رقية زوجة المأمور هى جارتهم والصديقة الحميمة لوالدتها صفية. كانت علاقتهم ببيت المأمور قديمة وأزلية. المأمور قد عمل فى سجن المدينة قبل أكثر من عشرين عاماً بعد عودته اليها منقولاً من مدينة جوبا بجنوب السودان.
ومكث مدة ست سنوات يعمل فيها بالمدينة الصغيرة توطدت فيها علاقته بأهل المدينة الصغيرة , إشترى لنفسه بيوتاً ومتاجراً وأراضى زراعية غرب النيل وتزوجت إبنته الكبرى من احد ابناء اثرياء المدينة. كما تزوجت ابنته الثانية من ضابط فى الجيش جاءت به الاقدار كما جاءت بالمأمور ورآى البنت فى احتفالات المولد النبوى .. أعجبته , خطبها من والدها وتمت مراسيم الزواج.
عندما جاء للمأمور أمر النقل بعد ستة أعوام لمدينة جوبا حزن كثيراً .. لقد اتخذ لنفسه سكناً ووطناً وأهلاً لكنه نفذ قرار النقل بعد ان ماطل كثيراً .. غير أنه ظل طيلة مكوثه فى مدينة جوبا يرسل الهدايا والواسطات وخطابات الرجاء للمسئولين ليعيدوا نقله الى مدينة شندى ثم أوعز لبعض وجهاء المدينة ليكتبوا خطاباً للسلطات مطالبين بإعادته لموقعه قائلين أن الديار قد خربت من بعده وطالتها أيدى الحرامية والمجرمين.
بعد خمس سنوات طويلة استجابت السلطات وعاد محمد السيد مأموراً عاماً لسجن شندى , لم يسكن فى بيت الحكومة وكان قد بنى بيتاً حديثاً فى أجمل أحياء ..المدينة .كان بيتاً واسعاً يمتلى فناؤه بأشجار الليمون والمانجو الظليلة والجوافة وقد زرعت بتنسيق بديع ,
و شكلت شجيرات الحنة والتمرهندى سياجاً أخضر حول حوائط المنزل الخارجية.
يحتوى المنزل على غرف كثيرة ثلاثة منها غرف للنوم بها حمامات داخلية وهناك غرف لإستقبال الضيوف واسعة و فارهة .. فيها ظلال فخامه الطلاء وبلاط السيراميك . لكن اجمل تلك الغرف وأهمها بالنسبة للمياء كانت غرفة المكتبة فيها ارفف الكتب المتراصة حتى السقف وبها جهاز كمبيوتر وجهاز فاكس.
كان المأمور قد حزم أمره وقرر ان يمضى بقية عمره فى تلك المدينة الوادعة الجميلة ولهذا رفض السكنى فى منزل الحكومة المخصص له لأنه
عازم على الاستقالة إذا تم نقله ثانية وقد بقيت على احالته للمعاش سنوات قليلة .
لكن اكثر ما كان يبهر لمياء فى بيت المأمور هو غرفة المكتبة كانت تمتلك كتباً كثيرة, وحفاظاً عليها طلبت من زوجة المأمور ان تجعل لهاحيزاً صغيراً فى مكتبة زوجها ترص فيه كتبها . خوفاً عليها من التلف والضياع .
فى ذات يوم حدث المأمور زوجته بأنه سوف يرسل محكومين من السجن لترتيب المكتبة
فى ذلك اليوم عند زيارة لمياء لزوجة المأمور كانت تحدثها أثناء شرب الشاى .
عمك المأمور رسل مساجين من السجن يقول عليهم انهم ناس محترمين وسياسيين عشان يرتبوا المكتبة .. تعالى شوفى كتبك. عايزة تختيها وين؟
حين دخولها غرفة المكتبة لاحظت لمياء وجود ثلاثة رجال بملابس السجن يعملون فى همة فى تنظيم وترتيب الكتب على الارفف وهم يطلقون التعليقات فى همس . القت عليهم التحية دون اهتمام ومضت الى حيث توجد كتب التاريخ والآدا ب ومن بينها كتبها. لم تلق بالاً لملامح أوشخصيات الموجودين بالمكتبة فهى تعودت وجود السجناء بملابسهم المميزة فى بيت المأمور .
