1- اليومي ورخص الإنسان في عالم لم يعد عالما كما نشاء؟
- لا شك في ذلك، وفي ظل هذا الضجيج الصامت المسمى افتراضا وقد هجم على حياتنا الأولى فصرنا لا نجالس الآخر إلا خلف حجب كأنه قد أعرج بنا إلى السدرة الدنيا.. قلتُ في ظل ذلك، تكون الكتابة دواءً وضرورة نواجه بها هذا الكم الكبير جدا من القول والأحداث والآراء المحيطة بنا..
وأنت تتصفح هذه العوالم المجنونة تجد نفسك عادةً مدفوعا نحو الكتابة، مدفوعا لتُعبِّر، أو قل لتَعْبُر منك إليك، ومنك إلى الآخر، دون النظر إلى من سيقرأ ما تكتبُ أحيانا.. ومن هنا ربما قد نفسر هذا الكم من الكُتاب والشعراء في زمن التواصل الإلكتروني وظهور الغث والسمين بشكل ملفت، حتى بات الكثير، إن لم نقل الجميع، لا يخاف من ركوب المنصات وأخذ الميكرفون لقول أي شيء أو فعل أي شيء ذي بال كان أو دونه.. !
في هذه العوالم الجديدة، حيث لا وجود للآخر مباشرة حتى وإن جمعتنا به أحيانا ظروف وأمكنة واحدة، تصير الكتابة بديلا وملاذا... وفي ظل ما نراه من موت غير الموت المتحرش بالأجساد، إنما أعني ذلكم الموت الذي يطلب أعز ما في الإنسان بعدما انتبه إلى أن الجسد لا يعني شيئا ولا يُشبع النهم، في ظل ذلك تكون الكلمة والكتابة مقاومة لهذا الهجوم على الداخل، وأفضل طريقة للدفاع كما يقولون الهجوم، وبالتالي يهجم الواحد منا بكل ما فيه من لغة وصورة وإيقاع.. ليحدث على الأقل ضجيجا، ويقول على حد قول ديكارت "أنا موجود"...
2- هل ينجينا الشعر من تعفن الذاكرة ومن الزمن الموحش في ثناياها ومن ملح القلق الساكن في القلب؟
- قد يقول قائل: ما الفائدة من الشعر؟ هنا أفتح قوسا وأنصح بقراءة رواية "هيا نشترِ شاعرا" للكاتب البرتغالي "أفونسو كروش"، ثم أعود لأقول: الشعر صديق الإنسان منذ فجر التاريخ، حتى إنه لم يغيره ولم يتخل عنه رغم ظهور وسائل عدة للتعبير، ورغم التطور الذي نراه، خاصة ما كان منه في العقود الخمسة الأخيرة، ومن هنا يظهر بصفة عامة، تكاد تكون حتمية كونية، كيف صار الشعر لصيقا بالإنسان لا ينفك عنه، هذا طبعا في كل الظروف الطبيعية منها والاستثنائية، أما وقد توحش العالم وتهدَّدَ الصدأُ الذاكرةَ، فإن الشعر بات أكثر ضرورة وألح من ذي قبل، المشكل فقط ــ وهذه مفارقة مؤسفة ــ هو أنه في الوقت الذي بات الشعر أكثر ضرورة، لحق به الضرر كثيرا، وتراجع بنسب كثيرة، أو ربما تضاءل الجيد منه، أو لنقل توارى أهله ورجعوا إلى الخلف ينظرون من بعيد، بعدما صار الهجوم على الكلمة موضة، وصار استسهال الكتابة حقا مشروعا، وغاب الرقيب... هنا أذكر مقطعا كنت قد كتبته وأنا أنظر إلى هذا المشهد الغريب المقرف... أقول فيه: "أيها الشعر ما أصبركْ!! بين من يدّعيك ومن وقركْ.." نعم هكذا بات الوضع للأسف، لكن لا يجب أن تجرنا الحسرة هذه إلى الزهد في قول الشعر والتشجيع على كتابته والاستماع إليه، وإلا شكَتنا الذاكرة والقلوب إلى ذواتنا أولا، ثم إلى الناس، وهي تقاوم ما يعتريها من موت وقلق لا يطردهما إلى القول الحسن الجميل، واللغة العابرة بين اللغات، واللحن الرابط بين المعاني ومباني النصوص.. وهنا أفتح قوسا آخر لأقول إن الشكل ليس عائقا في جزر الشعر المتقاربة ما دامت الروح تتناغم مع الكلمات وترقص على إيقاعها، المهم أن يبقى الشعر، ولا عيب في التجديد ولا في الثبات على ما سبق، ما دام لكل لون محبون ولكل شاعر غاوون...
