أريد في هذا المقال التنبيه إلى موضوع من موضوعات أدبنا لا أعرف له نظير في الآداب الأخرى، موضوع يجمع بين أوصاف الطبيعة وأعمال الفروسية، وحركات الرياضة، ويعرضها صوراً متتابعه كأنها مناظر السماء. ذلكم الصيد كما وصفه شعراؤنا وكتابنا منذ عصور الجاهلية. وسأعرض في هذه الصفحات صورة منه مجملة
- 1 -
عرفت الأمم كلها الصيد في بداوتها وحضارتها يدعوهم إليه ضرورات العيش وحاجاته، ليأكلوا لحم الحيوان ويتخذوا جلده ألبسة وأدوات ويسخروه في منافعهم، ويدعوهم كذلك إليه اللهو والمتاع. والأمم فيه مختلفة اختلاف أراضيها واختلاف أطوارها في الحضارة، وله في تاريخ الأمم فصول طويلة لسنا في مقام بيانها وللفرس صلة الجوار والمخالطة بالأمة العربية؛ فقد عنى العرب بذكر ما أثر عن الفرس من رسوم الصيد وأخباره فوصلوه بالأدب العربي؛ فلا بأس أن نخصهم بكلمة قبل الإبانة عن موضوعنا:
قال الجاحظ: (وزعموا، وكذلك هو في كتبهم، أن ملوك فارس كانت لهجة بالصيد، إلا أن بهرام جور هو المشهور بذلك في العوام. . .
قالوا: وكان الملك منهم إذا أخذ عيرا أخدريا، فإذا وجده فتيا وسمه باسمه، وأرخ في وسمه يوم صيده وخلى سبيله. وكان كثيراً إذا ما صاده الملك الذي يقوم بعده سار فيه مثل تلك السيرة وخلى سبيله. فعرف آخرهم صنيع أولهم، وعرفوا مقادير أعمارها)
ولبهرام جور سيرة في الصيد ذائعة، وقد أضيف اسمه إلى حمار الوحش وكان كلفا بصيده. وهو بالفارسية (كور) فعرب إلى جور. وكان لسيرة بهرام في الصيد وما أثر عنه من العجائب أثر في الأدب الفارسي والتصوير، فكثيراً ما وصف الشعراء وصور المصورون بهرام في أحوال مختلفة من مطاردة الحمر الوحشية والغزلان. وإذا عرفنا أن الروايات الفارسية مجمعة على أن بهرام نشأ في الحيرة بين العرب وتأدب بآدابهم، وجدنا في سيرته صله أخرى تصل الصيد عند الفرس بالصيد عند العرب
- 2 - للعرب في البوادي وفي البراري المتصلة بالمدن والقرى ولع بالصيد منذ عصور الجاهلية. وقد عنى شعراء الجاهلية بوصف الصيد، أدواته وحيوانه وحركاته. فأما أدواته فالقسى والسهام والشباك والحبائل وغيرها. وأما الصيد فكل دابة وطائر، ولكن معظم عنايتهم كانت مصروفة إلى الحيوان الكثير اللحم. فعنوا بحمر الوحش وبقره والغزال. وضربوا المثل بحمار الوحش فقالوا:
(كل الصيد في جوف الفرا)
ولسنا في حاجة إلى ذكر طرف مما وصفوا به الخيل أو القسى والسهام، فقد كانت حاجتهم إليها شديدة في الدفاع عن أنفسهم فوصفوها في مقامات مختلفة أوصافا ذائعة معروفة
وإنما أذكر من الحيوان الذي يصاد به، الكلب. وقد افتن العرب في تعليم الكلاب ووسمها، ووصفوها وصنفوها ونسبوها وسموها. قال الجاحظ: (ولكرامها وجوارحها وكواسبها وأحرارها وعتاقها أنساب قائمة، ودواوين مخلدة، وأعراق محفوظة، ومواليد محصاة، مثل كلب جذعان، وهو السلهب ابن البراق بن وثاب بن مظفر بن محارش. وقد ذكر العرب أسماءها وأنسابها). وقال في موضع آخر: (والكلاب أصناف لا يحيط بها إلا من أطال الكلام. وفي الجزء الثاني من كتاب الحيوان فصل طويل عنوانه: (صفة ما يستدل به على فراهة الكلاب، وشياتها وسياستها). وفي هذا وغيره مما نقل عن العرب دليل على عنايتهم بالصيد وكلابه عناية كبيرة. وقد أثبت الجاحظ في الجزء الثاني من الحيوان قصيدة لمزرد بن ضرار فيها أسماء الكلاب وأنسابها وأوصافها. وسيمر القارئ بنبذ في وصف الكلاب أثناء وصف الصيد
