إذا طلب مني ذات يوم ان اقدم افضل التجارب في مجال القراءة التي مرت في حياتي ، ساختار بعض التجارب اعتبرها الاكثر عمقا ، واحدة من هذه التجارب هي قراءة الفلسفة الوجودية وبالأخص كتب جان بول سارتر ، ولأنني كنت اضع برنامجا ، فقد حاولت ان اتجول في دهاليز هذه الفلسفة فاذهب تارة الى كيركغارد ومرة اخرى صوب نيتشه ، ثم اكتشفت عن طريق المسرح " جابريل مارسيل " ، لكنني كنت اخشى الاقتراب من مارتن هايدغر ، آنذاك كنت في أوائل العشرينات من عمري ، وأواجه صعوبة في قراءة بعض الكتب الفلسفية ، لكن سارتر كان ساحرا ياخذ بيديك ليوصلك الى الهدف الذي يريده ، وكان الهدف هو ان يعيش الانسان حرا ، وان هذا الانسان مسؤول عن حريته ، وكنت اعتقد ان موضوعة الحرية هي الثيمة الوحيدة في الفلسفة الوجودية الى ان عثرت على كيركغارد في كتاب ممتع كتبه امام عبد الفتاح امام وقد وجدت نفسي مسمرا الى هذا الكتاب وهو ياخذني في رحلة ممتعة الى مهد الوجودية التي وقعنا في هواها والتي اكتسحت المشهد الثقافي في الخمسينيات والستينيات ، ولا تزال تلقى هوى في نفوس الكثيرين بالرغم من ظهور افكار جديدة ابطالها رولان بارت وميشيل فوكو وجاك دريدا وهابرماس والان باديو .ولكن اين الالماني مارتن هايدغر من كل هذا . في تلك السنوات قرأت كتابا بعنوان " مدرسة الحكمة " كتبه عبد الغفار مكاوي ، وكنت قد تعرفت على مكاوي من خلال ترجماته لمسرحيات بريشت وبوشنر وكتابه الممتع " البلد البعيد " . في مدرسة الحكمة مقال بعنوان " حذاء فان كوخ " وفي الهامش يكتب مكاوي ان المقال " تضمين أمين لمقال هايدغر ( حقيقة العمل الفني ) " ، و " حذاء" لوحة رسمها فان كوخ عام 1886 ، لم تلق أي قبول خلال حياته، لكن حين عُرضت اللوحة في معرض أمستردام، عام 1930، اثارت اعجاب عشاق الفن التشكيلي ، وولدت في نفس الفيلسوف الالماني هايدغر اسئلة حول طبيعة العمل الفني ومغزاه " وسينشر تصوره في كتاب بعنوان " أصل العمل الفني " – ترجمة ابو العبد دودو- حيث يرى هايدغر ان الحذاء المرسوم في لوحة فان كوخ بتشققاته لا يستهدف نقل الحذاء الواقعي الموجود في الخارج بل هو ينقل كفاح الفلاح وتعبه وعذابته وصراعه مع الارض لكي يتأسس .. الفن انفتاح " فتحة في الوجود منها ينفذ نور الحقيقة " . وهذه الحقيقة تعلن ان الانسان هو التأسيس..كان كتاب عبد الغفار مكاوي " مدرسة الحكمة " المدخل الاول للتعرف على هايدغر ، وكان لا بد ان ابدأ رحلة البحث عن هذا الفيلسوف . في المكتبة التي كنت اعمل فيها لا يوجد سوى كتاب واحد عليه اسم مارتن هايدغر صدر ضمن سلسلة النصوص الفلسفية ويضم ثلاث مقالات هي " ما الفلسفة ؟ ما الميتافيزيقيا ؟ هيلدرلين وماهية الشعر " -ترجمة فؤاد كامل - سحبت الكتاب من الرف وقررت ان اجرب حظي مع الرجل القصير القامة الذي رفض ان يتخلى عن طباع الفلاح . مازلت اتذكر المقدمة القصيرة التي كتبها عبد الرحمن بدوي للكتاب برغم من بعض المصطلحات التي حفلت بها ولم اكن اعرفها من قبل ، إلا انني وجدت فيها مدخلا مهما الى عالم هايدغر ، وقد كان بدوي مغرما بهايدغر يقلده حتى في ملبسه ، بل انه كتب رسالته للدكتوراه بعنوان " الزمان الوجودي " تحت تاثير كتاب هايدغر الشهير " الكينونة والزمان " ، إكذب لو قلت انني استوعبت الصفحات التي فرأتها . اعرف المفردات التي جاءت في الكتاب ، لكن لا اعرف هذه التراكيب العجيبة التي تمتلئ بها صفحات الكتاب ، ومضت ساعة من الالغاز الفلسفية ، وقلت مع نفسي ان هذا فيلسوف فاشل ، فانا كنت آنذاك اؤمن بمقولة قرأتها في احد كتب عباس محمود العقاد يقول ما معناه ان الكاتب الذي لا يستطيع ان يشرح فلسفة او نظريه في صفحات قليلة ، فهو مفكر فاشل . اغلقت الكتاب وانا مطمئن الى ما قاله العقاد ..في ذلك الوقت كنت اخوض مع كتب الفلسفة معركة صعبة ، احببت بعضها ، واصابتني الرهبة امام عناوين معينة ، لكنني كنت اشعر تجاهها بعاطفة كبيرة ، افتح صفحاتها ، واقرأها واشعر انني امتلك معها مزاجا خاصا ، كانت كتب الفلسفة التي اقتنيها تتكاثر بسرعة ، وكنت اشعر في بعض الاحيان انها تريد ان تقرر مصيري ، غرقت بين صفحاتها . لم تخطر ببالي فكرة فصل نفسي عنها ، واحيانا تمارس هذه الكتب بعض الحيل تجاهي لتشغل تفكيري ، واحدى هذه الحيل هي الظهور بعدة طبعات وباغلفة مختلفة ، وهذا ما سيحصل لي مع كتاب هايدغر " ما الفلسفة ؟ " حيث ظهر ثانية امامي بغلاف ابيض اللون وعليه اسم المترجم عثمان امين ، ساجد ضالتي في المقدمة الساحرة التي كتبها امين لمحاضرة ما هي الفلسفة ؟ والتي كان هايدغر قد القاها عام 1955 في فرنسا ونجد فيها هايدغر يضع تعريفه الخاص للفلسفة عن طريق البحث عن جوهرها ، ان افضل تعريف للفلسفة في نظر هايدغر هو مواجهتها من حيث صلتها بحياتنا ، او من حيث صلتنا الصميمية بها ، وعلينا إذن ان نحدد طريقا تعرفنا بالفلسفة . وهذه الطريق هي كلمة " الفلسفة " وكان هايدغر يؤثر قلب التعريف اليوناني للفلسفة بانها " محبة الحكمة " الى " حكمة المحبة " ، وسؤالنا ما هي الفلسفة ؟ ليس اقامة نوع من المعرفة الفلسفية فقط ، وإنما هو سؤال تاريخي ، بفعل انه مرتبط بمصيرنا نحن البشر ، وهايدغر يعتبر السؤال الفلسفي هو السؤال التاريخي للانسان الاوربي وقد سأله منذ حضارة اليونان ، وعمل من اجله ، فارتبط بحياته ، حتى انبثقفت العلوم الحديثة عنده ، يقول هايدغر ان الفلسفة شيء من موجودبيننا .- ما الفلسفة ترجمة عثمان امين –
لم تنته حكايتي مع هايدغر بعد ان ارشدني عثمان امين الى افضل الطرق التي يمكنني ان اسلكها للتعرف عليه جيدا ، لكني ساواجه معظلة جديدة ، كنت كلما اسأل صديق عن احد كتب هايدغر ينظر اليّ بريبة وهو يقول : معقول ان تقرأ لكاتب نازي ، كان اصدقائي اكثرهم من التيار الماركسي ويجدون في كتابات هايدغر نوعا من الفاشية وانها تصب ضمن خانة اللامعقول والتي يعتبرونها ضاهرة مناهضة للفكر الثوري ، في المقابل كان هناك من يقول لي ان مارتن هايدغر اعظم فيلسوف في القرن العشرين ، وانه مارس تاثيرا كبيرا على سارتر وجماعة الوجودية الفرنسية .وفي مواجهة هذه الآراء اخترت غواية هايدغر من اجل ان اقرأ معه قصة غرامه بالفلسفة وايضا حكاية غرامه بالفاشية ودفاعه عن القومية الالمانية .
ولد مارتن هايدغر في 26 ايلول عام 1889، لأب يصنع البراميل في النهار، ويلقي المواعظ في الكنيسة عند المساء، كان اكبر الاولاد، شكلت بلدته الصغيرة الواقعة في منطقة بادن الالمانية أساس حياته، وقد ظل يظهر نفسه دائما كشخص قروي، في الرابعة عشرة من عمره دخل المدرسة الثانوية في مركز المدينة، بمساعدة من الاموال التي جمعها كاهن القرية له، وبفضل هذه الاموال حصل على شهادة البكلوريا من المعهد اللاهوتي عام 1909، وبسبب سوء حالته الصحية عاد الى قريته، بعد عامين من العزلة تخلى عن دراسته اللاهوتية، ونراه يتحول الى دراسة الرياضيات والفلسفة، في ذلك الوقت من عام 1911 قرأ كتاب " مباحث منطقية " لادموند هوسرل الذي قلب حياته وأثر كثيرا على تطوره الفكري، كان هوسرل استاذا جامعيا في فريبيرغ، وكتابه مباحث منطقية الصادر عام 1901 شكل مرحلة فاصلة في الفلسفة الحديثة، كانت الفلسفة انذاك منقسمة الى تيارين، الاول يستند الى منهجية علمية، والثاني الى فلسفة أدبية، وشرع هوسرل بنقد الاتجاهين، ان " الفلسفة علم " هذا ما سيؤكد عليه هوسرل في مباحث منطقية، سيخبرنا هايدغر فيما بعد ان استاذه هوسرل:" سدد ضربة قاصمة الى فلسفة القرن التاسع عشر، وقد سعى الى تاسيس الفلسفة كعلم صارم بالاستناد الى تلك الظاهرات التي ترينا نفسها من تلقاء نفسها " يعرف منهج هوسرل بالظاهريات، انه يهتم بظاهرة التجربة الفعلية، وقد كان الفلاسفة التجريبيون من امثال هيوم قد اكدوا الى امكانية ان تخدعنا احاسيسنا بما يخص العالم الخارجي، فيما ديكارت كان قد استنتج ان الشيء الوحيد الذي يمكننا معرفته بشكل مؤكد هو ذواتنا ككائنات تفكر، لكن هوسرل اعتبر ان الشيء الوحيد الذي نستطيع مناقشته بصدق هو العالم كما نختبره وهو ما اطلق عليه " عالمنا الذي نعيش فيه "، لكن ماذا يشبه العالم الذي نعيش فيه ؟ ما الذي ندركه عندما ندرك تجربتنا الخاصة، قدم سؤال هوسرل هذا نقطة البداية لفيلسوف جديد اسمه مارتن هايدغر، سيحاول فيما بعد تطوير فلسفة استاذه من خلال كتاب شهير سيصبح الأهم في تاريخ الفكر الفلسفي الحديث اسماه " الكينونة والزمان "
في عام 1914 ومع اندلاع الحرب العالمية الاولى تطوع هايدغر في الجيش، لكنه سرح بعد ثمانية ايام لأسباب صحية، وقد تاثر بالقرار وقال لمعارفه:" لو منحوني فرصة مناسبة، فقد كنت ارغب بالقتال ".
