مقدّمة:
رغم تاريخها القصير نسبيّا عرفت الرّواية العربيّة تحوّلات كبيرة مقارنة بعراقة الرّواية الغربيّة. وفي ظلّ التّغيّرات والتّحوّلات السّريعة التي يشهدها العالم اليوم لا شكّ أنّ الرّواية المنجميّة الأقصر تاريخا ضمن الرّواية عموما، شهدت شأن كلّ التعبيرات الأدبيّة تحوّلات سواء على امتداد الزمن أو باختلاف التجارب والكتّاب. وإذ تحافظ الرّواية المنجميّة على موقع ضمن خارطة الرواية عموما، فإنّ ذلك عائد لمحافظتها على ثوابت جعلتها تتمايز عن بقيّة أنواع الرواية. وخيّرنا التطرّق إلى الرواية المنجميّة من زاوية البحث في مسألة الثابت والمتحوّل لأهميّتها البالغة في اختبار مشروعيّة القول بمصطلح "رواية منجميّة" وجدواه، ورصد سماتها الفنيّة المميّزة، وأهميّة تنويعاتها، منطلقين من مصادرة نروم اختبارها تتمثل في زعمنا أنّ الرواية المنجميّة بلغت من التراكم الكمّي والزّمني ما يبرّر لنا البحث في الثابت والمتحوّل فيها. ولهذا الغرض اتّخذنا رواية "الحوت البرّي" للكاتب المغربي السهلي عويشي نموذجا. وارتأينا تقسيم عملنا إلى قسمين رئيسين: ثوابت الرواية المنجميّة أوّلا، فمتحوّلات الرواية المنجميّة ثانيا، غير أنّنا فضّلنا التمهيد لهما بمدخل مصطلحيّ أثرنا فيه إشكاليّة مصطلح "الرواية المنجميّة" نزعم أنّه ضروريّ للبحث عن أرضيّة مشتركة لتدبّر الرواية ضمن الأفق القرائيّ المقترح.
I- مدخل: الرواية المنجميّة: مساءلة المصطلح
بما أنّ تعريف الرواية تعريفا واحدا جامعا مانعا أمر أقرّ النقّاد بصعوبته، كأن يقرّ الناقد بيار شارتييه: "من الصعوبة بمكان (..) الإحاطة بالرواية" ، فإنّ تعريف الرواية المنجميّة سيكون أكثر صعوبة، ولعلّ ذلك ما نروم الاسهام فيه. عرّفها الدكتور جميل حمداوي بقوله: "نعني بالرواية المنجميّة تلك الرواية التي تتّخذ من المنجم فضاء للصراع الاجتماعيّ وتيمة أساسيّة في تحبيك الأحداث وتأزيمها (..) وتندرج ضمن الرواية البروليتاريّة الاجتماعيّة، أو ضمن الرواية العمّاليّة (..) ويمكن تسميتها بالرواية السوداء.." . ورغم سعيه الواضح للحدّ والضبط والإحاطة يظلّ هذا التعريف تعريفا متردّدا، لا يسلم من خلفيات إيديولوجيّة، وهو تعريف لن نصادر برفضه، بل نقبله مبدئيّا لنحاول البناء عليه واختباره في محاولتنا الاستقرائيّة الجزئيّة هذه، ويبقى الاطّلاع على المدوّنة الروائيّة المنجميّة كفيل بمزيد الضبط والدقّة.
فمدوّنة الرواية المنجميّة مابرحت تتّسع وتمتدّ في الزمان والمكان. وعالميّا اشتهرت رواية "جرمنال" للفرنسيّ إميل زولا أوّل رواية منجميّة. بينما في تونس مثلا أمكن رصد أوّل رواية منجميّة مع "يوم من أيّام زمرا" لمحمد الصالح الجابري، والدقلة في عراجينها" للبشير خريّف، إلى "وراء السّراب قليلا" لابراهيم درغوثي، و"عشرة خامسهم بغل" لقاسم العكرمي، و"تزهر الجبال الصلدة" لابراهيم بنسلطان، إلى "النادل والقطار" لعمار بنبوبكر، و"سيرة معتوه" للمولدي ضو... أما في المغرب الأقصى فيمكن أن نذكر من الروايات المنجميّة: "يوم الاقتراع" و"الصوت المبحوح" و"رحلة العطش" لمحمد بنعلي، و"سيرة العته والجنون" لجلّول قاسمي، و"البرزخ" لعمر ولقاضي، و"أهل العتمات" لعبد الرحمان مسحت، و"بولنوار" لعثمان أشقرا، و"الجبال لا تسقط" لسعديّة سلايلي، و"أمفيون: الرقم المهني 4892" لمحمد العرجوني، و"حين يزهر اللّوز" لمحمد أبو العلا و"الحوت البرّي" للسهلي عويشي موضوع دراستنا.
وهكذا رغم حداثة الرواية المنجميّة، فإنّها تمكّنت من إحداث نوع من التراكم ووجدت أكثر حضوة من النقاد، ممّا جعل المصطلح يقطع خطوات نحو التأصيل والترويج، ممّا سمح باعتمادها لرصد الثابت والمتحوّل، واخترنا "الحوت البريّ" للسهلي عويشي باعتبارها من النماذج المتأخرة التي تمكّننا من القيام بهذه المهمّة.
II- ثوابت الرواية المنجميّة في رواية "الحوت البريّ":
ونعني بالثوابت العناصر التي تشترك فيها رواية "الحوت البريّ" مع مجمل مدوّنة الرواية المنجميّة وهي الملامح المطّردة الحضور المتعاودة عبر التراكم الزمنيّ والعدديّ، ممّا يجعلنا نتحدّث عن تقليد محتذى أو سنّة متّبعة أو منوال. ورصد هذا المشترك يعدّ أمرا صعبا لاتّساع المدوّنة وتعدّد التجارب بل عدم وضوحها ودقّتها، فلا ندّعي الاطلاع على كلّ رواية منجميّة... لذلك سيكون منهج بحثنا عن ثوابت الرواية المنجميّة رصد للمتواتر لدينا دون إنكار وجود استثناءات.
تسعفنا رواية "الحوت البريّ" ببدايتها: "ماذا تغيّر بين الأمس واليوم؟ لبضع سنوات وأنا بعيد عنك، ضننت أنّ هناك أمورا كثيرة قد تغيّرت، وأنّ الصور السوداء التي كانت مرسومة في ذهني لمّا هاجرت استبدلت بأخرى خضراء... أدركت أن لا شيء تغيّر في بلدي" . لتكون هذه الرواية قد حافظت على مكوّنين أساسيين من مكوّنات الرواية المنجميّة: المكان والشّخصيّة.
فالمكان هو بلدة جرادة بما تحمله من ملامح القرى المنجميّة المعهودة، بلونها "الفحميّ"، تتكدّس حولها جبال الفحم الحجري، تتخلّلها مغارات المنجم أو "الآبار"، وتعلوها مداخن معامله... وهو مكان كما عهدناه يتّسم بالبؤس، بما فيه من أحياء قصديريّة وأكواخ في الأطراف والهوامش،هو مكان تنتهك فيه إنسانيّة السكّان ضيقا وتآكلا وتلوّثا... في مقابل الحيّ المركزيّ (الحيّ الأوروبيّ) بنظامه ونظافته وبذخه.
