لو أراد القارئ الحصول على نظرية عربية في الأدب على غرار ما يقدمه نقاد هذه الأيام، فسيعود بالخيبة، فما كان العربي القديم يأبه بالتنظير، بل يعيش الحياة بالطريقة التي يستطيع تكييفها مع متطلباته. لكن التراث الذي تركه لنا هذا العربي القديم يحمل نظرية أدبية متكاملة، بل نزعم أنه لا توجد نظرية واضحة وكاملة مثل النظرة العربية. ونحن نستنتج هذا مما وصل إلينا منه. فكم قرأنا في كتب علم الفلك عن أجرام زعم الفلكيون أنها «يجب أن تكون موجودة» فما صدقهم أحد، إلى أن اخترعت التلسكوبات الضخمة فظهرت هذه الأجرام وهي تلتزم بالمدار الذي حدّده مكتشفها. وعندما درس مندلييف عناصر الطبيعة وحددها، ترك فراغاً مكان العناصر التي يجب أن تكون ولكنها لم تظهر له، فاكتشفت فيما بعد، ولها أوزانها الذرية التي حددها لها. وكما قفز الفلكيون والعلماء من الواقع إلى المتخيّل، وصدقت نظرتهم، يمكن أن ننطلق من واقع الأدب العربي القديم، ونحدد «الكواكب والنجوم والأجرام» المجهولة في الواقع والموجودة، بحسب حتمية الوظائف التي تظهر في الأدب الذي وصل إلينا.
المشترك الإنساني
لا بد أن نسلم بأن هناك مشتركاً إنسانياً في كل آداب العالم، وإلا كيف نشأت الأغراض الأدبية من غزل ومديح وهجاء ونقد ولوم.. الخ في كل الآداب، مع تفاوت واضح في الكم والكيف بين هذا الآدب وذاك! كل الشعوب أنتجت أدباً، فهو الصفة المشتركة بين شعوب العالم قاطبة. ولكن ما السبب؟ أليس لأننا نعيش في كوكب واحد، وإن كانت الظروف متغيّرة، هنا وهناك، قليلاً أو كثيراً؟ أليس لأن البشر منقسمون بين ذكر وأنثى؟ تصوّر أن هناك أكثر من جنسين في العالم... ترى هل نحصل على الأدب ذاته؟ هل يكون لنا غزل مثلما هو الآن؟ بل هل تكون سلطة البشر ذوي الأجناس الثلاثة شبيهة بسلطة البشر ذوي الجنسين؟ وهل نحصل على مثل الأدب القائم اليوم لو كان البشر من جنس جيني واحد؟ ونقول أكثر من ذلك... لو كانت الأرض تنتج الغابات وحدها، أو لو كانت الأرض من غير سماء، ينظر الإنسان فلا يرى فوقه شيئاً، لا غيوم ولا مطر ولا رعد ولا صواعق... ولا طوفان... هل ينتج أدباً مثل الذي أنتجه في هذا الواقع الأرضي، أو قل الواقع الكوني؟
فلنتحدث، قبل كل شيء، عن المشترك الإنساني. ألم يمر البشر في عهود واحدة، أو متشابهة؟ والثورات الثلاث: الزراعية والصناعية والمعلوماتية، ألم تشمل جميع الشعوب، وإن كان التفاوت هائلاً هنا وضئيلاً هناك؟ ألم تنقل الثورة الزراعية السلطة من الأم إلى الأب؟ فتسنم الرجل سدة السلطة وصار ما صار من إمبراطوريات ومتروبوليتات وتابعيات؟ ثم قبل الزراعة ألم تسد عبادة الأرض/ الأم؟ هل هناك شعب لم يعبد الطبيعة والمظاهر الكونية من شمس وقمر؟ ألم تقسم الشعوب إلى شمسية وقمرية؟ وظاهرة الأمازون (النساء المحاربات ضد الرجال) ألم تتجل في كل حوض المتوسط؛ لأنه كان الأسبق إلى الزراعة؟ ألم يكن الحمار (أو الثور) بطلاً حضارياً قبل أن يحل محله الحصان المحارب الذي أوجد حالة خاصة من القتال والأسر والإماء والجواري وظهور الملكية الإقطاعية الضخمة وتشكيل الإمبراطوريات؟ وعندما ظهرت الأسلحة النارية، ألم يتراجع الحصان وانهارت جيوش الخيول بكاملها؟ اليوم مَن يحارب بالحصان، أو يفلح بالثور، الذي كان بطلاً حضارياً إلى درجة العبادة تقريباً؟
