قد تختفي معاني بعض الكلمات من المعاجم والخطب والروايات والاقوال، فلا يذكرها أحد لضياعها في خضم الأسئلة وخلافات التأويل، فلم تفسر عبارة الحنين على أنها انتماء منقطع، فاقد لبوصلته، لم يبق منه سوى لوعة الاشتياق الى جذوره.
أما سبب انفصال العبارة عن معناها أصلي، فمرده أن الحنين هو من الصفات الانثوية وليس للنساء من مرجعية تذكر ولا سردية يمكن الاستناد إليها ،ما عدا ما قيل عنهن من أنهن محكومات بدوافع الضعف والعاطفة وهو استنتاج ليس بالصائب .
فالعبارة بمختلف مشتقاتها هي سابقة للغة ،نشأت مباشرة من الحس الأول وما خاضه من مغامرة لمعرفة تجليات الحياة في نبضاتها الأولى بين الام ورضيعها .
هذا الحس التأليفي النابع من المحبة في بداية أطوارها ، حين كانت الاحاسيس بأنواعها مترابطة تجمع بين الغضب والحب والتعلق والتوق للانعتاق والكراهية والعنف يعبر عنها الطفل الرضيع في نداء أو بكاء تؤوله الام بالاستماع الى ما يجري بينها وبينه ، يحدث ذلك قبل تعلمه النطق والكلام.
قد يوصف ذلك التواصل بالحنان أي الجسر الأول للعبور من ذات الى ذات، قبل التأسيس للإشارة والعبارة والرمز ، يشبه في مدّه ما نراه لدى الكائنات الأخرى من تواصل وتناغم وانسجام أو صراع ، منه نشأ الحنين الذي هو الاشتياق الى تلك المرحلة بمفرداتها وعناصرها وأبجدياتها .
يقع الحنين في خريطة معينة، يمكن القول أنها ما قبل اللغة أوما يتجاوزها وهي تكشف أسرار الجسد من خلال التقبل والعطاء في حركة من المد والجزر، يتحقق فيها الالتقاء بالغير ثم الانفصال عنه ثم الالتقاء به من جديد ،كذلك يتعرف الطفل رويدا على من يكون ويدرك من خلال تلك الرحلة المعرفية الحسية أمه ،فيعيش الألم ثم المتعة ثم الألم ثم المتعة باحثا عن الامتلاء بشيء لا يملكه ، فينتشي ،ينام ، يستيقظ ، يحيا ، يتألم ، يبكي تحت أنظارها وهي ترقبه فتستجيب أو تغيب أو تمتنع إما باللمس أو الاحتضان والارضاع أو حتى الحديث والمناجاة أحيانا ويرد عليها بإشارات الوجه حين يبتسم أو يغضب أو يبكي وهو يدرك بعض ما تقول دون الكل، لأن فهمه لا يعتمد معاني الكلمات، بل ما يتلقاه منها من عاطفة بشتى طرق تعبيرها .
وتبدأ حروف الكلمات في الانغماس في وجدانه، عسى أن تمنحه من جديد الالتحام الكامل بالأم والامتلاء بحبها وكلما تعلم كلمة ابتعد عنها قليلا لتزداد المسافة بينهما الى حد الانفصال التام ، لذلك تصبح اللغة وطنه الفرعي لتفتح له أبواب العالم على مصرعيها .
ذلك العالم الرمزي المنبثق من لمساته للأشياء أثناء السنة الأولى من عمره، لن يعود الى تلك المرحلة ما إن يشرع في تسمية الموجودات.
سيهاجر إذا، الى عالم الأسماء الذي سيحيله الى الأشياء ويغادر نهائيا نفسه المتطلعة الى العودة لمصدرها، المتعطشة الى ما هو محبة ،أي الى تلك الحركة التي لا تتوقف بين التقبل والعطاء .
وسيفقد تدريجيا معارف القاموس الأول للحياة وهي أصناف ودرجات وإشارات الرائحة و اللمس والصوت والنظر والتذوق إثر دخوله الى عالم المعنى والدلالة وما يتطلبه من اكتساب مفاتيح التأويل والتفسير والاحالة.
وستكون هجرته تلك جدا قاسية باردة متعثرة، لما تتضمنه اللغة من خلال تركيباتها من تحولات وتعثرات وفجوات لن يقدر على سدّها .
