في كتابه النقدي "فهود في المعبد" ـ والذي ترجمه مؤخرا الصديق أحمد فاروق بألمعيته المعهودة ـ يتعرض الناقد الألماني ميشائيل مار في الفصل الذي خصصه إلياس كانيتي إلى شذرات هذا الكاتب الكبير، ويرى أنه باستثناء البعض منها، فإن التقدير الذي تلقته كان مبالغا فيه. وينتقد مقارنة تلك الشذرات بما كتبه ليشتنبيرغ، معتبرا أنه لدى ليشتنبرغ "لا يمكن أن تقلب عبارة إلى ضدها دون أن تفقد الجملة معناها. أما لدى كانيتي فيمكننا أن نقلب ثلث شذراته بشكل عشوائي دون أن نلحظ إطلاقا أن الجملة فقدت معناها ". لكن هل هذا فعلا ما يحدد الشذرة وما يكسبها أهمية أو يجردها منها؟ الجواب طبعا بالنفي، فلا يمكنني أن أقول عن شذرة مثل " المياه كلها بلون الغرق " لإميل سيوران إنها عديمة الأهمية فقط لأنها لا تفقد معناها إذا قرأنها بالمقلوب " الغرق كله بلون المياه "، طبعا ليس هذا ما يكسب الشذرة شراستها وقلقها وما يجعلها تتردد بداخلنا وتسكننا لوقت طويل، كما أن ميشائيل مار ينسى أن هذه الشذرات ظهرت بعد وفاة الكاتب، وأن كانيتي لا ريب كان سيسقط من كتابه الكثير منها، والتي لا تتمتع فعلا بقوة الشذرة كما عهدناها عنده، وعند ليشتنبرغ ونيتشه وجون بول وكارل كراوس، حتى لا نذكر سوى كتاب الشذرة داخل الثقافة الألمانية. ومع ذلك فإن ميشائيل مار يشير إلى خاصية مهمة ميزت كانيتي عن غيره، وجعلته قريبا في رأيي من نيتشه، رغم تمرده عليه، وهي ما يسميها "بالنظرة الشرسة" والتي نصادفها لا ريب في الكثير من شذراته التي صردت مؤخرا بالعربية عن دار كلمة في أبو ظبي:
ميكانيكا الفكر أكثر الأشياء التي لا أستطيع تحملها. لهذا أقطع سيرها بعد كل جملة.
المؤرخون الملتصقون بالأحداث، ينسون أهم شيء في التاريخ: عملية صنعه.
سيكون من الصعب عليه الانفصال عن غوته. لقد اقتصد الشيء الكثير منه، وهو يوزع ذلك دائما على السنوات القادمة.
لهذا الرجل لغتين، إحداهما ضاربة في التفخيم، يمتدح قلة من علية القوم، يسرقها، ينافقها، ودائما في لغة سامية، كما لو أن لغته قادمة من السماء، ولا تضم أي كلمة أرضية. في اللغة الثانية يتحدث عن الشخصيات نفسها، لكن كما لو أنها منحطة مثله ولم تنتج سوى أعمال تافهة، ويسخر من الطريقة التي عاملتها بها الحياة، يغرقها ويغسلها في الغيرة والتقزز. لكنه لا يكتب هذا البتة، فهو لا يكتب إلا في اللغة الأخرى، اللغة المداحة.
هجرت نفس العالم إلى سجن باذخ لا يعبره هواء فكيف بنفس. آه ابتعد، ابتعد عن كل ما هو مألوف وشخصي وقطعي. تخل عن كل ما هو معروف، وكن جريئا، فمنذ قرون وأذانك المئة نائمة. كن وحيدا وقل لنفسك كلمات لا تتوجه بها إلى أحد، كلمات مختلفة، جديدة، كما أعطاك إياها نفسُ العالم. خذ الطرق المعروفة واكسرها بركبتيك. وإذا تكلمت إلى بشر فليكونوا من أولئك الذين لن تراهم بعد ذلك. ابحث عن سرَة الأرض، احتقر الزمن، واترك المستقبل يمضي، هذا السراب الخادع. لا تنبس البتة بكلمة سماء. وانس أن هناك نجوما، ارم بها مثل عكاز. اذهب لوحدك في ترنح. ولا تقص جملا من ورق. اغطس أو اصمت. أسقط أشجار النفاق: فليست أكثر من وصايا قديمة متنكرة. ولا تستسلم: نفس العالم سيمسك بك ويحملك. لا تطلب شيئا، ولن يعطى لك شيء. عاريا ستعرف ألام الدودة، لا ألام السيد. واقفز عبر ثغرات الرحمة ألف قدم في الأعماق. فهناك، هناك فقط يهبَ نفس العالم.
المؤمن: الرب في رأيه، في طور التشكل، فهو ليس بخالق الكون وإنما وارثه. وعبر التاريخ سيتكون الرب انطلاقا من بعض عناصر هذا التاريخ وتقاليده. ولا أحد يستطيع أن يتنبأ بجوهره ومظهره المستقبلي، فالوقت مازال مبكرا ولا يقين حتى الآن حول هذه القضية. يوما ما سينتهي من تشكله، وواجبنا الحياة في أمل وإجلال حتى تلك اللحظة.