الخاص في المشترك
نأتي إلى نظرة العرب إلى الشعر. إنها تتفق مع نظرات الكثير من الشعوب وبخاصة شعوب الحوض المتوسط، ولنتخذ اليونان نموذجاً. الشعر والنبوءة والقيافة والعرافة... وما يستتبع ذلك «إيحاء» «موهبة» «وحي من كائن خارجي» «إلهام»... أو أي مصطلح يدل أن الشعر ليس من صنع الإنسان. الشعر من صنع الإنسان شعر مصطنع، لا يبهر، ولا يهز، ولا يؤثر... كشعر معظم النساك وأرباب الوعظ الأخلاقي والمحافظين على القيم الثابتة... فإن كان شعرهم عظيماً، كان «وحياً» وإلا فهو مفتعل يتبع قواعد النظم، لا صورة الإيحاء. وهذا شيء متفق عليه، ففي كل شعر هناك من يتقن النظم. ولهذا نجد أرباب الشعر ورباته في كل آداب الشعوب تقريباً. فالإغريق، لكثرة أنواع شعرهم، جعلوا مجموعة من الربات على رأسها الإله أبوللو، تقوم بالوحي والإبداع، وتوزعت وظائفهن بين الكوميديا والتراجيديا والشعر الغنائي والجغرافيا والفلك... يقال إن عددهن سبع ويقال بل تسع. وهن أشبه بالملائكة، بل إن من يجعلهن تسعاً يضيف إليهن ربات النعمة، وهن، مع ربات الفنون لا يوحين إلا بالخير والحق والجمال، وهذا ما استغله أفلاطون في جمهوريته ليمنع أي شعر لا ينسجم مع موحيات ربات الفنون والنعمة... الخ.
هنا يبرز الخاص في نظرة العرب إلى الشعر. إنهم لا يؤمنون بأن الملائكة توحي بالشعر، ولا الكائنات الخفية البريئة الخيّرة الأخلاقية. هذه الفكرة لم تخطر لهم على بال، ولا توجد أي إشارة تدل على ذلك. فمن المحال أن يؤمن العربي أن ملاكاً أوحى لأمرئ القيس معلقته، أو لابن أبي ربيعة عينيته. إنه لا يتصوّر أن يوحي الملاك للمجنون:
أَراني إِذا صَلَّيتُ يَمَّمتُ نَحوَها
بوَجهي وَإِن كانَ المُصَلّى وَرائِيا
والأمر نفسه في كل مجالات الشعر، فلا يمكن للملاك أن يوحي للشاعر الشعبي:
روحي وروحك يا روحي روحين بروح
إن راحت روحك يا روحي روحي بتروح
المتمرد الأكبر
مال العرب إلى الاعتقاد أن موحي الشعر لا بد أن يكون متمرداً حتى يحقق الإدهاش. والمتمرد الأكبر في كل الأديان تقريباً، أو لنقل في أديان الشرق الأوسط، هو الشيطان، فلا بد أن يكون هو من يوحي بالشعر، وهو من يسبغ على هذا الشعر روعة التمرد، بل لولا التمرد لما كان للشعر المقام الذي يحظى به في هذه الأيام. والتمرد يكون شاملاً، بمعنى أنه لا يجاري المألوف. وعلى هذا لا يمكن أن يكون الشيطان أوحى لابن مالك ألفيته الشهيرة، فلا يوجد فيها شيء يبعث على العجب والدهشة والمتعة والتفكير والتأمل والمكوث طويلاً عند الصور الخلابة الجديدة...الخ. ومن هنا راح العرب يسمون الشياطين الموحية؛ فشيطان امرئ القيس مسحل، وشيطان النابغة هاذر، وشيطان عبيد بن الأبرص هبيد..الخ. وفي رسالة «التوابع والزوابع» لابن شهيد- واسم تابعه زهير، على ما يزعم- عرض واسع لكل من سبقه من الشعراء وتوابعهم من الشياطين، بعد أن أطلق على الشياطين أسماء جديدة. وتزداد المساحة لتضم الكتابة والقصة والمقامة والخطابة والرسالة، عدا الرسم والتصوير والخط، ربما لندرتها يوم ظهرت النظرة العربية في الوحي الشعري، وهي البذرة الأولى التي أنبتت كل هذه الرقعة من الفن، حتى موهبة الغناء كان المغنون يعزونها إلى الشيطان، كما حدث للموصلي وزرياب.