في عام 1917 يتزوج، وتقدم له زوجته كوخ بَّنته من اجله في تودنابيرغ، عاش في ذلك الكوخ كريفي، هارباً من التطور الثقافي ليصبح الكوخ علامة من علامات حياته، حيث كان يدعو تلامذته لالقاء محاضراته هناك، متفرغا ليكتب معظم مؤلفاته الفلسفية.
في عام 1923 ينتفل للتدريس في جامعة برلين، في تلك الفترة وخلال وجوده بالجامعة التقى بطالبة جديدة اسمها حنا ارندت، اصبحت فيما بعد محبوبته، كانت انذاك في الثامنة عشرة من عمرها، وكان هو في الخامسة والثلاثين،لديه زوجة وولدان وتكشف الرسائل بينهما مدى عمق علاقتهما. في عام 1925 يكتب لها " عزيزتي حنا، لقد سيطر شيطاني عليَّ، هذا لم يحدث لي من قبل، في اثناء المطر، وفي الطريق الى البيت، لم تكوني اكثر جمالا وروعة مما كنت حينها، واود ان اسير معك لليالٍ لا تنتهي "
في نيسان عام 1926 أهدى هايدغر استاذه هوسرل كتابه " الكينونة والزمان " في حفلة اقيمت في كوخه الجبلي بمناسبة عيد ميلاد هوسرل السابع والستين، وقد قدمه باهداء " إدموند هوسرل..إجلالا وصداقة " وقد نشر بعد ذلك بعام في الكتاب السنوي الذي يصدره هوسرل عن الفلسفة الظاهراتية.
كان الكتاب عملا رائدا في الفلسفة الحديثة، استند فيه هايدغر على اعمال نيتشه وشوبنهور وكيركجغارد، وقد اهتم فيه بالدرجة الاولى بطبيعة الكائن البشري، وبما يعنيه ان تكون انسانا.وقد تأسس الكتاب على عمل معلمه هوسرل، لانه يتفحص حياة الانسان من وجهة نظر الفلسفة الظاهراتية، حيث يدرك هايدعر ان وجود الانسان راسخ في الزمن، وفي الواقع، نحن عبارة عن تجسيد للزمن، نعيش في الماضي والحاضر والمستقبل، وتتشكل حياتنا وبالقدر نفسه، نحن محدودون بالظروف التي ولدنا بها.
في الوجود والزمان يدرس هايدغر، وفق الموسوعة الفلسفية التي وضعها عبد الرحمن بدوي، الوجود الإنساني باعتباره شكل الوجود الذي يعرفه الإنسان معرفة أفضل من معرفته بالأشكال الأخرى، ولكنه يصرُّ دائماً على أن اهتمامه لم يكن اجتماعياً أو نفسياً، وإنما حاول أن يتخذ من الوجود الإنساني نافذة يطلّ منها على الوجود. فالانسان في فلسفة هايدغر صانع لنفسه ، وهذه صفة من صفات الوجود اي قدرة الانسان على ان يكون ذاته ، وهو ما يسميه هايدغر " الذاتية " ، و لا يمكن للذات ان تصبح نفسها إلا اذا كانت تتمتع بالحرية ، ولكن هذه الحرية ليست مطلقة عند هايدغر إذ يحددها الميلاد من احد طرفيها ، والموت من الطرف الآخر . فنحن لم نكن احرارا عندما ولدنا . ولسنا احرارا في اختيار اللحظة التي نموت فيها .- عبد الرحمن بدوي الموسوعة الفلسفية -
في عام 1928 تولى هايدغر منصب استاذ الفلسفة خلفاً لمعلمه هوسرل، وخلال الاعوام القادمة ستكبر مكانته كاكاديمي بارز، يجذب حوله مئات الطلبة الذين كانوا يروا في كتاباته مساهمة اساسية في الفلسفة الحديثة، في نيسان عام 1933 يتم انتخابه رئيسا لجامعة فريبيرغ، في ذلك العام انضم الى الحزب الاشتراكي الوطني الذي يقوده هتلر واطلق عبارات من نوع:" الشعب، مهمة، مصير، الحسم، الإرادة "، واصبحت كتاباته ترتبط بشكل واضح بما اسماه الصحوة الوطنية الالمانية، وكان يعتقد ان الجامعة يجب ان تشارك في المهمة الروحية للشعب الالماني، ولم تعد المعرفة الاكاديمية بالنسبة اليه سعياً منعزلاً عن العمل السياسي، وحين التقى شبنجلر كان منتشيا بالثورة التي احدثتها الاشتراكية الوطنية، وكان يرى ان باستطاعته ان يقدم الدعائم الفلسفية كلها للحزب الاشتراكي الوطني، كان وعده بولادة جديدة للامة الألمانية، مناسبا ايضا لانعدام ثقته بالثقافة الليبرالية العالمية، كان هايدغر قرأ الجزء الاول من كتاب " شبلنجر "، تدهور الحضارة الغربية " باعجاب كبير، وقد أثر الكتاب عليه فيما بعد واصبحت نظرة هايدغر للغرب تنبىء عن كوارث قادمة، فقد كان تاريخ العالم في هذا القرن، كما كان يشرح لطلبته، انما هو نتيجة " لإرادة الإرادة " لدى الغرب. سعى للقاء شبلنجر الذي كان يحضر للجزء الثاني من الكتاب، وجد شبلنجر شديد التشاؤم مما يجري، يوجه سهام نقده للأفكار الليبرالية باعتبارها افكاراً تحتضر وبأن الديمقراطية مجرد لعبة تجارية، بعد المقابلة يصل هايدغر الى استنتاج ان: " التفسخ الروحي لاوروبا قد وصل مرحلة متقدمة، لدرجة ان: "الامم اصبحت تواجه خطر فقدان آخر جزء من الطاقة الروحية، ذلك الجزء الذي يمكنها من ادراك هذا الاضمحلال وتقدير حجمه " . في نهاية عام 1933 كان هايدغر لا يزال متحمسا لقضية النازية، وقد كتب مناشدة للطلبة أنهاها بالكلمات التالية: " لا تدع الأفتراضات تشكل قانون وجودك، الفوهررنفسه ولوحده هو حاضر ومستقبل الواقع الالماني وقانونه "، وفي العام التالي صدر امر بمنع معلمه اليهودي هوسرل من دخول مكتبة الجامعة، وكان القرار مؤلماً بالنسبة لهايدغر الذي كتب رسالة الى هوسرل يعتذر فيها:" لقد صدمني القرار في أعمق جذور تجربتي الحياتية " ومع مرور الأيام بدا واضحا ان الحزب النازي لم يكن مستعدا لتبني هايدغر كمستشار فكري بسبب علاقاته مع هوسرل واليهودية حنا ارندت، وفي عام 1934 قادته النزاعات مع مسؤولي الحزب النازي الى الاستقالة من رئاسة الجامعة، وفي نهاية الثلاثينيات زال الوهم عنه في ما يتعلق بالتوجه الذي اتخذته الحركة النازية على الرغم من انه لم يتنصل من وجهات نظره، حيث ظل يؤمن ان الاشتراكية الوطنية هي المسار الصحيح للامة الالمانية، ونراه عام 1966 يعترف بانه رأى الصحوة الوطنية تحت قيادة هتلر تعبيرا عن قدوم السوبرمان الذي تحدث عنه نيتشه .
بعد نهاية الحرب قُدم مذنبا الى لجنة ازالة النازية حيث وضعت اللجنة تقرير عن تورطه في الحزب النازي، وقد اصدرت اللجنة قرارا بطرده من الجامعة، لكنها سمحت له بالكتابة والنشر، ومع منعه من دخول الجامعة واصل الكتابة ، نشر كتابه رسالة في النزعة الانسانية، وهو الكتاب الذي جاء ردا على محاضرة سارتر الشهيرة " الوجودية فلسفة انسانية " التي القاها عام 1945، واصبحت فيما بعد بياناً للوجودية الفرنسية، ، حيث أعلن سارتر خلالها انه يريد ان يحول وجودية هايدغر الى فلسفة حياة بالنسبة للانسان الحر. في كتابه " رسالة في النزعة الانسانية " ينتقد هايدغر الفلسفة الانسانية التقليدية بسبب تعريفها للانسان باعتباره " حيواناً عاقلاً " او " حيواناً ناطقاً "، ينتقص هذا المفهوم في رأي هايدغر من قيمة الانسان ويؤدي بسهولة الى ظهور مجتمع صناعي يعرف الانسان من حيث انتاجيته، ويقيم كل القيم من حيث نفعها الاجتماعي او الشخصي. ويرى هايدغر ان سارتر عاجز عن الهروب من هذه الفلسفة التقليدية، فعظمة الانسان تكمن حسب رأي هايدغر في انفتاحه على الوجود وفي قدرته على الاحتفاظ بمكان في العالم يمارس فيه ما سماه بواقعية وجوده، وفي تعبير شهير نجد هايدغر يطلق على الانسان اسم "راعي الوجود"ـ وهو الذي تكمن عظمته في البقاء منفتحاً ويقظاً للنداء
في عام 1949 تم الاحتفال بعيد ميلاده الستين، وقد نشر تلامذته كتابا تذكاريا عنه. عام 1950 تقرر السلطات عودته الى منصبه الجامعي، فيلقي محاضرة واحدة بعدها يقدم استقالته، يقرر مجلس الشيوخ منحه منصبا فخريا في الجامعة بصفة بروفيسور، غطت اعماله اللاحقة انواعا مختلفة من المواضيع المهمة فلسفياً واجتماعياً، وكان في اخر سنواته، يخشى من انتقال الانسانية الى حالة التشرد حيث اصبح العالم ببساطة مجرد ملاذ. عندما بلغ هايدغر سن الثمانين عام 1969 ، وصفته حنة آرنت بـ " ملك الفلسفة " مشيرة الى ان فلسفته غيرت المشهد الفكري في القرن العشرين وكانت شبيهة بالعاصفة التي اثارتها فلسفة افلاطون وبعثت له برسالة تقول فيها :
