أقبل ممطرا.. مظلما.. موحلا.. وبدأ موسم البطالة، أجلس في البيت عاطلا عن العمل ثلاثة أيام بطولها، أو أشتغل أشغالا صغيرة مختلفة. وفي الدكاكين كانوا يخدعوننا – نحن العمال – فيقدمون لحما نتنا، وطحينا عفنا، وشايا أستعمل فجفف من جديد.. كان المعاونون والممرضات ينهبوننا في المستشفى، وإذا ما كنا أفقر من أن نقدر على رشوتهم إنتقموا لأنفسهم بأن يحملوا الطعام إلينا في أطباق قذرة، حتى كلاب المنازل لم تقف موقفا وديا فهي تنقض علينا في شراسة عجيبة..
ولست بحاجة إلى النص على أن المسألة لم تكن في يوم من الأيام مسألة حقوقنا السليبة وإننا كنا نلتمس المال الذي نكتسبه بعرق جبيننا فكأنه صدقة أو إحسان ونقف في انتظار الحصول عليه عند الباب الخلفي..
شيء انقضى زمانه عشت فيه أنا وأبي عيشة الفاقة. إن المرء ينزع إلى أن ينظر إلى الرفه والترف بوصفهما الامتياز السرمدي لرأس المال والدراسة النظامية.. والذي أعتقده أن مناعم الحياة يمكن أن تلتئم مع أنواع العمل كافة حتى أشقها وأقذرها…
جالس على صخرة أتمتع بالنظر إلى الأمواج، تركض عيناي وراءها تأتي من بعيد، تتكسر على الصخور وتبعثر رذاذها في الأجواء، تحاول الصعود إلى السحاب التي ملأت السماء وغطتها ببساط ناصع..
كانت بيضاء كالياسمين، عطرة كعطر شناشيلها وأريج حدائقها وطيبة أهلها.. أركض وراء الأمواج التي أخذتني إلى البعيد إلى الأيام التي كان الجمال يزينها.. كنت أعشقها ولا أهوى غيرها.. هل كان حبا أو عشقا لتلك المدينة؟
أسأل نفسي، ومن غير نفسي أسأله؟ لماذا هذا الصمت والذئاب والضباع والثعالب تنتشر في أرجائك، وأجواق من الغربان والنسور والعقبان تحلق في سمائك.. تتطاير مرة وتهبط طورا وقد ملأت الفضاء بنعيبها وصفيرها ورفيف أجنحتها؟ لماذا هذه القذارة.. شوارعك أضحت مكبا للنفايات..؟ تلبدت سماؤك بالغيوم الرمادية وحجبت الشمس عنا؟..
ما من جواب والقردة والنمور تصول وتجول.. والأيام تجري من سيء إلى أسوأ..شبح الموت المريع منتصب بين الجثث الملطخة بالدماء.. ففي كل صباح أرى عددا من بني جنسي في قبضة الموت..
انقضى عام وعام وقضى العام العجوز متنهدا أنفاسه الأخيرة في الفضاء الرمادي، وجاء عام توارى النور الضئيل وغمرت الظلمة أرجاء المدينة.. وابتدأت الثلوج تنهمر بغزارة.. والعواصف تصفر وترتعش لهولها الأشجار وتتملل أمامها الأرض..
لم أجد بدا من الارتحال إلى أرض الله الواسعة.. لأسير في موكب الحياة، وأطرد الكسل الغريب عن فصول الأرض لأكون مزمارا يختلج في قلبه مناجاة الأيام فتتحول إلى (موسيقى خالدة) أرادونا أن نكون ( قصبة خرساء صماء ).. نحن نحب الحياة ونحب العمل النافع.. ولكنهم يحاولون إذلالنا وغلق أعماق الحياة عنا،. ونحن نعرف أن الحياة بلا حركة ظلمة حالكة.. وصلنا مدينة مطلة على ساحل بحر واسع ( أنا وأبي وأمي وزوجتي وولدي ) ومعنا أمواج من أصدقائنا الذين عصرتهم الآلام يبحثون عن شواطئ الأمن والعمل ليحطموا القشرة التي حجبت الثمار وليعرفوا معنى الحياة : وكان في استقبالنا أقرباء وأصدقاء سبقونا هربا من الجحيم.. رجال ونساء شاحبي الوجوه بشفاه زرقاء ذابلة، وأطفال وشيوخ محمرة عيونهم.. واستقر بنا الحال.. وإن غدا لناظره قريب..
