مقتطف من كتاب الميراث: الأصول التّطوريّة للعالم الحديث، الصادر حديثاً بقلم عالم الأنثروبولوجيا الإنكليزي هارفي وايتهاوس، نشرته دار بيلكناب التّابعة لجامعة هارفارد. والمقتطف منشور في موقع BIG THINK (الأفكار الكبيرة) في 22 (آب (أغسطس) 2024 يقول:
إذا سألت النّاس عن المناقب الاجتماعيّة الأكثر أهميّة للدّين، فإن العديد منهم سيقول: المعتقدات الدّينية تجعلنا نتصرف بشكل أكثر أخلاقيّة. وقد أظهر استطلاع للرأي أجراه مركز (بيو) للأبحاث في عام 2007 أنّ الغالبيّة العظمى من النّاس في البلدان خارج أوربا أجابوا بنعم، عن السّؤال: هل يجب أن تؤمن بالله حتى تكون أخلاقيّاً؟
من المدهش أن يظلّ العلماء منقسمين بشأن هذه المسألة. ويرجع جزء من السّبب وراء هذا إلى وجود العديد من المفاهيم الدّينية عن الآلهة والعديد من الأنظمة الأخلاقيّة أيضاً، وليس من الواضح دائمًا ما نعنيه عندما نُشير إلى الدّين أو الأخلاق. ومع ذلك، قد يتساءل المرء عمّا إذا كانت الأخلاق جزءاً لا يتجزأ من المنظومة الدّينيّة. هل تؤدي أفكارنا الحدسيّة حول حياة الآخرة، إلى تغيّير سلوكنا الأخلاقيّ بشكل أساسيّ؟ طَرح سقراط سُؤالاً مُماثلاً عندما سَأل عمّا إذا كانت الآلهة تحبّ الخير لأنّه جيّد أم أن الخير جيّد لأنّه محبوب من الآلهة؟
علم الأخلاق
اليوم، لا تأتي أفضل الإجابات عن هذا السّؤال من الفلسفة اليونانيّة، بل من البحث العلمي. فقد أظهرت الدّراسات التي قادها أوليفر سكوت كاري أن قدراً كبيراً من الأخلاق الإنسانيّة ينبع من انشغال واحد: التّعاون. وبشكل أكثر تحديداً، هناك سبعة مبادئ للتعاون يُـحكَم عليها بأنّها جيّدة أخلاقيّاً في كلّ مكان وتشكّل الأساس لبوصلة أخلاقيّة عالميّة. وهذه المبادئ السّبعة هي: مساعدة أقاربك، والولاء لمجموعتك، وردّ الجميل، والشّجاعة، والامتثال لرؤسائك، وتقاسم الأشياء بشكل عادل، واحترام ممتلكات الآخرين.
المبادئ السّبعة للتعاون التّي تستند إليها هذه الأفكار الأخلاقيّة موجودة في مجموعة واسعة من المجتمعات البشريّة، وهي ليست مقتصرة على البشر. لقد تطوّر هذا الحدس الأخلاقيّ بسبب فوائده في البقاء والتّكاثر. فقد منحت الطّفرات الجينيّة التّي تؤيّد سلوكيات التّعاون في أسلاف الأنواع الاجتماعيّة، مثل البشر، ميزة تكاثريّة للكائنات الحيّة التّي تتبنّاها، وكانت النتيجة أنّ المزيد من نسخ هذه الجينات بقيت على قيد الحياة وانتشرتْ في الأجيال التّالية. ولنأخذ على سبيل المثال لا الحصر المبدأ الذي يقضي بضرورة رعاية أفراد أسرتنا. ومن المرجح أنّ هذه الضّرورة الأخلاقيّة تطوّرت عبر آليّة (اختيار الأقارب)، التّي تضمن لنا أن نتصرف على النّحوّ الذي يزيد من فرص انتقال جيناتنا من جيلٍ إلى جيل، من خلال السّعي إلى مساعدة أقاربنا الجينيّين المقرّبين على البقاء وإنجاب النسل. من ناحية أخرى، يتطوّر الولاء للمجموعة في الأنواع الاجتماعيّة التّي تعمل بشكل أفضل عندما تتصرف بطريقة منسّقة بدلاً من التّصرّف بشكل مستقلّ. تؤدّي المعاملة بالمثل إلى فوائد لا يمكن للتصرّف الأنانيّ وحده تحقيقها. واحترام الرؤساء هو وسيلة أخرى للبقاء على قيد الحياة، في هذه الحالة، من خلال تخصيص مواقف الهيمنة أو الخضوع بطريقة منسّقة بدلاً من قتال الطرفين حتّى الموت.