وقل أن نجد في الشعر الجاهلي وصف الصيد في قصائد خاصة به كالطرديات التي ذاعت في العصور الإسلامية؛ ولكن يذكر حين تذكر الفروسية والشجاعة، وحين يذكر الشباب ولهوه. وعجيب أن أكمل الصور في وصف الصيد جاءت استطراداً في وصف الإبل؛ يذكر الشاعر السفر ويصف ناقته فيشبهها بحيوان سريع قوي كحمار الوحش وثور الوحش، وأحياناً يشبهها بالغزال والنعامة. ولا يكتفي بهذا التشبيه حتى يصف هذا الحيوان القوي السريع وهو يعود فزعاً من الصيادين فيصف ما يقع بين الصيادين وكلابهم وبين الحمار أو الثور. وقد ألف شعراء الجاهلية هذا الوصف حتى توسلوا إليه بالصلات الضعيفة وأطالوا فيه على غير ما ينتظر القارئ أو السامع
وأمرؤ القيس أكثر الجاهليين وصفاً للصيد استقلالاً غير استطراد في وصف الإبل. ولكنه يجمع بين وصف الصيد ووصف الحصان الذي يصيد عليه. ومن هذا قوله في المعلقة:
وقد أغتدي والطير في وكناتها ... بمنجرد قيد الأوابد هيكل
ويصف حصانه إلى أن يقول:
فعنِّ لنا سِرب كأن نعاجه ... عَذاري دَوار في الملاء المذّيل
فأدبرن كالجزع المفصَّل بينه ... بجيد مُعم في العشيرة مخُول
فألحقنا بالهاديات ودونه ... جَوا حرها في صَرّة لم تَزّيل
فعادى عداءّ بين ثور ونعجة ... دراكا ولم يَنضِحِ بماء فيُغسل
وظل طهاة اللحم ما بين مُنضج ... صفيف شِواء أو قَدير مُعجَّل
يصف صيد بقر الوحش. والبقر الوحشي أشبه بالغنم منه بالبقر الأهلي؛ ولهذا سميت الأنثى نعجة. وقال امرؤ القيس: وعادى عداء بين ثور ونعجة. وقد شبه شرب البقر بعذارى غليها ملاء تجر ذيوله ويدرن حول صم؛ ثم شبهها حينما ارتاعت بالجزع المفصل لاختلاف ألوانها. وقال أن الحصان لسرعته أدرك الهاديات أي السابقات منها وترك المتأخرات حيارى لها صياح فأدرك ثوراً فنعجة ولم يعرق. وعكف الطهاة على اللحم، منهم منم يشوي، ومنهم من يطبخ في قدر
وقد أجمل وصف الصيد في قصيدة أخرى إذ قال:
وقد أغتدي والطير في وكناتها ... لغيث من الوسمّى رائده خال
ومعظم الشعراء الآخرين يستطردون في وصف الناقة إلى تشبيهها ببقرة وحشية أو حمار في قوتها وسرعتها، ويصفون الحيوان المشبه به في حال ذعره من الصيادين حين لا يدخر قوة ولا إسراعاً للنجاة. ويجمع الشاعر أحياناً بين تشبيه الناقة بالحمار وتشبيهها بثور الوحش، وبصور حال كل منهما حين يروعه الصيادون كما فعل لبيد في المعلقة. وقد ألف الشعراء هذا الاستطراد حتى سار عليه أبو ذؤيب الهذلي وهو يرثي أولاده فقال إن الدهر لا يبقى على حدثانه ثور الوحش ولا حماره. واستطرد فوصف كيف انتهى الجلاد بين الحمار والصيادين بأن أصابه سهم أرداه، وكيف كان العراك بين الثور وكلاب الصيد فقتل بعضها حتى أدركها صاحبها فرمى الثور بسهم قتله.