3- هل يمكن اعتبار الشعر وجودا يفعل الحس الإنساني لعقد الصلح مع الذات ومع العالم؟
- الشعر كان دائما جسرا بين الذات والروح عند الفرد الواحد، فكانت أغراضه عند العرب وغيرهم تحيط بكل ما يمكن أن يربط بين الإنسان ونفسه، وكذلك كان مع الآخر كلما كان هذا الأخر جزءا من الذات نفسها، مصدرَ حب كان وأمانٍ، أو سببا في القلق والحزن.. أو حتى الغضب.. الشعر كان وما يزال ذلك الرابط الذي يصل الرحم ويحفظ الاتصال مستمرا مع العالم عطاءً وأخْذا، وإن كان الأخذُ سابقا. الشاعر منصت أولا إلى العالم بحواس أخرى غير الحواس المشتركة مع البشر، وقبل الوصول إلى ذلك والتمكن منه لابد من توظيف الحواس العادية توظيفا صحيحا، ولابد بالأساس من قراءة العالم، قراءة في شقه المسطور أولا، ثم المنظور ثانيا، وهنا تُشرع الأبواب للدخول إلى عوالم التأمل وفهم العالم على طرائق الشعراء وأهل الفكر والعلم والفلسفة، ثم يأتي بعد ذلك موعد العطاء، فكلما أنصت الشاعر جيدا إلى العالم وكان وفيا للقواعد التي ذكرنا قبل قليل فتدرج في الإنصات حتى الغوص.. إلا واستمع العالم إلى شعره وتفاعل معه كما ينبغي، وكما يحب الشاعر ويحب العالم الذي كان وما يزال في حاجة إلى شعرائه وأدبائه وفنانيه الذين لا يُطلعون الناس سكان هذا العالم إلا على كل جميل وكل شفيف يستحق أن يكون مؤنسا، ويستطيع كلما كان صدقُ المبدع عاليا وكانت أدواته الفنية محكمة أن يخفف من قلقه ويهذب حواسه ومشاعره من أقصى الفرح إلى أدنى الحزن ومن أقصى الحنين إلى أدنى الأنين..
------------------------------
* نص الحوار الذي اجرته الاستاذة عزيزة رحموني مع الشاعر المغربي بوعلام دخيسي لجريدة العلم بتاريخ 4 نونبر 2024.
- لا شك في ذلك، وفي ظل هذا الضجيج الصامت المسمى افتراضا وقد هجم على حياتنا الأولى فصرنا لا نجالس الآخر إلا خلف حجب كأنه قد أعرج بنا إلى السدرة الدنيا.. قلتُ في ظل ذلك، تكون الكتابة دواءً وضرورة نواجه بها هذا الكم الكبير جدا من القول والأحداث والآراء المحيطة بنا..
وأنت تتصفح هذه العوالم المجنونة تجد نفسك عادةً مدفوعا نحو الكتابة، مدفوعا لتُعبِّر، أو قل لتَعْبُر منك إليك، ومنك إلى الآخر، دون النظر إلى من سيقرأ ما تكتبُ أحيانا.. ومن هنا ربما قد نفسر هذا الكم من الكُتاب والشعراء في زمن التواصل الإلكتروني وظهور الغث والسمين بشكل ملفت، حتى بات الكثير، إن لم نقل الجميع، لا يخاف من ركوب المنصات وأخذ الميكرفون لقول أي شيء أو فعل أي شيء ذي بال كان أو دونه.. !
في هذه العوالم الجديدة، حيث لا وجود للآخر مباشرة حتى وإن جمعتنا به أحيانا ظروف وأمكنة واحدة، تصير الكتابة بديلا وملاذا... وفي ظل ما نراه من موت غير الموت المتحرش بالأجساد، إنما أعني ذلكم الموت الذي يطلب أعز ما في الإنسان بعدما انتبه إلى أن الجسد لا يعني شيئا ولا يُشبع النهم، في ظل ذلك تكون الكلمة والكتابة مقاومة لهذا الهجوم على الداخل، وأفضل طريقة للدفاع كما يقولون الهجوم، وبالتالي يهجم الواحد منا بكل ما فيه من لغة وصورة وإيقاع.. ليحدث على الأقل ضجيجا، ويقول على حد قول ديكارت "أنا موجود"...
