محمود درويش - "البيان الشعري الأول"

I

حنين الغريب وراء الأسلاك الشائكة.. إلى حبة تراب من أرضه المسلوبة..

الشهداء الذين يسقطون على الطرقات البعيدة كالذباب..

الأبرياء الذين يقتلون.. ولا ذنب لهم إلا أنهم بقية شعب مشرّد..

الأطفال الذين ينظرون إلى الغد بلا عيون.. ويبكون بلا آباء وأمهات...

والشيوخ الذين زرعوا.. ولم يأكل أحفادهم.. والأرض التي يحرّم عبيرها على فلاحها..
والقيد الذي يشد على زنودنا.. وأفواهنا..

والموت المعلق على سطور ورقة صفراء..

والكوفية البيضاء.. أروع ما خلّفه لنا التاريخ في متاحفه.. الكوفية التي تُهان..

والشعور بالغربة والعزلة في أرض الوطن..

والبيوت التي أصبحت أطلالًا.. ترتمي في جنباتها قطع صغيرة من خواب عتيقة.. وسناج داخون.. وبقايا رسوم صنعت من الطين على الجدران.. وسياج عتيق يقف كالقدر..

وأخبار الكفاح التي ينقلها إلينا المذياع ووجوه التاريخ التي تتغيّر..

كل هذه الأشياء.. الكبيرة والصغيرة.. ثروة خالدة لا تنضب.. يستمدّ منها الشعر أروع تجاربه وصوره وألوانه.. ويؤلف منها أبدع الملاحم إذا أتيح لها شاعر عبقري وفنان ماهر..

وهذه هي المؤثرات الخارجية والداخلية التي ترسم ملامح وجه شعرنا الجديد.. شعرنا الذي لم تكتمل شخصيته ولم تتبلور.. لا لسبب الآن إلا لقصر عمره وحداثته.. لأنه لا يزال طفلًا وفي أول الطريق..

من الصعب حقًا أن نتحدث عن شعرنا.. في هذه الأيام.. لأن هذا الحديث سابق لأوانه.. فهذه قضية تحتاج إلى زمن.. ولكن ما دمنا قد كتبنا شيئًا.. فلماذا لا نعطي فيه رأينا؟ أرجو أن يكون شاملًا وصادقًا.. وأرجو أن يتسنى لزملائي وللقراء فرص للنقاش..

في البداية ذكرت المؤثرات التي تمتاز بالدراما العنيفة.. التي تؤثّر على شعرنا وتطبعه بطابعها.. ولا شك أنها أشكال من الحياة الواقعية.. والتي يستمد منها الشعر الجديد.. ويمزجها بوجدانه الذاتي.. ثم يعطي للحياة ما أخذ منها..

إن أبرز ظاهرة في شعرنا.. الواقعية.. الواقعية بمعناها الهادف.. وهنا أجد نفسي مضطرًا لشرح موقفنا من النقاش الحاد حول الأدب للحياة أم للأدب؟

وقبل هذا يترتب علينا أن نسأل السؤال التقليدي الخالد:

ما هو الأدب؟

نقول باختصار: إنه الكلام الذي يصور علاقة الإنسان بالإنسان.. بصور مُنغمة عاطفية.. وعلاقته بعالمه الخارجي والداخلي..

وهذه العلاقات التي ترتبط مع بعضها.. بامتدادها وانقباضها.. بسلبيتها وإيجابيتها.. هي التي تشكّل بمجموعها صورة الحياة الإنسانية..

من هنا.. يتبيّن لنا بجلاء أن المعركة.. والضجة الكبيرة القائمة اليوم.. حول حكاية لمن الفن؟ ليست في حقيقتها مشكلة كما نتصور.. إذ ليس هناك أدب بلا هدف..

حتى عندما نتغزّل.. ونشكو ظلمة الليل.. والبرد والألم والوحشة.. نكون في حقيقة نفسيتنا هادفين.. فنحن بذلك ندعو حبيباتنا لمسامرتنا.

وحين نصف جمال الطبيعة.. ونصور روعة غناء العصافير.. وإشراق الورد.. وسكون النسيم والطبيعة.. ماذا نريد في الواقع؟.. إننا نهيئ الجو الملائم للحب.. ونغري بهذا الوصف..

