مقتطف ليلى تباني - التغريبة الهلالية... حبحب رمّان ج(6)

ج(6)


كان صباحا أبيض الملمح، أبكر الشيخ خليفة بالاستيقاظ، وأزاح الثلوج التي تراكمت حول باب مدخل داره، تفقّد الزريبة ومربط الخيل، وأوصى غلمانه بعلف المواشي، فلا مجال ليسرحوا بها والثلوج تعاند وتتساقط بكثافة فتشكّل هضابا بيضاء لمّاعة ترصّعها طبقة الصقيع التي ترافق صباحاتهم الباردة. رأى خليفة ألاّ أفضل من لحم طير مشوي ممّا يشتهي، فأرسل أمهر غلمانه الصيّادين "البرني" في اقتفاء أثر طائر الحجل الذي يتكاثر قرب ضفاف الوادي في موسم الثلوج.

استفاقت عنق حمام على لسعات برد شاكست أطرافها كانت تتسرّب من منافذ الباب والنوافذ، كان الكانون قد هفا جمره واستحال رمادا جاحدا، هبّت عنق حمام مفزوعة وغمغمت:

ـــ إلهي.. ماذا حدث؟ أنا نائمة في فراش سيّدي خليفة! كيف حدث ذلك؟

غادرت مهرولة، تتوخى الحذر من انزلاق قدميها في الجليد المتشكّل على الممرّ المؤدي إلى بيتها.

حلّ المساء وقد أرسل خليفة في طلبها قبل موعد السّهرة على غير عادته لبت طلبه طائعة، وسارت رفقة غلامه تسائل نفسها حائرة:

ـــ ترى ما الذي جعل سيّدي خليفة يطلبني مبكّرا قبل أوان السّهرة؟ هل أكون قد أسأت التّصرّف وأنا أهذي بسبب ما أصابني من دوار واختناق؟!

دخلت عنق حمام، فداعبها دفء موشّى بعبق العنبر والمسك، كان خليفة يفضّله من كلّ أنواع البخور، وتسرّبت إلى أنفها روائح شواء، لكنّها لم تدرك مصدرها. ألقت التّحية على الشيخ خليفة وهي مطأطئة الرأس خجلة ممّا بدر منها اللّيلة السابقة، فلم تكن تجرؤ على النوم في فراش سيّدها، لكنّها لحظات غفلة منها سببها ذهاب تركيزها من وقع ما حلّ بها من اختناق... راحت تقدّم الاعتذار وقالت بنبرة واطئة خجلة أسيفة:

ـــ ناشدتك الله ورسوله أن تغفر لي زلّتي سيّدي، فلم أكن أعي ما فعلت.

ابتسم الشيخ خليفة لمّا أقبلت عليه، ورحّب بها كما ينبغي أن يرحّب بأميرة، الأمر الذي جعلها تشعر بالأمان أكثر فتشعّ عيناها سحرا ويضيء وجهها بهاء. أشار لها بالجلوس قبالته حول مائدة تضمّ ما لذّ وطاب من أصناف الطعام، يتصدّرها لحم الحجل المشوي. ثمّ حدجها بنظرة تشي بكثير من الود وقال:

ـــ لا عليك عزيزتي، كنت البارحة في حالة حرجة، وخشيت أن يصيبك مكروه وأنت وحدك في بيتك، لذلك كنت مصرّا على أن تنامي في فراشي وأمام عيني. أنسيتي؟

فقالت، وقد أشعّت في وجهها ابتسامة:

ـــ كلاّ سيّدي. كيف أنسى؟!

ـــ لم يطب لي لحم الحجل المشوي إلاّ وأنت تشاركينني فيه.

أشاع كلامه في نفسها الراحة والبهجة، فجلست وجعلت تأكل وهو يرمقها بنظرات تشي بالكثير من الأسرار.

أنهيا تناول العشاء، وقام غلامه بجمع مائدة الطّعام، وإعداد شاي ساخن من الأعشاب العطرية بطلب من سيّده.

اعتدل خليفة، وهو يتمتم:

ـــ ما أبرد الجو! والزعتر خير مسخّن في شتائنا القاسي هذا...

لشدَّ ما سعد تلك اللّيلة… فرح وانتشى حتى انبسطت أساريره، ولكن فيم كان سعيدا؟ لا يكاد يعرف شيئا، وليس هنالك شيء يُبرّر انتشاءه، لكنَّ جوَّ مجلسه تلك اللّيلة كان مشحونا بطاقة غريبة؛ بحيث أنّ أيّ حركة أو همسة منها تحدث فيه نشوة وترسم بسمة على شفتيه، فما هو إلا أن قال:

ـــ أَتُراها فارسة زمانها كما تخيلتها؟

تعجّبت عنق حمام من كلامه وقالت:

ـــ من تقصد بكلامك سيّدي ؟

ـــ أقصد قمرة.

ـــ بل هي فارسة الفرسان، كيف وهي ابنة أحمد الزايدي فارس فرسان قبيلة الزوايد وزينب فارسة خيرة نساء قبيلتهم.

لمعت عيناه وزاد شوقه لسماع القصة، وراح ينصت لها ويتابعها بشغف كبير، أمّا هي فاستأنفت تحكي بقية قصتها... فقالت:

... استقبلها شاهين باسما، وقال:

ـــ أهلا بسيّدتي الصغيرة "قمرة"، لقد أزهر المكان بتشريفك.

ردّت هامسة حتى لا تثير انتباه بقية الغلمان وقالت بنيرة حازمة:

ـــ لا وقت لدينا كي نهدره في المجاملات يا شاهين، أمّي تنتظرك في أمر مصيري.

ـــ اسبقيني أنت يا قمرة، وأنا سأغلق باب المربط وألحقك على عجل.

.... يتبع


ليلى تبّاني - قسنطينة - الجزائر.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...