مصدر الصّواب والخطأ
إنّ نظريّة (الأخلاق بوصفها تعاوناً) تقترح أنّ هذه المبادئ السّبعة للتّعاون تشكّل معاً جوهر التّفكير الأخلاقيّ في كلّ مكان. وفي نهاية المطاف، يمكن إرجاع كلّ فعل بشريّ يستدعي حكماً أخلاقيّاً إلى انتهاك واحدٍ أو أكثر من هذه المبادئ التّعاونيّة. على الأقل، كانت هذه هي النّظريّة. ولكن كيف يمكننا أن نثبت أنّ هذه المبادئ السّبعة كانت عالميّة حقاً؟ إنّ الإجابة تكمن في دراسة غير مسبوقة للمنطق الأخلاقي للبشر في مختلف أنحاء العالم. فقد قمتُ أنا وزملائي بتجميع عيّنة من ستّين مجتمعاً خضعت لدراسات موسّعة من قِبَل علماء الأنثروبولوجيا، وبالتّالي قدمت بيانات غنيّة عن المعايير الأخلاقيّة السّائدة في تلك المجموعات الثّقافيّة. ولكي تكون هذه المجتمعات مؤهّلة للإدراج في هذه الدراسة، كان لزاماً عليها أن تكون موضوعاً لما لا يقلّ عن 1200 صفحة من البيانات الوصفيّة المتعلقة بنظامها الثّقافيّ. كما كان لابد أن تكون هذه المجتمعات قد دُرستْ من قِبَل عالم أنثروبولوجيا مدرّب مهنيّاً استناداً إلى عام واحد على الأقلّ من العمل الميدانيّ الشّامل باستخدام المعرفة العمليّة باللّغة المستخدمة محليّاً. وقد جرى اختيار عيّنة المجتمعات لتعظيم التّنوع والحدّ من احتمالات تبنّي المجموعات الثّقافيّة لمعتقداتها الأخلاقيّة بعضها من البعض الآخر. وقد اختيرت هذه العيّنة من ستّ مناطق رئيسيّة في العالم: إفريقيا جنوب الصّحراء الكبرى، ومحيط البحر الأبيض المتوسط، وشرق أوراسيا، والمحيط الهادئ، وأمريكا الشّماليّة، وأمريكا الجنوبيّة.
كان الهدف من هذه الدّراسة هو استقصاء 400 وثيقة تصف ثقافات هذه المجتمعات السّتّين لتحديد ما إذا كانت المبادئ السّبعة للتّعاون جيّدة أخلاقيّاً أم لا، باعتبارها مبادئ بارزة. وقد وجدنا 3460 فقرة نصّيّة تطرّقت إلى هذه المبادئ التعاونيّة. وفي كلّ حالة، أردْنا أنّ نعرف ما إذا كان نوع التعاون الموصوف يتّسم باستخدام كلمات مثل جيّد، وأخلاقيّ، وقيّم، وحقّ، وفاضل، وإلزاميّ، وملتزم، ومعياري، أو أي لغة أخلاقيّة بارزة أخرى. وقد أسفر هذا عن 962 حكماً أخلاقيّاً رُصدَت للأنواع السّبعة من السّلوك التّعاونيّ. وفي 961 من هذه الحالات (99.9٪ من جميع الحالات)، جرى الحكم على السّلوك التّعاونيّ بأنّه جيّد أخلاقيّاً. وكان الاستثناء الوحيد في جزيرة نائيّة في ميكرونيزيا حيث تمّ تأيّيد السّرقة علناً (بدلاً من الخفاء) من الآخرين أخلاقيّاً. ولكن في هذه الحالة غير العاديّة، بدا الأمر وكأنّ هذا النّوع من السّرقة ينطوي على تأكيّد (شجاع) للهيمنة الاجتماعيّة. وعلى هذا، فرغم أن هذه الحالة الواحدة بدت وكأنّها تتناقض مع القاعدة التّي تقضي بضرورة احترام ممتلكات الآخرين، فإنّها فعلت ذلك من خلال إعطاء الأولويّة لمبدأ التعاون البديل المتمثّل في الشّجاعة. والخلاصة الرئيسيّة هنا هي أنّ المبادئ التعاونيّة السّبعة تبدو جيدة من الناحية الأخلاقيّة في كلّ مكان.