وسيتحول الغير تارة الى أولئك الغرباء وطورا الى الاقرباء الذين لا يظهرون من ذواتهم إلا بالقدر المطلوب منهم أو المسموح به أو بما تمليه عليهم حاجاتهم .
أما المكوث في منطقة الطفولة الأولى فهو الجنون بعينيه أي الكفر التام والكامل بسنن التواصل مع الغير ورفض القبول بمعاني اللغة ،كما أسست وفرضت لشدة التعلق بالام والعجز عن تحمل أعباء الهجرة الى المعنى .
هل من علاقة بين عبارتي الجنين والمجنون لاتصالهما بالأم إما جسديا أو نفسيا ؟
وهو كذلك ، فالعبارتان منحدرتان من معنى الحجب والاستتار .إذ تحيلنا عبارة الجنين الى ما استتر برحم الام ، أما عبارة المجنون فهي تدور أيضا حول معنى اختفاء العقل وغيابه.
يخبرنا المجنون أن القبول بمنطق اللغة ليس فطريا ولا بديهيا وأنه الشرط الأساسي لمعرفة ما هو خارج عنا وأن العلاقة الأولى بالأم لا تعوض وأن معرفتنا للعالم ليست حقيقية بقدر ما هي رمزية ، لغوية ،بمعنى أنها تقريبية .
فالناجين منا من الانزلاق نحو الجنون سينتابهم في مختلف مراحل حياتهم شعورا غريبا بالحنين، قد يكون الرغبة في العودة الى بلد بعيد أو مكان أو منطقة أو جهة على أمل الظفر بما يبحثون عنه منذ انفصالهم عن الام من إحساس بالانتماء وبالأمان .
مسألة الحنين هذه ليست بالهينة ولا هي منبع من المنابع الرومانسية كما كتب عنها وقيل شرقا وغربا ، مسألة الحنين هي مسألة جوهرية، لأنها مركز الذاكرة ومرجع لمفهوم الزمن بعناصره المعروفة من ماض وحاضر ومستقبل، أي أنها أحد أعمدة كل ثقافة ،كل سردية : أي كل حكاية وكل تصور ، كل زمنية ،كل ما حدث وما كان ، كل تاريخ .
لذلك يتحول الحنين الأصلي الى الام الى حنين الى منطقة الى لغة الى شخص الى شيء باعتبارها موطنا ، مرجعا .
إنه الأثر العميق لتلك الهوة التي نشأت تدريجيا بين الانسان وأحاسيسه الأولى بالحياة والتي ما انفكت تتسع وتكبر ،كي تستبدل بمنطقة أخرى تسكنها التصورات والرموز واللغات والهويات الجماعية والافكار المبعثرة المتغيرة .
لذلك وضع علم النفس منهجا كاملا لتأويل أقوال المرضى لتقفي ما بقي أو اختفى أو غاب من تلك الاحاسيس من خلال ما تفصح عنه اللغة ، لأن تلك الاحاسيس كانت مركز الذات والدافع لنموها .
هل نستخلص أن الانفصال عن الام هو أساس المشكل أي أساس الاغتراب عن النفس ؟
طبعا لا . فالانفصال عن الاب حادث هو أيضا وضروري بدوره . أما الفرق بينهما ، فيكمن في محو آثار الانفصال عن الام و التأسيس لمرجعية الاب باعتباره رمز للقانون وللواقع والسلطة .
لذلك تنمحي سلالة الام من كل ذكر عند نشأة هوية الطفل كي تستمر علاقته بالاب ثقافيا ورمزيا واجتماعيا واقتصاديا بذكر أصوله الابوية أب عن جد.
أما آثار ذلك ، فنحن لم ندركها بعد، إنها قطع العلاقة الحقيقية ثم الرمزية مع الام والتنكر لكل ما منحته من طاقة وحضور وتهميش مفهوم الحب وترسيخ النظريات والافكار والفلسفات والاديان التي تقوم في معظمها على مفهوم القوة والسلطة والقانون .
لذلك قد يكتشف أحدنا جوهر ذاته من خلال علاقة حب عابرة ، بينما يقضي غيره من الباحثين والعلماء العمر كله من أجل الحصول على إجابة منطقية لنفس الغرض دون نيله .
ثم إن الحب والقانون ليسا متعارضين ،كما قيل لنا من خلال ألف رواية ورواية، بل هما متكاملان، ذلك لان الحب لا يناهض نظام الحياة بل يقوم على استمراره .
كاهنة عباس .