ليلى تباني - التغريبة الهلالية... حبحب رمّان ج(7)

ج(7)


أغلق شاهين باب المربط، وغادر *شبه* متسلّل تاركا وراءه بقية الغلمان نياما، سار بخفّة نحو دار سيّده المرحوم أحمد، فقد كان يحبّه ويراه بمثابة والده الذي لم يعرفه يوما، ويجد في حنو السيّدة زينب عوضا عن أمّه التي بالكاد يتذكّر ملامحها.

وجدها بانتظاره فحيّاها تحية اِبن لأمّه، أشفق لتدهور حالها، فقد بدا ذلك على جسمها الذي استحال نحيلا يميل إلى النّحافة، وملامح وجهها الذي استحال شاحبا يعلوه سواد يحيط بعينيها الناعستين، حتّى خادمتها شامة، خانت عشرتها وراحت تخدم في دار سليمان الزايدي، فلم يعد لديها مال تقدّمه لها مقابل خدمتها.

قدّمت له العصيدة التي يحبّها، ولم ترغب في البوح بحاجتها إليه، منعها كبرياؤها وعزّة نفسها، فكيف لابنة عز وشرف أن تلجأ لسائس ـــ كان بالأمس القريب يعمل عندهاـــ وتطلب مساعدته، عدلت عمّا كانت تقدم عليه وقالت في نفسها:

ــــ لا بدّ أن أتدبر أمري ولن أخبر شاهين بما كنت سأطلبه منه، وإلاّ فلست زينب ابنة هلال الهوازني سيّد أشراف قبائل أولاد عبدالنور. وإنّني في كلّ الأحوال سأتسبّب في قطع رزقه، وليس لدي من المال كي أقدّمه له مقابل ذلك.

كان شاهين يتناول العصيدة على غير عادته، غاب نهمه وإقباله الشديد على عصيدة سيّدته زينب... أخذ يماطل في استكمال ما بقي في الطبق، ويحدّق بها، ينتظر ما ستسفر عنه شفتاها وقد وَشِيَتْ به عيناها، لكنّها أثارت قلقه بصمتها المدجّج بأمر جلل، لم يطق صبرا وقال مستحضرا حدسه:

ـــ أنتظر ما ستأمرني به سيّدة نساء قبيلة الزايدي.

تبسّمت ساخرة وقالت:

ـــ سيّدة نساء القبيلة التي تأكل اليوم ولا تدري إن كان الغد سيأتيها بما يسدّ رمقها، سيّدة فقدت أبناءها ومالها ظلما ولم تفلح في استردادهما.

ـــ بل أنت سيّدة نساء القبيلة وستظلين، و أنا سأكون سندا لك ولابنتك قمرة، لن أنسى فضل سيّدي المرحوم أحمد الذي ربّاني وانتشلني من ضياع اليتم.

تشجّعت زينب لمّا سمعت منه ما قال، وأخبرته بما ستقدم عليه، وطلبت منه أن يكون عونا لهما ومرافقا في رحلة البحث عن أولادها. كان ذلك من دواعي سرور شاهين، فماذا عليه لو منّى نفسه بما كان بالأمس حلما، ابتسم ابتسامة الرضا وهو يهزُّ برأسه استجابة وهمس لنفسه:

ــــ هل سيجبر القدر بخاطري وألازم "قمرة" الوقت كلّه؟ هل سأتقاسم معها العيش بكلّ تفاصيله؟ يا لها من فرصة سانحة لم أكن لأحلم بها!

هبّ نحو مربط الخيل والبوح السعيد يغمره فيفيض ليزيد من عزيمته وقوّته قوّة عن تلك التي يتّسم بها شاب مثله، وراح يحضّر ما يلزم لرحلة البحث وكان من البديهي أن يسرج فرستا سيّدتيه زينب وقمرة، كانتا فرستان من الجياد العربية الأصيلة، سرج "برقا لاح" بسرج مطرّز بخيطان الذهب يناسب السيدة زينب، أمّا "طايقا" فكانت الفرس التي روّضها بيديه ودرّب عليها قمرة، ولم يجد أفضل من أن يسرجها بسرج من حرير وجلد ناعم مطرّز بالذهب يليق بأميرته الناعمة الغضة "قمرة".

نادى "جاد" راعي الغنم وحارس الزريبة، ولم يكن يأتمن غيره، أوصاه بأن يتكتّم عن خبر الفرستين والحصان الذي سيركبه، وأن ينكر علمه بما رأى قال بنبرة تستجدي عطفه ومروءته:

ـــ أنت يا جاد شاب خلوق وأصيل، وليس من المروءة أن تشي بما سأقوم به لصالح سيدتك زينب ووليّة نعمتك، ولا أظنّك قد نسيت وصيّة سيّدنا أحمد بزوجته وابنته.

ردّ جاد بنبرة واثقة تنمّ عن وفاء وخير دفين:

ـــ عظامي مكسوّة من خير سيّدي أحمد وسيّدتي زينب، وأكون نذلا إن تسبّبت في أذيتهما وأذيتك يا صديقي.

ـــ لم يخب ظنّي بك يوما يا جاد. نعم الرجال أنت. من طينة الأوفياء.

دنا نحوه، واحتضنه معربا عن شكره وامتنانه، وخرج بالفرستين يمسك بلجاميهما، وما إن رأته زينب حتّى التقطت عنه اللّجامين وصارت تمسح على ظهر فرستها "برقالاح" وقد امتلأت عيناها بدموع لم تكن ترغب بظهورها أمام شاهين... حاولت كفكفتها وقالت متحسرة:

ـــ ايييه على أيام "برقلاّح" و"الأدهم"، كنت أبلغ من السعادة ذروتها حينما أمتطي فرسي البيضاء برقالاح رفقة سيّدك أحمد، ونجوب حقول القمح الخضراء، كنت في أغلب الجولات أسبقه رغم أنّه يمتطي الأدهم.

كان شاهين يصغي إليها، ويتعاطف بشدّة معها... ويذرف دمعا كلّما ذكرت سيرة سيّده أحمد، نظرت نحوه ثم قالت متسائلة:

ـــ وماذا عنك أنت يا شاهين؟ ماذا عن جوادك؟

ـــ سأختار حصانا قويّا، فرحلتنا محفوفة بالمخاطر والمتاعب.

لم تطل التفكير وقالت لتوّها:

ـــ لن تركب إلاّ "الأدهم" وأنا سمحت لك بذلك.

تثاقلت جفنا عنق حمام معلنين النوم، فتوقّفت عن الحكي، ومضت نحو مخدعها تاركة للشيخ خليفة سماء رحبت بخيالاته وتوقّعاته إلى حين تعود في اللّيلة المقبلة...

.... يتبع




ليلى تباني - قسنطينة -الجزائر .





تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...