ارتبك هو عند دخولها وقد تيقن من شخصيتها . مضت لحظات طويلة وهى تنقب بين الكتب وتصطفى بعضاً منها دون أن تنتبه لوجوده. وضعت بعض الكتب الى جانب, وحين رأت ان كتب التاريخ تختلط ببعض كتب الفلسفة رفعت رأسها لتبدى ملاحظاتها فى ترتيب المكتبة.
لو سمحتوا.. كتب الفلسفة وعلم النفس فى الصف دا خلوها مع بعض عشان…..
والتقت عيناها بعينى مريود..
يا للصاعقة .. مريود سليمان الذى طالما طاردها فى احلامها ومنعها من قبول كل الذين تقدموا للزواج منها ..
دق قلبها فى لهفة شوقاً وجزعاً وخوفاً من عاطفتها الجامحة التى كانت تحاول مداراتها وهى تبحث عنه فى عيون الآخرين وفى فكرهم وشخوصهم .. فيتبدى لها الفرق دائماً شاسعاً
فزعت من نفسها واحتدام افكارها وهى تحسه قريباً منها ..
غالبت عواطفها ونظرت اليه مرة ثانية .. كان قريباً منها امسك بكتاب بين يديه وادار ظهره للآخرين وهو ينظر اليها فى قوة وهويغالب اندهاشه وعواطفه المحبوسة , ونفسه الجريحة وهو يلتقى بها, بعد تلك الغيبة الطويلة .. وهو بملابس السجن.
كانت الدموع ترقرق فى عينيه. لم تستطيع ان تتمالك نفسها وضعت الكتب التى كانت تحملها بسرعة على الرف أمامها واسرعت خطاها هرباً من غرفة
المكتبة دون أن تكمل عبارتها التى ظلت كلماتها معلقة فوق سماء الغرفة وظل يرقبها فى صمت وهى تترك المكان فى خطوات سريعة متعثرة.
حين خروجها من الفناء تنبهت لمياء لوجود زوجة المأمور مضطجعةً فوق سرير وثير تحت شجرة المانجو الظليلة التى تتوسط الحوش, وصينية الشاى التى امامها , تحتوى على الثيرموس الالماني الصنع الذى يبقى عليه الشاى ساخناً لفترة ثلاثة ساعات وأكواب الزجاج التركية الصنع ,لها أيدى ,وصحون توضع فوقها , وبها نقوش ذهبية ,وبسكويت اليانسون فى صحن مضلع جميل مفروش بورق زخرفى ابيض , بينما الثيرموس الأحمر الكبير الذى يوضع به الثلج والماء البارد على طاولة مجاورة وقد وضع فوقه كوز من معدن الاستيل للشراب . هكذا دائماً تكون جلسة رقية زوجة المأمورفى ضحى كل يوم .
بعد أن خرجت لمياء مسرعة من غرفة المكتبة, جلست على الكرسى وهى تلهث وتكح من فرط اضطرابها الذى تحاول اخفاءه عن ملاحظة زوجة المأمور.
خلاص .. رتبتى كتبك فى المكان اللى عايزاه؟
لا .. لسه.. انا تعبانة شوية .
طيب .. قولى للمساجين .. عشان يعملوا حسابهم
آ .. بالمناسبة ديل مساجين جداد؟
ابداً .. عمك بيقول فى واحد اسمه .. اسمه مريود ليه تسعة شهور فى السجن وقال هو زول سياسى شاطر واخلاقه عالية, وبحب قراءة الكتب.. الكتب ال فى المكتبة دى كلها قراها وكتب عنها ملخصات . قال لعمك يحفظها ليه لما يطلع من السجن يمكن ينشرها فى كتاب.