ما علاقة الدّين بالأمر؟
ولكن هل يرتبط هذا بالضّرورة بالتّدين؟ ففي نهايّة المطاف، لا يوجد سببٌ واضح يجعلنا نعتقد أنّه لابد أن يكون لدينا آلهة لنؤمن بالمبادئ الأخلاقيّة السّبعة. ولكن بما أنّ العديد من النّاس في العالم يعتقدون أنّ هناك صلة بين التّدين والخير، فمن الواضح أنّ هذه المسألة تستحق اهتماماً وثيقاً. لقد تبيّن أنّ الإجابة عن هذا السّؤال معقّدة بعض الشّيء. إذ يبدو أنّ أحد عناصر الذّخيرة الأخلاقيّة العالميّة يرتبط بشكل حدسيّ بغرائزنا الدّينيّة: وهو ما يُعيدنا إلى التّوقعات المبكّرة التّي كانت سائدة في طفولتنا بأنّ الوكلاء الخارقين للطبيعة سوف يسيطرون اجتماعيّاً. وفي القسم السّابق وصف بحثنا مع الأطفال، فأظهر أنّه حتى قبل أن يتمكنوا من التّحدث، كانوا يتوقعون من الوكلاء ذوي القوى الخارقة للطبيعة أن ينتصروا في صراع على السّلطة مع وكيل يفتقر إلى مثل هذه القوى. وهذا يشير إلى أنّ علاقتنا بالعالم الروحيّ تستند إلى اهتمام أخلاقيّ باحترام السّلطة. وسوف تميل الآلهة والأجداد إلى أن يكونوا أسيادنا، وسوف نميل إلى أن نكون خدماً لهم: سوف ننحني لهم وليس هم لنا. ولكن ماذا عن المجالات الأخلاقيّة الأخرى ــ هل يمكن ربطها أيضاً بمعتقداتنا وسلوكياتنا الدّينيّة؟ وهل يرتبط حدسنا الدّيني ــ على سبيل المثال فيما يتصل بالكائنات والقوى الخارقة للطبيعة، أو الحياة بعد الموت، أو التّصميم الذّكي في الطبيعة ــ بالقواعد الأخلاقيّة السّبع التّي وجدنا أنّها عالميّة أيضاً؟
إنّ الإجابة هي نعم ـ ولكن بطرق أقلّ طبيعية وبديهيّة على الإطلاق. وهذا يعني أنّ الارتباط بين أغلب سمات التّدين البديهيّ والذّخيرة الأخلاقيّة العالميّة ليس طبيعيّاً في حدّ ذاته، بل هو نتاج الطّريقة التّي تطورت بها الأديان باعتبارها أنظمة ثقافيّة كجزء من تاريخنا غير الطّبيعيّ للحضارة. وعلى هذا فإنّ الارتباطات بين الأخلاق البديهيّة والدّين البديهيّ تغيّرت بشكل كبير على مدار التاريخ البشريّ. على سبيل المثال، فإنّ الحتميّة الأخلاقيّة الطبيعية التي تفرض علينا رعاية الأقارب تطوّرت في العديد من أديان العالم إلى التزام برعاية أسلافنا، من خلال القيام على نحوٍ مخلص بمجموعة متنوعة من السّلوكيات التّي تعبّر عن التّقوى الأبويّة. كما أن القاعدة الأخلاقيّة التّي تقضي بأن نبادل المعروف بالمثل تشكّل جزءاً بارزاً من منطق تفاعلاتنا مع العالم الروحيّ ـ وقد اتخذت منعطفاً مُظلماً أثناء مرحلة التاريخ الدّيني عندما أصبحت التضحيّة البشريّة منتشرة على نطاق واسع. وفي وقت لاحق من تاريخ الأديان، نلاحظ ظهور معتقدات في آلهة تطالب البشر في كلّ مكان بالامتثال لأوامر شبيهة بالقانون. ورغم أنّ الدّين والأخلاق متأصلان في الطبيعة البشريّة، فإنّ حدسنا بشأن الاثنين ليس بالضرورة مرتبطاً. ففي بعض الأحيان، تتسرب منطقنا الأخلاقيّ إلى معتقداتنا الدّينية؛ وفي أحيان أخرى، لا يحدث هذا على الإطلاق. ويتوقف الأمر على التقاليد الثّقافيّة التّي تعيش فيها.
