الدكتور عبدالوهاب عزام -2 - منطق الطير... القصة الصوفية الخالدة

2-

والشاعر في وصف هذه الأودية يذهب مع الشعر المذاهبَ البعيدة، فيملؤها جميعاً بالأهوال والدموع. ولست أدري أكان الهدهد حازماً حين وصف الأودية هذا الوصف المروع. وهذا أجمال وصفها:

1 - في وادي الطلب، يعترض السالك عقاب كثيرة: ويلقى من النص والتعب ما يضنيه، ولابد له أن يفرغ من كل ما يربطه بهذا العالم، ويطهر قلبه من علائق هذه الأرض. فإذا تم الطهر أصاب القلب شعاع من النور الإلهي فيتضاعف طلبه ألف مرة، وإذاً يذهب قدما لا تثنيه الأخطار والأهوال

2 - وأما وادي العشق: فهو النار يمضي فيه العشاق كاللهب مضطرما ثائراً ولا يفكر في العواقب، لا يعرف الكفر والدين، ولا الشك واليقين، الخير والشر سواء عنده، كلا بل لا خير ولا شر إذا اضطرم العشق. هناك القلب خفاق يحترق ويذوب ليرجع إلى مكانه كالسمكة أخرجت من البحر إلى الصحراء. هنا لكم العشق نار والعقل دخان، فأما جاء العشق فر العقل مسرعا.

3 - ثم وادي المعرفة: الذي لا أول له ولا آخر. هنالك تتشعب السبل، وكل يسلك الطريق الذي يستطيعه، وكيف ترجو أن يسير الفيل والعنكبوت معاً في هذا الطريق الوعر. إنما سير كل سالك على قدر كماله، وقربة بمقدار حاله. هنا لكم المعرفة متفاوتة، فهذا يجد المحراب، وذاك يجد الصنم، إذا أضاءت شمس المعرفة من ذلك الفلك العالي أبصر كل بمقداره. وكل ما يرى فهو وجه الحبيب؛ وكل ذرة محله. آلاف الأسرار تتألق كالشمس من وراء الحجب هناك الظمأ الدائم إلى الكمال. . الخ

4 - وادي الاستغناء

مى جهد أزبى صرصرى ... ميزند برهم بيكدم كشورى هفت دريايك شمر آنجابود ... هفت أختريييك شرر آنجابود

تعصف من الاستغناء ريح صرصر تدمر في كل خفقة إقليما، وهنالك سبعة الأبحر غدير، وسبعة الكواكب شرر، والجنات السبع جيفة، وسبع النيران قطعة من برد. يقول العطار: (يا عجباً! إن النملة هناك تربو قوتها على مائة فيل، وإن غراباً لا يشبع بمائة قافلة.

لو سقطت آلاف الأرواح في هذا البحر ما كانت إلا قطرة واحدة في بحر لا ساحل له. ولو هوت الأفلاك والأنجم ما كانت إلا كورقة سقطت من شجرة. . الخ

(يريد شاعرنا أن يشرح ما يدركه السالك في هذه المرحلة من استغناء الله عن العالم وصغر هذه العوالم كلها وضآلتها في جانب الحقيقة الكبرى. ويبين أن الأشياء هناك لا تقاس بمقاييسنا)

5 - وادي التوحيد

هناك كل عدد يصير واحداً في واحد فيتم الاتحاد، ولكن هذا الواحد ليس كالواحد الذي يذكر في العدد، هو وراء العد والحد (كلام يذكرنا بكلام فيثاغورس في نشأة العالم من الواحد). هنالك لا أزل ولا أبد. وان يضع الأزل والأبد فلا شيء بينهما فكل الأشياء كانت وستكون عدما.

(ومعنى هذا الكلام - فيما أظن - أن الله هو الحقيقة التي لا يحدها الزمن، وكل ما عداها، مما يقاس بالماضي أو الحاضر عدم، فلا شيء قائم إلا هذه الحقيقة).

6 - وادي الحيرة

هناك يلاقي السالك أضدادا ونقائض تلوح له كلما اختلفت على نفسه الأحوال والادراكات. وهو بين هذا وذاك يفقد نفسه. لا يستطيع أن يهب قلبه لهذا الجلال ولا أن يمنعه. ولا يقدر على أن يسير وحده أو يتبع غيره. فهو نفور من الخلق ومن نفسه، لا مسلم ولا كافر، لأن دين الحيرة لايحد، ولا يعرف الحب ولا البغض، ولا التقوى ولا الفسوق، لا هو خير ولا شرير، ولا موقن ولا مرتاب، ولا هو عزيز ولا ذليل. لا هو كل شيء ولا هو شيء، ولا هو كل ولا جزء من كل.