وبعد هذا ماذا يكون؟ أو ماذا يجب أن يكون؟ أو ماذا ينقص هذه الأوركسترا؟ فما دامت الطبيعة متهيئة.. وفاتحة ذراعيها؟ طبعًا.. لا ينقصها إلا عاشقان..

وبهذا نكون قد حققنا هدفنا..

وهنا.. نحن أمام نقطة دقيقة.. الذات.. صحيح أن الذات الانطوائية والأنانية لا تنتج أدبًا اجتماعيًا إنسانيًا.. ولكن الواقع أن الذات الانطوائية في الشعر عبارة عن مُحلّل عاطفي.. في الشاعر.. فتطبع قصائده بطابع خاص.. ونغم مستقل.. أما أولئك الذين يدعون بنكران الذات والانصهار كليًا في المجموع.. باسم الإخلاص الشعبي.. هم في حقيقتهم ليسوا فنانين.. فالفنان الأصيل يقاس بمقياسين – حسب رأيي – أولًا.. مدى تعرّفه على ذاته.. واستقلاله بها.. وثانيًا.. بمدى معرفته للحياة..

ولكن الخطر ناجم من الذات الأنانية التي لا تخرج من إطارها المحدود الضيق.. ولا تلتقي مع الذوات الإنسانية الأخرى المحيطة بها.. وناظم حكمت.. الشاعر الكبير.. قال: الشاعر الأصيل هو الذي تمتزج تجربته الشعرية بحياته ذاتها..

* * *

وكذلك الأدب الاجتماعي الملتزم الذي يرسم الطريق نحو غد أفضل.. وينادي بالمساواة والسلام والمحبة.. والاعتراف بحق الإنسان.. والحرية.. والتي هي هدف شعرنا الأول.. إذن.. ما دمنا نفهم الشاعر.. ونفهم غايته.. وما دمنا نعيش تجربته التي هي تجربتنا.. وما دام يصور أشخاصه بوضوح.. وما دام يصور علاقة الإنسان بالإنسان.. فهو يكتب شعرًا واقعيًا..

فالمسألة.. ليست مسألة الفن للفن.. أو الفن للحياة.. ليس هناك، على الإطلاق، فن يدعى فنًا للفن.. وإذا وجد فإننا لا نعترف بفنيته.. إذ ما قيمة الفن الذي لا يخدم الإنسان وقضاياه.. فما دام من الحياة.. ويستمد تجاربه من الحياة.. فكيف لا يكون للحياة؟

* * *

في بلادنا.. تتخذ الواقعية صفة خاصة.. فإن هدف شعرنا الأول – كما قلت – هو الحرية.. وفي مجال الكفاح من أجل الحرية.. على الأدب أن يمشي في طريق الثورة..

ولهذا كان الطابع الخاص على شعرنا هو الثورية.. وقد خطا شعرنا في سبيل هذه الغاية خطوة نستطيع أن نعتز بأمانتها.. فمنذ ولد شعرنا.. بدأ يعرف بالفطرة والإحساس أنه لن يكبر.. ولن يقف على قدميه ما لم يسر مع الشعب.. وما لم ينصهر بدمه ولحمه مع الشعب.. لأنه وليد المأساة التي أصابت هذا الشعب.. فكان عليه أن يكون رد فعل.. ونتيجة حتمية لما أصابتنا من نكسات واعتداءات على كرامتنا وحريتنا.. ودمنا.. فكان الشعر الصوت الأول في الأدب الذي ارتفع في بلادنا معبّرًا عن مأساتنا.. لأنه فن العاطفة.. ولا يحتاج إلى ثقافة واسعة.. وممارسة طويلة..

ولكن هذه الواقعية الثورية تركت في شعرنا لوثات فنية كبيرة.. لأنها بدائية وغير واعية.. من أسبابها المفهوم الخاطئ الذي فهمه بعض شعرائنا للواقعية.. ومهما حاولنا أن نرد القضية إلى أسباب.. فعلينا دائمًا ألا ننسى مسألة العمر.. لأنه ما من أدب في العالم.. وفي عصور التاريخ كلها.. كوّن شخصية مستقلة.. وشق طريقًا جديدًا.. في عشر سنين أو عشرين سنة.. فالمسألة تحتاج إلى زمن ليغربل التجارب.. مهما كان التطور الفكري سريعًا..