تسعة شهور؟
آى والله .. المسكين باقى ليه تانى مدة طويلة اصلوا مامحكوم.
ـــ تسعة شهور .. تسعة شهور؟
رددت لنفسها فى همس جازع. . تسعة شهور ومريود سليمان ينام ويصحو ويقرأ ويكتب ويأكل ويشرب فى نفس المدينة وهى لاتدرى عنه شيئاً .. كل اشواقها وهواجسها كانت تسافر بحثاً عنه فى الخرطوم والابيض والمنافى الاوربية .. وهو هنا .. فى ذات المدينة .. ولا تدرى عنه شيئاً ؟!
يالسخرية الاقدار .. نضحك ماشاء لنا الوقت والمزاج .. نظن فى انفسنا الذكاء والحكمة .. لكننا نكتشف فى النهاية اننا لعبة فى يد الاقدار .. تضحك علينا فى لهوها الساخر بحيواتنا البشرية , الله وحده يعلم حكمة مصائرنا فى يد ها وما نحن سوى بشر ضعفاء .
آهـ .. آ آهـ
رددت فى وجع
مالك .. ؟ شكلك تعبانة.
آى .. تعبانة كتير .
خذى فنجان قهوة .. يعدل مزاجك
لا .. أنا حا أمشى اقول شوية توجيهات للمساجين بخصوص ترتيب المكتبة وامشى ارتاح فى البيت .. لو الدنيا دى فيها راحة !
نهضت .. وإتجهت نحو غرفة المكتبة ورقية تتابعها بنظراتها فى استغراب لإنقلاب حالها المفاجىء. كانت تتعثر فى خطواتها رغم انها تحاول التزام الثبات والرزانة
وجدته واقفاً امام الأرفف الأمامية فى المكتبة وهناك مسجون آخر يناوله الكتب، نظرت اليه .. فى شوق ثم أشارت اليه بعينيها واتجهت الى الأرفف الخلفية . تمهل قليلاً , قال بعض كلمات لزميله , ودفع اليه بعض الكتب التى كان يحملها , ثم تبعها.
وقف أمامها . ثوان طويلة وكأنها دهور وهما يتبادلان النظر فى صمت .
مــــــــر.. يـــــــــــو .. د !!
تبعثرت حروف اسمه فى حلقها الجاف خفقت جفون عينيه بعنف وتشنجت
عضلات وجهه وهو يحاول ان يمنحها ابتسامة حانية
لمياء !! إزيك .. ما اجمل السجن الذى يجمعنى بك .
خمس سنين يامفترى, دون رسالةأو اشارة منك !
هش ..ش لا ترفعى صوتك ليس من الحكمة أن يعرف أحد هنا بعلاقتنا السابقة .. أكتبى لى بأخبارك وسأظل أكتب لك طوال الليل وفى الغد نتبادل الرسائل .. والأخبار.
اختلجت عضلات وجهه وهو يتأملها
سوف احتال على المأمور للحضور غداً بحجة عدم أكتمال ترتيب المكتبة. آه ما أجملك .. لم يتغير فيك شىء منذ أيام الكلية .
لكنك أنت تغيرت ..
وأنهمرت دموعها طوفاناً يغرق وجهها ..
نظر إليها فى حزن .. ود لو يستطيع أن يضمها الى صدره ويكفكف دموعها وهو يقول فى لهفة وجزع
أرجوك .. أرجوك تماسكى حتى نستطيع أن ندبر لقاءً آخر.
آآ ه .. لماذا تلهو بنا الأقدار هكذا ياربى ؟؟
سأظل ساهراً طوال الليل أكتب لك .. وأنت أيضاً حدثينى عن كل ماحدث منذ افتراقنا آخر مرة.
نظر إليها وكأنه يملأ عينيه من ملامحها .. وتحول فى بطء يسير
بخطوات مثقلة مبتعداً عنها.
تابعته بعينيها وهو يخرج من غرفة المكتبة التفتت نحو الجدار الأخير وهى تحاول عبثاً أن تتمالك نفسها وتتحكم فى طوفان دموعها ونشيجها المكتوم.