في الساعة الثالثة بعد منتصف الليل.. دقات خفيفة على باب الدار. ثم أعقيها بصوت عال شأن من يحاول أن يوقظ نائما:-
– حسان، حسان قم يا حسان: الصيادون قد سارعوا إلى البحر. قفزت من سريري.. وأجبته لأشعاره بالاستيقاظ.. والانتظار – شرعت بارتداء ملابسي.. وأيقظت ولدي الذي تجاوز العاشرة من عمره أحست زوجتي بحركتنا.. قامت وهيأت الطعام وقالت:
– ارجو أن يبتسم لكما الحظ في هذا اليوم الأول من العمل.. فقد طال عبوس الأيام، وتأففت مضيفة: ( يا لصيد السمك من مهنة حقيرة).
قلت لها في مسكنة:
– ماذا عليك يا ( فاطمة ) أمام حكم القدر؟ أسأل الله أن يكتب لنا التوفيق في هذا اليوم ويكون نصيبنا صيدا كثيرا يفرج بثمنه كربنا، ونؤدي بعض ديننا
أخذنا طريقنا حاملين حقيبة الخبز وطعام السمك الى البحر يرافقنا ذلك الصياد الذي بكر لإيقاظي.. وصلنا ثلاثتنا إلى الساحل وأسرعنا إلى مرسى المراكب… استأجرنا قاربا شراعــــــيا وأقلعنا به إلى داخل البحر،
كانت الرياح شديدة تعبث بالشراع وتدفعه بقوة فينساب القارب تحته بسرعة بالغة.. وكانت الأمواج تتلاطم بشدة وتحدث دويا مزعجا يضيف إلى ظلمة الليل وسكونه وحشة ورهبة.
دخلنا بحرا لجيا يغشاه موج من فوقه وسحاب، ظلمات بعضها فوق بعض، لم نكد نرى أيدينا من شدة الظلام، ولولا الأنوار التي تنبعث من منازل الأغنياء الذين هرعوا إلى الشاطئ ليستمتعوا بجودة الهواء، وصفاء السماء، فتنعكس على الماء وتلوح على ضوئها أشرعة القوارب كأنها أطيار بيضاء تحلق في الجو.. ما استطاع صياد أن يخاطر بحياته ويخرج في تلك الظلمة الحالكة..
كانت النجوم قد شرعت ترسل إلى سطح البحر ضوءا خافتا شاحبا قال لي صاحبي :
– يلوح لي من منظر الجو ان الرياح ستصير عواصف:
– نعم إن ذلك يتراءى لي أنا الآخر.. سيضطرب البحر اليوم أذن ويشتد هياجه:
واصلنا التقدم الى جوف البحر، وكان لسان الصبح قد امتد إلى صفحة الكون يمحو مداد الظلام.. وبدأ موكب الشمس يدنو رويدا رويدا فينير الأرجاء..كانت الساعات تنقضي سراعا.. وبلغت الساعة العاشرة والحال كما هي حين ابتدأنا العمل.. إلتفت حولنا فلم أر أثرا للشاطئ.. قال صاحبي:
– من الخير أن نرجع، فأكثر الظن أن السمك لن يظهر بعد..
ناديت ولدي ( محمود ) ليأتينا بالغداء.. وحين بدأنا بتناول الطعام وإذا بمحمود يصيح بصوت عال قائلا:-
– والدي.. والدي: سمك.. سمك كبير جدا..
اتجهت وزميلي من موضعنا إلى ناحية الغلام.. جهزت الشباك بالغذاء المغري للسمك وألقيت به في البحر..اضطرب الماء واهتز القارب.. كانت الشباك قد شدت بحبل إلى عمود في وسط القارب.. بدأ يميل إلى ناحية السمك قليلا قليلا، فيميل القارب تبعا له مما حملنا على جذب الحبل بقوة، فانقطع بأيدينا مع متانة نسيجه.. وتمايل القارب الصغير بنا ثم انجذب بقوة..
وكاد يغرق.. وشرح يهتز بعنف وقوة.. ويعلو فوق سطح الماء ثم يهبط أضحى قاربنا دون شراع يصارع الموج الهادر في يوم عاصف.. الماء تحته وحواليه يضطرب كأنه يغلي في مرجل.. وقبل أن نعد للأمر عدته فوجئنا بانقلاب القارب قي ناحية السمك. وما هي إلا ثوان معدودات حتى اعتدل بعد أن اغترف من الماء ما ملأه إلى منتصفه..