" تحية الى مارتن هايدغر
في عيد ميلاده الثمانين ، يكرم المعاصرون المعلم والاستاذ والصديق ، آمل من اولئك الذين يأتون بعدنا ، إن عملو على مراجعة قرننا وأهله وابدوا اهتمامهم بما حققناه ، ألا ينسوا العواصف الرملية المدمرة التي جرفتنا جميعا ، كلاً في طريقه الخاص ، والتي افسحت المجال – على الرغم من كل شيء – لمثل هذا الرجل واعماله .-
حنة أرندت التفكير الحر -
يصف البعض ان فلسفة هايدغر انخرطت في النازية ، وهي تشبه ما فعلته فلسفة نيتشه ، لعل هذه المقارنة ظالمة ، فربما تاثير نيتشه الواضح على الفكر القومي الالماني الذي انبثقت منه النازية ، لكننا لن نجد في اعمال هايدغر سوى مواقف سياسية مرحلية لا علاقة لها بمنظومته الفلسفية .وعندما اراد نيتشه ترسيخ إرادة القوة ، كان هايدغر يكتشف افاقا جديدة في الفلسفة فيها حقائق عن الفن والشعر ، وفيها ايضا تحذير من نتائج تطور تقنيات العلوم على الوجود الانساني ، في صيف عام 1942 بعد ان دخلت الولايات المتحدة الامريكية الحرب ، كتب هايدغر :" نعلم اليوم ان العالم الانجلو – ساكسوني الامريكي قرر ان يفني اوربا ، وهذا يعني الوطن ، كما يعني ايضا نهاية كل ما هو غربي " . لكن هل هذا الموقف يمكن ان يبرئ هايدغر ، يختتم الفيلسوف الالماني يورغن هابرماس مقاله عن هايدغر والذي يعترض فيه على الذين يقولون ان ما حدث لهايدغر مع النازية خطأ شخصي قائلا :" هل يمكننا ان نفسر القتل المنظم لملايين الناس ، باعتبار انه خطأ من وجهة نظر تاريخ ( الكائن ) الذي فهم كما لو انه مصير ؟ اليس القتل المنظم هو الجريمة الفعلية لاولئك الذين ارتكبوها بكل مسؤولية ؟ الا نجازف الآن وبعد مضي وقت على ذلك ، أن نواجه ما حدث ، وأن نواجه ايضا ما كنا .. اعتقد حان الوقت لكي نفكر مع هايدغر ضد هايدغر – هابرماس ترجمة حسونة مصباحي -
في السادس والعشرين من ايار عام 1976 ، استيقظ هايدغر صباحا كعادته ، لكنه في منتصف النهار عانى من مصاعب في التنفس ليتوفى على اثرها في المساء ، كان قبلها بايام قد طلب ان تجري له مراسم دفن كنسية ، وقال لزوجته ان القرب من الموت يتضمن في ذاته القرب من الوطن .
هل تورطت بقراءة اعمال فيلسوف قال انه " خدع في دعاوى النازية " .. ان من خصائص الفكر الفلسفي البحث عن الحقيقة ، ولهذا كان على فيلسوف مثل هايدغر ان يعي منذ البداية ، الطريق المظلم الذي ستنزلق اليه الامة الالمانية في ظل الحكم النازي . عل انا اذن ضد هايدغر سؤاله سيحيبني عليه تلميذه غادمير الذي كتب بعد رحيل استاذه :" :" حينما يدعي الناس أنهم ضد هايدغر أو مؤيدون له فإنهم يخدعون انفسهم " .
لم تنته حكايتي مع هايدغر بعد ان ارشدني عثمان امين الى افضل الطرق التي يمكنني ان اسلكها للتعرف عليه جيدا ، لكني ساواجه معظلة جديدة ، كنت كلما اسأل صديق عن احد كتب هايدغر ينظر اليّ بريبة وهو يقول : معقول ان تقرأ لكاتب نازي ، كان اصدقائي اكثرهم من التيار الماركسي ويجدون في كتابات هايدغر نوعا من الفاشية وانها تصب ضمن خانة اللامعقول والتي يعتبرونها ضاهرة مناهضة للفكر الثوري ، في المقابل كان هناك من يقول لي ان مارتن هايدغر اعظم فيلسوف في القرن العشرين ، وانه مارس تاثيرا كبيرا على سارتر وجماعة الوجودية الفرنسية .وفي مواجهة هذه الآراء اخترت غواية هايدغر من اجل ان اقرأ معه قصة غرامه بالفلسفة وايضا حكاية غرامه بالفاشية ودفاعه عن القومية الالمانية .