السـجيـــنبثينة خضر مكيقاصة من السودان رقية زوجة المأمور هى جارتهم والصديقة الحميمة لوالدتها صفية. كانت علاقتهم ببيت المأمور قديمة وأزلية. المأمور قد عمل فى سجن المدينة قبل أكثر من عشرين عاماً بعد عودته اليها منقولاً من مدينة جوبا بجنوب السودان. ومكث مدة ست سنوات يعمل فيها بالمدينة الصغيرة توطدت فيها علاقته بأهل المدينة الصغيرة , إشترى لنفسه بيوتاً ومتاجراً وأراضى زراعية غرب النيل وتزوجت إبنته الكبرى من احد ابناء اثرياء المدينة. كما تزوجت ابنته الثانية من ضابط فى الجيش جاءت به الاقدار كما جاءت بالمأمور ورآى البنت فى احتفالات المولد النبوى .. أعجبته , خطبها من والدها وتمت مراسيم الزواج. عندما جاء للمأمور أمر النقل بعد ستة أعوام لمدينة جوبا حزن كثيراً .. لقد اتخذ لنفسه سكناً ووطناً وأهلاً لكنه نفذ قرار النقل بعد ان ماطل كثيراً .. غير أنه ظل طيلة مكوثه فى مدينة جوبا يرسل الهدايا والواسطات وخطابات الرجاء للمسئولين ليعيدوا نقله الى مدينة شندى ثم أوعز لبعض وجهاء المدينة ليكتبوا خطاباً للسلطات مطالبين بإعادته لموقعه قائلين أن الديار قد خربت من بعده وطالتها أيدى الحرامية والمجرمين. بعد خمس سنوات طويلة استجابت السلطات وعاد محمد السيد مأموراً عاماً لسجن شندى , لم يسكن فى بيت الحكومة وكان قد بنى بيتاً حديثاً فى أجمل أحياء ..المدينة .كان بيتاً واسعاً يمتلى فناؤه بأشجار الليمون والمانجو الظليلة والجوافة وقد زرعت بتنسيق بديع , و شكلت شجيرات الحنة والتمرهندى سياجاً أخضر حول حوائط المنزل الخارجية. يحتوى المنزل على غرف كثيرة ثلاثة منها غرف للنوم بها حمامات داخلية وهناك غرف لإستقبال الضيوف واسعة و فارهة .. فيها ظلال فخامه الطلاء وبلاط السيراميك . لكن اجمل تلك الغرف وأهمها بالنسبة للمياء كانت غرفة المكتبة فيها ارفف الكتب المتراصة حتى السقف وبها جهاز كمبيوتر وجهاز فاكس. كان المأمور قد حزم أمره وقرر ان يمضى بقية عمره فى تلك المدينة الوادعة الجميلة ولهذا رفض السكنى فى منزل الحكومة المخصص له لأنه عازم على الاستقالة إذا تم نقله ثانية وقد بقيت على احالته للمعاش سنوات قليلة .لكن اكثر ما كان يبهر لمياء فى بيت المأمور هو غرفة المكتبة كانت تمتلك كتباً كثيرة, وحفاظاً عليها طلبت من زوجة المأمور ان تجعل لهاحيزاً صغيراً فى مكتبة زوجها ترص فيه كتبها . خوفاً عليها من التلف والضياع . فى ذات يوم حدث المأمور زوجته بأنه سوف يرسل محكومين من السجن لترتيب المكتبة فى ذلك اليوم عند زيارة لمياء لزوجة المأمور كانت تحدثها أثناء شرب الشاى .عمك المأمور رسل مساجين من السجن يقول عليهم انهم ناس محترمين وسياسيين عشان يرتبوا المكتبة .. تعالى شوفى كتبك. عايزة تختيها وين؟ حين دخولها غرفة المكتبة لاحظت لمياء وجود ثلاثة رجال بملابس السجن يعملون فى همة فى تنظيم وترتيب الكتب على الارفف وهم يطلقون التعليقات فى همس . القت عليهم التحية دون اهتمام ومضت الى حيث توجد كتب التاريخ والآدا ب ومن بينها كتبها. لم تلق بالاً لملامح أوشخصيات الموجودين بالمكتبة فهى تعودت وجود السجناء بملابسهم المميزة فى بيت المأمور . ارتبك هو عند دخولها وقد تيقن من شخصيتها . مضت لحظات طويلة وهى تنقب بين الكتب وتصطفى بعضاً منها دون أن تنتبه لوجوده. وضعت بعض الكتب الى جانب, وحين رأت ان كتب التاريخ تختلط ببعض كتب الفلسفة رفعت رأسها لتبدى ملاحظاتها فى ترتيب المكتبة. لو سمحتوا.. كتب الفلسفة وعلم النفس فى الصف دا خلوها مع بعض عشان….. والتقت عيناها بعينى مريود.. يا للصاعقة .. مريود سليمان الذى طالما طاردها فى احلامها ومنعها من قبول كل الذين تقدموا للزواج منها .. دق قلبها فى لهفة شوقاً وجزعاً وخوفاً من عاطفتها الجامحة التى كانت تحاول مداراتها وهى تبحث عنه فى عيون الآخرين وفى فكرهم وشخوصهم .. فيتبدى لها الفرق دائماً شاسعاً فزعت من نفسها واحتدام افكارها وهى تحسه قريباً منها .. غالبت عواطفها ونظرت اليه مرة ثانية .. كان قريباً منها امسك بكتاب بين يديه وادار ظهره للآخرين وهو ينظر اليها فى قوة وهويغالب اندهاشه وعواطفه المحبوسة , ونفسه الجريحة وهو يلتقى بها, بعد تلك الغيبة الطويلة .. وهو بملابس السجن. كانت الدموع ترقرق فى عينيه. لم تستطيع ان تتمالك نفسها وضعت الكتب التى كانت تحملها بسرعة على الرف أمامها واسرعت خطاها هرباً من غرفة المكتبة دون أن تكمل عبارتها التى ظلت كلماتها معلقة فوق سماء الغرفة وظل يرقبها فى صمت وهى تترك المكان فى خطوات سريعة متعثرة. حين خروجها من الفناء تنبهت لمياء لوجود زوجة المأمور مضطجعةً فوق سرير وثير تحت شجرة المانجو الظليلة التى تتوسط الحوش, وصينية الشاى التى امامها , تحتوى على الثيرموس الالماني الصنع الذى يبقى عليه الشاى ساخناً لفترة ثلاثة ساعات وأكواب الزجاج التركية الصنع ,لها أيدى ,وصحون توضع فوقها , وبها نقوش ذهبية ,وبسكويت اليانسون فى صحن مضلع جميل مفروش بورق زخرفى ابيض , بينما الثيرموس الأحمر الكبير الذى يوضع به الثلج والماء البارد على طاولة مجاورة وقد وضع فوقه كوز من معدن الاستيل للشراب . هكذا دائماً تكون جلسة رقية زوجة المأمورفى ضحى كل يوم .بعد أن خرجت لمياء مسرعة من غرفة المكتبة, جلست على الكرسى وهى تلهث وتكح من فرط اضطرابها الذى تحاول اخفاءه عن ملاحظة زوجة المأمور.خلاص .. رتبتى كتبك فى المكان اللى عايزاه؟لا .. لسه.. انا تعبانة شوية .طيب .. قولى للمساجين .. عشان يعملوا حسابهم آ .. بالمناسبة ديل مساجين جداد؟ابداً .. عمك بيقول فى واحد اسمه .. اسمه مريود ليه تسعة شهور فى السجن وقال هو زول سياسى شاطر واخلاقه عالية, وبحب قراءة الكتب.. الكتب ال فى المكتبة دى كلها قراها وكتب عنها ملخصات . قال لعمك يحفظها ليه لما يطلع من السجن يمكن ينشرها فى كتاب.