ولم يكن الشيطان (وقد يطلق عليه أيضاً أسماء أخرى مثل إبليس أو عفريت أو جني...) محصوراً بالشعر بل امتد إلى العرافين والمتنبئين والقيافين والزعماء والأبطال، حتى باتت النظرة نظرية تشمل كل ما هو طريف وغير عادي. وكما أن الشعر لا يستنبت من الذات، بل من كائن خارجي، كذلك البطولة والتنبؤ والعرافة والكهانة... فكانوا يزعمون أن لكل كاهن شيطانه... الخ ولو كان الشعر نابعاً من الذات لكان كل الناس شعراء، على اعتبار أنهم يملكون كينونة واحدة وتركيباً واحداً، فيشعرون مثلما يبصرون ويشمون ويسمعون ويتحركون.
ظلت شياطين الشعراء تذكر وتعاد حتى القرن الخامس الهجري، ثم أخذت تتضاءل وتتقلص، إلى أن قضى عليها العصر الحديث، ولم يعد ثمة ذكر لشيطان الشعر. والملفت أن نظرة العرب إلى الشعر في أنه من وحي من الشيطان لم تتغيّر بعد سيادة الإسلام، فشيطان الفرزدق عمرو وشيطان بشار شنقناق وشيطان الكميت مدرك... وهكذا.
خلاصة النظرة العربية
بعد عشرات القرون تظهر نظريات حديثة في الأدب، ومنها اليونغيَّة والفرويديَّة والإدلريّة، وكلها تربط هذه الظاهرة بالأعماق المجهولة في النفس البشرية من غرائز وشهوات ونزوات وتطلعات وآمال وأحلام... أي إنها المنطقة التي يعمل فيها شياطين الشعر بحسب النظرة العربية. ومنطقة فيها كل هذه المهل البركانية التي لا يعرف أحد متى تنطلق، لا يمكن لأي دين أن يقبل قيام الملائكة بتلقين البشر مثل هذا الفن. ترى هل كان العرب يشخصون ما يسميه الغرب «نجم الصباح» أو لوسيفر الساطع الذي لا يترك شيئاً من دون أن يفضحه بنوره؟ لكن المؤكد أن الشيطان العربي لم يكن شيطاناً دينياً، فهو لا يشبه الشيطان في الأديان، كل الأديان تقريباً. إنه يشبه نفسه، ويختص بالعرب من دون غيرهم. صحيح أن شيطان الشعر لا يعلم الشاعر التقنيات التي يجب اتباعها لإظهار الصورة الشعرية، فقد ترك هذا للحراك الاجتماعي بين الشعراء، فلكل شاعر راوية، يتعلم منه تلك التقنيات، ويظل شيطان الشعر العربي أقرب إلى «لوسيفر» الموحي الأول والأخير للشعر عند العرب. ولو توسعنا في شرح النظرة العربية، لما قلّت أهميتها عن اليونغية والفرويدية والإدلرية أبداً، بل نكاد نقول إنها أشمل بكثير، فلم يكن ميدان هذه النظرية ـ كما أشرنا ـ مقتصراً على الشعراء، بل امتد ليشمل قطاعات كبيرة أخرى، حتى أنها تستحق لقب «نظرية» وليس نظرة. ولو انتبهنا إلى النظريات الأدبية الحديثة، منذ بداية القرن العشرين حتى معاصرينا: بارت وريكور ودريدا وفوكو وتشومسكي... الخ لما كانت سوى تفريع عن النظرة العربية، ويبقى الأساس محصوراً في العنصرين القديمين عند العرب: شياطين الشعر، مهل البراكين المنفجرة (الأعماق النفسية) والراوية (الدربة والإمساك بالبنى الأساسية للغة) من دون إهمال روح العصر الذي ينتج فيه الشعر والأدب. وحتى في عصرنا الحالي هناك من ظل تحت تأثير هذه النظرة، فالشاعر عزيز فهمي يعتقد أن شيطانه أوحى لـ «قارئ الكف» بموته في ساقية... وكان ذلك عندما استقل سيارة أجرة انقلبت في الساقية ومات الرجل كما تنبّأ أو كما أوحى له شيطانه... ولا يتورع المازني من أن يصف شيطانه وهو يوحي إليه بنقد صديقه «الدكتور طه حسين» فيتردد ثم يقبل، فلما ذهب الشيطان عاد وأنصف صديقه.