وهكذا، أصبح لدينا على الأقلّ إجابة مؤقّتة على السّؤال: هل نحتاج إلى الدّين لكي نكون أخلاقيّين؟ والإجابة هي: لا. ويبدو أن معتقداتنا الدّينيّة البديهيّة لا ترتبط بالضّرورة بحدسنا الأخلاقيّ ــ ربّما باستثناء الحالة الخاصة المتمثلة في احترام الكائنات الخارقة للطبيعة. ويبدو أنّنا نستطيع أن نجيب أخيراً عن سُؤال سقراط. فالخير لا يكون خيراً لأنّه محبوب من الآلهة ــ بل إنّه خير سواءٌ علمت الآلهة بذلك أو اهتمّت به أم لا. ومن المؤسف أنّ هذا يُشير أيضاً إلى أنّ أغلب النّاس الذين استطلعت آراءهم مؤسسة (بيو) حول هذا الموضوع قد ضُلِّلوا، ولو عن غير قصد، من قِبَل الزّعماء الدينيّين في العالم.
رابط المقال المُترجم:
bigthink.com
إذا سألت النّاس عن المناقب الاجتماعيّة الأكثر أهميّة للدّين، فإن العديد منهم سيقول: المعتقدات الدّينية تجعلنا نتصرف بشكل أكثر أخلاقيّة. وقد أظهر استطلاع للرأي أجراه مركز (بيو) للأبحاث في عام 2007 أنّ الغالبيّة العظمى من النّاس في البلدان خارج أوربا أجابوا بنعم، عن السّؤال: هل يجب أن تؤمن بالله حتى تكون أخلاقيّاً؟
من المدهش أن يظلّ العلماء منقسمين بشأن هذه المسألة. ويرجع جزء من السّبب وراء هذا إلى وجود العديد من المفاهيم الدّينية عن الآلهة والعديد من الأنظمة الأخلاقيّة أيضاً، وليس من الواضح دائمًا ما نعنيه عندما نُشير إلى الدّين أو الأخلاق. ومع ذلك، قد يتساءل المرء عمّا إذا كانت الأخلاق جزءاً لا يتجزأ من المنظومة الدّينيّة. هل تؤدي أفكارنا الحدسيّة حول حياة الآخرة، إلى تغيّير سلوكنا الأخلاقيّ بشكل أساسيّ؟ طَرح سقراط سُؤالاً مُماثلاً عندما سَأل عمّا إذا كانت الآلهة تحبّ الخير لأنّه جيّد أم أن الخير جيّد لأنّه محبوب من الآلهة؟
علم الأخلاق
اليوم، لا تأتي أفضل الإجابات عن هذا السّؤال من الفلسفة اليونانيّة، بل من البحث العلمي. فقد أظهرت الدّراسات التي قادها أوليفر سكوت كاري أن قدراً كبيراً من الأخلاق الإنسانيّة ينبع من انشغال واحد: التّعاون. وبشكل أكثر تحديداً، هناك سبعة مبادئ للتعاون يُـحكَم عليها بأنّها جيّدة أخلاقيّاً في كلّ مكان وتشكّل الأساس لبوصلة أخلاقيّة عالميّة. وهذه المبادئ السّبعة هي: مساعدة أقاربك، والولاء لمجموعتك، وردّ الجميل، والشّجاعة، والامتثال لرؤسائك، وتقاسم الأشياء بشكل عادل، واحترام ممتلكات الآخرين.