تسعة شهور؟آى والله .. المسكين باقى ليه تانى مدة طويلة اصلوا مامحكوم. ـــ تسعة شهور .. تسعة شهور؟رددت لنفسها فى همس جازع. . تسعة شهور ومريود سليمان ينام ويصحو ويقرأ ويكتب ويأكل ويشرب فى نفس المدينة وهى لاتدرى عنه شيئاً .. كل اشواقها وهواجسها كانت تسافر بحثاً عنه فى الخرطوم والابيض والمنافى الاوربية .. وهو هنا .. فى ذات المدينة .. ولا تدرى عنه شيئاً ؟!يالسخرية الاقدار .. نضحك ماشاء لنا الوقت والمزاج .. نظن فى انفسنا الذكاء والحكمة .. لكننا نكتشف فى النهاية اننا لعبة فى يد الاقدار .. تضحك علينا فى لهوها الساخر بحيواتنا البشرية , الله وحده يعلم حكمة مصائرنا فى يد ها وما نحن سوى بشر ضعفاء . آهـ .. آ آهـ رددت فى وجعمالك .. ؟ شكلك تعبانة.آى .. تعبانة كتير .خذى فنجان قهوة .. يعدل مزاجك لا .. أنا حا أمشى اقول شوية توجيهات للمساجين بخصوص ترتيب المكتبة وامشى ارتاح فى البيت .. لو الدنيا دى فيها راحة ! نهضت .. وإتجهت نحو غرفة المكتبة ورقية تتابعها بنظراتها فى استغراب لإنقلاب حالها المفاجىء. كانت تتعثر فى خطواتها رغم انها تحاول التزام الثبات والرزانة وجدته واقفاً امام الأرفف الأمامية فى المكتبة وهناك مسجون آخر يناوله الكتب، نظرت اليه .. فى شوق ثم أشارت اليه بعينيها واتجهت الى الأرفف الخلفية . تمهل قليلاً , قال بعض كلمات لزميله , ودفع اليه بعض الكتب التى كان يحملها , ثم تبعها. وقف أمامها . ثوان طويلة وكأنها دهور وهما يتبادلان النظر فى صمت .مــــــــر.. يـــــــــــو .. د !! تبعثرت حروف اسمه فى حلقها الجاف خفقت جفون عينيه بعنف وتشنجت عضلات وجهه وهو يحاول ان يمنحها ابتسامة حانية لمياء !! إزيك .. ما اجمل السجن الذى يجمعنى بك .خمس سنين يامفترى, دون رسالةأو اشارة منك !هش ..ش لا ترفعى صوتك ليس من الحكمة أن يعرف أحد هنا بعلاقتنا السابقة .. أكتبى لى بأخبارك وسأظل أكتب لك طوال الليل وفى الغد نتبادل الرسائل .. والأخبار. اختلجت عضلات وجهه وهو يتأملهاسوف احتال على المأمور للحضور غداً بحجة عدم أكتمال ترتيب المكتبة. آه ما أجملك .. لم يتغير فيك شىء منذ أيام الكلية .لكنك أنت تغيرت ..وأنهمرت دموعها طوفاناً يغرق وجهها ..نظر إليها فى حزن .. ود لو يستطيع أن يضمها الى صدره ويكفكف دموعها وهو يقول فى لهفة وجزعأرجوك .. أرجوك تماسكى حتى نستطيع أن ندبر لقاءً آخر. آآ ه .. لماذا تلهو بنا الأقدار هكذا ياربى ؟؟ سأظل ساهراً طوال الليل أكتب لك .. وأنت أيضاً حدثينى عن كل ماحدث منذ افتراقنا آخر مرة. نظر إليها وكأنه يملأ عينيه من ملامحها .. وتحول فى بطء يسير بخطوات مثقلة مبتعداً عنها.تابعته بعينيها وهو يخرج من غرفة المكتبة التفتت نحو الجدار الأخير وهى تحاول عبثاً أن تتمالك نفسها وتتحكم فى طوفان دموعها ونشيجها المكتوم.