ومن السّمات المتواترة للمكان في الرّواية المنجميّة انقسامه إلى تحت وفوق، باطن وظاهر، عمق وسطح. أمّا الـ"التحت" هنا فهو آبار الفحم الحجريّ ومغاراته، أنشأها المستعمر الفرنسيّ بأيادي الأهالي (الجرذان) وعرقهم ودمائهم، وصمّموا دهاليزها ومتاهاتها المظلمة، لتكون قبورا لأجساد الكثيرين منهم وأحلامهم، مخلّفين بقايا هياكلهم العظميّة ومداساتهم للجيل اللاّحق من الأبناء والأحفاد يعثرون عليها من حين لآخر وهم يعيدون النبش لاستخراج الفحم بعد أن أغلقت المناجم ورحلت الشّركة لتتركهم للضياع واليتم والفقر. فباطن مدينة جرادة وعمقها يختزلان معاناة سكّانها ويتكتّمان على أسرار ماضيها البائس من ناحية، وهما من ناحية أخرى يكشفان عن ملحمة إصرارهم وجهادهم وتضحياتهم تشبّثا بالحياة وحبّا للأرض والوطن... بينما المكان على السّطح جفاف وقحط وأتربة وغبار المعدن (الفحم الحجريّ) وأكوامه تحيط بالأحياء البائسة وتخنقها وتغطّي بلونها الموحش شوارعها وساحاتها ومساكنها المتداعية الهرمة ووجوه سكّانها الكالحة. فالسّطح لا يقلّ ظلمة وانتهاكا ووحشة عن باطن الأرض، موت يترصّد تحت الأرض انهيارات مفاجئة، وموت يلاحق فوق الأرض مرضا فتّاكا هو السيليلوز... إذ نلاحظ هيمنة الانغلاق على المكان في هذه الرواية، فهو انغلاق فيزيائيّ في المغارات وانغلاق رمزيّ معنويّ في المكان المفتوح فيزيائيّا بمحدوديته ومحاصرته بحواجز الأتربة وفضلات معدن الفحم وبقايا المعامل والمناجم المغلقة.. فالمكان في رواية "الحوت البريّ" أضحى بؤرة اضطهاد وانتهاك وتشوّه وبؤس وغبن.
وفي هذا الفضاء المنجميّ تتحرّك كائنات منجميّة، هي شخصيات عرفنا مثيلاتها في روايات منجميّة أخرى، تعيش وضع الانتهاك والاستغلال، هم عمّال المنجم (البا محمد، مسعود، الحسين، عبد السلام، بندحمان، بنعاشور...) يتعرّضون لظلم الشركة فيتحرّكون للاحتجاج وينتظمون نقابيّا، فيضربون ويعتصمون، ويتعرّض بعضهم إلى الطرد... أمّا زوجاتهم (أمينة، زوجة البا محمد وأمّ محمود الشخصيّة الرئيسيّة، خدّوج زوجة الحسين العامل الذي مات في حادث انهار منجميّ..) فيشاركنهم البؤس والفقر والألم... فشخصيات الرواية المنجميّة شخصيات ذات ملامح كالحة مهمّشة بائسة، من حيث بنيتها الجسديّة أو النفسيّة أو الاجتماعيّة تمثلهم شخصيات "علي شحمة، كرزة، دحيح، وجوه متعددة لعملة واحدة هي الحرمان، والبؤس، والضياع، والألم، وبصيص من الأمل،عليه يحيون، حين ترى الواحد منهم، تتذكر الآخر" ...
ولعلّ مكوّنا آخر متواترا في الرواية المنجميّة التزمت به رواية "الحوت البريّ" هو الحدث الرئيسيّ الذي يدور حول العمل وعلاقاته . فالبيئة المنجميّة هي بيئة عمل بالأساس. إذ يسترجع السارد على لسان أبيه "البا محمد" أحيانا وعلى لسان جدّه "احميدة" أحيانا أخرى، قصّة ارتحال سكّان المدن والقرى والأرياف المجاورة إلى منجم جرادة بحثا عن العمل زمن الجفاف والقحط . وينقل سهلي عويشي، شأن الروائيين المنجميين، مشاهد معاناة العمّال وآلامهم، يكدّون في ظروف صعبة تفتقد فيها كلّ شروط السلامة والأمان والكرامة... لذلك ارتبط بحدث العمل حدث آخر مهمّ هو قصّة تأسيس النقابات والنضالات العماليّة... ففي الرواية قصّتان: قصّة العمل وقصّة النضال العمّالي...
وهكذا أمكننا رصد أهمّ ثوابت الرواية العمّاليّة من خلال رواية "الحوت البريّ" للسهلي عويشي، متمثّلة في سمات "منجميّة" للمكان والشخصيات والأحداث... فأمكننا البرهنة على أمرين: الأوّل أنّ للرواية المنجميّة خصائص مميّزة وسمات فارقة بها نبرّر إمكان إطلاق المصطلح، والأمر الثاني أنّ "الحوت البريّ" تنتمي إلى الرواية المنجميّة لاشتراكها فيما تواتر من خصائص في مجمل مدوّنة الرواية المنجميّة...
وهذا لا يجعلنا ننفي إمكانيّة العثور على نماذج أخرى من الرواية المنجميّة تخالف هذه الثوابت قليلا أو كثيرا. فرواية "فساد الأمكنة" للمصريّ صبري موسى مثلا رواية منجميّة تدور أحداثها في منجم "تنك" ولكنّها لم تتبّع قصّة العمل ومشاقّه ونضالات العمّال ونقاباتهم ويقلّ فيها رصد مظاهر البؤس والمعاناة، إنّها قصّة عشق للمكان حدّ التصوّف، ويكتفى برصد خراب المنجم المهجور والفضاء الخاوي ليهيّء للبطل طقوس التولّه والعشق بما يتطلّبه من تفرّد وعزلة وخلاء. وهذا ما يمكن اعتباره نموذجا مختلفا من الرواية المنجميّة... كما لا يجعلنا ننفي العثور على ملامح في "الحوت البريّ" متفرّدة أو مختلفة عن مجمل مدوّنة الرواية المنجميّة، بل لعلّنا نزعم أنّها لا تجسّد النّمط والنموذج بقدر ما تمثّل التنويع والتطوير والتجديد في الرواية المنجميّة، هو نوع من الإبداع داخل المنوال، ممّا يسمح لنا بالحديث عن تحوّلات الرواية المنجميّة من خلال "الحوت البريّ" للسهلي عويشي.
III- متحوّلات الرواية المنجميّة في رواية "الحوت البريّ" للسهلي عويشي:
ونعني بالمتحوّل العناصر التي تختلف فيها رواية "الحوت البريّ"، والإحداثات التي طرقها الكاتب وأثبت بها انزياح روايته هذه عن النّموذج المتّبع المتداول، وتمايزها عن مجمل مدوّنة الرواية المنجميّة، ممّا يجيز لنا التطرّق إلى خروج أو تنويع أو تصرّف أو مخالفة لسنّة أو تقليد درج عليه كتّاب الرواية المنجميّة. ورغم أنّ المشهد الراهن للرواية العربيّة عموما يشهد تحوّلات ومتغيّرات رصدها النقّاد ضمن موجة "الرواية الجديدة" ، فلن يكون عملنا مندرجا في إطار هذا الرصد العامّ، بل سينكبّ على تتبّع تحوّل متخيّل المنجم في الرواية. وهنا نلاحظ أن هذه المتحوّلات شملت العناصر الروائيّة التي اعتبرت من الثوابت في جوانب منها وهي: المكان والشخصيّة والحدث، كما شملت عناصر أخرى أي الزمن الروائيّ واللغة الروائيّة...