* * *

الواقعية في حقيقتها تنمي الإحساس العميق بحياة الشعب عند الشاعر.. وتقوده في نهاية الأمر إلى التفاؤل.. وتفتح أمامه آفاقًا جديدة من الخلق والابتكار.. ولكن عدم فهمها بهذا المفهوم يؤدي إلى الاعتقاد بأنها تدعو إلى (التقريرية).. وهذا شيء طبيعي بالنسبة للمبتدئين.. التقريرية بما فيها اللهجة الخطابية والتحريض المجرد من كل قيمة فنية.. إذ يكتفي الشاعر بوصف الحدث وصفًا جامدًا خارجيًا.. ومن بعيد.. بدون أن يخلطه بنفسيته.. وبدون أن نعرف من أي زاوية ينظر هو إلى هذا الحدث.. وما مقدار تفاعله معه.. ولماذا تأثر به وكتب شعرًا..

إن حادثة معينة.. أو أسطورة معينة.. يكتب عنها عشرات أو مئات الشعراء.. وكل شاعر يأخذ جانبًا غير الجانب الذي أخذه الشاعر الآخر.. وبهذا ينتجون لوحات مستقلة ذات قيمة خاصة.

وهذا النقص في شعرنا بارز بوضوح.. إننا نكتفي بأخذ الحدث بكليته.. فتكون النتيجة عددًا ضخمًا من القصائد بلا روح.. تزول بسرعة.. وهذا سببته الاستجابة السريعة للأحداث السياسية المتوترة والمتناقضة.. و"التجربة الساخنة" التي يعيشها شعبنا.. وهنا.. نريد أن نؤكد أن الإحساس بأزمة حياتنا.. لا يكفي لأن نتعرف على ذواتنا.. من المهم أن نفهم الأزمة وحقائق ظروفها.. لنستطيع على هدي هذه المعرفة أن نرسم في أذهاننا الخيوط الأولى لأملنا..

هذه الحقيقة.. كنا.. أو كان كثير من شعرائنا في بداية الرحلة الكفاحية لا يفهمونها فهمًا واعيًا.. خاصة.. نحن الذين ولدنا في قلب المأساة.. وتجسمت هذه الظاهرة في بعض القصائد التي تبكي وتبكي بلا وعي وهدف.. فهي مجرد رصف كلمات.. كلمات بلا مدلول من ناحية.. ومن ناحية أخرى.. كلمات تتحمس وتهدد وتتوعد وتقرر النصر !..

وكلتا الناحيتين كانتا مفقودتين من العناصر الفنية.. فلم يدرك شعراؤنا أن الشعر الحديث يعتمد اعتمادًا جوهريًا على الصور التي تصنع بمجموعها وارتباطها الفني لوحات تترك للأيام المقبلة آثارًا عن أيامنا الحاضرة..

وهذا الشعر يلاقي استحسانًا سطحيًا حماسيًا من الجمهور..

وهنا.. نلتقي بنقطة.. أعتقد أنها من أزمات شعرنا المعاصر.. وهي مشكلة الجمهور.. هل نكتفي بحكم الجمهور ومدى تجاوبه مع شعرنا؟.. وهل نثق بتذوقه الجمالي للشعر؟

فالجمهور لا يهزه إلا الشعر الحماسي الجزل.. الذي يصف الحادث بأكمله ومُعممًا.. لطول ما تعودت آذانه هذا النغم..

من الممكن أن نُسكت هذا السؤال بأن نجيب بألا نعتمد كل الاعتماد على رضاء الجمهور.. بل نترك الأمر معلقًا بيننا وبينه.. أو نحاول نحن رفع مستوى إحساسه الجمالي بالفن..

ولكن الواقع المؤسف كان.. أن سلكنا أسهل الطرق.. وهبطنا بحماس فاق حماسه لنرضيه.. ولنشتري تصفيقه على حساب الفن الذي ضاع من أكثر شعرنا.. وقد وجد هذا الخطر تربة خصبة في المهرجانات الشعرية الكثيرة.. والتي بقدر ما نعترف بفائدتها بإيقاظ الوعي السياسي عند شعبنا.. وتذكيره دائمًا بواقعه المُرّ.. وفتح عيونه على جراحه وقيوده.. وشد خطواته من جديد على درب الكفاح.. بقدر هذا نخاف على القيمة الفنية في الشعر..