(للكلام صلة)
مجلة الرسالة - العدد 527
بتاريخ: 09 - 08 - 1943
- 1 -
عرفت الأمم كلها الصيد في بداوتها وحضارتها يدعوهم إليه ضرورات العيش وحاجاته، ليأكلوا لحم الحيوان ويتخذوا جلده ألبسة وأدوات ويسخروه في منافعهم، ويدعوهم كذلك إليه اللهو والمتاع. والأمم فيه مختلفة اختلاف أراضيها واختلاف أطوارها في الحضارة، وله في تاريخ الأمم فصول طويلة لسنا في مقام بيانها وللفرس صلة الجوار والمخالطة بالأمة العربية؛ فقد عنى العرب بذكر ما أثر عن الفرس من رسوم الصيد وأخباره فوصلوه بالأدب العربي؛ فلا بأس أن نخصهم بكلمة قبل الإبانة عن موضوعنا:
قال الجاحظ: (وزعموا، وكذلك هو في كتبهم، أن ملوك فارس كانت لهجة بالصيد، إلا أن بهرام جور هو المشهور بذلك في العوام. . .
قالوا: وكان الملك منهم إذا أخذ عيرا أخدريا، فإذا وجده فتيا وسمه باسمه، وأرخ في وسمه يوم صيده وخلى سبيله. وكان كثيراً إذا ما صاده الملك الذي يقوم بعده سار فيه مثل تلك السيرة وخلى سبيله. فعرف آخرهم صنيع أولهم، وعرفوا مقادير أعمارها)
ولبهرام جور سيرة في الصيد ذائعة، وقد أضيف اسمه إلى حمار الوحش وكان كلفا بصيده. وهو بالفارسية (كور) فعرب إلى جور. وكان لسيرة بهرام في الصيد وما أثر عنه من العجائب أثر في الأدب الفارسي والتصوير، فكثيراً ما وصف الشعراء وصور المصورون بهرام في أحوال مختلفة من مطاردة الحمر الوحشية والغزلان. وإذا عرفنا أن الروايات الفارسية مجمعة على أن بهرام نشأ في الحيرة بين العرب وتأدب بآدابهم، وجدنا في سيرته صله أخرى تصل الصيد عند الفرس بالصيد عند العرب
- 2 - للعرب في البوادي وفي البراري المتصلة بالمدن والقرى ولع بالصيد منذ عصور الجاهلية. وقد عنى شعراء الجاهلية بوصف الصيد، أدواته وحيوانه وحركاته. فأما أدواته فالقسى والسهام والشباك والحبائل وغيرها. وأما الصيد فكل دابة وطائر، ولكن معظم عنايتهم كانت مصروفة إلى الحيوان الكثير اللحم. فعنوا بحمر الوحش وبقره والغزال. وضربوا المثل بحمار الوحش فقالوا:
(كل الصيد في جوف الفرا)
ولسنا في حاجة إلى ذكر طرف مما وصفوا به الخيل أو القسى والسهام، فقد كانت حاجتهم إليها شديدة في الدفاع عن أنفسهم فوصفوها في مقامات مختلفة أوصافا ذائعة معروفة
وإنما أذكر من الحيوان الذي يصاد به، الكلب. وقد افتن العرب في تعليم الكلاب ووسمها، ووصفوها وصنفوها ونسبوها وسموها. قال الجاحظ: (ولكرامها وجوارحها وكواسبها وأحرارها وعتاقها أنساب قائمة، ودواوين مخلدة، وأعراق محفوظة، ومواليد محصاة، مثل كلب جذعان، وهو السلهب ابن البراق بن وثاب بن مظفر بن محارش. وقد ذكر العرب أسماءها وأنسابها). وقال في موضع آخر: (والكلاب أصناف لا يحيط بها إلا من أطال الكلام. وفي الجزء الثاني من كتاب الحيوان فصل طويل عنوانه: (صفة ما يستدل به على فراهة الكلاب، وشياتها وسياستها). وفي هذا وغيره مما نقل عن العرب دليل على عنايتهم بالصيد وكلابه عناية كبيرة. وقد أثبت الجاحظ في الجزء الثاني من الحيوان قصيدة لمزرد بن ضرار فيها أسماء الكلاب وأنسابها وأوصافها. وسيمر القارئ بنبذ في وصف الكلاب أثناء وصف الصيد