أمّا الزمن الروائيّ في "الحوت البريّ" فهو ليس واحدا ولا خطيّا منطقيّا، بل هو أزمنة متداخلة في حركات استرجاع وتقهقر نحو الماضي، عبر سرد ذاكرة شخصيات الرواية: "محمود" الشخصيّة الرئيسيّة، وأبيه "البا محمدّ، وجدّه "احميدة" والشيخ "عبد السلام" حارس أحد آبار الفحم الحجريّ المهجورة... وكان ذلك عبر حركة تداع حرّ متداخلة أملته ضرورة العلاج التي يخضع لها محمود والذي فقد ذاكرته في رحلة الهجرة السريّة إلى إسبانيا، فكانت الكتابة ممارسة علاجيّة تذكّريّة استرجاعيّة بطلب من طبيبه النفسيّ الإسبانيّ "أليخاندرو" وبمباركة من صديقته الغجريّة "بلانكا" التي آوته، حيث " كانت رغبة محمود في الكتابة جارفة، لأول مرة أحس أنه موجود، أنه لم يعد ذلك الإنسان اللاشيء، البدون الذي ليس بإمكانه فعل أي شيء، هاهو الآن يعانق فعل الكتابة، ويبوح، بالحرف يصنع العوالم، يهتك الأفاق، يسافر من زمن إلى زمن دون حاجة إلى أحد" . فهو زمن الهجرة والتيّه في البحر وفي الغابة الساحليّة، وهو زمن تأسيس المنجم في قريته، وزمن العمل المنجميّ، وهو زمن المقاومة الوطنيّة للاحتلال الفرنسيّ، وهو زمن غلق المناجم، وهو زمن العطالة والبطالة... هو زمن متحوّل فارق ما عهدناه في الرواية المنجميّة "التقليديّة" من اكتفاء بزمن العمل وما يتّصل به، لكنّه بدا مجرّد تنويع على أصل واحد، فارقنا زمن التهميش والاستغلال والانتهاك في العمل المنجميّ، إلى زمن غلق المناجم وخرابها، زمن البطالة و"الحركة"..
ومتخيّل المكان المنجميّ في رواية "الحوت البريّ" متحوّل، مختلف، متعدّد. فهو القرية المنجميّة تغيّرت سماتها فأضحت خاوية على عروشها بقايا مناجم مغلقة وأكوام فضلات الفحم الحجريّ.. خرابا وخواء، وفقرا ومرضا وتهميشا وموتا متربّصا إذ "أمر هذه البلدة غريب وعجيب، مثلها مثل عاهرة لا فرق، حين تكون في عز شبابها يأتي الزبناء إليها، بعضهم يقبلها، وآخر يضاجعها، وآخر يتملى محاسنها، ومفاتنها، وعندما تذبل أزهارها، تشيخ لا أحد يأتي إليها، أو يسأل عنها، أو حتى يتذكرها، تبقى وحيدة حتى تموت، هكذا أمر هذه البلدة منذ البدء وهي تعاني كل أشكال الهتك" ... أضحى فيها أهلها من عمال المنجم السابقين وأبنائهم غرباء في قريتهم ومسقط رؤوسهم. بينما يحضر مكان آخر غريب غير معهود في الرواية المنجميّة هو إسبانيا (أوروبا) حلم الشباب العاطل، المكان المنشود، يجازف من أجله بطل الرواية "محمود" وصديقه "لخضر" صحبة حوالي أربعين شابا بخوض غمار مغامرة الهجرة الممنوعة (الحركَة)، هو مكان الضياع والتيه الذي عاشه بطل الرواية. كما دارت أحداث روايتنا في مكان غير تقليديّ في الرواية المنجميّة هو البحر مكانا جسّد معاناة الشباب الحالمين بالجنّة الموعودة، هو مكان المغامرة والخطر الداهم والموت المحدق... فالمكان في رواية "الحوت البريّ" غربة في الخارج وغربة في الدّاخل، فرغم ماشهدته من تحوّل وتجديد ظلّت أمكانة تنتهك كرامة الشخوص وإنسانيتهم.
كما شهدت الشخصيات الروائيّة في رواية السّهلي عويشي تحوّلات هي من صلب التحوّلات التي عاشتها البيئة المنجميّة الجديدة، بشخصياتها التقليديّة وشخصياتها الجديدة. فقد أصبح العمّال (الشخصيات المنجميّة التقليديّة الثابتة) متقاعدين، يتحلّقون حول حكايات "البا محمد" ولعبة "السيك". أمّا الجيل الناشئ (الشخصيات الجديدة، نادرة الحضور في الرواية المنجميّة) فعاطل عن العمل رغم تعلّمه وحصوله على شهائد جامعيّة، ينبش بقايا الفحم في المناجم المغلقة المهجورة، أو يتعاطى الحشسش، أو يحلم بالهجرة غير الشرعيّة (الحرْكة)، ومن هؤلاء محمود وصديقه لخضر الذي وقع فريسة لحوت البحر في مغامرة "الحركة" نحو شواطئ إسبانيا وهو يفرّ من هول "الحوت البريّ" ووحشيته في بلده. وهنا تظهر هذه الفئة الجديدة من شخصيات الرواية المنجميّة من المتاجرين بمعاناة الفقراء وآلام العاطلين وأحلامهم، يمثّلهم "الروبيو"/ "الحرّاك" صاحب المركب ومن وراءه، وهو نموذج الأثرياء الجدد عديمي الثقافة والكفاءة يتحكّمون في رقاب الناس بأموالهم المكدّسة جراء ممارستهم التهريب والإجرام، كما يمثّلهم "الحاج بوشتي" سمسار الفحم الذي يستغلّ الشيوخ والأطفال في تجميع بقايا المعدن من المناجم المهجورة بطرق بدائيّة خطرة وغير قانونيّة. ومن هنا فالشخصيات الروائيّة في "الحوت البريّ" هي شخصيات مستحدثة جزئيّا أو كليّا أملتها التغييرات التي شهدتها قرية جرادة المنجميّة، ومكّنت الرواية المنجميّة أن تتجدّد وتسهم في خدمة قضايا المجتمع وفي تطوير الرّواية العربيّة وإثرائها ...
ويبرز الحدث الروائيّ في "الحوت البريّ" كذلك تحوّلات شهدتها الرّواية المنجميّة. إذ أنّ الحدث الرّئيسيّ في رواية السهلي عويشي المنجميّة لم يعد العمل وعلاقاته، بل أضحى العطالة وظاهرة إقبال الشباب على الهجرة السريّة والإدمان على الحشيش، في ظلّ ما آل إليه وضع القرية المنجميّة من أفق مسدود، زاد مظاهر البؤس والغبن والتهميش. ووقع الاهتمام بأحداث جديدة على الرواية المنجميّة، هي أحداث الهجرة عبر البحر وتتبّع لمحمود وصديقه لخضر ومن معهم من "الحراكة" في قوارب الموت وما آلت إليه الأحداث من غرق وموت البعض ونجاة محمود بعد معاناة فالشباب واقع بين مأزقين: العطالة والحشيش و"حكرة" الأعمال الهشّة، أو مغامرة الموت إلى ما وراء البحر.. بين فكّين: فكّ الحوت البريّ ، وفكّ الحوت البحريّ... ومن هنا تكثّفت ظاهرة مستجدّة في أحداث رواية "الحوت البريّ" هي الغرائبيّ باعتباره مظهرا من مظاهر التّجديد في بناء الحدث الروائيّ، وباعتباره ردّة فعل على غرائبيّة التحوّلات وهول وقعها على إنسان العصر عموما... فما تنقله الرواية المنجميّة الرّاهنة هو انغراس في قضايا الانسانيّة اليوم وتفكير في ما خلّفته العولمة من مآس على البشر والطبيعة، وخروج من المحليّة الضيّقة لتكون أدبا عالميّا بامتياز.. وهكذا كانت هذه الأحداث من المتحوّلات في الرواية المنجميّة. ففي حين كانت القرى المنجميّة مواطن جذب واستقطاب للعمالة والسكّان الحالمين بسدّ الرمق وتحصيل القوت، أصبحت الآن بؤر فقر وجوع ومواطن طرد. (فهل مازال يصحّ القول بأنّ الرواية المنجميّة رواية عمّاليّة؟). فبعد أن كانت الرواية المنجميّة في بداياتها تبنى على حدث العمل أمست تتركز على حدث البطالة، وبعد أن اهتمت بحدث الهجرة والنزوح إليها أصبحت تهتمّ بحدث الهجرة منها وهجرها، وبعد أن كانت ظاهرة الإدمان في الفضاء المنجمي مرتبطة بسعي الطبقة العاملة إلى نسيان مشقّة العمل وهول المنجم أضحت الرواية المنجميّة تتناول هذه الظاهرة وهي تنخر الشباب العاطل عن العمل والمفقر، كما كانت الرواية المنجميّة تغتني بأحداث التحرّكات العماليّة ومظاهراتهم وإضراباتهم للمطالبة بتحسين وضعياتهم وإذا بها ترصد تحرّكات أهالي القرية المنجميّة للمطالبة بالعمل وبلقمة العيش وبالحياة... فمسار التحوّلات في أحداث الرواية المنجميّة هو مسار تقهقر وتدهور وانهيار للقيم الانسانيّة..