شياطين الكُهّان
لم يكن الشيطان (وقد يطلق عليه أيضاً أسماء أخرى، مثل إبليس أو عفريت أو جني...) محصوراً بالشعر، بل امتد إلى العرافين والمتنبئين والقيافين والزعماء والأبطال، حتى باتت النظرة نظرية تشمل كل ما هو طريف وغير عادي. وكما أن الشعر لا يستنبت من الذات، بل من كائن خارجي، كذلك البطولة والتنبؤ والعرافة والكهانة... فكانوا يزعمون أن لكل كاهن شيطانه.
وقد ظلت شياطين الشعراء تذكر وتعاد حتى القرن الخامس الهجري، ثم أخذت تتضاءل وتتقلص، إلى أن قضى عليها العصر الحديث، ولم يعد ثمة ذكر لشيطان الشعر.
المشترك الإنساني
لا بد أن نسلم بأن هناك مشتركاً إنسانياً في كل آداب العالم، وإلا كيف نشأت الأغراض الأدبية من غزل ومديح وهجاء ونقد ولوم.. الخ في كل الآداب، مع تفاوت واضح في الكم والكيف بين هذا الآدب وذاك! كل الشعوب أنتجت أدباً، فهو الصفة المشتركة بين شعوب العالم قاطبة. ولكن ما السبب؟ أليس لأننا نعيش في كوكب واحد، وإن كانت الظروف متغيّرة، هنا وهناك، قليلاً أو كثيراً؟ أليس لأن البشر منقسمون بين ذكر وأنثى؟ تصوّر أن هناك أكثر من جنسين في العالم... ترى هل نحصل على الأدب ذاته؟ هل يكون لنا غزل مثلما هو الآن؟ بل هل تكون سلطة البشر ذوي الأجناس الثلاثة شبيهة بسلطة البشر ذوي الجنسين؟ وهل نحصل على مثل الأدب القائم اليوم لو كان البشر من جنس جيني واحد؟ ونقول أكثر من ذلك... لو كانت الأرض تنتج الغابات وحدها، أو لو كانت الأرض من غير سماء، ينظر الإنسان فلا يرى فوقه شيئاً، لا غيوم ولا مطر ولا رعد ولا صواعق... ولا طوفان... هل ينتج أدباً مثل الذي أنتجه في هذا الواقع الأرضي، أو قل الواقع الكوني؟
فلنتحدث، قبل كل شيء، عن المشترك الإنساني. ألم يمر البشر في عهود واحدة، أو متشابهة؟ والثورات الثلاث: الزراعية والصناعية والمعلوماتية، ألم تشمل جميع الشعوب، وإن كان التفاوت هائلاً هنا وضئيلاً هناك؟ ألم تنقل الثورة الزراعية السلطة من الأم إلى الأب؟ فتسنم الرجل سدة السلطة وصار ما صار من إمبراطوريات ومتروبوليتات وتابعيات؟ ثم قبل الزراعة ألم تسد عبادة الأرض/ الأم؟ هل هناك شعب لم يعبد الطبيعة والمظاهر الكونية من شمس وقمر؟ ألم تقسم الشعوب إلى شمسية وقمرية؟ وظاهرة الأمازون (النساء المحاربات ضد الرجال) ألم تتجل في كل حوض المتوسط؛ لأنه كان الأسبق إلى الزراعة؟ ألم يكن الحمار (أو الثور) بطلاً حضارياً قبل أن يحل محله الحصان المحارب الذي أوجد حالة خاصة من القتال والأسر والإماء والجواري وظهور الملكية الإقطاعية الضخمة وتشكيل الإمبراطوريات؟ وعندما ظهرت الأسلحة النارية، ألم يتراجع الحصان وانهارت جيوش الخيول بكاملها؟ اليوم مَن يحارب بالحصان، أو يفلح بالثور، الذي كان بطلاً حضارياً إلى درجة العبادة تقريباً؟
الخاص في المشترك
نأتي إلى نظرة العرب إلى الشعر. إنها تتفق مع نظرات الكثير من الشعوب وبخاصة شعوب الحوض المتوسط، ولنتخذ اليونان نموذجاً. الشعر والنبوءة والقيافة والعرافة... وما يستتبع ذلك «إيحاء» «موهبة» «وحي من كائن خارجي» «إلهام»... أو أي مصطلح يدل أن الشعر ليس من صنع الإنسان. الشعر من صنع الإنسان شعر مصطنع، لا يبهر، ولا يهز، ولا يؤثر... كشعر معظم النساك وأرباب الوعظ الأخلاقي والمحافظين على القيم الثابتة... فإن كان شعرهم عظيماً، كان «وحياً» وإلا فهو مفتعل يتبع قواعد النظم، لا صورة الإيحاء. وهذا شيء متفق عليه، ففي كل شعر هناك من يتقن النظم. ولهذا نجد أرباب الشعر ورباته في كل آداب الشعوب تقريباً. فالإغريق، لكثرة أنواع شعرهم، جعلوا مجموعة من الربات على رأسها الإله أبوللو، تقوم بالوحي والإبداع، وتوزعت وظائفهن بين الكوميديا والتراجيديا والشعر الغنائي والجغرافيا والفلك... يقال إن عددهن سبع ويقال بل تسع. وهن أشبه بالملائكة، بل إن من يجعلهن تسعاً يضيف إليهن ربات النعمة، وهن، مع ربات الفنون لا يوحين إلا بالخير والحق والجمال، وهذا ما استغله أفلاطون في جمهوريته ليمنع أي شعر لا ينسجم مع موحيات ربات الفنون والنعمة... الخ.