وقل أن نجد في الشعر الجاهلي وصف الصيد في قصائد خاصة به كالطرديات التي ذاعت في العصور الإسلامية؛ ولكن يذكر حين تذكر الفروسية والشجاعة، وحين يذكر الشباب ولهوه. وعجيب أن أكمل الصور في وصف الصيد جاءت استطراداً في وصف الإبل؛ يذكر الشاعر السفر ويصف ناقته فيشبهها بحيوان سريع قوي كحمار الوحش وثور الوحش، وأحياناً يشبهها بالغزال والنعامة. ولا يكتفي بهذا التشبيه حتى يصف هذا الحيوان القوي السريع وهو يعود فزعاً من الصيادين فيصف ما يقع بين الصيادين وكلابهم وبين الحمار أو الثور. وقد ألف شعراء الجاهلية هذا الوصف حتى توسلوا إليه بالصلات الضعيفة وأطالوا فيه على غير ما ينتظر القارئ أو السامع
وأمرؤ القيس أكثر الجاهليين وصفاً للصيد استقلالاً غير استطراد في وصف الإبل. ولكنه يجمع بين وصف الصيد ووصف الحصان الذي يصيد عليه. ومن هذا قوله في المعلقة:
وقد أغتدي والطير في وكناتها ... بمنجرد قيد الأوابد هيكل
ويصف حصانه إلى أن يقول:
فعنِّ لنا سِرب كأن نعاجه ... عَذاري دَوار في الملاء المذّيل
فأدبرن كالجزع المفصَّل بينه ... بجيد مُعم في العشيرة مخُول
فألحقنا بالهاديات ودونه ... جَوا حرها في صَرّة لم تَزّيل
فعادى عداءّ بين ثور ونعجة ... دراكا ولم يَنضِحِ بماء فيُغسل
وظل طهاة اللحم ما بين مُنضج ... صفيف شِواء أو قَدير مُعجَّل
يصف صيد بقر الوحش. والبقر الوحشي أشبه بالغنم منه بالبقر الأهلي؛ ولهذا سميت الأنثى نعجة. وقال امرؤ القيس: وعادى عداء بين ثور ونعجة. وقد شبه شرب البقر بعذارى غليها ملاء تجر ذيوله ويدرن حول صم؛ ثم شبهها حينما ارتاعت بالجزع المفصل لاختلاف ألوانها. وقال أن الحصان لسرعته أدرك الهاديات أي السابقات منها وترك المتأخرات حيارى لها صياح فأدرك ثوراً فنعجة ولم يعرق. وعكف الطهاة على اللحم، منهم منم يشوي، ومنهم من يطبخ في قدر
وقد أجمل وصف الصيد في قصيدة أخرى إذ قال:
وقد أغتدي والطير في وكناتها ... لغيث من الوسمّى رائده خال
ومعظم الشعراء الآخرين يستطردون في وصف الناقة إلى تشبيهها ببقرة وحشية أو حمار في قوتها وسرعتها، ويصفون الحيوان المشبه به في حال ذعره من الصيادين حين لا يدخر قوة ولا إسراعاً للنجاة. ويجمع الشاعر أحياناً بين تشبيه الناقة بالحمار وتشبيهها بثور الوحش، وبصور حال كل منهما حين يروعه الصيادون كما فعل لبيد في المعلقة. وقد ألف الشعراء هذا الاستطراد حتى سار عليه أبو ذؤيب الهذلي وهو يرثي أولاده فقال إن الدهر لا يبقى على حدثانه ثور الوحش ولا حماره. واستطرد فوصف كيف انتهى الجلاد بين الحمار والصيادين بأن أصابه سهم أرداه، وكيف كان العراك بين الثور وكلاب الصيد فقتل بعضها حتى أدركها صاحبها فرمى الثور بسهم قتله.
(للكلام صلة)
مجلة الرسالة - العدد 527
بتاريخ: 09 - 08 - 1943