وليس الخطاب الرّوائيّ في رواية "الحوت البريّ" بمنأى عن التحوّلات. إذ لم تعد اللغة مرجعيّة واقعيّة إحاليّة، بل أضحت مزيجا بين السرديّ والشّعريّ كأن يخاطب محمود صديقه شعرا لإقناعه بعدم الندم على ترك بلدته: "مدينة.../ كلما قدمت إليها/ استقبلك الصنوبر بالبكاء/ وهو ينشد أغنية حزينة للمساء/ يشكو كثرة اليتامى/ مدينة... ./ تطل من آبارها/ من دروبها/ وفي كل دار/ في كل مقهى/ في كل مبغى/ في كل ملهى تئن عشتار/ .." ، وجاورت فيها الفصحى اللهجة المحكيّة، وزاحم فيها التخييليّ الخطاب التحليليّ ، والأبعاد الايديولوجيّة، لتنفتح الرواية المنجميّة على هاجس فكريّ محلّيّ وطنيّ وقوميّ فإنسانيّ، حيث الانشغال بقضايا الأمّة (فلسطين والعراق..) فمحمود الذي أصيب بمرض فقدان الذاكرة "يتذكر جيدا الغزو الأمريكي للعراق، الصور الأولى لسقوط بغداد التي حاول الجيش الأمريكي أن يسوقها، نهب وسلب بعد أن جلب معه اللصوص والمجرمين على ظهر دباباته العسكرية" ، في ربط واضح بالواقع المنجميّ الذي تحوّل إلى بؤرة للآثار الكارثيّة للعولمة المتوحّشة.
لقد مثّلت رواية "الحوت البريّ" للسهلي عويشي نموذجا رائعا لتحوّل متخيّل المنجم في الرواية. وهي تحوّلات لا تخرج بالرواية عن سمتها المنجميّة بقدر ما تؤكّدها.
خاتمة:
هكذا كانت قراءتنا لرواية "الحوت البريّ" للسهلي عويشي قراءة رصدت الثابت والمتحوّل في متخيّل المنجم في مستويات عدّة، فبدت لنا رواية أبدع فيها صاحبها وهو ينوّع ضمن المنوال كما أبدع وهو يخرج عنه ويضيف إليه، فأوقتنا هذه القراءة على خصائصها الجماليّة وأبعادها الدلاليّة، وحاولت تقريب متصوّر "الرواية المنجميّة"، هذا المتصوّر التصنيفيّ النقديّ الإبداعيّ الذي قد يسهم في إثراء المشهد الروائيّ العربيّ وتطويره إبداعا ونقدا، وفي تجذير الأدب في واقعه المحليّ تأصيلا لارتياد آفاق الكونيّة. وهي قراءة ظلت محكومة بحدود الغاية التي رسمتها لنفسها، لذلك نقرّ أنّها لم تستوف الرواية كل حقّها ولم تفجّر أغلب طاقاتها الإبداعيّة.
الاحالات:
السهلي عويشي، الحوت البريّ، المطبعة الرقميّة، وجدة، المغرب، 2015.
بيير شارتييه، مدخل إلى نظريات الرواية، ترجمة عبد الكبير الشرقاوي، دار توبقال للنشر، المغرب، 2001، ص10.
جميل حمداوي، مقال "الرواية المنجميّة في الأدب المغربيّ الحديث"، الانترنيت:موقع المربد الالكتروني.
السهلي عويشي، التوت البريّ، المطبعة الرقميّة، وجدة، المغرب، 2015، ص3.
وهي السمات التي حضر بها المكان في روايات البدايات المنجميّة :" للبشير خريف، وأقيمت للمهندسين الفرنسيين مغان وبساتين، وأقيمت للعملة الإيطاليين واليونان دور… وتناثرت خيام أولاد بويحيى بعيدا في الأفق الأغبر، ... ونتأت أحياء متباعدة، سكنوا أوّل الأمر كهوفا في الجبل ثمّ بنوا أكواخا، البشير خريف، الدقلة في عراجينها، دار الجنوب للنّشر، تونس 2004، ص143. وكذلك بقيّة مكوّنات الرواية من زمان وشخصيات وخطاب روائيّ...
السهلي عويشي، التوت البريّ، المطبعة الرقميّة، وجدة، المغرب، 2015، ص187.
ومن هنا أطلق بعض النقاد على الرواية المنجميّة تسمية "الرواية العمّاليّة".
مثل هذا المتخيّل المنجميّ ورد في روايات البدايات: "وطلبت الشّركة اليد العاملة فأهمل كثير من الرّعاة قطعانهم الهزيلة، وألقى كثير من الخمّاسة مسحهم اللّئيمة، وبلغ الخبر صعاليك المغرب والجزائر وطرابلس فهرعوا وقامت حضيرة جبّارة دائمة" البشير خريف، الدقلة في عراجينها، دار الجنوب للنّشر، تونس 2004، ص143.
انظر مثلا: صبري حافظ ، "متغيّرات الواقع العربيّ واستجابات الرواية الجماليّة" ضمن كتاب: الرواية العربيّة.. ممكنات السرد، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 2009، ص 177- 193. رصد فيه متغيّرات الرواية العربيّة من حيث المنطلق، البنية الروائيّة، الفضاء الروائيّ، الشخصيّة الروائيّة، اللغة الروائيّة.
السهلي عويشي، التوت البريّ، المطبعة الرقميّة، وجدة، المغرب، 2015، ص190.
السهلي عويشي، التوت البريّ، المطبعة الرقميّة، وجدة، المغرب، 2015، ص188.
السهلي عويشي، الحوت البريّ، المطبعة الرقميّة، وجدة، المغرب، 2015. صص 6-8.
"فكتبت، كان أن كتبت، يا أبتي إني رأيت أحد عشر بئرا ومدخنتين أو مطحنتين تعانقان السماء، أمام كل بئر مئات من النمل، يدخلون، فيخرجون من فوهات الآبار حبات سوداء من القمح، وآخرون يحملون ما أخرج بدورهم إلى تلك المطحنتين، ثم بعد ذلك نمت الآبار كالفطر بعد أن أغلقت الأولى، كانت الثانية أشبه ما تكون بمغارات سوداء..." الحوت البريّ،ص 77.
"أين نحن من كل هذا الذي يحصل؟ بالتأكيد خارج التغطية،وخارج التاريخ، لا نحتج، ولا نصرخ، دخلنا في موت إكلينيكي رهيب، كلما حاولنا الاحتجاج تملكنا الخوف والرعب، ومثقفونا لا يتقنون إلا لغة الكلام والشعارات.." الحوت البريّ،ص 78.
السهلي عويشي، الحوت البريّ، المطبعة الرقميّة، وجدة، المغرب، 2015. ص 192.