وبعد لوم وعتاب بيني وبين زميلي حول ما تعرضنا له تلفت حولي في القارب وعلى سطح البحر فلم أر إبني: فقلت لزميلي في لهفة حادة:- أين الولد؟ إني لا أراه..لقد كان هنا منذ قليل: بعد تعثر وتلجلج قال زميلي في صوت منقطع:-
– الولد: إنه لم يظهر على القارب، إني لم أره منذ نشبت المعركة بيننا وبين السمك وكدنا نهوي إلى القاع:
صحت:-إبني: حياتي: روحي:
هز زميلي رأسه في أسف وحسرة واقعية.
– إن الولد قد سقط – لا شك – في قاع البحر حيث لا نجاة ولا خلاص. ألقيت نفسي في البحر متحسسا بيدي ورجلي تحت سطح الماء عسى أن ألمس إحدى يديه أو رجليه الناعمتين تحت سطح الماء.. فلم يجدني هذا العمل نفعا.. لاحقني زميلي متوسلا ألا أدع سلطان الحزن يسيطر على قلبي.. وذكرني قائلا:-
– ألم تسمع أو تذكر بمصرع آبائنا وأجدادنا الصيادين الذين تقرر مصيرهم في هذا البحر؟
وأردف مضيفا:-
– ما حدث لأبنك اليوم يتكرر كل يوم مع زملائنا الصيادين في أنفسهم أو أحد أهليهم، وإنه مما لا ريب فيه أن خاتمتهم ستكون على يد ذلك البحر الجبار الذي لا يرحم ولا يرق.. وطلب أن نعود لأهلنا المنتظرين عودتنا..
وما هي إلا ساعة وبعض ساعة قضيتها جزعا مذهولا،أسائل نفسي في ألم:- ماذا سأقول (لفاطمة)؟ ما ذا ستقول تلك الأم الثكلى؟ يا لها من منكودة سيئة الطالع:
وصلنا الساحل والصيادون محتشدون على الشاطئ ينتظرون ذلك القارب الذي توغل إلى الداخل في عرض البحر، ليقفوا على مقدار الغنيمة التي رجعنا بها..
لم أحس بهم فقد كان بصري عالقا بسيدة سمراء طويلة وقفت بجوار حجر قريب من الماء تنظر نحو القارب وهو يدنو من الشاطئ – إنها ( فاطمة ) تنظر عودة إبنها وزوجها اقتربت من القارب.. التفتت يمنة ويسرة وأمعنت النظر.. فلما لم تر ابنها، ارتاعت وصاحت متسائلة:
– أين الولد يا حسان؟ أين ابننا الوحيد؟
طاطأت رأسي، وسالت عبراتي.. وانفجرت باكيا، ولم أستطع أن أنظر إليها، متمنيا أن أزول من هذا الوجود خشية من نظراتها الحائرة ولهفتها الجارفة:
أحست بنهاية ابنها ثم رفعت يديها إلى السماء وصرخت صرخة عالية مدوية، روعت جميع الواقفين.. وصاحت:
– ابني غرق.. وحيدي.. حبيبي.. إنتابتها أزمة عصبية حادة، فألقت بنفسها في اليم.. جرفتها الأمواج العاتية وهي توالي الصراخ والعويل في صوت مؤلم رهيب: ولدي.. روحي.. حياتي.. طواها اليم بين أمواجه.. فاكتملت المسرحية التي مثلت على صفحة الماء: وحلت المصيبة قارعة مدلهمة،وامتلكني الهم الذي لو وضع على ( جبل لانخذل معتذرا متصدعا) خاطبتها حالي حال أي واحد من أبناء وطني الراحلين عن مدينتهم من السابقين واللاحقين.. كيف استطعتي يا مصيبة أن تصلي الى وسط زحام المصائب على بابي متذكرا بيتا من روائع المتنبي يخاطبها قائلا:-
أبنت الدهر عندي كل بنت
فكيف وصلت أنت من الزحام
إنهمر على الدار سيل النساء جماعات ووحدانا بعد أن تلبدت سماؤها بغيوم الحزن، فمنهن المعزيات، ومنهن المتفرجات، وأمي تقابل المعزيات بالصرخات العالية ممزوجة بالمرارة واللوعة وباللطمات القاسية..