المبادئ السّبعة للتعاون التّي تستند إليها هذه الأفكار الأخلاقيّة موجودة في مجموعة واسعة من المجتمعات البشريّة، وهي ليست مقتصرة على البشر. لقد تطوّر هذا الحدس الأخلاقيّ بسبب فوائده في البقاء والتّكاثر. فقد منحت الطّفرات الجينيّة التّي تؤيّد سلوكيات التّعاون في أسلاف الأنواع الاجتماعيّة، مثل البشر، ميزة تكاثريّة للكائنات الحيّة التّي تتبنّاها، وكانت النتيجة أنّ المزيد من نسخ هذه الجينات بقيت على قيد الحياة وانتشرتْ في الأجيال التّالية. ولنأخذ على سبيل المثال لا الحصر المبدأ الذي يقضي بضرورة رعاية أفراد أسرتنا. ومن المرجح أنّ هذه الضّرورة الأخلاقيّة تطوّرت عبر آليّة (اختيار الأقارب)، التّي تضمن لنا أن نتصرف على النّحوّ الذي يزيد من فرص انتقال جيناتنا من جيلٍ إلى جيل، من خلال السّعي إلى مساعدة أقاربنا الجينيّين المقرّبين على البقاء وإنجاب النسل. من ناحية أخرى، يتطوّر الولاء للمجموعة في الأنواع الاجتماعيّة التّي تعمل بشكل أفضل عندما تتصرف بطريقة منسّقة بدلاً من التّصرّف بشكل مستقلّ. تؤدّي المعاملة بالمثل إلى فوائد لا يمكن للتصرّف الأنانيّ وحده تحقيقها. واحترام الرؤساء هو وسيلة أخرى للبقاء على قيد الحياة، في هذه الحالة، من خلال تخصيص مواقف الهيمنة أو الخضوع بطريقة منسّقة بدلاً من قتال الطرفين حتّى الموت.
مصدر الصّواب والخطأ
إنّ نظريّة (الأخلاق بوصفها تعاوناً) تقترح أنّ هذه المبادئ السّبعة للتّعاون تشكّل معاً جوهر التّفكير الأخلاقيّ في كلّ مكان. وفي نهاية المطاف، يمكن إرجاع كلّ فعل بشريّ يستدعي حكماً أخلاقيّاً إلى انتهاك واحدٍ أو أكثر من هذه المبادئ التّعاونيّة. على الأقل، كانت هذه هي النّظريّة. ولكن كيف يمكننا أن نثبت أنّ هذه المبادئ السّبعة كانت عالميّة حقاً؟ إنّ الإجابة تكمن في دراسة غير مسبوقة للمنطق الأخلاقي للبشر في مختلف أنحاء العالم. فقد قمتُ أنا وزملائي بتجميع عيّنة من ستّين مجتمعاً خضعت لدراسات موسّعة من قِبَل علماء الأنثروبولوجيا، وبالتّالي قدمت بيانات غنيّة عن المعايير الأخلاقيّة السّائدة في تلك المجموعات الثّقافيّة. ولكي تكون هذه المجتمعات مؤهّلة للإدراج في هذه الدراسة، كان لزاماً عليها أن تكون موضوعاً لما لا يقلّ عن 1200 صفحة من البيانات الوصفيّة المتعلقة بنظامها الثّقافيّ. كما كان لابد أن تكون هذه المجتمعات قد دُرستْ من قِبَل عالم أنثروبولوجيا مدرّب مهنيّاً استناداً إلى عام واحد على الأقلّ من العمل الميدانيّ الشّامل باستخدام المعرفة العمليّة باللّغة المستخدمة محليّاً. وقد جرى اختيار عيّنة المجتمعات لتعظيم التّنوع والحدّ من احتمالات تبنّي المجموعات الثّقافيّة لمعتقداتها الأخلاقيّة بعضها من البعض الآخر. وقد اختيرت هذه العيّنة من ستّ مناطق رئيسيّة في العالم: إفريقيا جنوب الصّحراء الكبرى، ومحيط البحر الأبيض المتوسط، وشرق أوراسيا، والمحيط الهادئ، وأمريكا الشّماليّة، وأمريكا الجنوبيّة.