رغم تاريخها القصير نسبيّا عرفت الرّواية العربيّة تحوّلات كبيرة مقارنة بعراقة الرّواية الغربيّة. وفي ظلّ التّغيّرات والتّحوّلات السّريعة التي يشهدها العالم اليوم لا شكّ أنّ الرّواية المنجميّة الأقصر تاريخا ضمن الرّواية عموما، شهدت شأن كلّ التعبيرات الأدبيّة تحوّلات سواء على امتداد الزمن أو باختلاف التجارب والكتّاب. وإذ تحافظ الرّواية المنجميّة على موقع ضمن خارطة الرواية عموما، فإنّ ذلك عائد لمحافظتها على ثوابت جعلتها تتمايز عن بقيّة أنواع الرواية. وخيّرنا التطرّق إلى الرواية المنجميّة من زاوية البحث في مسألة الثابت والمتحوّل لأهميّتها البالغة في اختبار مشروعيّة القول بمصطلح "رواية منجميّة" وجدواه، ورصد سماتها الفنيّة المميّزة، وأهميّة تنويعاتها، منطلقين من مصادرة نروم اختبارها تتمثل في زعمنا أنّ الرواية المنجميّة بلغت من التراكم الكمّي والزّمني ما يبرّر لنا البحث في الثابت والمتحوّل فيها. ولهذا الغرض اتّخذنا رواية "الحوت البرّي" للكاتب المغربي السهلي عويشي نموذجا. وارتأينا تقسيم عملنا إلى قسمين رئيسين: ثوابت الرواية المنجميّة أوّلا، فمتحوّلات الرواية المنجميّة ثانيا، غير أنّنا فضّلنا التمهيد لهما بمدخل مصطلحيّ أثرنا فيه إشكاليّة مصطلح "الرواية المنجميّة" نزعم أنّه ضروريّ للبحث عن أرضيّة مشتركة لتدبّر الرواية ضمن الأفق القرائيّ المقترح.
I- مدخل: الرواية المنجميّة: مساءلة المصطلح
بما أنّ تعريف الرواية تعريفا واحدا جامعا مانعا أمر أقرّ النقّاد بصعوبته، كأن يقرّ الناقد بيار شارتييه: "من الصعوبة بمكان (..) الإحاطة بالرواية" ، فإنّ تعريف الرواية المنجميّة سيكون أكثر صعوبة، ولعلّ ذلك ما نروم الاسهام فيه. عرّفها الدكتور جميل حمداوي بقوله: "نعني بالرواية المنجميّة تلك الرواية التي تتّخذ من المنجم فضاء للصراع الاجتماعيّ وتيمة أساسيّة في تحبيك الأحداث وتأزيمها (..) وتندرج ضمن الرواية البروليتاريّة الاجتماعيّة، أو ضمن الرواية العمّاليّة (..) ويمكن تسميتها بالرواية السوداء.." . ورغم سعيه الواضح للحدّ والضبط والإحاطة يظلّ هذا التعريف تعريفا متردّدا، لا يسلم من خلفيات إيديولوجيّة، وهو تعريف لن نصادر برفضه، بل نقبله مبدئيّا لنحاول البناء عليه واختباره في محاولتنا الاستقرائيّة الجزئيّة هذه، ويبقى الاطّلاع على المدوّنة الروائيّة المنجميّة كفيل بمزيد الضبط والدقّة.
فمدوّنة الرواية المنجميّة مابرحت تتّسع وتمتدّ في الزمان والمكان. وعالميّا اشتهرت رواية "جرمنال" للفرنسيّ إميل زولا أوّل رواية منجميّة. بينما في تونس مثلا أمكن رصد أوّل رواية منجميّة مع "يوم من أيّام زمرا" لمحمد الصالح الجابري، والدقلة في عراجينها" للبشير خريّف، إلى "وراء السّراب قليلا" لابراهيم درغوثي، و"عشرة خامسهم بغل" لقاسم العكرمي، و"تزهر الجبال الصلدة" لابراهيم بنسلطان، إلى "النادل والقطار" لعمار بنبوبكر، و"سيرة معتوه" للمولدي ضو... أما في المغرب الأقصى فيمكن أن نذكر من الروايات المنجميّة: "يوم الاقتراع" و"الصوت المبحوح" و"رحلة العطش" لمحمد بنعلي، و"سيرة العته والجنون" لجلّول قاسمي، و"البرزخ" لعمر ولقاضي، و"أهل العتمات" لعبد الرحمان مسحت، و"بولنوار" لعثمان أشقرا، و"الجبال لا تسقط" لسعديّة سلايلي، و"أمفيون: الرقم المهني 4892" لمحمد العرجوني، و"حين يزهر اللّوز" لمحمد أبو العلا و"الحوت البرّي" للسهلي عويشي موضوع دراستنا.
وهكذا رغم حداثة الرواية المنجميّة، فإنّها تمكّنت من إحداث نوع من التراكم ووجدت أكثر حضوة من النقاد، ممّا جعل المصطلح يقطع خطوات نحو التأصيل والترويج، ممّا سمح باعتمادها لرصد الثابت والمتحوّل، واخترنا "الحوت البريّ" للسهلي عويشي باعتبارها من النماذج المتأخرة التي تمكّننا من القيام بهذه المهمّة.
II- ثوابت الرواية المنجميّة في رواية "الحوت البريّ":
ونعني بالثوابت العناصر التي تشترك فيها رواية "الحوت البريّ" مع مجمل مدوّنة الرواية المنجميّة وهي الملامح المطّردة الحضور المتعاودة عبر التراكم الزمنيّ والعدديّ، ممّا يجعلنا نتحدّث عن تقليد محتذى أو سنّة متّبعة أو منوال. ورصد هذا المشترك يعدّ أمرا صعبا لاتّساع المدوّنة وتعدّد التجارب بل عدم وضوحها ودقّتها، فلا ندّعي الاطلاع على كلّ رواية منجميّة... لذلك سيكون منهج بحثنا عن ثوابت الرواية المنجميّة رصد للمتواتر لدينا دون إنكار وجود استثناءات.
تسعفنا رواية "الحوت البريّ" ببدايتها: "ماذا تغيّر بين الأمس واليوم؟ لبضع سنوات وأنا بعيد عنك، ضننت أنّ هناك أمورا كثيرة قد تغيّرت، وأنّ الصور السوداء التي كانت مرسومة في ذهني لمّا هاجرت استبدلت بأخرى خضراء... أدركت أن لا شيء تغيّر في بلدي" . لتكون هذه الرواية قد حافظت على مكوّنين أساسيين من مكوّنات الرواية المنجميّة: المكان والشّخصيّة.
فالمكان هو بلدة جرادة بما تحمله من ملامح القرى المنجميّة المعهودة، بلونها "الفحميّ"، تتكدّس حولها جبال الفحم الحجري، تتخلّلها مغارات المنجم أو "الآبار"، وتعلوها مداخن معامله... وهو مكان كما عهدناه يتّسم بالبؤس، بما فيه من أحياء قصديريّة وأكواخ في الأطراف والهوامش،هو مكان تنتهك فيه إنسانيّة السكّان ضيقا وتآكلا وتلوّثا... في مقابل الحيّ المركزيّ (الحيّ الأوروبيّ) بنظامه ونظافته وبذخه.