وقام الصيادون والأهل والأصدقاء نحوي وأنا أبكي بقوة كأني ألف امرأة، وأتوجع وقلبي مغلق على الألم وقد انهارت قواي بشدة للحدث الثاني الذي ( زاد الطين بلة ) فزاد حزني حتى العظم يذهل كل مرضعة عن مرضعها.. فراحوا يحففون عني لوعتي، ويعددون لي من ورد هذا المورد ممن أعرف من الصيادين، ويذكرون لي إن هذه نهاية كل من يعمل في البحار يلاقي المتاعب ولا يجد الشاطئ الذي يبحث عنه ويتمنى الوصول إليه.
ولست بحاجة إلى النص على أن المسألة لم تكن في يوم من الأيام مسألة حقوقنا السليبة وإننا كنا نلتمس المال الذي نكتسبه بعرق جبيننا فكأنه صدقة أو إحسان ونقف في انتظار الحصول عليه عند الباب الخلفي..
شيء انقضى زمانه عشت فيه أنا وأبي عيشة الفاقة. إن المرء ينزع إلى أن ينظر إلى الرفه والترف بوصفهما الامتياز السرمدي لرأس المال والدراسة النظامية.. والذي أعتقده أن مناعم الحياة يمكن أن تلتئم مع أنواع العمل كافة حتى أشقها وأقذرها…
جالس على صخرة أتمتع بالنظر إلى الأمواج، تركض عيناي وراءها تأتي من بعيد، تتكسر على الصخور وتبعثر رذاذها في الأجواء، تحاول الصعود إلى السحاب التي ملأت السماء وغطتها ببساط ناصع..
كانت بيضاء كالياسمين، عطرة كعطر شناشيلها وأريج حدائقها وطيبة أهلها.. أركض وراء الأمواج التي أخذتني إلى البعيد إلى الأيام التي كان الجمال يزينها.. كنت أعشقها ولا أهوى غيرها.. هل كان حبا أو عشقا لتلك المدينة؟
أسأل نفسي، ومن غير نفسي أسأله؟ لماذا هذا الصمت والذئاب والضباع والثعالب تنتشر في أرجائك، وأجواق من الغربان والنسور والعقبان تحلق في سمائك.. تتطاير مرة وتهبط طورا وقد ملأت الفضاء بنعيبها وصفيرها ورفيف أجنحتها؟ لماذا هذه القذارة.. شوارعك أضحت مكبا للنفايات..؟ تلبدت سماؤك بالغيوم الرمادية وحجبت الشمس عنا؟..
ما من جواب والقردة والنمور تصول وتجول.. والأيام تجري من سيء إلى أسوأ..شبح الموت المريع منتصب بين الجثث الملطخة بالدماء.. ففي كل صباح أرى عددا من بني جنسي في قبضة الموت..
انقضى عام وعام وقضى العام العجوز متنهدا أنفاسه الأخيرة في الفضاء الرمادي، وجاء عام توارى النور الضئيل وغمرت الظلمة أرجاء المدينة.. وابتدأت الثلوج تنهمر بغزارة.. والعواصف تصفر وترتعش لهولها الأشجار وتتملل أمامها الأرض..
لم أجد بدا من الارتحال إلى أرض الله الواسعة.. لأسير في موكب الحياة، وأطرد الكسل الغريب عن فصول الأرض لأكون مزمارا يختلج في قلبه مناجاة الأيام فتتحول إلى (موسيقى خالدة) أرادونا أن نكون ( قصبة خرساء صماء ).. نحن نحب الحياة ونحب العمل النافع.. ولكنهم يحاولون إذلالنا وغلق أعماق الحياة عنا،. ونحن نعرف أن الحياة بلا حركة ظلمة حالكة.. وصلنا مدينة مطلة على ساحل بحر واسع ( أنا وأبي وأمي وزوجتي وولدي ) ومعنا أمواج من أصدقائنا الذين عصرتهم الآلام يبحثون عن شواطئ الأمن والعمل ليحطموا القشرة التي حجبت الثمار وليعرفوا معنى الحياة : وكان في استقبالنا أقرباء وأصدقاء سبقونا هربا من الجحيم.. رجال ونساء شاحبي الوجوه بشفاه زرقاء ذابلة، وأطفال وشيوخ محمرة عيونهم.. واستقر بنا الحال.. وإن غدا لناظره قريب..
في الساعة الثالثة بعد منتصف الليل.. دقات خفيفة على باب الدار. ثم أعقيها بصوت عال شأن من يحاول أن يوقظ نائما:-
– حسان، حسان قم يا حسان: الصيادون قد سارعوا إلى البحر. قفزت من سريري.. وأجبته لأشعاره بالاستيقاظ.. والانتظار – شرعت بارتداء ملابسي.. وأيقظت ولدي الذي تجاوز العاشرة من عمره أحست زوجتي بحركتنا.. قامت وهيأت الطعام وقالت:
– ارجو أن يبتسم لكما الحظ في هذا اليوم الأول من العمل.. فقد طال عبوس الأيام، وتأففت مضيفة: ( يا لصيد السمك من مهنة حقيرة).