هنا يبرز الخاص في نظرة العرب إلى الشعر. إنهم لا يؤمنون بأن الملائكة توحي بالشعر، ولا الكائنات الخفية البريئة الخيّرة الأخلاقية. هذه الفكرة لم تخطر لهم على بال، ولا توجد أي إشارة تدل على ذلك. فمن المحال أن يؤمن العربي أن ملاكاً أوحى لأمرئ القيس معلقته، أو لابن أبي ربيعة عينيته. إنه لا يتصوّر أن يوحي الملاك للمجنون:
أَراني إِذا صَلَّيتُ يَمَّمتُ نَحوَها
بوَجهي وَإِن كانَ المُصَلّى وَرائِيا
والأمر نفسه في كل مجالات الشعر، فلا يمكن للملاك أن يوحي للشاعر الشعبي:
روحي وروحك يا روحي روحين بروح
إن راحت روحك يا روحي روحي بتروح
المتمرد الأكبر
مال العرب إلى الاعتقاد أن موحي الشعر لا بد أن يكون متمرداً حتى يحقق الإدهاش. والمتمرد الأكبر في كل الأديان تقريباً، أو لنقل في أديان الشرق الأوسط، هو الشيطان، فلا بد أن يكون هو من يوحي بالشعر، وهو من يسبغ على هذا الشعر روعة التمرد، بل لولا التمرد لما كان للشعر المقام الذي يحظى به في هذه الأيام. والتمرد يكون شاملاً، بمعنى أنه لا يجاري المألوف. وعلى هذا لا يمكن أن يكون الشيطان أوحى لابن مالك ألفيته الشهيرة، فلا يوجد فيها شيء يبعث على العجب والدهشة والمتعة والتفكير والتأمل والمكوث طويلاً عند الصور الخلابة الجديدة...الخ. ومن هنا راح العرب يسمون الشياطين الموحية؛ فشيطان امرئ القيس مسحل، وشيطان النابغة هاذر، وشيطان عبيد بن الأبرص هبيد..الخ. وفي رسالة «التوابع والزوابع» لابن شهيد- واسم تابعه زهير، على ما يزعم- عرض واسع لكل من سبقه من الشعراء وتوابعهم من الشياطين، بعد أن أطلق على الشياطين أسماء جديدة. وتزداد المساحة لتضم الكتابة والقصة والمقامة والخطابة والرسالة، عدا الرسم والتصوير والخط، ربما لندرتها يوم ظهرت النظرة العربية في الوحي الشعري، وهي البذرة الأولى التي أنبتت كل هذه الرقعة من الفن، حتى موهبة الغناء كان المغنون يعزونها إلى الشيطان، كما حدث للموصلي وزرياب.
ولم يكن الشيطان (وقد يطلق عليه أيضاً أسماء أخرى مثل إبليس أو عفريت أو جني...) محصوراً بالشعر بل امتد إلى العرافين والمتنبئين والقيافين والزعماء والأبطال، حتى باتت النظرة نظرية تشمل كل ما هو طريف وغير عادي. وكما أن الشعر لا يستنبت من الذات، بل من كائن خارجي، كذلك البطولة والتنبؤ والعرافة والكهانة... فكانوا يزعمون أن لكل كاهن شيطانه... الخ ولو كان الشعر نابعاً من الذات لكان كل الناس شعراء، على اعتبار أنهم يملكون كينونة واحدة وتركيباً واحداً، فيشعرون مثلما يبصرون ويشمون ويسمعون ويتحركون.