ومن السّمات المتواترة للمكان في الرّواية المنجميّة انقسامه إلى تحت وفوق، باطن وظاهر، عمق وسطح. أمّا الـ"التحت" هنا فهو آبار الفحم الحجريّ ومغاراته، أنشأها المستعمر الفرنسيّ بأيادي الأهالي (الجرذان) وعرقهم ودمائهم، وصمّموا دهاليزها ومتاهاتها المظلمة، لتكون قبورا لأجساد الكثيرين منهم وأحلامهم، مخلّفين بقايا هياكلهم العظميّة ومداساتهم للجيل اللاّحق من الأبناء والأحفاد يعثرون عليها من حين لآخر وهم يعيدون النبش لاستخراج الفحم بعد أن أغلقت المناجم ورحلت الشّركة لتتركهم للضياع واليتم والفقر. فباطن مدينة جرادة وعمقها يختزلان معاناة سكّانها ويتكتّمان على أسرار ماضيها البائس من ناحية، وهما من ناحية أخرى يكشفان عن ملحمة إصرارهم وجهادهم وتضحياتهم تشبّثا بالحياة وحبّا للأرض والوطن... بينما المكان على السّطح جفاف وقحط وأتربة وغبار المعدن (الفحم الحجريّ) وأكوامه تحيط بالأحياء البائسة وتخنقها وتغطّي بلونها الموحش شوارعها وساحاتها ومساكنها المتداعية الهرمة ووجوه سكّانها الكالحة. فالسّطح لا يقلّ ظلمة وانتهاكا ووحشة عن باطن الأرض، موت يترصّد تحت الأرض انهيارات مفاجئة، وموت يلاحق فوق الأرض مرضا فتّاكا هو السيليلوز... إذ نلاحظ هيمنة الانغلاق على المكان في هذه الرواية، فهو انغلاق فيزيائيّ في المغارات وانغلاق رمزيّ معنويّ في المكان المفتوح فيزيائيّا بمحدوديته ومحاصرته بحواجز الأتربة وفضلات معدن الفحم وبقايا المعامل والمناجم المغلقة.. فالمكان في رواية "الحوت البريّ" أضحى بؤرة اضطهاد وانتهاك وتشوّه وبؤس وغبن.
وفي هذا الفضاء المنجميّ تتحرّك كائنات منجميّة، هي شخصيات عرفنا مثيلاتها في روايات منجميّة أخرى، تعيش وضع الانتهاك والاستغلال، هم عمّال المنجم (البا محمد، مسعود، الحسين، عبد السلام، بندحمان، بنعاشور...) يتعرّضون لظلم الشركة فيتحرّكون للاحتجاج وينتظمون نقابيّا، فيضربون ويعتصمون، ويتعرّض بعضهم إلى الطرد... أمّا زوجاتهم (أمينة، زوجة البا محمد وأمّ محمود الشخصيّة الرئيسيّة، خدّوج زوجة الحسين العامل الذي مات في حادث انهار منجميّ..) فيشاركنهم البؤس والفقر والألم... فشخصيات الرواية المنجميّة شخصيات ذات ملامح كالحة مهمّشة بائسة، من حيث بنيتها الجسديّة أو النفسيّة أو الاجتماعيّة تمثلهم شخصيات "علي شحمة، كرزة، دحيح، وجوه متعددة لعملة واحدة هي الحرمان، والبؤس، والضياع، والألم، وبصيص من الأمل،عليه يحيون، حين ترى الواحد منهم، تتذكر الآخر" ...
ولعلّ مكوّنا آخر متواترا في الرواية المنجميّة التزمت به رواية "الحوت البريّ" هو الحدث الرئيسيّ الذي يدور حول العمل وعلاقاته . فالبيئة المنجميّة هي بيئة عمل بالأساس. إذ يسترجع السارد على لسان أبيه "البا محمد" أحيانا وعلى لسان جدّه "احميدة" أحيانا أخرى، قصّة ارتحال سكّان المدن والقرى والأرياف المجاورة إلى منجم جرادة بحثا عن العمل زمن الجفاف والقحط . وينقل سهلي عويشي، شأن الروائيين المنجميين، مشاهد معاناة العمّال وآلامهم، يكدّون في ظروف صعبة تفتقد فيها كلّ شروط السلامة والأمان والكرامة... لذلك ارتبط بحدث العمل حدث آخر مهمّ هو قصّة تأسيس النقابات والنضالات العماليّة... ففي الرواية قصّتان: قصّة العمل وقصّة النضال العمّالي...
وهكذا أمكننا رصد أهمّ ثوابت الرواية العمّاليّة من خلال رواية "الحوت البريّ" للسهلي عويشي، متمثّلة في سمات "منجميّة" للمكان والشخصيات والأحداث... فأمكننا البرهنة على أمرين: الأوّل أنّ للرواية المنجميّة خصائص مميّزة وسمات فارقة بها نبرّر إمكان إطلاق المصطلح، والأمر الثاني أنّ "الحوت البريّ" تنتمي إلى الرواية المنجميّة لاشتراكها فيما تواتر من خصائص في مجمل مدوّنة الرواية المنجميّة...
وهذا لا يجعلنا ننفي إمكانيّة العثور على نماذج أخرى من الرواية المنجميّة تخالف هذه الثوابت قليلا أو كثيرا. فرواية "فساد الأمكنة" للمصريّ صبري موسى مثلا رواية منجميّة تدور أحداثها في منجم "تنك" ولكنّها لم تتبّع قصّة العمل ومشاقّه ونضالات العمّال ونقاباتهم ويقلّ فيها رصد مظاهر البؤس والمعاناة، إنّها قصّة عشق للمكان حدّ التصوّف، ويكتفى برصد خراب المنجم المهجور والفضاء الخاوي ليهيّء للبطل طقوس التولّه والعشق بما يتطلّبه من تفرّد وعزلة وخلاء. وهذا ما يمكن اعتباره نموذجا مختلفا من الرواية المنجميّة... كما لا يجعلنا ننفي العثور على ملامح في "الحوت البريّ" متفرّدة أو مختلفة عن مجمل مدوّنة الرواية المنجميّة، بل لعلّنا نزعم أنّها لا تجسّد النّمط والنموذج بقدر ما تمثّل التنويع والتطوير والتجديد في الرواية المنجميّة، هو نوع من الإبداع داخل المنوال، ممّا يسمح لنا بالحديث عن تحوّلات الرواية المنجميّة من خلال "الحوت البريّ" للسهلي عويشي.
III- متحوّلات الرواية المنجميّة في رواية "الحوت البريّ" للسهلي عويشي:
ونعني بالمتحوّل العناصر التي تختلف فيها رواية "الحوت البريّ"، والإحداثات التي طرقها الكاتب وأثبت بها انزياح روايته هذه عن النّموذج المتّبع المتداول، وتمايزها عن مجمل مدوّنة الرواية المنجميّة، ممّا يجيز لنا التطرّق إلى خروج أو تنويع أو تصرّف أو مخالفة لسنّة أو تقليد درج عليه كتّاب الرواية المنجميّة. ورغم أنّ المشهد الراهن للرواية العربيّة عموما يشهد تحوّلات ومتغيّرات رصدها النقّاد ضمن موجة "الرواية الجديدة" ، فلن يكون عملنا مندرجا في إطار هذا الرصد العامّ، بل سينكبّ على تتبّع تحوّل متخيّل المنجم في الرواية. وهنا نلاحظ أن هذه المتحوّلات شملت العناصر الروائيّة التي اعتبرت من الثوابت في جوانب منها وهي: المكان والشخصيّة والحدث، كما شملت عناصر أخرى أي الزمن الروائيّ واللغة الروائيّة...