قلت لها في مسكنة:
– ماذا عليك يا ( فاطمة ) أمام حكم القدر؟ أسأل الله أن يكتب لنا التوفيق في هذا اليوم ويكون نصيبنا صيدا كثيرا يفرج بثمنه كربنا، ونؤدي بعض ديننا
أخذنا طريقنا حاملين حقيبة الخبز وطعام السمك الى البحر يرافقنا ذلك الصياد الذي بكر لإيقاظي.. وصلنا ثلاثتنا إلى الساحل وأسرعنا إلى مرسى المراكب… استأجرنا قاربا شراعــــــيا وأقلعنا به إلى داخل البحر،
كانت الرياح شديدة تعبث بالشراع وتدفعه بقوة فينساب القارب تحته بسرعة بالغة.. وكانت الأمواج تتلاطم بشدة وتحدث دويا مزعجا يضيف إلى ظلمة الليل وسكونه وحشة ورهبة.
دخلنا بحرا لجيا يغشاه موج من فوقه وسحاب، ظلمات بعضها فوق بعض، لم نكد نرى أيدينا من شدة الظلام، ولولا الأنوار التي تنبعث من منازل الأغنياء الذين هرعوا إلى الشاطئ ليستمتعوا بجودة الهواء، وصفاء السماء، فتنعكس على الماء وتلوح على ضوئها أشرعة القوارب كأنها أطيار بيضاء تحلق في الجو.. ما استطاع صياد أن يخاطر بحياته ويخرج في تلك الظلمة الحالكة..
كانت النجوم قد شرعت ترسل إلى سطح البحر ضوءا خافتا شاحبا قال لي صاحبي :
– يلوح لي من منظر الجو ان الرياح ستصير عواصف:
– نعم إن ذلك يتراءى لي أنا الآخر.. سيضطرب البحر اليوم أذن ويشتد هياجه:
واصلنا التقدم الى جوف البحر، وكان لسان الصبح قد امتد إلى صفحة الكون يمحو مداد الظلام.. وبدأ موكب الشمس يدنو رويدا رويدا فينير الأرجاء..كانت الساعات تنقضي سراعا.. وبلغت الساعة العاشرة والحال كما هي حين ابتدأنا العمل.. إلتفت حولنا فلم أر أثرا للشاطئ.. قال صاحبي:
– من الخير أن نرجع، فأكثر الظن أن السمك لن يظهر بعد..
ناديت ولدي ( محمود ) ليأتينا بالغداء.. وحين بدأنا بتناول الطعام وإذا بمحمود يصيح بصوت عال قائلا:-
– والدي.. والدي: سمك.. سمك كبير جدا..
اتجهت وزميلي من موضعنا إلى ناحية الغلام.. جهزت الشباك بالغذاء المغري للسمك وألقيت به في البحر..اضطرب الماء واهتز القارب.. كانت الشباك قد شدت بحبل إلى عمود في وسط القارب.. بدأ يميل إلى ناحية السمك قليلا قليلا، فيميل القارب تبعا له مما حملنا على جذب الحبل بقوة، فانقطع بأيدينا مع متانة نسيجه.. وتمايل القارب الصغير بنا ثم انجذب بقوة..
وكاد يغرق.. وشرح يهتز بعنف وقوة.. ويعلو فوق سطح الماء ثم يهبط أضحى قاربنا دون شراع يصارع الموج الهادر في يوم عاصف.. الماء تحته وحواليه يضطرب كأنه يغلي في مرجل.. وقبل أن نعد للأمر عدته فوجئنا بانقلاب القارب قي ناحية السمك. وما هي إلا ثوان معدودات حتى اعتدل بعد أن اغترف من الماء ما ملأه إلى منتصفه..
وبعد لوم وعتاب بيني وبين زميلي حول ما تعرضنا له تلفت حولي في القارب وعلى سطح البحر فلم أر إبني: فقلت لزميلي في لهفة حادة:- أين الولد؟ إني لا أراه..لقد كان هنا منذ قليل: بعد تعثر وتلجلج قال زميلي في صوت منقطع:-
– الولد: إنه لم يظهر على القارب، إني لم أره منذ نشبت المعركة بيننا وبين السمك وكدنا نهوي إلى القاع:
صحت:-إبني: حياتي: روحي:
هز زميلي رأسه في أسف وحسرة واقعية.