ولد مارتن هايدغر في 26 ايلول عام 1889، لأب يصنع البراميل في النهار، ويلقي المواعظ في الكنيسة عند المساء، كان اكبر الاولاد، شكلت بلدته الصغيرة الواقعة في منطقة بادن الالمانية أساس حياته، وقد ظل يظهر نفسه دائما كشخص قروي، في الرابعة عشرة من عمره دخل المدرسة الثانوية في مركز المدينة، بمساعدة من الاموال التي جمعها كاهن القرية له، وبفضل هذه الاموال حصل على شهادة البكلوريا من المعهد اللاهوتي عام 1909، وبسبب سوء حالته الصحية عاد الى قريته، بعد عامين من العزلة تخلى عن دراسته اللاهوتية، ونراه يتحول الى دراسة الرياضيات والفلسفة، في ذلك الوقت من عام 1911 قرأ كتاب " مباحث منطقية " لادموند هوسرل الذي قلب حياته وأثر كثيرا على تطوره الفكري، كان هوسرل استاذا جامعيا في فريبيرغ، وكتابه مباحث منطقية الصادر عام 1901 شكل مرحلة فاصلة في الفلسفة الحديثة، كانت الفلسفة انذاك منقسمة الى تيارين، الاول يستند الى منهجية علمية، والثاني الى فلسفة أدبية، وشرع هوسرل بنقد الاتجاهين، ان " الفلسفة علم " هذا ما سيؤكد عليه هوسرل في مباحث منطقية، سيخبرنا هايدغر فيما بعد ان استاذه هوسرل:" سدد ضربة قاصمة الى فلسفة القرن التاسع عشر، وقد سعى الى تاسيس الفلسفة كعلم صارم بالاستناد الى تلك الظاهرات التي ترينا نفسها من تلقاء نفسها " يعرف منهج هوسرل بالظاهريات، انه يهتم بظاهرة التجربة الفعلية، وقد كان الفلاسفة التجريبيون من امثال هيوم قد اكدوا الى امكانية ان تخدعنا احاسيسنا بما يخص العالم الخارجي، فيما ديكارت كان قد استنتج ان الشيء الوحيد الذي يمكننا معرفته بشكل مؤكد هو ذواتنا ككائنات تفكر، لكن هوسرل اعتبر ان الشيء الوحيد الذي نستطيع مناقشته بصدق هو العالم كما نختبره وهو ما اطلق عليه " عالمنا الذي نعيش فيه "، لكن ماذا يشبه العالم الذي نعيش فيه ؟ ما الذي ندركه عندما ندرك تجربتنا الخاصة، قدم سؤال هوسرل هذا نقطة البداية لفيلسوف جديد اسمه مارتن هايدغر، سيحاول فيما بعد تطوير فلسفة استاذه من خلال كتاب شهير سيصبح الأهم في تاريخ الفكر الفلسفي الحديث اسماه " الكينونة والزمان "
في عام 1914 ومع اندلاع الحرب العالمية الاولى تطوع هايدغر في الجيش، لكنه سرح بعد ثمانية ايام لأسباب صحية، وقد تاثر بالقرار وقال لمعارفه:" لو منحوني فرصة مناسبة، فقد كنت ارغب بالقتال ".
في عام 1917 يتزوج، وتقدم له زوجته كوخ بَّنته من اجله في تودنابيرغ، عاش في ذلك الكوخ كريفي، هارباً من التطور الثقافي ليصبح الكوخ علامة من علامات حياته، حيث كان يدعو تلامذته لالقاء محاضراته هناك، متفرغا ليكتب معظم مؤلفاته الفلسفية.
في عام 1923 ينتفل للتدريس في جامعة برلين، في تلك الفترة وخلال وجوده بالجامعة التقى بطالبة جديدة اسمها حنا ارندت، اصبحت فيما بعد محبوبته، كانت انذاك في الثامنة عشرة من عمرها، وكان هو في الخامسة والثلاثين،لديه زوجة وولدان وتكشف الرسائل بينهما مدى عمق علاقتهما. في عام 1925 يكتب لها " عزيزتي حنا، لقد سيطر شيطاني عليَّ، هذا لم يحدث لي من قبل، في اثناء المطر، وفي الطريق الى البيت، لم تكوني اكثر جمالا وروعة مما كنت حينها، واود ان اسير معك لليالٍ لا تنتهي "
في نيسان عام 1926 أهدى هايدغر استاذه هوسرل كتابه " الكينونة والزمان " في حفلة اقيمت في كوخه الجبلي بمناسبة عيد ميلاد هوسرل السابع والستين، وقد قدمه باهداء " إدموند هوسرل..إجلالا وصداقة " وقد نشر بعد ذلك بعام في الكتاب السنوي الذي يصدره هوسرل عن الفلسفة الظاهراتية.
كان الكتاب عملا رائدا في الفلسفة الحديثة، استند فيه هايدغر على اعمال نيتشه وشوبنهور وكيركجغارد، وقد اهتم فيه بالدرجة الاولى بطبيعة الكائن البشري، وبما يعنيه ان تكون انسانا.وقد تأسس الكتاب على عمل معلمه هوسرل، لانه يتفحص حياة الانسان من وجهة نظر الفلسفة الظاهراتية، حيث يدرك هايدعر ان وجود الانسان راسخ في الزمن، وفي الواقع، نحن عبارة عن تجسيد للزمن، نعيش في الماضي والحاضر والمستقبل، وتتشكل حياتنا وبالقدر نفسه، نحن محدودون بالظروف التي ولدنا بها.