كان الهدف من هذه الدّراسة هو استقصاء 400 وثيقة تصف ثقافات هذه المجتمعات السّتّين لتحديد ما إذا كانت المبادئ السّبعة للتّعاون جيّدة أخلاقيّاً أم لا، باعتبارها مبادئ بارزة. وقد وجدنا 3460 فقرة نصّيّة تطرّقت إلى هذه المبادئ التعاونيّة. وفي كلّ حالة، أردْنا أنّ نعرف ما إذا كان نوع التعاون الموصوف يتّسم باستخدام كلمات مثل جيّد، وأخلاقيّ، وقيّم، وحقّ، وفاضل، وإلزاميّ، وملتزم، ومعياري، أو أي لغة أخلاقيّة بارزة أخرى. وقد أسفر هذا عن 962 حكماً أخلاقيّاً رُصدَت للأنواع السّبعة من السّلوك التّعاونيّ. وفي 961 من هذه الحالات (99.9٪ من جميع الحالات)، جرى الحكم على السّلوك التّعاونيّ بأنّه جيّد أخلاقيّاً. وكان الاستثناء الوحيد في جزيرة نائيّة في ميكرونيزيا حيث تمّ تأيّيد السّرقة علناً (بدلاً من الخفاء) من الآخرين أخلاقيّاً. ولكن في هذه الحالة غير العاديّة، بدا الأمر وكأنّ هذا النّوع من السّرقة ينطوي على تأكيّد (شجاع) للهيمنة الاجتماعيّة. وعلى هذا، فرغم أن هذه الحالة الواحدة بدت وكأنّها تتناقض مع القاعدة التّي تقضي بضرورة احترام ممتلكات الآخرين، فإنّها فعلت ذلك من خلال إعطاء الأولويّة لمبدأ التعاون البديل المتمثّل في الشّجاعة. والخلاصة الرئيسيّة هنا هي أنّ المبادئ التعاونيّة السّبعة تبدو جيدة من الناحية الأخلاقيّة في كلّ مكان.
ما علاقة الدّين بالأمر؟
ولكن هل يرتبط هذا بالضّرورة بالتّدين؟ ففي نهايّة المطاف، لا يوجد سببٌ واضح يجعلنا نعتقد أنّه لابد أن يكون لدينا آلهة لنؤمن بالمبادئ الأخلاقيّة السّبعة. ولكن بما أنّ العديد من النّاس في العالم يعتقدون أنّ هناك صلة بين التّدين والخير، فمن الواضح أنّ هذه المسألة تستحق اهتماماً وثيقاً. لقد تبيّن أنّ الإجابة عن هذا السّؤال معقّدة بعض الشّيء. إذ يبدو أنّ أحد عناصر الذّخيرة الأخلاقيّة العالميّة يرتبط بشكل حدسيّ بغرائزنا الدّينيّة: وهو ما يُعيدنا إلى التّوقعات المبكّرة التّي كانت سائدة في طفولتنا بأنّ الوكلاء الخارقين للطبيعة سوف يسيطرون اجتماعيّاً. وفي القسم السّابق وصف بحثنا مع الأطفال، فأظهر أنّه حتى قبل أن يتمكنوا من التّحدث، كانوا يتوقعون من الوكلاء ذوي القوى الخارقة للطبيعة أن ينتصروا في صراع على السّلطة مع وكيل يفتقر إلى مثل هذه القوى. وهذا يشير إلى أنّ علاقتنا بالعالم الروحيّ تستند إلى اهتمام أخلاقيّ باحترام السّلطة. وسوف تميل الآلهة والأجداد إلى أن يكونوا أسيادنا، وسوف نميل إلى أن نكون خدماً لهم: سوف ننحني لهم وليس هم لنا. ولكن ماذا عن المجالات الأخلاقيّة الأخرى ــ هل يمكن ربطها أيضاً بمعتقداتنا وسلوكياتنا الدّينيّة؟ وهل يرتبط حدسنا الدّيني ــ على سبيل المثال فيما يتصل بالكائنات والقوى الخارقة للطبيعة، أو الحياة بعد الموت، أو التّصميم الذّكي في الطبيعة ــ بالقواعد الأخلاقيّة السّبع التّي وجدنا أنّها عالميّة أيضاً؟