2- هل ينجينا الشعر من تعفن الذاكرة ومن الزمن الموحش في ثناياها ومن ملح القلق الساكن في القلب؟
- قد يقول قائل: ما الفائدة من الشعر؟ هنا أفتح قوسا وأنصح بقراءة رواية "هيا نشترِ شاعرا" للكاتب البرتغالي "أفونسو كروش"، ثم أعود لأقول: الشعر صديق الإنسان منذ فجر التاريخ، حتى إنه لم يغيره ولم يتخل عنه رغم ظهور وسائل عدة للتعبير، ورغم التطور الذي نراه، خاصة ما كان منه في العقود الخمسة الأخيرة، ومن هنا يظهر بصفة عامة، تكاد تكون حتمية كونية، كيف صار الشعر لصيقا بالإنسان لا ينفك عنه، هذا طبعا في كل الظروف الطبيعية منها والاستثنائية، أما وقد توحش العالم وتهدَّدَ الصدأُ الذاكرةَ، فإن الشعر بات أكثر ضرورة وألح من ذي قبل، المشكل فقط ــ وهذه مفارقة مؤسفة ــ هو أنه في الوقت الذي بات الشعر أكثر ضرورة، لحق به الضرر كثيرا، وتراجع بنسب كثيرة، أو ربما تضاءل الجيد منه، أو لنقل توارى أهله ورجعوا إلى الخلف ينظرون من بعيد، بعدما صار الهجوم على الكلمة موضة، وصار استسهال الكتابة حقا مشروعا، وغاب الرقيب... هنا أذكر مقطعا كنت قد كتبته وأنا أنظر إلى هذا المشهد الغريب المقرف... أقول فيه: "أيها الشعر ما أصبركْ!! بين من يدّعيك ومن وقركْ.." نعم هكذا بات الوضع للأسف، لكن لا يجب أن تجرنا الحسرة هذه إلى الزهد في قول الشعر والتشجيع على كتابته والاستماع إليه، وإلا شكَتنا الذاكرة والقلوب إلى ذواتنا أولا، ثم إلى الناس، وهي تقاوم ما يعتريها من موت وقلق لا يطردهما إلى القول الحسن الجميل، واللغة العابرة بين اللغات، واللحن الرابط بين المعاني ومباني النصوص.. وهنا أفتح قوسا آخر لأقول إن الشكل ليس عائقا في جزر الشعر المتقاربة ما دامت الروح تتناغم مع الكلمات وترقص على إيقاعها، المهم أن يبقى الشعر، ولا عيب في التجديد ولا في الثبات على ما سبق، ما دام لكل لون محبون ولكل شاعر غاوون...
3- هل يمكن اعتبار الشعر وجودا يفعل الحس الإنساني لعقد الصلح مع الذات ومع العالم؟
- الشعر كان دائما جسرا بين الذات والروح عند الفرد الواحد، فكانت أغراضه عند العرب وغيرهم تحيط بكل ما يمكن أن يربط بين الإنسان ونفسه، وكذلك كان مع الآخر كلما كان هذا الأخر جزءا من الذات نفسها، مصدرَ حب كان وأمانٍ، أو سببا في القلق والحزن.. أو حتى الغضب.. الشعر كان وما يزال ذلك الرابط الذي يصل الرحم ويحفظ الاتصال مستمرا مع العالم عطاءً وأخْذا، وإن كان الأخذُ سابقا. الشاعر منصت أولا إلى العالم بحواس أخرى غير الحواس المشتركة مع البشر، وقبل الوصول إلى ذلك والتمكن منه لابد من توظيف الحواس العادية توظيفا صحيحا، ولابد بالأساس من قراءة العالم، قراءة في شقه المسطور أولا، ثم المنظور ثانيا، وهنا تُشرع الأبواب للدخول إلى عوالم التأمل وفهم العالم على طرائق الشعراء وأهل الفكر والعلم والفلسفة، ثم يأتي بعد ذلك موعد العطاء، فكلما أنصت الشاعر جيدا إلى العالم وكان وفيا للقواعد التي ذكرنا قبل قليل فتدرج في الإنصات حتى الغوص.. إلا واستمع العالم إلى شعره وتفاعل معه كما ينبغي، وكما يحب الشاعر ويحب العالم الذي كان وما يزال في حاجة إلى شعرائه وأدبائه وفنانيه الذين لا يُطلعون الناس سكان هذا العالم إلا على كل جميل وكل شفيف يستحق أن يكون مؤنسا، ويستطيع كلما كان صدقُ المبدع عاليا وكانت أدواته الفنية محكمة أن يخفف من قلقه ويهذب حواسه ومشاعره من أقصى الفرح إلى أدنى الحزن ومن أقصى الحنين إلى أدنى الأنين..
------------------------------
* نص الحوار الذي اجرته الاستاذة عزيزة رحموني مع الشاعر المغربي بوعلام دخيسي لجريدة العلم بتاريخ 4 نونبر 2024.