في الوجود والزمان يدرس هايدغر، وفق الموسوعة الفلسفية التي وضعها عبد الرحمن بدوي، الوجود الإنساني باعتباره شكل الوجود الذي يعرفه الإنسان معرفة أفضل من معرفته بالأشكال الأخرى، ولكنه يصرُّ دائماً على أن اهتمامه لم يكن اجتماعياً أو نفسياً، وإنما حاول أن يتخذ من الوجود الإنساني نافذة يطلّ منها على الوجود. فالانسان في فلسفة هايدغر صانع لنفسه ، وهذه صفة من صفات الوجود اي قدرة الانسان على ان يكون ذاته ، وهو ما يسميه هايدغر " الذاتية " ، و لا يمكن للذات ان تصبح نفسها إلا اذا كانت تتمتع بالحرية ، ولكن هذه الحرية ليست مطلقة عند هايدغر إذ يحددها الميلاد من احد طرفيها ، والموت من الطرف الآخر . فنحن لم نكن احرارا عندما ولدنا . ولسنا احرارا في اختيار اللحظة التي نموت فيها .- عبد الرحمن بدوي الموسوعة الفلسفية -
في عام 1928 تولى هايدغر منصب استاذ الفلسفة خلفاً لمعلمه هوسرل، وخلال الاعوام القادمة ستكبر مكانته كاكاديمي بارز، يجذب حوله مئات الطلبة الذين كانوا يروا في كتاباته مساهمة اساسية في الفلسفة الحديثة، في نيسان عام 1933 يتم انتخابه رئيسا لجامعة فريبيرغ، في ذلك العام انضم الى الحزب الاشتراكي الوطني الذي يقوده هتلر واطلق عبارات من نوع:" الشعب، مهمة، مصير، الحسم، الإرادة "، واصبحت كتاباته ترتبط بشكل واضح بما اسماه الصحوة الوطنية الالمانية، وكان يعتقد ان الجامعة يجب ان تشارك في المهمة الروحية للشعب الالماني، ولم تعد المعرفة الاكاديمية بالنسبة اليه سعياً منعزلاً عن العمل السياسي، وحين التقى شبنجلر كان منتشيا بالثورة التي احدثتها الاشتراكية الوطنية، وكان يرى ان باستطاعته ان يقدم الدعائم الفلسفية كلها للحزب الاشتراكي الوطني، كان وعده بولادة جديدة للامة الألمانية، مناسبا ايضا لانعدام ثقته بالثقافة الليبرالية العالمية، كان هايدغر قرأ الجزء الاول من كتاب " شبلنجر "، تدهور الحضارة الغربية " باعجاب كبير، وقد أثر الكتاب عليه فيما بعد واصبحت نظرة هايدغر للغرب تنبىء عن كوارث قادمة، فقد كان تاريخ العالم في هذا القرن، كما كان يشرح لطلبته، انما هو نتيجة " لإرادة الإرادة " لدى الغرب. سعى للقاء شبلنجر الذي كان يحضر للجزء الثاني من الكتاب، وجد شبلنجر شديد التشاؤم مما يجري، يوجه سهام نقده للأفكار الليبرالية باعتبارها افكاراً تحتضر وبأن الديمقراطية مجرد لعبة تجارية، بعد المقابلة يصل هايدغر الى استنتاج ان: " التفسخ الروحي لاوروبا قد وصل مرحلة متقدمة، لدرجة ان: "الامم اصبحت تواجه خطر فقدان آخر جزء من الطاقة الروحية، ذلك الجزء الذي يمكنها من ادراك هذا الاضمحلال وتقدير حجمه " . في نهاية عام 1933 كان هايدغر لا يزال متحمسا لقضية النازية، وقد كتب مناشدة للطلبة أنهاها بالكلمات التالية: " لا تدع الأفتراضات تشكل قانون وجودك، الفوهررنفسه ولوحده هو حاضر ومستقبل الواقع الالماني وقانونه "، وفي العام التالي صدر امر بمنع معلمه اليهودي هوسرل من دخول مكتبة الجامعة، وكان القرار مؤلماً بالنسبة لهايدغر الذي كتب رسالة الى هوسرل يعتذر فيها:" لقد صدمني القرار في أعمق جذور تجربتي الحياتية " ومع مرور الأيام بدا واضحا ان الحزب النازي لم يكن مستعدا لتبني هايدغر كمستشار فكري بسبب علاقاته مع هوسرل واليهودية حنا ارندت، وفي عام 1934 قادته النزاعات مع مسؤولي الحزب النازي الى الاستقالة من رئاسة الجامعة، وفي نهاية الثلاثينيات زال الوهم عنه في ما يتعلق بالتوجه الذي اتخذته الحركة النازية على الرغم من انه لم يتنصل من وجهات نظره، حيث ظل يؤمن ان الاشتراكية الوطنية هي المسار الصحيح للامة الالمانية، ونراه عام 1966 يعترف بانه رأى الصحوة الوطنية تحت قيادة هتلر تعبيرا عن قدوم السوبرمان الذي تحدث عنه نيتشه .