نحن لا ننكر اعتزازنا بالتمازج والتقارب الأخوي الكبير بين الشعراء وشعبهم.. ولكننا نأسف لتحول شعره إلى شعارات لا فارق بينها وبين الخطب السياسية إلا الأوزان..

وهذه التقريرية التي شلّت شعرنا.. أو أوقفته عن الاختراق إلى الحس والانفعال بالحدث.. لم تصبغ بالطبع كل شعرنا.. ومن المؤكد زوالها بالتدريج كلما ازدادت التجربة والممارسة.. ومعرفة المسؤولية الكبيرة التي يلقيها علينا هذا الفن.. ثم.. ثقافتنا العميقة التي تشكل دور المُلقح للطاقة الشعورية الخام في نفوسنا.. والتي تفتح أمامنا آفاقًا رحبة.. خاصة لكثرة غنى التجارب النادرة التي مارسها شعبنا في هذه البلاد.

وفي السنوات القليلة الأخيرة.. ظهر اتجاه جديد في شعر السياسة.. شعر الثورة عندنا.. فبدأت محاولات لرسم خطوط أولية للصورة الشعرية الكاملة.. وأخذ بعض شعرائنا يكتفون بالتقاط جانب صغير من الحدث ليرسموا منه لوحة.. والحق يقال إن كثيرًا من القصائد نجحت.. أو وقفت على قدميها خاصة حين بدأت تتخلص من مفهوم الواقعية الجافة.. وبدأت تجمع بين الواقعية والرومانسية..

قال غوركي الكبير: "كل أديب كبير.. لا بد أن يجمع بين الواقعية والرومانسية".. وحين تمتزج الرومانسية بالواقعية تصبح من عناصرها.. وتكسبها لونًا حيًا مندفعًا.. وتساعد على خلق ألوان فنية جديدة.. وتخلق موسيقى جديدة.. وتفتح آفاقًا جديدة.. وإذا كان لا بد من استخراج ميزات أو ملامح خاصة لهذه القصائد.. نستطيع أن نحس بحرارة عاطفتها المشبوبة.. وشدة انفعالها الذي يجعلها تضطرب وتشرد أحيانًا.. ولا تجد طريقًا للخلاص.. فتنتهي بالقلق.. والقلق يُكسب الشعر جمالًا.. ما لم يتورط ويضيع أو يصبح يأسًا..

والقلق.. في الواقع.. من أبرز ملامح بلادنا.. وعصرنا بأكمله.. قلق الإنسان على وجوده.. وعلى بيته.. وعلى ذاته.. هذا القلق الذي ينعكس على مرايا كل الآداب في العالم..

ثم.. أخذت هذه القصائد تتخلص من الإفراط في الأمل الكاذب أحيانًا..

صحيح.. أن الأمل هو منطق الحياة.. ولكنه كثيرًا ما يُزيَّف.. كما تُزيّف كثير من الحقائق المؤكدة.. وليس هذا غريبًا..

ويجب علينا – على الأقل – أن نعترف بصعوبة الكفاح.. ومشقة الطريق.. وشعورنا بالغربة والعزلة..

وقد مرّ علينا زمن كدنا ننفلق فيه من قصائد كثيرة.. تبدأ بشرح المتاعب.. وتنتهي بدون إقناع أو عرض صور شعورية تضطرنا لا مباشرة وبدون مواجهة أن نبصر بإحساسنا الأمل..

كلنا يعرف أن "الصبر جميل".. ولكن هذا الشعار القديم لم يعد يقنع إحساس أحد..