شبعت مما أعرفه، من العلاقات مع الماضي، الارتباطات، الاستمرارية، الأقنعة، الانكشافات، أريد أن أعيش شيئا لا يرتبط بأي شيء حدث لي في الماضي، شيئا لن يستمر وغير محكوم بالبقاء، شيئا بحركات سريعة، متقطعة لا يمكن حسابها البتة، في كلمة: أريد أن اعيش معجزة.
لم يكن نيشته ليمثل خطرا علي، إذ وراء كل أخلاق، أملك بداخلي إحساسا قويا ومطلقا بقداسة كل حياة، وفعلآ، كل حياة دون استثناء. وينكسر أمام هذا الاحساس حتى الهجوم الأكثر فجاجة والأكثر حذقا. أفضل أن أتخلى عن حياتي على أن أتخلى عن حياة أي كان ولو من حيث المبدأ. وما من شعور آخر يبلغ عندي هذه الكثافة وهذا الصمود. إني لا أعترف بأي موت. وهكذا فإن كل من فقدتهم ما زالوا أحياء عندي ليس لأن لهم مطالب، ولا لأني أخافهم، ولا لأني أعتقد بأن شيئا فيهم ما زال يعيش فعلا، ولكن لأنه لم يكن لهم أن يموتوا. فكل موت حتى اليوم هو قتل قانوني ألاف المرات، لا يمكنني أن أشرعنه. ماذا تهمني الحالات السابقة التي لا تعد ولا تحصى وماذا يهمني أن لا أحد ظل على قيد الحياة! هجومات نيتشه هي مثل هواء
مسموم، ولكنه هواء لا يمكنه فعل شيء ضدي. ألفظه في فخار واحتقار من صدري وأرثي لحاله بسبب الخلود الذي ينتظره.
كم من قرون أخرى ستنهب أفلاطون!
في أغلب الأديان يتصنع الانسان السجود، لكنه يقفز من الخلف في حنق إلى الأعالي.
على الروح أحيانا أن تستجمع قواها عن طريق قص حكاية طويلة. فهي لا يمكنها أن تعيش فقط على الإبر والوحشية، بل تحتاج أيضا إلى خيوط حنونة.
ذكي مثل جريدة يومية. يعرف كل شيء. وما يعرفه يتغير كل يوم.
يأكل الحكمة بقضبان خشبية، على الطريقة الصينية.
لقد احتفظ باحترام عميق لكبار السن: فهو يحب فيهم كل السنوات التي لم يعشها بنفسه. وهو كلف بالأطفال، لأنهم يعدونه بكل السنوات التي لن يعيشها.
الإفراط في التجارب العقلية ينتهي بصاحبه إلى فترة أشبه بالحمل. إذ لا يمكن التعلم دون عقاب، وما تم تعلمه لا ينسى إلا في بطء، لكن وحده المنسي من يشق طرقا جديدة.
إله لم يخلق الناس، بل عثر عليهم.
يضحك بعشرين وجه، وفي كل وجه بشكل مختلف، يضحك في لطف وفي عداء، يقدم وعدا، يماطل، يخون، ومع ذلك فالكل كان مبتهجا بذلك، لأن بقية الوجوه كانت تلمع كما من تحت سطح البحر، وكان جميلا أن ينتظرها المرء قبل أن تطفو على السطح.
يمدح عن طيب خاطر الناس الذين لن يصلوا على أية حال إلى تحقيق شيء، لكنه يصبح حذرا إذا ما أظهر أحدهم بعض الموهبة.
الرجل الأربعيني تسكنه رغبة يائسة بسن قوانين.
ميكانيكا الفكر أكثر الأشياء التي لا أستطيع تحملها. لهذا أقطع سيرها بعد كل جملة.
المؤرخون الملتصقون بالأحداث، ينسون أهم شيء في التاريخ: عملية صنعه.
سيكون من الصعب عليه الانفصال عن غوته. لقد اقتصد الشيء الكثير منه، وهو يوزع ذلك دائما على السنوات القادمة.
لهذا الرجل لغتين، إحداهما ضاربة في التفخيم، يمتدح قلة من علية القوم، يسرقها، ينافقها، ودائما في لغة سامية، كما لو أن لغته قادمة من السماء، ولا تضم أي كلمة أرضية. في اللغة الثانية يتحدث عن الشخصيات نفسها، لكن كما لو أنها منحطة مثله ولم تنتج سوى أعمال تافهة، ويسخر من الطريقة التي عاملتها بها الحياة، يغرقها ويغسلها في الغيرة والتقزز. لكنه لا يكتب هذا البتة، فهو لا يكتب إلا في اللغة الأخرى، اللغة المداحة.