إنّ الإجابة هي نعم ـ ولكن بطرق أقلّ طبيعية وبديهيّة على الإطلاق. وهذا يعني أنّ الارتباط بين أغلب سمات التّدين البديهيّ والذّخيرة الأخلاقيّة العالميّة ليس طبيعيّاً في حدّ ذاته، بل هو نتاج الطّريقة التّي تطورت بها الأديان باعتبارها أنظمة ثقافيّة كجزء من تاريخنا غير الطّبيعيّ للحضارة. وعلى هذا فإنّ الارتباطات بين الأخلاق البديهيّة والدّين البديهيّ تغيّرت بشكل كبير على مدار التاريخ البشريّ. على سبيل المثال، فإنّ الحتميّة الأخلاقيّة الطبيعية التي تفرض علينا رعاية الأقارب تطوّرت في العديد من أديان العالم إلى التزام برعاية أسلافنا، من خلال القيام على نحوٍ مخلص بمجموعة متنوعة من السّلوكيات التّي تعبّر عن التّقوى الأبويّة. كما أن القاعدة الأخلاقيّة التّي تقضي بأن نبادل المعروف بالمثل تشكّل جزءاً بارزاً من منطق تفاعلاتنا مع العالم الروحيّ ـ وقد اتخذت منعطفاً مُظلماً أثناء مرحلة التاريخ الدّيني عندما أصبحت التضحيّة البشريّة منتشرة على نطاق واسع. وفي وقت لاحق من تاريخ الأديان، نلاحظ ظهور معتقدات في آلهة تطالب البشر في كلّ مكان بالامتثال لأوامر شبيهة بالقانون. ورغم أنّ الدّين والأخلاق متأصلان في الطبيعة البشريّة، فإنّ حدسنا بشأن الاثنين ليس بالضرورة مرتبطاً. ففي بعض الأحيان، تتسرب منطقنا الأخلاقيّ إلى معتقداتنا الدّينية؛ وفي أحيان أخرى، لا يحدث هذا على الإطلاق. ويتوقف الأمر على التقاليد الثّقافيّة التّي تعيش فيها.
وهكذا، أصبح لدينا على الأقلّ إجابة مؤقّتة على السّؤال: هل نحتاج إلى الدّين لكي نكون أخلاقيّين؟ والإجابة هي: لا. ويبدو أن معتقداتنا الدّينيّة البديهيّة لا ترتبط بالضّرورة بحدسنا الأخلاقيّ ــ ربّما باستثناء الحالة الخاصة المتمثلة في احترام الكائنات الخارقة للطبيعة. ويبدو أنّنا نستطيع أن نجيب أخيراً عن سُؤال سقراط. فالخير لا يكون خيراً لأنّه محبوب من الآلهة ــ بل إنّه خير سواءٌ علمت الآلهة بذلك أو اهتمّت به أم لا. ومن المؤسف أنّ هذا يُشير أيضاً إلى أنّ أغلب النّاس الذين استطلعت آراءهم مؤسسة (بيو) حول هذا الموضوع قد ضُلِّلوا، ولو عن غير قصد، من قِبَل الزّعماء الدينيّين في العالم.
رابط المقال المُترجم:
Do you need religion to be a moral person?
When asked "Do you need to believe in God to be moral?" the majority of people outside of Europe said yes. Are they right to think so?