وثمة ميزات أخرى لهذه القصائد هو ضعف الرموز.. أو حتى انعدامها.. وتفكك خطوط الصورة.. وعدم ارتباطها أحيانًا كثيرة بسلك واحد.. ووصفها الحسي الدقيق لمشاعرنا أحيانًا.. ومعرفة الشاعر خطورة مهنته.. وهذا يفسر لنا قلة الإنتاج حديثًا.. كثير من الناس قلقون من هذه الظاهرة.. ولكنني متفائل.. إذ لا حاجة بنا إلى السرعة بهذا الشكل.. ليس من الضروري أن ننتج كثيرًا.. ليموت هذا الإنتاج بسرعة.. ولكن المهم أن ننجح في التعبير عن الحياة.. التعبير الواقعي مع الفن..

ومن أبرز الصفات الإيجابية لشعرنا في المدة الأخيرة.. هو المحاولات القصصية.. القصة الشعرية بمعناها الصحيح.. وليس السرد.. فقد أخذنا ننتقل من وصف اللحظة إلى وصف الموقف فإلى الفترة أو المدة.. وأصبحنا نحاول خلق شخصيات أو أبطال منتزعين من إحساسنا الداخلي الدقيق.. وهذه الظاهرة تبرز بوضوح في شعرنا عن اللاجئين..


* ["الجديد"، العدد 8، آب/ أغسطس 1961، السنة الثامنة]



II

مرة أخرى أعود للحديث عن شعرنا..

قد يكون هذا الحديث تتمة للحديث السابق، أو لا يكون، وقد يسمى نقدًا، أو لا يسمى، وقد يكون خواطر أو لا يكون، المهم أنها آراء في هذه الحركة الشعرية التي تتقدم ببطء وتقف بذعر، وتضطرب أغلب الأحيان. مرة تكون في جزر وأخرى في مدّ، وهذا طبيعي في كل حركة تريد أن تنطلق وتبلور شخصيتها..

قد تذكر، يا صديقي القارئ، أني تحدثت في الحديث السابق عن الواقعية في شعرنا، وقد تذكر أني تحدثت عن مضمون شعرنا الإنساني الثائر الذي يأخذ عن الحقيقة.. ويخدم الجماهير في قضاياها الإنسانية.. وحين نتحدث عن الأدب، وخاصة عن الشعر، لا نستطيع بسهولة أن نفصل بين ما يسمى مضمونًا، وما يسمى شكلًا، مع أن هذا الأمر ليس مستحيلًا، ولكن هذا لا يعني أن القصيدة تستطيع أن تنجح وتؤدي رسالتها الإنسانية والفنية إذا اغتنى مضمونها، وحمل أفكارًا رائعة... هذا لا يكفي، لأن الشعر، كما قلنا ونقول دائمًا، رسالة وفن.. الرسالة في المضمون، والفن يكمن في الشكل.. وبمقدار ما يكون الشكل ملتحمًا مع المضمون تدنو القصيدة من المعنى الصادق القريب للشعر الرائع.. وهنا أراني معجبًا بما قاله الشاعر الكبير ناظم حكمت: "يجب أن يكون القالب كالجلد فوق الجسم وليس كالثوب الفضفاض".

ومن هنا، تبدأ ضرورة البحث عن قوالب جديدة لتلتف حول المفهوم الجديد للشعر الواقعي الذي يفتح آفاقًا جديدة رحبة أمام الإنسان، قوالب وتعابير لتسع الأفكار الجديدة التي تولدها الحياة كل يوم..

فالفن.. أي فن، لا يمكن أن يقف عند حدّ، لأن الوقوف يعني الجمود، والجمود يصل في نهاية الأمر إلى الموت.. فمضمون الفن دائم التجدد.. وهذا المضمون يتطلب بطبيعة الحال قوالب جديدة.. فالمسألة ليست مسألة هواية وزخرف.. إنها ضرورة واقعية يفرضها تطوّر الحياة والتاريخ. وهنا تكمن خطورة مهمة الفنان ومسؤوليته أمام المسائل الكثيرة التي تطرحها الحياة كل ساعة..

