داود سلمان الشويلي - مطر... مطر(1)

(الليلة ممطرة،
والبرد احدّ من السكين
وصوت الريح ، وحشرجة المطر المتدفق ...
والشارع اقفر ، إلا من اصداء خطاها ،
لاشيء سوى هذا ،
وسوى اصداء خطاها وسواها ،
وحقيبتها المبتلة ، والشعر المتثائب في ملل ،
فوق الكتفين .. وانملها ،
وهي تدق الباب ليفتح ..
من سيكون الليلة ضيفي ..؟
.....الخ)(2)

أرتاح كثيرا عندما أستذكر هذه القصيدة، وهي لصديقي شاعر الناصرية المرحوم رشيد مجيد، إنها لا تنطبق على وصف الليلة التي أنا فيها لكنني استذكرتها الآن، والآن فقط.
كان شهر كانون الأول، أو شهر شباط، هما الشهران اللذان ينزل فيهما المطر بعض الأحيان لأنهما من أشهر الشتاء في المدينة.
تجمعت الغيوم السوداء الكبيرة، وذابت مرة واحدة على المدينة، وغنت الأرض اغنيتها الموحلة، ليس كعادتها في السنوات التي مضت، كانت السماء بخيلة، وشحيحة، حد الجفاف. كان مزارعوا الحنطة، والشعير، فرحين به، يرقصون طربا، فيما نحن على عكسهم نزداد غضبا كلما نزل المطر.
كانت ليلة ماطرة غير هادئة بامتياز نادر، جاءت بعد نهار رمادي، كالح، وبارد حدّ السكين، فقد كانت مضطربة، قلقة، غير مستقرة، وثابتة، على أمر واحد، بعد أن امتلأت السماء بغيوم سود داكنة أنبأت الناس عن هطول المطر بغزارة فجادت به كالشلالات التي يسمع لها صوت بهدير مضطرب، وكأن السماء راغبة به، والبرق تلمع سيوفه التي يتعارك الملائكة بها فيما بينهم، وكانت طبول الحرب بينهما لاتصمت، ترسل ضجيجا مدويا، وزمجرة حادة، ودموع الملائكة الآخرين تنهمر على الأرض مخلفة بركا آسنة عديدة، وطين لزج، وهذا يحدث فقط في فصل الشتاء.
كانت أمهاتنا سحابات مثقلة بالحنان، ممطرة حبا، في كل الفصول، وفي كل مكان، وزمان، فكنا نحتمي بهن من كل شر مستطير.
***
كانت قصيدة "ليلة ممطرة" لا تعكس الحالة التي نحن فيها بل تعكس الأجواء التي نحن عليها، كانت القصيدة رومانسية فيما ليلتنا سوداوية، مرعبة، ممطرة، بارقة، مرعدة. إذ في الشتاء، وعندما ينزل المطر، تصبح أرضية دارنا موحلة، وطينية، ومجموعة من المستنقعات الصغيرة، والبرد لا يرحم، فهو ينزل الى داخل عظامنا، كحد السكين، وفي الليل خاصة يصبح الظلام لا كما قال الشاعر بدر شاكر السياب جميلا، بل هو في أسوء حالاته، فكل شيء أسود مثل النيل، وأشد، إذ لا كهرباء في صريفتنا، ولا في صريفة ابن عمتي المقابلة لها، والتي تقع على مسافة منها غير قليلة، بينهما ساحة طينية، لزجة، فيها مستنقعات مائية كثيرة. وأيضا ليس في الكثير من دور الحي، إلا النادر منها، وكنا شبه خائفين، ونحن نجلس القرفصاء نرتجف بردا داخل الصريفة في شبه دائرة محلقين حول أمنا خيمة الحنين، والحب. عيناها الواسعتان تشع نورا يهدينا الى الطريق الصحيح، وتبرقان حنينا، ونحن نقترب منها أكثر، فلا ملاذ لنا سواها، فهي التي سمعنا نبض قلبها، ونحن في رحمها، وآنسنا به، فكيف الآن، وهي جنبنا؟ وصوت الريح يخيفنا، وهي تعوي، وتصفر، دون من يردعها.