أمّا الزمن الروائيّ في "الحوت البريّ" فهو ليس واحدا ولا خطيّا منطقيّا، بل هو أزمنة متداخلة في حركات استرجاع وتقهقر نحو الماضي، عبر سرد ذاكرة شخصيات الرواية: "محمود" الشخصيّة الرئيسيّة، وأبيه "البا محمدّ، وجدّه "احميدة" والشيخ "عبد السلام" حارس أحد آبار الفحم الحجريّ المهجورة... وكان ذلك عبر حركة تداع حرّ متداخلة أملته ضرورة العلاج التي يخضع لها محمود والذي فقد ذاكرته في رحلة الهجرة السريّة إلى إسبانيا، فكانت الكتابة ممارسة علاجيّة تذكّريّة استرجاعيّة بطلب من طبيبه النفسيّ الإسبانيّ "أليخاندرو" وبمباركة من صديقته الغجريّة "بلانكا" التي آوته، حيث " كانت رغبة محمود في الكتابة جارفة، لأول مرة أحس أنه موجود، أنه لم يعد ذلك الإنسان اللاشيء، البدون الذي ليس بإمكانه فعل أي شيء، هاهو الآن يعانق فعل الكتابة، ويبوح، بالحرف يصنع العوالم، يهتك الأفاق، يسافر من زمن إلى زمن دون حاجة إلى أحد" . فهو زمن الهجرة والتيّه في البحر وفي الغابة الساحليّة، وهو زمن تأسيس المنجم في قريته، وزمن العمل المنجميّ، وهو زمن المقاومة الوطنيّة للاحتلال الفرنسيّ، وهو زمن غلق المناجم، وهو زمن العطالة والبطالة... هو زمن متحوّل فارق ما عهدناه في الرواية المنجميّة "التقليديّة" من اكتفاء بزمن العمل وما يتّصل به، لكنّه بدا مجرّد تنويع على أصل واحد، فارقنا زمن التهميش والاستغلال والانتهاك في العمل المنجميّ، إلى زمن غلق المناجم وخرابها، زمن البطالة و"الحركة"..
ومتخيّل المكان المنجميّ في رواية "الحوت البريّ" متحوّل، مختلف، متعدّد. فهو القرية المنجميّة تغيّرت سماتها فأضحت خاوية على عروشها بقايا مناجم مغلقة وأكوام فضلات الفحم الحجريّ.. خرابا وخواء، وفقرا ومرضا وتهميشا وموتا متربّصا إذ "أمر هذه البلدة غريب وعجيب، مثلها مثل عاهرة لا فرق، حين تكون في عز شبابها يأتي الزبناء إليها، بعضهم يقبلها، وآخر يضاجعها، وآخر يتملى محاسنها، ومفاتنها، وعندما تذبل أزهارها، تشيخ لا أحد يأتي إليها، أو يسأل عنها، أو حتى يتذكرها، تبقى وحيدة حتى تموت، هكذا أمر هذه البلدة منذ البدء وهي تعاني كل أشكال الهتك" ... أضحى فيها أهلها من عمال المنجم السابقين وأبنائهم غرباء في قريتهم ومسقط رؤوسهم. بينما يحضر مكان آخر غريب غير معهود في الرواية المنجميّة هو إسبانيا (أوروبا) حلم الشباب العاطل، المكان المنشود، يجازف من أجله بطل الرواية "محمود" وصديقه "لخضر" صحبة حوالي أربعين شابا بخوض غمار مغامرة الهجرة الممنوعة (الحركَة)، هو مكان الضياع والتيه الذي عاشه بطل الرواية. كما دارت أحداث روايتنا في مكان غير تقليديّ في الرواية المنجميّة هو البحر مكانا جسّد معاناة الشباب الحالمين بالجنّة الموعودة، هو مكان المغامرة والخطر الداهم والموت المحدق... فالمكان في رواية "الحوت البريّ" غربة في الخارج وغربة في الدّاخل، فرغم ماشهدته من تحوّل وتجديد ظلّت أمكانة تنتهك كرامة الشخوص وإنسانيتهم.
كما شهدت الشخصيات الروائيّة في رواية السّهلي عويشي تحوّلات هي من صلب التحوّلات التي عاشتها البيئة المنجميّة الجديدة، بشخصياتها التقليديّة وشخصياتها الجديدة. فقد أصبح العمّال (الشخصيات المنجميّة التقليديّة الثابتة) متقاعدين، يتحلّقون حول حكايات "البا محمد" ولعبة "السيك". أمّا الجيل الناشئ (الشخصيات الجديدة، نادرة الحضور في الرواية المنجميّة) فعاطل عن العمل رغم تعلّمه وحصوله على شهائد جامعيّة، ينبش بقايا الفحم في المناجم المغلقة المهجورة، أو يتعاطى الحشسش، أو يحلم بالهجرة غير الشرعيّة (الحرْكة)، ومن هؤلاء محمود وصديقه لخضر الذي وقع فريسة لحوت البحر في مغامرة "الحركة" نحو شواطئ إسبانيا وهو يفرّ من هول "الحوت البريّ" ووحشيته في بلده. وهنا تظهر هذه الفئة الجديدة من شخصيات الرواية المنجميّة من المتاجرين بمعاناة الفقراء وآلام العاطلين وأحلامهم، يمثّلهم "الروبيو"/ "الحرّاك" صاحب المركب ومن وراءه، وهو نموذج الأثرياء الجدد عديمي الثقافة والكفاءة يتحكّمون في رقاب الناس بأموالهم المكدّسة جراء ممارستهم التهريب والإجرام، كما يمثّلهم "الحاج بوشتي" سمسار الفحم الذي يستغلّ الشيوخ والأطفال في تجميع بقايا المعدن من المناجم المهجورة بطرق بدائيّة خطرة وغير قانونيّة. ومن هنا فالشخصيات الروائيّة في "الحوت البريّ" هي شخصيات مستحدثة جزئيّا أو كليّا أملتها التغييرات التي شهدتها قرية جرادة المنجميّة، ومكّنت الرواية المنجميّة أن تتجدّد وتسهم في خدمة قضايا المجتمع وفي تطوير الرّواية العربيّة وإثرائها ...
ويبرز الحدث الروائيّ في "الحوت البريّ" كذلك تحوّلات شهدتها الرّواية المنجميّة. إذ أنّ الحدث الرّئيسيّ في رواية السهلي عويشي المنجميّة لم يعد العمل وعلاقاته، بل أضحى العطالة وظاهرة إقبال الشباب على الهجرة السريّة والإدمان على الحشيش، في ظلّ ما آل إليه وضع القرية المنجميّة من أفق مسدود، زاد مظاهر البؤس والغبن والتهميش. ووقع الاهتمام بأحداث جديدة على الرواية المنجميّة، هي أحداث الهجرة عبر البحر وتتبّع لمحمود وصديقه لخضر ومن معهم من "الحراكة" في قوارب الموت وما آلت إليه الأحداث من غرق وموت البعض ونجاة محمود بعد معاناة فالشباب واقع بين مأزقين: العطالة والحشيش و"حكرة" الأعمال الهشّة، أو مغامرة الموت إلى ما وراء البحر.. بين فكّين: فكّ الحوت البريّ ، وفكّ الحوت البحريّ... ومن هنا تكثّفت ظاهرة مستجدّة في أحداث رواية "الحوت البريّ" هي الغرائبيّ باعتباره مظهرا من مظاهر التّجديد في بناء الحدث الروائيّ، وباعتباره ردّة فعل على غرائبيّة التحوّلات وهول وقعها على إنسان العصر عموما... فما تنقله الرواية المنجميّة الرّاهنة هو انغراس في قضايا الانسانيّة اليوم وتفكير في ما خلّفته العولمة من مآس على البشر والطبيعة، وخروج من المحليّة الضيّقة لتكون أدبا عالميّا بامتياز.. وهكذا كانت هذه الأحداث من المتحوّلات في الرواية المنجميّة. ففي حين كانت القرى المنجميّة مواطن جذب واستقطاب للعمالة والسكّان الحالمين بسدّ الرمق وتحصيل القوت، أصبحت الآن بؤر فقر وجوع ومواطن طرد. (فهل مازال يصحّ القول بأنّ الرواية المنجميّة رواية عمّاليّة؟). فبعد أن كانت الرواية المنجميّة في بداياتها تبنى على حدث العمل أمست تتركز على حدث البطالة، وبعد أن اهتمت بحدث الهجرة والنزوح إليها أصبحت تهتمّ بحدث الهجرة منها وهجرها، وبعد أن كانت ظاهرة الإدمان في الفضاء المنجمي مرتبطة بسعي الطبقة العاملة إلى نسيان مشقّة العمل وهول المنجم أضحت الرواية المنجميّة تتناول هذه الظاهرة وهي تنخر الشباب العاطل عن العمل والمفقر، كما كانت الرواية المنجميّة تغتني بأحداث التحرّكات العماليّة ومظاهراتهم وإضراباتهم للمطالبة بتحسين وضعياتهم وإذا بها ترصد تحرّكات أهالي القرية المنجميّة للمطالبة بالعمل وبلقمة العيش وبالحياة... فمسار التحوّلات في أحداث الرواية المنجميّة هو مسار تقهقر وتدهور وانهيار للقيم الانسانيّة..