وفي شعرنا، هل يتلاءم الشكل مع المحتوى؟ هذا السؤال دقيق، وقد يراه البعض متطفلًا، ولكنني أريد أن ألفت النظر إلى ظاهرة أعتقد أنها خطرة، فأكثر شعرائنا يصوغون قصائدهم بالشكل الجديد للشعر، في حين يكون المحتوى بدائيًا ساذجًا، قاله الشعراء من قبل ألف سنة ولا يزالون يقولونه، وفي هذه القصائد لا ترى إلا الشكل جديدًا. قد يقول البعض.. يكفي أن يكون الشكل جديدًا.. وقد أوافق على هذا الجواب ولكن الواقع عندنا لا يرضى، لأنني أستطيع أن أؤكد أن لجوء أكثر شعرائنا إلى هذا الشكل، ليس وسيلة ضرورية، أو ليس لجوء الشاعر القادر الذي يريد أن يلوّن، ولكنه لجوء العاجزين.. وإلا فما معنى أن الشاعر عندنا ما يكاد يفتح عينيه على الشعر، ولا يكاد يمسك القلم، فتراه يكتب على الطريقة الجديدة؟ ثم.. ماذا تكون النتيجة في نهاية الأمر؟ ضعف لغوي مسرف.. وتفكك وتضعضع في لغة الشاعر، فلا تتمالك القصيدة من الوقوف على قدميها إلا وتسقط.. حتى لو كانت أفكارها في غاية الإبداع، فإنها تكون أشبه بحبات السبحة التي يربطها خيط مهلهل لا تصمد أمام أية لمسة..

أنا شخصيًا أقف موقف الحياد من هذه القضية، ولكن مطلبي الوحيد هو أن تقنعني القصيدة بشكلها، أن أحس بأن القصيدة وحدة كاملة وغير منقسمة على نفسها.. ولا يمكن أن تكتب إلا بهذا الشكل.

* * *

ظاهرة واحدة تطبع أكثر الشعر عندنا، ظاهرة ضعف التركيب اللغوي والبناء للقصيدة، أكثر قصائدنا مصابة بالعصبي أحيانًا والكساح أحيانًا أخرى، وإذا بحثنا عن سر هذا لوجدنا ببساطة أنه عائد إلى عدم تعمقنا في دراسة الأدب القديم والتراث الوطني لشعبنا، إن الشاعر الحق: ليس فقط الذي يصور واقع شعبه ونفسيته، ولكنه الذي يربط هذا الواقع بتاريخه الماضي وتراثه القديم، الشاعر كما يصور المستقبل، يأخذ من الماضي، يجب أن تكون للشاعر جذور عميقة وأرض يابسة يقف عليها، ويأخذ من أساطير شعبه وحكاياته، مادة رائعة يمزجها مع واقعه..

أستطيع أن أتهم شعراءنا أنهم بلا جذور، بلا ماض، وهذا يعود إلى عدم اهتمامهم بدراسة تاريخ أمتهم وتراثها الخالد، إن ضعف وضحالة الثقافة الوطنية عندنا من الظواهر الخطرة في أدبنا، قد يعود هذا السبب إلى صغر سننا وحداثتنا ولكنه ليس مبررًا في أي شكل من الأشكال، يجب علينا أن نعود إلى تاريخنا ونأخذ منه، ونشعر بعقلنا وإحساسنا بالجذور العميقة التي تشدنا إلى التاريخ.. ليس هذا فحسب، بل إن إهمال دراسة أدبنا وتاريخنا القديم يسبب كل ظواهر الضعف في صنع الشعر عندنا.

وإلى جانب ضعف ثقافتنا العربية، يقف ضعف ثقافتنا الأجنبية. قليلون منا هم الذين يجيدون لغة غير اللغة العربية، وعدم إجادة لغة أخرى يقطعنا قطعًا مؤلمًا عن العالم والآفاق الأدبية، هذا إذا ما عرفنا أيضًا أننا منقطعون عن موارد الثقافة العربية الحديثة، والأدب العربي، بسبب الحصار الأدبي الذي فرضته علينا الحالة السياسية. فإلى أين نذهب إذن؟ ولمن نعمد؟ إذا كنا مخلصين حقًا لمهمتنا ومقدرين لخطورة القضية الإنسانية التي نعمل لها، فعلينا أن نبحث أولًا عن الثقافة، الثقافة في كل شيء، لنلقح الموهبة والطاقة الأدبية في نفوسنا. ولكن من أي طريق نصل إلى هذه الثقافة، ليس أمامنا إلا اللغة الأجنبية. إنني متأكد من صعوبة القضية وجدتها، ولكن الأدب ليس عملًا سهلًا وهينًا.