يقول العطار: (فان يسال السالك هل أنت موجود أم لا؟ أأنت في العالم أم خارجه؟ أظاهر أنت أم خفي؟ أفأن أم باق، أم لست فانيا ولا باقيا، أم أنت فان وباق في وقت واحد؟ فلن يكون جوابه: إلا (لا أدري شيئاً ولا أدري أنني لا ادري. أنا عاشق ولكن من؟ لا أدري)

ويضرب العطار مثلاً بنت ملك أحبت خادماً واستحيت أن تظهر حبها للخادم. فأوحت إلى جواريها فيسقينه حتى سكر، ثم أتين به اليها، فلما صحا بعض الصحو فتح عينيه فرأى جمالا باهراً في مكان يسحر الألباب، وشم رائحة ذكية، وسمع موسيقى مطربة. فأحب الخادم الفتاة، فلما غلبه النوم حمله الخدم إلى مكانه، فلما استيقظ ذكر ما رأى ولكن كيف ومتى وأين؟ قال له الناس إنه حلم، ولكنه لم يستطيع أن يقول أكان هذا حلما أم يقظة، ولا أن يعرف أكان سكران أم صاحيا:

(فهذا المثل يوضح مقصد الشاعر فالسالك في هذه المرحلة تلوح له أشياء من عالم الغيب ثم تختفي عنه حين يرجع سيرته الأولى من هذه الحياة)

7 - وادي الفقر والغناء

وهو آخر الأودية: هو وادي الدهشة والصمم والبكم أو الغشية، هنالك آلاف آلاف الظلال تحمي في الشمس. إذا ماج البحر الكلى فكيف يبقى النفس على صفحة الماء. وكل من فقد نفسه في هذا البحر فهو في فناء وسلام أبدا.

يضرب الشاعر أمثالا ليبين الكلام عن هذا الوادي كدأبه في الفصول كلها، ومما ضرب هنا مثل الفراش الذي اجتمع ليلة واتفق على طلب الشمعة، فقالوا لابد أن يذهب بعضنا ليراها ويصفها لنا قبل الذهاب؛ ذهبت فراشة إلى قصر فرأت نور الشمعة منبعثاً منه فرجعت تصف الشمعة لأخواتها، قالت فراشة عارفة: ما لهذه علم بالشمعة قط. فانبعثت فراشة أخرى قاصدة مكان الشمعة فاقتربت ثم اقتربت حتى لم تطق حرها فانثنت إلى صاحباتها تصف ما عرفت من أسرار الشمعة، فقال الخبير: أيها الأخ ما هذا إلا كلام كالذي سمعنا من قبل. ذهبت ثالثة سكرى من الشوق راقصة مرفوفة، فألقت بنفسها في نار الشمعة فأخذتها النار من كل جهة فاحمرت كالنار. فلما رجعت رآها في لون النار وضوئها فقال هذه عرفت الشمعة إنما يدرك المحبوب بالفناء فيه: الخبير العارف

كل هذا يقوله الهدهد على منبره والطير مصيخات إليه. فلما سمعت الطير مقاله أخذها الغم ووجمت وعرفت إن لا طاقة لها بهذا ومات بعضها في مكانه، ثم بدأن الطيران فلقين في الطريق ما لا قبل بوصفه، وانتهى قليل منها إلى الغابة، وهلك أكثرها في الطريق! فمنها غارق في البحر، ومنها ضال في الفيافي، ومنها هالك عطشا على قني الجبال، وبعضها هلك في وهج الشمس، وبعضها سقط إعياء وبعضها شغلته عجائب الطريق فوقف. وبعضها وجد ما يلهو به فركن إلى الدعة وآثر الراحة. وبعضها أصابته مصائب أخرى.

لم يبلغ الغاية من تلك الآلاف المؤلفة إلا ثلاثون طائراً (سي مرغ) بلغت وبها من النصب والإعياء والآلام ما بها. فماذا وجدن؟ وجدن حضرة لا يدركها الوصف ولا ينالها العقل. وأين برق الاستغناء يومض فيحرق مئات العوالم في لمحة. وأين آلاف الشموس وآلاف الكواكب حائرة كالذرات. فقالا بعضهن لبعض: وا أسفا على ما تحملنا من مشاق السفر. إن مائة فلك هنا كذرة من التراب. فما وجودنا أو عدمنا نحن في هذه الحضرة؟ بقين في حسرة ينقص الحزن منهن حتى خرج عليهم حاجب العزة. قال: أيتها الحائرات المضنيات من أين جئتن ولماذا؟ ما اسمكن، ماذا سمعتن، ومن أخبركن أن قبضة من العظام مثلكن تستطيع أن تعمل شيئا، قالت الطير: جئنا هنا ليكون السيمرغ ملكنا. وقد طال الطريق وكنا آلافا فما بقى إلا ثلاثون. جئنا من أرض بعيدة راجين أن يؤذن لنا في هذه الحضرة، لعل الملك يرضى عملنا فتنالنا نظرة من رحمته

قال الحاجب: أيها الحيارى ما أنتن ما وجودكن وعدمكن عند الملك المطلق الباقي؟ إن مئات آلاف من العوالم لا تزن شعرة أمام باب هذا الملك، هلم فارجعن أيتها المسكينات.