هجرت نفس العالم إلى سجن باذخ لا يعبره هواء فكيف بنفس. آه ابتعد، ابتعد عن كل ما هو مألوف وشخصي وقطعي. تخل عن كل ما هو معروف، وكن جريئا، فمنذ قرون وأذانك المئة نائمة. كن وحيدا وقل لنفسك كلمات لا تتوجه بها إلى أحد، كلمات مختلفة، جديدة، كما أعطاك إياها نفسُ العالم. خذ الطرق المعروفة واكسرها بركبتيك. وإذا تكلمت إلى بشر فليكونوا من أولئك الذين لن تراهم بعد ذلك. ابحث عن سرَة الأرض، احتقر الزمن، واترك المستقبل يمضي، هذا السراب الخادع. لا تنبس البتة بكلمة سماء. وانس أن هناك نجوما، ارم بها مثل عكاز. اذهب لوحدك في ترنح. ولا تقص جملا من ورق. اغطس أو اصمت. أسقط أشجار النفاق: فليست أكثر من وصايا قديمة متنكرة. ولا تستسلم: نفس العالم سيمسك بك ويحملك. لا تطلب شيئا، ولن يعطى لك شيء. عاريا ستعرف ألام الدودة، لا ألام السيد. واقفز عبر ثغرات الرحمة ألف قدم في الأعماق. فهناك، هناك فقط يهبَ نفس العالم.
المؤمن: الرب في رأيه، في طور التشكل، فهو ليس بخالق الكون وإنما وارثه. وعبر التاريخ سيتكون الرب انطلاقا من بعض عناصر هذا التاريخ وتقاليده. ولا أحد يستطيع أن يتنبأ بجوهره ومظهره المستقبلي، فالوقت مازال مبكرا ولا يقين حتى الآن حول هذه القضية. يوما ما سينتهي من تشكله، وواجبنا الحياة في أمل وإجلال حتى تلك اللحظة.
شبعت مما أعرفه، من العلاقات مع الماضي، الارتباطات، الاستمرارية، الأقنعة، الانكشافات، أريد أن أعيش شيئا لا يرتبط بأي شيء حدث لي في الماضي، شيئا لن يستمر وغير محكوم بالبقاء، شيئا بحركات سريعة، متقطعة لا يمكن حسابها البتة، في كلمة: أريد أن اعيش معجزة.
لم يكن نيشته ليمثل خطرا علي، إذ وراء كل أخلاق، أملك بداخلي إحساسا قويا ومطلقا بقداسة كل حياة، وفعلآ، كل حياة دون استثناء. وينكسر أمام هذا الاحساس حتى الهجوم الأكثر فجاجة والأكثر حذقا. أفضل أن أتخلى عن حياتي على أن أتخلى عن حياة أي كان ولو من حيث المبدأ. وما من شعور آخر يبلغ عندي هذه الكثافة وهذا الصمود. إني لا أعترف بأي موت. وهكذا فإن كل من فقدتهم ما زالوا أحياء عندي ليس لأن لهم مطالب، ولا لأني أخافهم، ولا لأني أعتقد بأن شيئا فيهم ما زال يعيش فعلا، ولكن لأنه لم يكن لهم أن يموتوا. فكل موت حتى اليوم هو قتل قانوني ألاف المرات، لا يمكنني أن أشرعنه. ماذا تهمني الحالات السابقة التي لا تعد ولا تحصى وماذا يهمني أن لا أحد ظل على قيد الحياة! هجومات نيتشه هي مثل هواء
مسموم، ولكنه هواء لا يمكنه فعل شيء ضدي. ألفظه في فخار واحتقار من صدري وأرثي لحاله بسبب الخلود الذي ينتظره.
كم من قرون أخرى ستنهب أفلاطون!
في أغلب الأديان يتصنع الانسان السجود، لكنه يقفز من الخلف في حنق إلى الأعالي.
على الروح أحيانا أن تستجمع قواها عن طريق قص حكاية طويلة. فهي لا يمكنها أن تعيش فقط على الإبر والوحشية، بل تحتاج أيضا إلى خيوط حنونة.
ذكي مثل جريدة يومية. يعرف كل شيء. وما يعرفه يتغير كل يوم.
يأكل الحكمة بقضبان خشبية، على الطريقة الصينية.
لقد احتفظ باحترام عميق لكبار السن: فهو يحب فيهم كل السنوات التي لم يعشها بنفسه. وهو كلف بالأطفال، لأنهم يعدونه بكل السنوات التي لن يعيشها.
الإفراط في التجارب العقلية ينتهي بصاحبه إلى فترة أشبه بالحمل. إذ لا يمكن التعلم دون عقاب، وما تم تعلمه لا ينسى إلا في بطء، لكن وحده المنسي من يشق طرقا جديدة.
إله لم يخلق الناس، بل عثر عليهم.
يضحك بعشرين وجه، وفي كل وجه بشكل مختلف، يضحك في لطف وفي عداء، يقدم وعدا، يماطل، يخون، ومع ذلك فالكل كان مبتهجا بذلك، لأن بقية الوجوه كانت تلمع كما من تحت سطح البحر، وكان جميلا أن ينتظرها المرء قبل أن تطفو على السطح.
يمدح عن طيب خاطر الناس الذين لن يصلوا على أية حال إلى تحقيق شيء، لكنه يصبح حذرا إذا ما أظهر أحدهم بعض الموهبة.
الرجل الأربعيني تسكنه رغبة يائسة بسن قوانين.