كانت الليلة باردة، صامتة، مخيفة، مرعبة. بدأت تفوح منا رائحة الخوف، فيما عتمة الصريفة ينيرها ضوء الفانوس الأصفر الخافت، والمتراقص، الذي تبعثة فتيلته المغمسة بالنفط. كنا نخاف الطنطل، والسعلوة، والمارد، ونخشى مجيأهما مع اللص الذي رآه والدنا. كانت أسماعنا تعكس صوت السكون المفروش في الصريفة، وساحة الدار الموحلة، وأبصارنا معلقة بوجه أمنا، والصمت المشوب بالخوف هو اللغة التي نعرفها فيما وجهها بشوشا قبالة وجوهنا التي تعكس ضوء الفانوس الأصفر المتراقص. كانت مشاعرنا قد اضطربت، تقلقل شيئا فيها، أزيل من مكانه. قالت أمي بحزم فيه شيء من الحنون:
- لا تخافوا.
***
كان بين دارنا، أقصد الأرض التي بنى والدي، وابن أخته، صريفتيهما عليها، وبين دار الحاج موسى الهايس المبني بالطابوق، والمسقف بجذوع الأشجار، والقصب، والبواري، والمعبّد بالفرشي، بابا خشبية، وفي ظلام تلك الليلة الممطرة شعر والدي، لا كما شعر الشاعر رشيد مجيد في قصيدته (ليلة ممطرة) بفتاة تطرق باب داره، وانما بحركة غير اعتيادية في وحل ساحة الدار، وعندما خرج من الصريفة، وهو ملثم بيشماغه من البرد، رأى شخصا يتحرك في كتلة الظلام الماطر ماء، وبرودة، كتلة سوداء تتجه نحو الباب الخشبي، فأسرع والدي، وأمسك به، كان لصا، وقد غطى نصف وجهه بيشماغه. صاح والدي بأعلى صوته:
- مهدي ... حاج موسى.
ظهر ابن عمتي أولا من صريفته مسرعا، وبرز الحاج موسى من الباب الخشبي مندهشا في هذا الظلام البارد، والممطر، وهكذا القوا القبض عليه، وأشبعوه ضربا، ثم تركوه يذهب الى المكان الذي جاء منه، لأنه لم يكن مثل "لصّ يوم السبت" في قصة غابرييل غارسيا ماركيز الذي أصبح صديقا لمن جاء يسرقها.
***
كان ابن عمتي مهدي، أو الحاج مهدي فيما بعد، كريم العين، "أعورا"، إذ كحلت عينه عندما كان رضيعا امرأة عوراء فأطفأت نور عينه، وظل كريم العين الى أن مات، دون أن يشتكي، أو يتذمر، أو يلوم أمه، أو المرأة العوراء التي تركته أعورا.
***
كانت أجواء دارنا حميمية، وكانت أمي، الذكر الطيب لها، تذهب الى سوق المدينة كل يوم صباحا، وبيدها الزنبيل المصنوع من خوص سعف النخيل، وكانت تعود منه، وهي محملة بما لذّ، وطاب، لنا نحن الأبناء، ولدين، وبنتين.
مرة رأيت أمي، وزوجة ابن عمتي، جالسات قرب باب صريفتنا، وهن يضعن (الديرم) على شفاههن يتزينن الى أزواجهن، ويمسحن خدودهن بمادة (السبداج) ، وكان كلامهن شيء مضحك لهن. فيما أنا لا أتذكر زواج أبي، وأمي، وهذا مؤكد، وغير قابل للنقاش، لأنني لم أكن مولودا عندما أحبها، وأحبته، إلا انني أتذكر قصة حبهما لبعضهما كما روته لنا أمي، فهو قد أحبها عندما رآها في بيت صديقه البصري عندما كان يعمل معه في البصرة، فطلب يدها من خالي جاسم، وتم الزواج، ولا أعرف الكيفية التي تم فيها الزواج، إلا انني أعلم من مجريات الأحداث انه أتى بها مع "صرة" ملابسها فقط الى مدينته الناصرية بالقطار، فتعرفت على جدتي لأبي، وعلى عماتي الاثنتين المتزوجات، وعاشت مع جدتي الذكر الطيب لها بإنسجام، ومودة حتى جاء مفرق الأحباب، ومهدم اللذات فأخذ معه جدتي لأبي.