قالت الطير: إن هوانا على هذا الباب عز، وسنبقى هنا نحترق كالفراش علىالنار، أذن لنا بالدخول أم لم يؤذن، ولن نيأس من رحمة الملك. فخرج عليهن حاجب الرحمة وفتح الباب لهن وتقدم يرفع الحجب مئات من الحجب كل لمحة، فانبعث النور في الأرجاء ويبدأ عالم التجلي. فدخلت الطير وأجلست على أرائك القرب

ماذا أصاب الطير من بعد؟ أعطى كل طائر ورقة ليقرأهافقرأ كل ما قدم من عمل حتى غشى عليه حياء وخجلا. ثم محيت الأعمال وأنسيت فلم تذكر الطير شيئاً. ثم أضاءت شمس القرب محرقة كل روح وحينئذ راين السيمرغ. وما اعجب ما رأين. كن إذا نظرن إلى السيمرغ يرَين (سي مرغ) وإذا نظرنا إلى أنفسهن (سي مرغ=ثلاثين طائرا) رأينا السيمرغ، وإذا نظرن إلى أنفسهن والسيمرغ معاً رأين سيمرغا واحدا. فبلغت بهن الحيرة مبلغها. فسألن فقيل لهن: إن هذه الحضرة مرآة فمن جاء هنا لا يرى فيها إلا نفسه. فقد جئتن ثلاثين طائراً (سي مرغ) فرأيتن في المرآة سيمرغ، ولو جاء أربعون أو خمسون لانكشف الستر كيف تدركنا الأبصار. كيف تنال الثريا عين. النملة. ليس الأمر كما علمتن ورأيتن، ولا كما قلتن وسمعتن. ولكنكن خرجتن من أنفسكن فهاهنا مكانكن. فامحين فيه وضاع الظل في الشمس (بلغت الطير مقام الفناء وهو عند الصوفية أن يتجرد الإنسان من نفسه، ويخضع صفاته للصفات الإلهية ويرجع كما يقولون قطرة في البحر تموج بموجه. ويقول أبو سعيد في تعريف الفناء: إنه فناء الشعور بالبشرية - ولأجل توضيح لغة العطار الشعرية أنقل الجملة الآتية من كشف المحجوب:

(الفناء درجة من الكمال ينالها الأولياء الذين تحرروا من آلام المجاهدة، وخرجوا من سجن المقامات والأحوال، وانتهى طلبهم إلى الكشف، فرأوا كل ما يرى وسمعوا كل ما يسمع، وعرفوا كل أسرار القلب، ولكنهم أدركوا نقص كشفهم هذا فأعرضوا عن كل شيء، وفنوا فيما رغبوا إليه وفي هذه الرغبة فقدوا كل رغباتهم)

وراء هذه الحال حال أخرى يسميها العطار وغيره من الصوفية (البقاء في الفناء) ويقول عنها كتابنا هذه العبارة العجيبة. وهو يعترف أنها حال لا تشرح إلا بالتمثيل)

فلما مضى مائة آلاف من القرون، القرون التي لا زمان لها. أرجعت الطيور الفانية إلى نفسها فلما رجعت إلى نفسها رجعت إلى البقاء بعد الفناء

(وتأويل هذا بكلام الصوفية الآخرين: أن الإنسان يفنى عن نفسه - عن إرادته ورغباته وشهواته الخاصة فيبقى في الله، يريد من اجل الله، ويرغب في الله ويفعل كل شيء غير غافل عن الله طرفة عين هذه خلاصة ما في الكتاب - كما فهمته - والكتاب في حاجة إلى بحث مفصل، ولعله يتاح من بعد.

ثم يختم العطار (منطق الطير) بقوله:

قد عطرت يا عطار آفاق العالم، وهجت العشاق في كل مكان، تارة تنفث العشق المطلق، وتارة تغنى أغاني الحب لمن عشق، ففي شعرك كنز العاشقين وزينة لا تفنى للوالهين. فقد ختم عليك (منطق الطير) كما يحيط بالشمس ضوؤها.

عبدالوهاب عزام




مجلة الرسالة/العدد 36/ بتاريخ: 12 - 03 - 1934

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...