– إن الولد قد سقط – لا شك – في قاع البحر حيث لا نجاة ولا خلاص. ألقيت نفسي في البحر متحسسا بيدي ورجلي تحت سطح الماء عسى أن ألمس إحدى يديه أو رجليه الناعمتين تحت سطح الماء.. فلم يجدني هذا العمل نفعا.. لاحقني زميلي متوسلا ألا أدع سلطان الحزن يسيطر على قلبي.. وذكرني قائلا:-
– ألم تسمع أو تذكر بمصرع آبائنا وأجدادنا الصيادين الذين تقرر مصيرهم في هذا البحر؟
وأردف مضيفا:-
– ما حدث لأبنك اليوم يتكرر كل يوم مع زملائنا الصيادين في أنفسهم أو أحد أهليهم، وإنه مما لا ريب فيه أن خاتمتهم ستكون على يد ذلك البحر الجبار الذي لا يرحم ولا يرق.. وطلب أن نعود لأهلنا المنتظرين عودتنا..
وما هي إلا ساعة وبعض ساعة قضيتها جزعا مذهولا،أسائل نفسي في ألم:- ماذا سأقول (لفاطمة)؟ ما ذا ستقول تلك الأم الثكلى؟ يا لها من منكودة سيئة الطالع:
وصلنا الساحل والصيادون محتشدون على الشاطئ ينتظرون ذلك القارب الذي توغل إلى الداخل في عرض البحر، ليقفوا على مقدار الغنيمة التي رجعنا بها..
لم أحس بهم فقد كان بصري عالقا بسيدة سمراء طويلة وقفت بجوار حجر قريب من الماء تنظر نحو القارب وهو يدنو من الشاطئ – إنها ( فاطمة ) تنظر عودة إبنها وزوجها اقتربت من القارب.. التفتت يمنة ويسرة وأمعنت النظر.. فلما لم تر ابنها، ارتاعت وصاحت متسائلة:
– أين الولد يا حسان؟ أين ابننا الوحيد؟
طاطأت رأسي، وسالت عبراتي.. وانفجرت باكيا، ولم أستطع أن أنظر إليها، متمنيا أن أزول من هذا الوجود خشية من نظراتها الحائرة ولهفتها الجارفة:
أحست بنهاية ابنها ثم رفعت يديها إلى السماء وصرخت صرخة عالية مدوية، روعت جميع الواقفين.. وصاحت:
– ابني غرق.. وحيدي.. حبيبي.. إنتابتها أزمة عصبية حادة، فألقت بنفسها في اليم.. جرفتها الأمواج العاتية وهي توالي الصراخ والعويل في صوت مؤلم رهيب: ولدي.. روحي.. حياتي.. طواها اليم بين أمواجه.. فاكتملت المسرحية التي مثلت على صفحة الماء: وحلت المصيبة قارعة مدلهمة،وامتلكني الهم الذي لو وضع على ( جبل لانخذل معتذرا متصدعا) خاطبتها حالي حال أي واحد من أبناء وطني الراحلين عن مدينتهم من السابقين واللاحقين.. كيف استطعتي يا مصيبة أن تصلي الى وسط زحام المصائب على بابي متذكرا بيتا من روائع المتنبي يخاطبها قائلا:-
أبنت الدهر عندي كل بنت
فكيف وصلت أنت من الزحام
إنهمر على الدار سيل النساء جماعات ووحدانا بعد أن تلبدت سماؤها بغيوم الحزن، فمنهن المعزيات، ومنهن المتفرجات، وأمي تقابل المعزيات بالصرخات العالية ممزوجة بالمرارة واللوعة وباللطمات القاسية..
وقام الصيادون والأهل والأصدقاء نحوي وأنا أبكي بقوة كأني ألف امرأة، وأتوجع وقلبي مغلق على الألم وقد انهارت قواي بشدة للحدث الثاني الذي ( زاد الطين بلة ) فزاد حزني حتى العظم يذهل كل مرضعة عن مرضعها.. فراحوا يحففون عني لوعتي، ويعددون لي من ورد هذا المورد ممن أعرف من الصيادين، ويذكرون لي إن هذه نهاية كل من يعمل في البحار يلاقي المتاعب ولا يجد الشاطئ الذي يبحث عنه ويتمنى الوصول إليه.