كانت فتاة بيضاء البشرة، وجميلة، رقيقة، وبقلب ينبض بالطيبة، وذات جسم لا نحيل فينقطع بين يدي زوجها، ولا هو بالسمين الذي يمتنع عن الثني.
***
كان أبي رجلا عصاميا، وكان يتيم الأب، و"يكد" على والدته، ثم صار "يكد" على زوجته، ومن ثم على عياله، لانه كوّن بيتا، وعائلة، زوجة، وأولادا.
***
كنا في الدار القديمة نسكن في الأرض الخاصة بإبن عمة والدي الحاج موسى الهايس، والتي بنى عليها صريفة لتأويه، وزوجته الفتاة البصرية من قبيلة كنانة، وكذلك لابن أخته مهدي دحام الازيرجاوي صريفة ليأوي اليها مع زوجته ابنة عمه، ووالدته شبه العمياء، وكانت والدتي ترضع أخي الرضيع مالك بقنينة زجاجية تضع على فوهتها رأس مطاطي كمثري الشكل مثل حلمة الثدي ليرضع منه الحليب، وفي بعض الأحيان تضع في القنينة الماء فقط لعدم وجود حليب الأبقار. وفي فصل الشتاء، وعندما يتجمد الماء في "الحب" فانها تكسر الطبقة المتجمدة في الأعلى، وتملأ "الممة" بالماء البارد، والمثلج، وتعطيه لأخي الرضيع. هكذا روت لنا أمي، وهكذا عللت لماذا هو طويل القامة، ورفيع البنية كقصبة الأهوار لأنه رضع الماء المثلج.
كانت آثاث بيتنا تتكون من "ݘرباية" خشب "جاوي" محاطة بسياج خشبي، مزخرفة، فيها صورتين إحداهما صورة لمريم العذراء، والأخرى صورة للمعيدية، ومحمل خشبي بثلاثة أبواب لحفظ الملابس فيه، ووضع نضيدة الأفرشة عليه، ومجموعة من الأفرشة، وحِب لتبريد ماء الشرب، ومسخنة لنقل الماء من الشط "نهر الفرات" الى البيت، و"سلبݘه"، و"لگن" لغسل اليدين، و"كاروك" خشبي لنوم الرضيع.
هذه آثاث بيتنا إلا انني لا أعرف متى ماتت جدتي لأبي، فأنا لم أرها، فقط رأيت عماتي فاقدات البصر، كنّ أكبر من أبي الذي فقد أباه، وهو صغير، وحتما فهو لا يعرف عنه شيئا.
عندما كان أبي صبيا كان يعمل أجيرا، وكان يأتي لأمه بما يحصل عليه من أجرة، ومرة كانت تجلس مع جدتي امرأة معروفة بالحسد، فقالت لجدتي:
- صار لك ابن يأتي لك بالفلوس.
يقول والدي، والعهدة عليه:
- فركت راحتى يديّ، ومن تلك اللحظة راحت راحتي يديّ في الشتاء يطفح جلدهما، ويأخذن بالحك فيحمرا، هكذا علل والدي سبب الحكة التي في راحتيه.
سألت أبي في فترة أنا واع لما أقول:
- هل تصدق في الحسد؟
قال مبتسما:
- يوجد الحسد في القرآن.
سكت، ولم أنبس بكامة واحدة لأني لا أريد أن أناقش أبي أولا، ولا رجل أمي مثله ثانيا، وهو مؤمن بنا جاء به القرآن ثالثا. وأنا على ثقة بأن ما أصابه هو مرض جلدي ربما بسبب مواد البناء لبعض جاود الانسان. هذه محنة المثقفين في العالم الاسلامي.


***

الهوامش:
1– قصة قصيرة من ضمن كتابي الذي يحمل بعض مذكراتي على شكل قصص قصيرة أعده للطبع.
2 - عندما القى الشاعر قصيدته في حفل عام سـألته أمام الحضور عن اشعاله المدفأة الثانية، والسرير فارغ؟ أجابني قائلا: وهو يضحك لقد نسيت.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...