الشعراء المتفرجون

وبجانب المشاكل والعراقيل الأساسية التي تقف أمام حركتنا الشعرية، تأتي يد من أعلى لتقضي عليها..

السلطة التي يزعجها الأدب الواقعي الثائر، لأنه يضع سلاحًا بيد الشعب ضد السياسة التي تفرض عليه هذا الواقع المؤلم، ويفتح العيون عليه، تقف دائمًا أمام التيار لتحوله.. شأنها في كل بلاد وفي كل منطقة من مناطق التاريخ، وإذا دققنا النظر في الأدب، أي أدب في العالم، فلا نقسمه إلا إلى قسمين: أدب يخدم الشعب وأدب يخدم أعداء الشعب والسلطة الحاكمة، أما باقي الأسماء الملونة من تجريدية وسريالية وغيرهما من هذه الأسماء التي يطلقونها على أنواع معينة من الأدب فليست إلا ستارًا زائفًا تخدع أبصار الناس. كل هذه الأنواع من الأدب تخدم السلطة بما تبثه في الشعب من انحلال وغيبية ولا مبالاة، وتبعده عن مشاكله وأزماته وقضاياه الملحة.

هذا التفسير الواقعي للأدب تدعمه كل الدلائل والبراهين..

وفي بلادنا، كأكثر بلاد العالم التي تعيش في تناقضات طبقية، نقسم أدبنا إلى قسمين أيضًا، أكثر ما يكتب في (مجلة) "الهدف" و(جريدة) "اليوم" هو كلام يخدم السلطة أو يرضي السلطة، ولكنه لا يرضي الشعب لأنه مخدرات مؤقتة زائلة، والسلطة تدفع للكتّاب كل ثمن شرط أن يبعدوا عن شعبهم ويرتموا في أحضانها.

جمال قعوار مثلًا كتب بعض قصائد جميلة عن الشعب، قابلها الشعب باستحسان وتقدير، وتأمل أن يظل جمال معه، ولكن جمال لم يستمر، لأن السلطة قد اشترته ليخدمها ولتقضي على سلاح كان يمكن أن يكون في يد الشعب.. نحن لا نتهم هؤلاء بالخيانة الآن. فهذا اتهام مقدّم، ولكننا نتهمهم بالخنوع والتفرّج. والمتفرج لا يقول للظالم: اضرب! ولا يحب للمظلوم أن يضرب! ولكنه يتفرج، والتفرج معناه السكوت، والسكوت معناه الرضوخ للأمر الواقع، والرضوخ معناه الموافقة.. والموافقة على الأمر الواقع ليست من مبادئ الأديب. الأديب الحق لا يستطيع أن يتحمل الأمر الواقع. الأديب ثائر دائم الثورة، والثورة من أهم صفات الأدب الواقعي.

فما معنى أن يجلس جمال قعوار إذن في مكتب تزينه شعارات مباي الذي لا ينفك عن اضطهاد الشعب العربي بكل وسيلة؟ معناه خدمة للسلطة أولًا بأول.. وينتهي به الأمر إلى العمى واللامبالاة.. وليثبت عدم خنوعه، يلجأ إلى وسائل التعبير الغيبية التي يسميها شعرًا.. يكتب كلمات مقسمة إلى أجزاء، يحشد فيها قصة العطر والسمراء والأزهار في كل مرة، ويجيئنا قائلًا: هذا شعر!.. وفي النهاية يقضي على كل عاطفة شعبية فيه ويتخدر ويصبح الأمر عنده طبيعيًا..

وهناك شكل آخر من أشكال الأدب المتفرج. والاسم الثاني ينطبق أكثر على راشد حسين.

فراشد مهما صال وجال وسبّ وشتم المباي كل أسبوع في (جريدة) "المرصاد".. زميلة المباي في الصهيونية.. فإنه لن يعوّض عن موقفه كمتفرج. إن المسؤول عن مآسي شعبنا والسوط الذي يقع على ظهره لا يجد له المباي فقط بل الصهيونية بمجموعها.. وتنكر المبام وسائر الأحزاب الصهيونية لحق المليون المقدس، لا يمكن لأديب واقعي أن يسكت عنه ويتعاون مع أصحابه.

