها تورعا. على أنها لما مرت أمامه في ذلك اليوم تتثنى وتميل بجسمها وعلى شفتيها الرقيقتين ابتسامة، وفي عينيها ذلك البريق الأخاذ استوقفها وابتاع منها بعض الحلوى، وهو يضاحكها ويداعبها. ثم همس في أذنها كلاما فتورد وجه الفتاة، وغضت رأسها. ثم مضت عنه، وهي تهز رأسها ضاحكة وغابت في جوف الظلام

وظل ساكنا في مقعده لحظات. وهو ينفض المكان بعينيه ويرقب! ثم اندفع في الطريق الذي سارت فيه، وقد زاده تمنع الفتاة حماسة وثورة. وأوسع المجال لخطاه لما اجتاز المقاهي المتناثرة على حافة النهر حتى بدأ يلهث ونفض جسمه العرق. يا لله. . . إنه يسير الآن في الطريق الذي كان يتنزه فيه مع زوجه وأولاده مساء كل خميس حتى يبلغوا شجرة الدر! لقد مات الآن في نظره كل شيء وانمحت الذكريات وأسدلت الستر على الماضي كله بخيره وشره. وأصبح لا يرى الآن تحت تأثير العاصفة التي ألهبت جسمه وأشعلت النار في كيانه، غير نساء عاريات سابحات في النهر يتضاحكن ويهتفن به!

وبصر بها وهي تجتاز ميداناً صغيراً على رأس الطريق ينعطف إلى المدينة، فجمع حواسه في باصرته، وانطلق في أثرها

ومضى معها تحت ستار الظلام إلى البيت، ودارت ببصرها في جوانب القاعة في تهيب وخجل. ثم جلسا للعشاء، فأرغمها على الشراب، فزال عنها حياؤها بالتدريج، وتفتحت نفسها، فانطلقت تغني وتتبختر في أرض الغرفة كالطاووس الجميل

ولعباً بعد ذلك الورق وتكدست أمامها أكداس القروش! فرمقته بعينيها وسألته وهي سكرى: (هل تعطيني كل هذه النقود حقا؟) فضحك وطمأنها

وظهر عليها التعب وبدأت تتثاءب. ورف لون وجهها من فعل الخمر، وانفرجت شفتاها، واحمرت عيناها، وثقلت أهدابها وتفككت أوصال جسمها. فارتمت على أريكة بالقرب من المائدة وظلت تحادثه من حين إلى حين، وتنظر إليه بعينيها الناعستين، حتى أحست بلين الفراش فنامت. . .

وبقى في مكانه يحتسي الجمر ويدخن، وعيناه سابحتان في قرار الكأس. ثم رفع بصره إليها وهي نائمة حالمة، وقد تهدل شعرها، وتوردت وجناتها، وظهرت على وجهها كله آيات الطفولة البريئة، وانمحت تكاليف العيش ومظاهر الصنعة من جسمها ونفسها. . . فأشرق روحها وبدت على فطرتها. . . وبان لون جسمها في بياض العاج ونعومة الحرير، وكانت إحدى ذراعيها تحت رأسها والأخرى عند خصرها. . . فتحرك الجسم قليلا وارتفعت الذراع حتى جاوزت العنق، وغاصت الأنامل الرقيقة في الخد المورد، وانحسر الثوب عن الساق، وانزاح الشعر عن الجبين، واهتزت الشفتان قليلا، وتحرك الجسم حركة من يود الصحو؛ على أن الأهداب بقيت مطبقة، والأجفان مسبلة، والنفس هادئاً حالما

ونظر إلى هذه الصورة الرائعة وهو سادر ساهم، فنهض عن مقعده ووقف أمام النافذة المغلقة، وفتح مصراعها، ومر هواء الصيف المنعش على وجهه وأشرف على الليل، وأطل على الوادي الصامت. ورأى لأول مرة في حياته محاسن الطبيعة، وبدائع ما أبدع الله وصور، واعتمد بجسمه على النافذة وبصره يخترق حجب الليل ويعبر النيل والجسر وما وراء الجسر، حيث تتجلى الطبيعة في أروع صورها، وسبحت عيناه في الظلام، واستغرق في تأملاته ومرت في ذهنه صور كثيرة واضحة وغامضة. . . الحرب. . . والغارات. . . والريف. . . والقرية. . . وزوجه. . . وأولاده. . . وشعر بطراوة الهواء ولينه وهو يصافح وجهه، وبجسمه يعود إلى حالته الطبيعية، ورأسه يصفو من فعل الخمر، فانثنى من النافذة، وانطلق يتمشى في أرض الغرفة، وعينيه على الفتاة النائمة ووقف أمامها لحظة. . . ثم انحنى عليها، وحملها على ذراعيه كطفل صغير، ومشى بها إلى مضجعه، وأضجعها على السرير بحنان ورفق، وأسدل على جسمها ملاءة خفيفة، وأبقى وجهها الناضر عاريا، وأنسحب من الغرفة سائرا على أطراف أصابعه!!

ونام على أريكة في الردهة نوماً عميقاً هادئاً تشوبه ألذ الأحلام

محمود البدوي


مجلة الرسالة - العدد 403
بتاريخ: 24 - 03 - 1941

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...