ظلت شياطين الشعراء تذكر وتعاد حتى القرن الخامس الهجري، ثم أخذت تتضاءل وتتقلص، إلى أن قضى عليها العصر الحديث، ولم يعد ثمة ذكر لشيطان الشعر. والملفت أن نظرة العرب إلى الشعر في أنه من وحي من الشيطان لم تتغيّر بعد سيادة الإسلام، فشيطان الفرزدق عمرو وشيطان بشار شنقناق وشيطان الكميت مدرك... وهكذا.
خلاصة النظرة العربية
بعد عشرات القرون تظهر نظريات حديثة في الأدب، ومنها اليونغيَّة والفرويديَّة والإدلريّة، وكلها تربط هذه الظاهرة بالأعماق المجهولة في النفس البشرية من غرائز وشهوات ونزوات وتطلعات وآمال وأحلام... أي إنها المنطقة التي يعمل فيها شياطين الشعر بحسب النظرة العربية. ومنطقة فيها كل هذه المهل البركانية التي لا يعرف أحد متى تنطلق، لا يمكن لأي دين أن يقبل قيام الملائكة بتلقين البشر مثل هذا الفن. ترى هل كان العرب يشخصون ما يسميه الغرب «نجم الصباح» أو لوسيفر الساطع الذي لا يترك شيئاً من دون أن يفضحه بنوره؟ لكن المؤكد أن الشيطان العربي لم يكن شيطاناً دينياً، فهو لا يشبه الشيطان في الأديان، كل الأديان تقريباً. إنه يشبه نفسه، ويختص بالعرب من دون غيرهم. صحيح أن شيطان الشعر لا يعلم الشاعر التقنيات التي يجب اتباعها لإظهار الصورة الشعرية، فقد ترك هذا للحراك الاجتماعي بين الشعراء، فلكل شاعر راوية، يتعلم منه تلك التقنيات، ويظل شيطان الشعر العربي أقرب إلى «لوسيفر» الموحي الأول والأخير للشعر عند العرب. ولو توسعنا في شرح النظرة العربية، لما قلّت أهميتها عن اليونغية والفرويدية والإدلرية أبداً، بل نكاد نقول إنها أشمل بكثير، فلم يكن ميدان هذه النظرية ـ كما أشرنا ـ مقتصراً على الشعراء، بل امتد ليشمل قطاعات كبيرة أخرى، حتى أنها تستحق لقب «نظرية» وليس نظرة. ولو انتبهنا إلى النظريات الأدبية الحديثة، منذ بداية القرن العشرين حتى معاصرينا: بارت وريكور ودريدا وفوكو وتشومسكي... الخ لما كانت سوى تفريع عن النظرة العربية، ويبقى الأساس محصوراً في العنصرين القديمين عند العرب: شياطين الشعر، مهل البراكين المنفجرة (الأعماق النفسية) والراوية (الدربة والإمساك بالبنى الأساسية للغة) من دون إهمال روح العصر الذي ينتج فيه الشعر والأدب. وحتى في عصرنا الحالي هناك من ظل تحت تأثير هذه النظرة، فالشاعر عزيز فهمي يعتقد أن شيطانه أوحى لـ «قارئ الكف» بموته في ساقية... وكان ذلك عندما استقل سيارة أجرة انقلبت في الساقية ومات الرجل كما تنبّأ أو كما أوحى له شيطانه... ولا يتورع المازني من أن يصف شيطانه وهو يوحي إليه بنقد صديقه «الدكتور طه حسين» فيتردد ثم يقبل، فلما ذهب الشيطان عاد وأنصف صديقه.
شياطين الكُهّان
لم يكن الشيطان (وقد يطلق عليه أيضاً أسماء أخرى، مثل إبليس أو عفريت أو جني...) محصوراً بالشعر، بل امتد إلى العرافين والمتنبئين والقيافين والزعماء والأبطال، حتى باتت النظرة نظرية تشمل كل ما هو طريف وغير عادي. وكما أن الشعر لا يستنبت من الذات، بل من كائن خارجي، كذلك البطولة والتنبؤ والعرافة والكهانة... فكانوا يزعمون أن لكل كاهن شيطانه.
وقد ظلت شياطين الشعراء تذكر وتعاد حتى القرن الخامس الهجري، ثم أخذت تتضاءل وتتقلص، إلى أن قضى عليها العصر الحديث، ولم يعد ثمة ذكر لشيطان الشعر.