بعد نهاية الحرب قُدم مذنبا الى لجنة ازالة النازية حيث وضعت اللجنة تقرير عن تورطه في الحزب النازي، وقد اصدرت اللجنة قرارا بطرده من الجامعة، لكنها سمحت له بالكتابة والنشر، ومع منعه من دخول الجامعة واصل الكتابة ، نشر كتابه رسالة في النزعة الانسانية، وهو الكتاب الذي جاء ردا على محاضرة سارتر الشهيرة " الوجودية فلسفة انسانية " التي القاها عام 1945، واصبحت فيما بعد بياناً للوجودية الفرنسية، ، حيث أعلن سارتر خلالها انه يريد ان يحول وجودية هايدغر الى فلسفة حياة بالنسبة للانسان الحر. في كتابه " رسالة في النزعة الانسانية " ينتقد هايدغر الفلسفة الانسانية التقليدية بسبب تعريفها للانسان باعتباره " حيواناً عاقلاً " او " حيواناً ناطقاً "، ينتقص هذا المفهوم في رأي هايدغر من قيمة الانسان ويؤدي بسهولة الى ظهور مجتمع صناعي يعرف الانسان من حيث انتاجيته، ويقيم كل القيم من حيث نفعها الاجتماعي او الشخصي. ويرى هايدغر ان سارتر عاجز عن الهروب من هذه الفلسفة التقليدية، فعظمة الانسان تكمن حسب رأي هايدغر في انفتاحه على الوجود وفي قدرته على الاحتفاظ بمكان في العالم يمارس فيه ما سماه بواقعية وجوده، وفي تعبير شهير نجد هايدغر يطلق على الانسان اسم "راعي الوجود"ـ وهو الذي تكمن عظمته في البقاء منفتحاً ويقظاً للنداء
في عام 1949 تم الاحتفال بعيد ميلاده الستين، وقد نشر تلامذته كتابا تذكاريا عنه. عام 1950 تقرر السلطات عودته الى منصبه الجامعي، فيلقي محاضرة واحدة بعدها يقدم استقالته، يقرر مجلس الشيوخ منحه منصبا فخريا في الجامعة بصفة بروفيسور، غطت اعماله اللاحقة انواعا مختلفة من المواضيع المهمة فلسفياً واجتماعياً، وكان في اخر سنواته، يخشى من انتقال الانسانية الى حالة التشرد حيث اصبح العالم ببساطة مجرد ملاذ. عندما بلغ هايدغر سن الثمانين عام 1969 ، وصفته حنة آرنت بـ " ملك الفلسفة " مشيرة الى ان فلسفته غيرت المشهد الفكري في القرن العشرين وكانت شبيهة بالعاصفة التي اثارتها فلسفة افلاطون وبعثت له برسالة تقول فيها :
" تحية الى مارتن هايدغر
في عيد ميلاده الثمانين ، يكرم المعاصرون المعلم والاستاذ والصديق ، آمل من اولئك الذين يأتون بعدنا ، إن عملو على مراجعة قرننا وأهله وابدوا اهتمامهم بما حققناه ، ألا ينسوا العواصف الرملية المدمرة التي جرفتنا جميعا ، كلاً في طريقه الخاص ، والتي افسحت المجال – على الرغم من كل شيء – لمثل هذا الرجل واعماله .-
حنة أرندت التفكير الحر -
يصف البعض ان فلسفة هايدغر انخرطت في النازية ، وهي تشبه ما فعلته فلسفة نيتشه ، لعل هذه المقارنة ظالمة ، فربما تاثير نيتشه الواضح على الفكر القومي الالماني الذي انبثقت منه النازية ، لكننا لن نجد في اعمال هايدغر سوى مواقف سياسية مرحلية لا علاقة لها بمنظومته الفلسفية .وعندما اراد نيتشه ترسيخ إرادة القوة ، كان هايدغر يكتشف افاقا جديدة في الفلسفة فيها حقائق عن الفن والشعر ، وفيها ايضا تحذير من نتائج تطور تقنيات العلوم على الوجود الانساني ، في صيف عام 1942 بعد ان دخلت الولايات المتحدة الامريكية الحرب ، كتب هايدغر :" نعلم اليوم ان العالم الانجلو – ساكسوني الامريكي قرر ان يفني اوربا ، وهذا يعني الوطن ، كما يعني ايضا نهاية كل ما هو غربي " . لكن هل هذا الموقف يمكن ان يبرئ هايدغر ، يختتم الفيلسوف الالماني يورغن هابرماس مقاله عن هايدغر والذي يعترض فيه على الذين يقولون ان ما حدث لهايدغر مع النازية خطأ شخصي قائلا :" هل يمكننا ان نفسر القتل المنظم لملايين الناس ، باعتبار انه خطأ من وجهة نظر تاريخ ( الكائن ) الذي فهم كما لو انه مصير ؟ اليس القتل المنظم هو الجريمة الفعلية لاولئك الذين ارتكبوها بكل مسؤولية ؟ الا نجازف الآن وبعد مضي وقت على ذلك ، أن نواجه ما حدث ، وأن نواجه ايضا ما كنا .. اعتقد حان الوقت لكي نفكر مع هايدغر ضد هايدغر – هابرماس ترجمة حسونة مصباحي -
في السادس والعشرين من ايار عام 1976 ، استيقظ هايدغر صباحا كعادته ، لكنه في منتصف النهار عانى من مصاعب في التنفس ليتوفى على اثرها في المساء ، كان قبلها بايام قد طلب ان تجري له مراسم دفن كنسية ، وقال لزوجته ان القرب من الموت يتضمن في ذاته القرب من الوطن .
هل تورطت بقراءة اعمال فيلسوف قال انه " خدع في دعاوى النازية " .. ان من خصائص الفكر الفلسفي البحث عن الحقيقة ، ولهذا كان على فيلسوف مثل هايدغر ان يعي منذ البداية ، الطريق المظلم الذي ستنزلق اليه الامة الالمانية في ظل الحكم النازي . عل انا اذن ضد هايدغر سؤاله سيحيبني عليه تلميذه غادمير الذي كتب بعد رحيل استاذه :" :" حينما يدعي الناس أنهم ضد هايدغر أو مؤيدون له فإنهم يخدعون انفسهم " .