وليس الخطاب الرّوائيّ في رواية "الحوت البريّ" بمنأى عن التحوّلات. إذ لم تعد اللغة مرجعيّة واقعيّة إحاليّة، بل أضحت مزيجا بين السرديّ والشّعريّ كأن يخاطب محمود صديقه شعرا لإقناعه بعدم الندم على ترك بلدته: "مدينة.../ كلما قدمت إليها/ استقبلك الصنوبر بالبكاء/ وهو ينشد أغنية حزينة للمساء/ يشكو كثرة اليتامى/ مدينة... ./ تطل من آبارها/ من دروبها/ وفي كل دار/ في كل مقهى/ في كل مبغى/ في كل ملهى تئن عشتار/ .." ، وجاورت فيها الفصحى اللهجة المحكيّة، وزاحم فيها التخييليّ الخطاب التحليليّ ، والأبعاد الايديولوجيّة، لتنفتح الرواية المنجميّة على هاجس فكريّ محلّيّ وطنيّ وقوميّ فإنسانيّ، حيث الانشغال بقضايا الأمّة (فلسطين والعراق..) فمحمود الذي أصيب بمرض فقدان الذاكرة "يتذكر جيدا الغزو الأمريكي للعراق، الصور الأولى لسقوط بغداد التي حاول الجيش الأمريكي أن يسوقها، نهب وسلب بعد أن جلب معه اللصوص والمجرمين على ظهر دباباته العسكرية" ، في ربط واضح بالواقع المنجميّ الذي تحوّل إلى بؤرة للآثار الكارثيّة للعولمة المتوحّشة.
لقد مثّلت رواية "الحوت البريّ" للسهلي عويشي نموذجا رائعا لتحوّل متخيّل المنجم في الرواية. وهي تحوّلات لا تخرج بالرواية عن سمتها المنجميّة بقدر ما تؤكّدها.
خاتمة:
هكذا كانت قراءتنا لرواية "الحوت البريّ" للسهلي عويشي قراءة رصدت الثابت والمتحوّل في متخيّل المنجم في مستويات عدّة، فبدت لنا رواية أبدع فيها صاحبها وهو ينوّع ضمن المنوال كما أبدع وهو يخرج عنه ويضيف إليه، فأوقتنا هذه القراءة على خصائصها الجماليّة وأبعادها الدلاليّة، وحاولت تقريب متصوّر "الرواية المنجميّة"، هذا المتصوّر التصنيفيّ النقديّ الإبداعيّ الذي قد يسهم في إثراء المشهد الروائيّ العربيّ وتطويره إبداعا ونقدا، وفي تجذير الأدب في واقعه المحليّ تأصيلا لارتياد آفاق الكونيّة. وهي قراءة ظلت محكومة بحدود الغاية التي رسمتها لنفسها، لذلك نقرّ أنّها لم تستوف الرواية كل حقّها ولم تفجّر أغلب طاقاتها الإبداعيّة.
الاحالات:
السهلي عويشي، الحوت البريّ، المطبعة الرقميّة، وجدة، المغرب، 2015.
بيير شارتييه، مدخل إلى نظريات الرواية، ترجمة عبد الكبير الشرقاوي، دار توبقال للنشر، المغرب، 2001، ص10.
جميل حمداوي، مقال "الرواية المنجميّة في الأدب المغربيّ الحديث"، الانترنيت:موقع المربد الالكتروني.
السهلي عويشي، التوت البريّ، المطبعة الرقميّة، وجدة، المغرب، 2015، ص3.
وهي السمات التي حضر بها المكان في روايات البدايات المنجميّة :" للبشير خريف، وأقيمت للمهندسين الفرنسيين مغان وبساتين، وأقيمت للعملة الإيطاليين واليونان دور… وتناثرت خيام أولاد بويحيى بعيدا في الأفق الأغبر، ... ونتأت أحياء متباعدة، سكنوا أوّل الأمر كهوفا في الجبل ثمّ بنوا أكواخا، البشير خريف، الدقلة في عراجينها، دار الجنوب للنّشر، تونس 2004، ص143. وكذلك بقيّة مكوّنات الرواية من زمان وشخصيات وخطاب روائيّ...
السهلي عويشي، التوت البريّ، المطبعة الرقميّة، وجدة، المغرب، 2015، ص187.
ومن هنا أطلق بعض النقاد على الرواية المنجميّة تسمية "الرواية العمّاليّة".
مثل هذا المتخيّل المنجميّ ورد في روايات البدايات: "وطلبت الشّركة اليد العاملة فأهمل كثير من الرّعاة قطعانهم الهزيلة، وألقى كثير من الخمّاسة مسحهم اللّئيمة، وبلغ الخبر صعاليك المغرب والجزائر وطرابلس فهرعوا وقامت حضيرة جبّارة دائمة" البشير خريف، الدقلة في عراجينها، دار الجنوب للنّشر، تونس 2004، ص143.
انظر مثلا: صبري حافظ ، "متغيّرات الواقع العربيّ واستجابات الرواية الجماليّة" ضمن كتاب: الرواية العربيّة.. ممكنات السرد، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 2009، ص 177- 193. رصد فيه متغيّرات الرواية العربيّة من حيث المنطلق، البنية الروائيّة، الفضاء الروائيّ، الشخصيّة الروائيّة، اللغة الروائيّة.
السهلي عويشي، التوت البريّ، المطبعة الرقميّة، وجدة، المغرب، 2015، ص190.
السهلي عويشي، التوت البريّ، المطبعة الرقميّة، وجدة، المغرب، 2015، ص188.
السهلي عويشي، الحوت البريّ، المطبعة الرقميّة، وجدة، المغرب، 2015. صص 6-8.
"فكتبت، كان أن كتبت، يا أبتي إني رأيت أحد عشر بئرا ومدخنتين أو مطحنتين تعانقان السماء، أمام كل بئر مئات من النمل، يدخلون، فيخرجون من فوهات الآبار حبات سوداء من القمح، وآخرون يحملون ما أخرج بدورهم إلى تلك المطحنتين، ثم بعد ذلك نمت الآبار كالفطر بعد أن أغلقت الأولى، كانت الثانية أشبه ما تكون بمغارات سوداء..." الحوت البريّ،ص 77.
"أين نحن من كل هذا الذي يحصل؟ بالتأكيد خارج التغطية،وخارج التاريخ، لا نحتج، ولا نصرخ، دخلنا في موت إكلينيكي رهيب، كلما حاولنا الاحتجاج تملكنا الخوف والرعب، ومثقفونا لا يتقنون إلا لغة الكلام والشعارات.." الحوت البريّ،ص 78.
السهلي عويشي، الحوت البريّ، المطبعة الرقميّة، وجدة، المغرب، 2015. ص 192.