إن مهاجمة راشد للمباي وانتقاده الشديد له حق.. وكل كلمة تقدم ضد المباي حق وتخدم قضية العرب هنا. ولكن السكوت عن أشياء كثيرة وخاصة عن المبام ذنب كبير يدفع ثمنه نزع الثقة بينه وبين القراء الذين لا يخدعون.

هذا الكلام سياسي أكثر مما هو أدبي، ولكن ما العمل والسياسة تفرض طابعها على كل حركة من حركات حياتنا؟ وهذا الكلام أسوقه لأصل إلى الشعر الذي ابتدأنا في الحديث عنه..

القارئ عرف راشد شاعرًا كان يمكن أن يقدم لشعبه شيئًا. وأحبه الشعب وصفق له، ثم انصرف..

انصرف راشد إلى الصحافة. وهنا لا نستطيع أن نلومه، فكثير من الشعراء كانوا صحافيين، ولكن راشد أخذ يعمل في الصحافة على حساب شعره.. وأخذ يتأخر في مجال الشعر حتى اعتقد بعض الناس أنه انتهى، في الواقع لم ينته راشد ولكنه مصاب بمرض حب الشهرة السريعة، ولهذا هجر الشعر وركض وراء الصحافة وبذلك نضيف شاعرًا آخر ممن خسرهم الشعب والشعر..

وهناك شكل ثالث من أشكال (التفرج).. لقد عمد بعض شعرائنا إلى الصمت، هؤلاء لا يستطيعون أن يهاجموا السلطة بسبب الوظيفة، ولا يستطيعون أن يرتموا في أحضانها خوف الشعب أو بسبب وخزات الضمير، من هؤلاء شكيب جهشان. وشكيب ابتدأ شاعرًا يجمع في شعره الواقعية مع الفن، وكان يمكن أن يقدم قصائد تصور بعض نواحي واقعنا تصويرًا جميلًا، ولكن الأمر انتهى به إلى الصمت لأن شكيب أدرك أن الشاعر الحق إما أن يكون صريحًا واضحًا على طول وإما أن يسكت، أما أن يخدع ويتلون ويلبس كل يوم ثوبًا جديدًا فليس صحيحًا..

وهكذا وقفت قضية الخبز أمام شعرائنا. أنت حر أن تقول ما تشاء شرط أن تدفع الثمن، والثمن هو الاستغناء عن الوظيفة. والعدو وراء الخبز، خاصة وأكثر شعرائنا يعملون في سلك التعليم.. ولذلك نرى الحركة الشعرية في بلادنا متقلبة غير مستقلة تتخذ كل يوم طريقًا آخر، وترتفع تارة لتنخفض طورًا.

ولكن، كان هناك جانب آخر من الشعراء.. شعراء آمنوا بالشعب إلى أبعد حدود الإيمان.. شعراء آمنوا بعقيدة معينة ومبدأ معيّن. وصاحب العقيدة والمبدأ مستعد أن يضحي في كل وقت، مستعد أن يدفع ثمن الكفاح كل شيء، هو مستعد أن يتنازل عن كل شيء إلا العقيدة والكفاح، هؤلاء الشعراء هم الشعراء الشيوعيون واليساريون.. الذين واكبوا كفاح الجماهير العربية في كل مراحله، وقدموا قصائد في سجل أمين لتاريخ كفاحنا في هذه البلاد، فمضمون هؤلاء الشعراء مضمون واقعي ثائر.. تحس وأنت تقرأهم أنهم لا يتصنعون ولا يتكلفون ولا يخدعون فشعرهم يخرج من القلب إلى القلب لاهبًا حار العاطفة، ولكن الثورية عندهم أو عند بعضهم تمزق أحيانًا الإطار الفني فيجيء الشعر خطابيًا.

وبعد.. أرجو أن تكون هذه السطور قد حملت بعض الملاحظات والخواطر والنقد لشعرنا، مع أنها ليست وافية وكاملة، ولكنها مجرد آراء معرضة للنقاش..

وإلى اللقاء....


** ["الجديد"، العدد 9، أيلول/ سبتمبر 1961، السنة الثامنة]

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...